رقم ( 12 ) : الباب الأساس
الفصل الثانى : الحياة في ظل تطبيق الشريعة السنية عام 826

الفصل الثانى : الحياة في ظل تطبيق الشريعة السنية عام 826   

قراءة في تاريخ السلوك للمقريزى  / المقريزى شاهدا على العصر 

 قال المقريزى عن سنة 826 :

مقالات متعلقة :

المقدمة

1 ـ ( أهلت وسلطان مصر والشام والحجاز الملك الأشرف برسباي الدقماقي، والأمير الكبير الأتابك بيبغا المظفري، والدوادار الكبير الأمير سودن بن عبد الرحمن، وأمير سلاح الأمير قجق، وأمير مجلس الأمير أقبغا التمرازي، وأمير أخور الأمير قصروه، نوبة النوب الأمير أزبك، والوزير أستادار الأمير أرغون شاه، وكاتب السر علم الدين داود بن عبد الرحمن بن الكويز، وناظر الخاص الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله وقاضي القضاة الشافعي علم الدين صالح بن البلقيني، ونائب الشام الأمير تنبك العلاي ميق، ونائب حلب الأمير تنبك البجاسي، ونائب طرابلس الأمير أينال النورزي ونائب صفد الأمير مقبل الدوادار ونائب، حماة شار قطلوا .) ( وأسعار الغلال رخيصة . والأمراض في الناس فاشية.).

تعليق :

هذه لمحة سريعة عن أكابر المجرميث في الفلوس مع ذلك ما لم يكن يعهد منذ ضربت، وهو أنه خلط فيها قطع الحديد وقطع النحاس وقطع الرصاص، من أجل أنها تؤخذ وزناً لا عدداً، وتغافل الحكام عن إنكار ذلك فتمادى الحال على هذا من بعد موت المؤيد، حتى صارت القفة من الفلوس التي وزنها مائة رطل لا يكاد يوجد فيها قدر عشرين رطلاً من الفلوس، وإنها هي- كما قدم- ذكره ما بين نحاس وحديد ورصاص وانفتح للصيارفة ونحوهم من ذلك باب ربح، وهو أنهم صاروا ينقون الفلوس ويبيعونها لمن يحملها إلى الحجاز واليمن وبلاد المغرب، كل قنطار بسبعمائة درهم، فلما بلغ السلطان ذاك أراد أن يضرب فلوساً، فاختلفوا عليه في مقدار وزنها، فأشار بعضهم أن يكون كل ستين فلساً بدرهم أشرفي، وأشار أخرون أن تكون أوزانها مختلفة، فيها ما زنته مثقال، وفيها ما زنته غير ذلك، فجمع الناس كما تقدم ليقوي عزمه على ما يمضيه، فما زالوا به حتى رجع عن تغيير المعاملة بالفلوس التي بأيدي الناس، خوفاً من وقوف أحوال الأسواق، لعنت العامة، فاستقر الرأي على أن نودي بأن يكون سعر الفلوس المنقاة من الحديد والرصاص والنحاس، بسبعه دراهم كل رطل، ويكون سعر هذه القطع بخمسة دراهم الرطل، فامتثل الناس ذلك، وصارت الفلوس صنفين بسعرين مختلفين، ومشى الحال على هذا ) .

التعليق

 الفلوس هي العملة الأقل من الدرهم المسكوك من الفضة والدينار المسكوك من الذهب. وكان يتم سكُّ الفلوس من معادن أقل قيمة كالحديد والنحاس والرصاص. وبسبب فقر الأغلبية فقد راج أمرها على حساب الدرهم المؤيدى الفضى الذى سكّه السلطان المؤيد شيخ ،  وحدث فيها غشُّ فانهارت قيمتها ، واستفاد من ذلك الصيارفة ، وأراد السلطان برسباى إلغاء التعامل بها ، ثم عدل عن ذلك بتحديد سعرين لها بالنسبة للدرهم المؤيدى . كان الغش في العملات الفضية ( الدرهم ) والذهبية ( الدينار ) و النحاسية ( الفلوس ) أمرا شائعا ، وأحيانا كان يشارك فيه أهل الدولة ، ومن أسف أن الدينار الافرنتى ( الايطالى ) كان مطلوبا في اوقات كثيرة لأن نسبة الذهب فيه كانت أعلى والغش فيه أقلّ. . 

( وفيه أبيع الرغيف بنصف درهم فلوساً، بعد ما كان بدرهم لرخاء الأسعار ) تخفيض في سعر الرغيف بعد ضبط سعر الفلوس .

تنقلات بين أكابر المجرمين

( وفي سادس عشرينه: قدم الأمير أينال النوروزي نائب طرابلس باستدعاء، فأكرمه السلطان، وأنزله بدار، ثم طلب الأمير قصروه أمير أخور، وخلع عليه بنيابة طرابلس، عوضاً عن الأمير أينال المذكور، وأنعم على أينال هذا بإقطاع قصروه ).

تعليق

يحرص أكبر أكابر المجرمين ( السلطان ) على ألّا يبقى أحدهم في منصبه طويلا حتى لا يكون خطرا عليه ، ثم إن السلطان مستفيد من بيع المناصب .

انخفاض سعر الحبوب وأسبابه

 ( في هذا الشهر: اتضع سعر الغلال، حتى أبيع القمح كل خمسة أرادب بدينار، ولهذا أسباب: أحدها النيل في وقت زيادته، حتى شمل الري عامة أراضي مصر. ثانيها غزارة الأمطار في فصل الشتاء وتواليها أياماً فأخصبت الزروع والمراعي. ثالثها رخاء الأسعار ببلاد الشام وأرض الحجاز فاستغنت العربان عن شراء الغلال، وترك التجار حملها الى الحجاز، فتوفرت بديار مصر. رابعها أن الأمير الوزير شمس الدين أرغون شاه أستادار خرج إلى نواحي الغربية والبحيرة وعسف المزارعين والمتدركين، حتى ألجأتهم الضرورة إلى أن يبيعوا غلالهم ويقوموا له. مما ألزموا به من المال، فلذلك كثرت الغلال، فاتضعت ولله الحمد. ومع هذا فقد ساس ( أي تسوس وانتشر فيه السوس ) كثير من الغلال بالوجه البحري، فتسارع خزانها إلى بيعها خوفاً عليها من التلف، ولله عاقبة الأمور .).

التعليق

1 ـ ضمن أسباب إنخفاض أسعار الحبوب أن الاستادار أرغون أنزل ضرائب بفلاحى الغربية والبحيرة ــ  في جولة نهب له هناك ــ فإضطرهم الى بيع غلالهم .

2 ـ المقريزى يذكر الضحايا من المزارعين وأصحاب الدرك ( المتدركين ) القائمين بالاشراف على الفلاحين . دون ذكر أسمائهم ، هو مجرد وصف ، أما المجرم في القصة فهو مذكور بالاسم والوظيفة  : ( الأمير الوزير شمس الدين أرغون شاه أستادار ).

3 ـ ولا جديد تحت شمس مصر ، فالعسكر الحاكم الآن يقهر ملايين المصريين بالسجون وبالضرائب والتعقيدات البيروقراطية ، ويأتي الحديث عن هذا بعموم الوصف ، أما أفعال وأقوال أكابر المجرمين فهى تتصدر العناوين في الإعلام مهما بلغت تفاهتها .
شهر ربيع الأول، أوله السبت:

1 ـ ( وفي ثانيه: قدم الأمير الوزير أرغون شاه من الوجه البحري، بما جمعه من الأموال التي جباها.) جاء الاستادار الى السلطان برسباى بالمال السُّحت الذى سلبه من الفلاحين .

2 ـ ( وفي ليلة الجمعة سابعه: عمل المولد السلطاني على العادة، في كل سنة وحضر الأمراء وقضاة القضاة الأربع ومشات المباني تتساقط وتمادي طول ليلة الأربعاء، فرأى الناس أمراً مهولاً من شدة هبوب رياح عاصفة، وظلمة في النهار والليل لم يعهد مثلها، بحيث كان جماعة في هذه الليلة مسافرين وسائرين خارج القاهرة فتاهوا من شدة الظلام طول ليلتهم حتى طلع الفجر، وعمت هذه الظلمة أرض مصر حتى وصلت دمياط والإسكندرية وجميع الوجه البحري وبعض بلاد الصعيد، ورأى بعض من يظن به الخير في منامه كان قائلاً يقول ما معناه: لو لا شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل مصر لأهلكت هذه الريح الناس، لكنه شفع فيهم، فحصل اللطف ).

التعليق :

مناخ من العواصف وظلمات بعضها فوق بعض شهدها المقريزى بنفسه : ( فكنت أمد يدي فلا أراها لشدة الظلام )، وكالعادة إنتهت وانقشعت ، ولكن الثقافة السُّنّية تسند إنهاءها الى شفاعة النبى ، التي يؤمن بها أكابر المجرمين وصغارهم والمستضعفون أيضا. وبهذه الشفاعة المزعومة يرتكبون الجرائم وهم يحسبون أنهم يحسنون صُنعا .

6 ـ ( وفي هذا الشهر: كثر الوباء بدمشق ) . كان الوباء يتنقّل في أمن وأمان ، وهو في طريقه غربا نحو ( الكرك / الأردن ) ثم مصر ).

7 ـ ( وفيه أضيفت ولاية مصر وحسبتها إلى الأمير تاج الدين الشويكي وإلى القاهرة ). والى القاهرة أي مدير الأمن . وتاج الدين الشوبكى اصبح مدير الأمن والمحتسب أيضا . المحتسب يراقب الأسواق والأسعار، وهو الذى يقبض على من يراهم متهمين وهو الذى يقرر العقوبة وهو الذى ينفذها . صاحبنا كان أيضا مدير الأمن .

8 ـ (  وفيه رسم بمصادرة نجم الدين عمر بن حجي قاضي القضاة الشافعي بدمشق، وشهاب الدين أحمد بن محمود بن الكشك قاضي القضاة الحنفي بها، وعدة من تجارها، فصودروا . ) . قاضى القضاة الشافعى وقاضى القضاة الحنفى في دمشق صودرت أموالهما مع بعض التجار الدمشقيين . واضح وجود صلة فساد بين القضاة والتجار ، لا يخبرنا بها المقريزى . المفهوم أن السلطان لا يولّى إلا من كان فاسدا يستطيع دفع ثمن المنصب ، ثم يسترد أضعاف ما دفع في الوصول اليه. فإذا تطرف في السرقة صادر السلطان أمواله ، وربما عزله . لم يرد هنا أن السلطان عزلهما .

9 ـ ( وفيه رسم بإيقاع الحوطة على خيول أهل الوجه البحري من الغربية والبحيرة ونحوها فأخذت ) . أي مصادرة خيول الأعراب في تلك المناطق التي تقع على حواف الدلتا . كان هناك صراع بين المماليك والأعراب ، وكلاهما له قوى عسكرية تتسلط على الفلاحين . وكانت الغلبة للمماليك ، الأكثر قوة وتنظيما . لم تكن هناك مصادرة لخيول الفلاحين لأنه لم تكن هناك خيول للفلاحين .
10 ـ ( وفيه قدم إلى المدينة النبوية جراد عظيم أتلف عامة زروعها وأشجارها، حتى أكل الأسابيط من فوق النخل فأمحلت ، ونزح كثير من أهلها، فمات معظم الفقراء النازحين جوعاً وعطشاً، ولا قوة إلا بالله.) 

( شهر ربيع الآخر، أوله الأحد:

1 ـ ( في ثانيه: عدى السلطان إلى بر الجيزة، وأقام بناحية وسيم في أمرائه ومماليكه يتنزه، ثم عاد ). التاريخ يلاحق السلطان حتى وهو يتنزّه . وهو نفس ما يقوم به إعلام المستبد الآن . أخباره التافهة تحتل العناوين ، حتى لو قال أو فعل ما يستوجب السخرية .
2 ـ ( وفي سادس عشرينه: قدم الأمير تنبك البجاسي نائب حلب، فخلع عليه، ورتب له ما يليق به، وقدم له الأمراء على مقدارهم ). المؤرخ يلهث خلف أكابر المجرمين في نزهاتهم وقدومهم ، وحفلاتهم ، أما المستضعفون في الأرض فلا بواكى لهم.!

3 ـ ( وفي هذا الشهر: كثر الوباء بدمشق) ، ومن دمشق سيزحف ( واثق الخطوة يمشى ملكا ) الى مصر .

4 ـ ( وفيه قدم الخبر أن مدينة الكرك تلاشى أمرها، وخربت قراهار ببلاد الصعيد من الطير التي يقال لها الزرازير أمة لا يحصى عددها إلا الله خالقها سبحانه، فأهلكها هذا الريح، حتى صار منها عدة كيمان يمر الفارس فيها بفرسه مدة ثلاثة أيام، ولولا هلكت لرعت الزروع  ). 

5 / 2 :( وفيه جاء من ناحية الحجاز جراد يخرج عن الحد في الكثرة، فلما وافى الطور يريد دخول أرض مصر كان هذا المطر، فهلك عن آخره، كفايه من الله .)

6 ـ كوارث :

( وفيه تلفت زروع عدة بلاد من نواحي أرض مصر لكثرة المطر والبرد ، بحيث وجد في البرد ما وزن الواحدة منه عدة أواقي، وتلفت أشجار كثيرة ونخيل كثير بالقرى من الريح، وسقط من طير السماء فيما بين الإسكندرية وبرقة شيء كثير جداً من قوة الريح )

تعليق :

في كل ذلك لا وجود للسلطة المملوكية . يقتصر عملها على الجباية . مصر مجرد بقرة يحلبونها بلا شفقة ، ثم لا يهتمون برعايتها ولا علاجها . ما أشبه اليوم بالبارحة .!!

( شهر جمادى الآخرة، أوله الأربعاء:

1 ـ الوباء : (  في هذا الشهر: عظم الوباء بدمشق، وفشا في البلاد إلى غزة .) واصل تقدمه من دمشق ( واثق الخطوة يمشى ملكا ) حتى وصل غزة .

2 ـ ( وفيه تحرك سعر الغلال بأرض مصر، فارتفع الأردب القمح من مائة إلى مائة وأربعين، والشعير من سبعين درهماً الأردب إلى مائة درهم . ) مع إقتراب الوباء وتقلبات المناخ ارتفعت أسعار الغلال .

3 ـ ( وفي سابع عشره: قدم الأمير أرغون شاه من بلاد الصعيد، وقد وصل إلى مدينة هو، فجبى الأموال، وما عفّ ولا كفّ، وأحضر معه من الأغنام والأبقار والخيول ومن القند والسكر والعسل شيء كثير، فخرب في حركتيه المذكورتين إقليم مصر، أعلاه وأسفله، ثم شرع في رمى ما أحضره على الناس بأغلى الأثمان والعسف في الطلب ).

تعليق :

هذه هي الجباية المملوكية بالسلب والنهب ، معتمدة على شريعة الدين السُّنّى العملية ، بدون الحاجة الى فتاوى ، لأنها عندهم من ( المعلوم بالضرورة ) . الاستادار أرغون شاه يقوم بتخريب الصعيد ، يجبى الأموال ويصادر الحبوب والمواد الغذائية والمواشى ، ويأتي بها الى القاهرة ، فيفرض بيعها على التجار بالسعر الذى يحدده . ونلاحظ تعبيرات المقريزى ( فجبى الأموال، وما عفّ ولا كفّ .) ( فخرب في حركتيه المذكورتين إقليم مصرTL">9 ـ ( وفي ثالث عشرينه: رسم السلطان أن لا يكون لقاضي القضاة الشافعي إلا عشرة نواب، وأن يكون للحنفي ثمانية نواب وللمالكي ستة وللحنبلي أربعة. فعمل ذلك مديدة، ثم أعيد من عزل منهم بزيادة. وقد ساءت قالة العامة فيهم، وأكثروا من التشنيع بما يغرمه المتداعيان في أبوابهم، حتى اتضعت نواب القضاة في أعين الكافة، وانحطت أقداراهم عند أهل الدولة، وجهروا بالسوء من القول فيهم . ).

تعليق :

هذا الخبر متصل بما قبله . قاضى القضاة يعين ( نائبين / نوابا ) أي قضاة كثيرين تابعين له يدفعون له الأموال ليعينهم ، وهم يجمعون له ولهم الأموال من الخصوم في المحكمة ، وأكبر أكابر المجرمين وهو السلطان برسباى رأى القضاة أكثر منه فسادا ، ورأى أن الناس يحتقرونهم ، فقام بتحديد عدد من القضاة لكل من قضاة القضاة الأربعة . والعادة أن كل محاولات إصلاح القضاة لم تُفلح ، لأن الأصل فاسد وهو الشريعة السنية ، ولأن رأس الدولة فاسد وهو السلطان . والأهم من هذا كله إن الله جل وعلا لا يصلح عمل المفسدين .

10 ـ عن المناخ : ( واتفق في هذه السنة ما لم نعهده وهو انتشار الحمرة عند طلوع الفجر إلى شروق الشمس في جميع الجهة الشمالية، التي يسميها المصري علم الدين داود بن الكويز، فأذكرتني ولايته بعد ابن الكويز قول أبي القاسم خلف بن فرج الألبيري- المعروف بالسميسر- وقد هلك وزير يهودي لباديس بن حبوس الحميدي أمير غرناطة من بلاد الأندلس، فاستوزر بعد اليهودي وزيراً نصرانيا :
كل يوم إلى ورا ** بدل البول بالخرا

فزمانا تهودا **      وزماناً تنصرا

وسيصبو إلى المجوس إذا الشيخ عمّرا

وقد كان أبو الجمال هذا من نصارى الكرك، وتظاهر بالإسلام في واقعة كانت للنصارى، هو وأبو العلم داود بن الكويز، وخدم كاتباً عند قاضي الكرك عماد الدين أحمد المقيري. فلما قدم إلى القاهرة. وصل في خدمته وأقام ببابه، حتى مات وهو بائس فقير، لم يزل دنس الثياب، مقتم الشكل، وابنه هذا معه في مثل حاله. ثم خدم عند التاجر برهان الدين إبراهيم المحلى كاتباً لدخله وخرجه، فحسنت حاله، وركب الحمار. ثم سار بعد المحلى إلى بلاد الشام، وخدم بالكتابة هناك، حتى كانت أيام الملك المؤيد شيخ، ولاه ابن الكويز نظر الجيش بطرابلس، فكثر ماله بها. ثم قدم في أخر أيام ابن الكويز إلى القاهرة، فلما مات وعد بمال كثير حتى ولى كتابة السر، فكانت ولايته أقبح حادثة رأيناها . ).

تعليق :

 الطموحون من الكتبة من أهل الكتاب كانوا يعلنون (إسلامهم ) في مجتمع ينضح بالتعصب الدينى ضد أهل الكتاب . ومؤرخ مثل المقريزى ــ واسع الأُفُق ـ لم ينجُ من هذا التعصب . جمال الدين الكركى كان نصرانيا فاسلم في واقعة تعصب ضد نصارى الكرك ( الأردن الآن )، وأسلم معه ابن الكويز . وصل ابن الكويز الى منصب ( كاتب السّر ) أي سكرتير السلطان . بينما تقلّب الكركى في خدمة هذا وذاك حتى ولاه رفيقه ابن الكويز منصب ناظر الجيش في طرابلس في سلطنة المؤيد شيخ ، فتكاثرت أموال الكركى ، ثم جاء الى القاهرة في أواخر أيام ابن الكويز ، ولما مات رفيقه ابن الكويز إشترى منصبه ، وأصبح ( كاتب السّر ) لبرسباى بعد ابن الكويز . والمقريزى ناقم على هذا ، وعبّر عن رأيه بقوله ( فكانت ولايته أقبح حادثة رأيناها ). هذا ليس لانعدام كفاءة الكركى أو إنعدام أمانته ، فحيث تُباع المناصب بالرشوة فلا عبرة إلا بالثمن . والمقريزى يعرف هذا جيدا . سخط المقريزى نابع من تعصبه ضد أهل الكتاب ، ولهذا إستشهد بشعر رائع ، و ( كريه الرائحة .).

4 ـ ( وفي رابع عشره: قدم الأمير أسندمر نائب الإسكندرية باستدعاء، فقبض عليه، ونفي إلى دمياط بطالاً. واستقر الأمير أقبغا التمرازي أمير مجلس عوضه في نيابة الإسكندرية . ). تقلبات في أحوال أكابر المجرمين من المماليك ، إعتقال ونفى ، وحلول هذا محلّ ذاك .

5 ـ ( وفي سادس عشره- الموافق له رابع عشرين توت-: انتهت زيادة النيل إلى تسعة عشر ذراعاً، تنقص إصبعاً واحداً، وابتدأ نقصه من الغد . ). أخبار النيل زيادة ونقصانا من أهم الأنباء .

6 ـ ( وفي تاسع عشره: خرج محمل الحاج صحبة الطواشي افتخار الدين مثقال مقدم المماليك، ورحل من بركة الحاج في ثالث عشرينه، وقد تقدمه الركب الأول صحبة الأمير أينال الششماني أحد أمراء العشرات. ). أيضا أخبار محمل الحج . ( الطواشى ) لقب للخصيان .

7 ـ (  وفي رابع عشرينه: خلع علي نقيب الأشراف، السيد الشريف بدر الدين حسن بن الشريف النقيب علي، وأضيف إليه نظر وقف الأشراف، عوضاً عن شرف الدين محمد ابن عبد الوهاب بن نصر الله. وكان قد باشر وقف الأشراف بعفة ونهضة، وأنفق للأشراف في كل سنة أزيد مما كانت عادتهم . ). ليس في الإسلام تقسيم الناس الى أشراف وغير أشراف ، لأن أكرم الناس عند الله جل وعلا هو أتقاهم ، وهو جل وعلا الأعلم بمن إتقى ، وسيكون ذلك معلوما يوم القيامة حيث سيدخل المتقون الجنة . في أديان المحمديين الأرضية يوجد من يزعم الانتساب الى النبى محمد ، ويكون ( شريفا ). ولهم مكانة عليا خصوصا في الدين الشيعي . وإنتشر إنتحال هذا النسب ، وتأسّست عليه دول وطموحات سياسية وانتشرت على جوانب هذا وذاك أنهار من الدماء. وغير ذلك جرى إنتحال هذا النسب للحصول على مكانة إجتماعية ومالية ، وظهرت نقابات الأشراف في العصور الوسطى ، وكان لنقبائها بيع النسب    بالرشوة ، ( شجرة النسب ) متاحة بالثمن . هذه هي الخلفية لفهم هذا الخبر .

8 ـ ( وفي سادس عشرينه: نزل السلطان إلى عمارته . ). كان السلطان ( الأشرف ) برسباى يبنى جامعه الذى عُرف بلقبه ( الأشرفى ) ونزل يتفقد بناءه ، ولهث خلفه المقريزى يسجل هذا ، أما المستضعفون العاملون في البناء فلا ذكر لهم ولا أهمية لهم ، مع أنهم ـ بالتأكيد ــ بشر شأن السلطان .!

9 ـ ( وفيه خلع على صدر الدين أحمد بن العجمي، واستقر في نظر الكسوة، عوضاً عن شرف الدين المذكور، وفي نظر الجوالي عوضاً عن قاسم بن البلقيني وخلع على الأمير زين الدين عبد القادر ابن الأمير فخر الدين بن أبي الفرج، واستقر كاشف الشرقية. وكان الكشف بيد الأمير أرغون شاه أستادار . ). في تنقلات للمناصب بين أكابر المجرمين أصبح زين الدين ابن أبى الفرج كاشفا ( أي مديرا أو محافظا ) للشرقية ، وعُزل عن هذا المنصب الأمير أرغون شاه الاستادار . وهذه بداية محنة ( أرغون شاه الاستادار ).

10 ـ ( وفي سابع عشرينه: قبض على أرغون شاه المذكور لعجزه- مع ظلمه وعسفه- عن جامكية المماليك، فإن مصروف الديوان المفرد عظم، وصارت البلاد المفردة له- مع مظالم العباد- لا تفي به . ).

تعليق :

 أدّى هذا الاستادار مهمته في سلب الناس ونهبهم لصالح السلطان ؛ أكبر أكابر المجرمين . وحاقت به اللعنات بدلا من السلطان ، هي ( ثقافة العبيد ) التي ترى أن المستبد ( رجل طيب ) وأن العيب في حاشيته وليس فيه . ما سلبه أرغون لم يكف نفقات البلاط السلطانى ، ولأن عين السلطان على أموال هذا الاستادار وأيضا على أموال من يطمح الى منصبه فقد إعتقل السلطان هذا الاستادار ، وبدأت محنته ، وكما قال الشاعر

ما طار طائر وارتفع     إلّا كما طار وقع

وهو قول يصدق على دول الاستبداد والفساد . وانظر حولك في كوكب المحمديين .

11 ـ ( وفي ثامن عشرينه: خلع على ناصر الدين محمد بن شمس الدين محمد بن موسى المرداوي، المعروف بابن أبي والي، واستقر أستادارا، عوضاً عن أرغون شاه. وعوقب أرغون شاه بين يدي السلطان. ومن خبر ابن أبي والي هذا أن أباه من تجار القدس، وتزيا هو بزي الأجناد، وخدم أستادار الأمير جقمق الدوادار في أيام المؤيد بديار مصر مدة، ثم صادره وصرفه، فخدم أستادار نائب الشام مدة. وكثر ماله، فأحضر من دمشق إلى القاهرة في هذا الشهر، وألزم بحمل عشرين ألف دينار، فوعد أن يحمل في هذا اليوم ثلاثة آلاف دينار. فلما قبض على أرغون شاه، سولت له نفسه وزين له شيطانه أن يكون أستادارا، ويسد المبلغ الذي ألزم به منها، فاستقر . ).

تعليق :

تولى إبن أبى والى المرداوى الاستادارية محل أرغون شاه . وأمر السلطان بتعذيب أرغون أمامه ليستخلص منه الأموال ، وهذا من المعلوم من الدين السُنّى بالضرورة . ولا يزال سائدا في كوكب المحمديين . إلا إن العجيب هو تقلب أكابر المجرمين من الجناح المدنى بين التولية والعزل والضرب والتعذيب ، والمصادرة ، وربما يعود أحدهم بعد العزل والتعذيب والمصادرة الى شراء وظيفة وتتكرر معه القصة ، فهى دائرة جهنمية تعلو بهم وتهبط . الاستادار الجديد ( إبن أبى والى المرداوى ) ذاق هذا ، وتحمل، ووصل بماله الى تولى الاستادارية ، ثم سيلقى نفس المصير .

12 ـ ( وفيه خلع أيضاً على كريم الدين عبد الكريم ابن الوزير الصاحب تاج الدين عبد الرزاق ابن كاتب المناخ، واستقر في الوزارة، عوضاً عن أرغون شاه. ). تولى إبن كاتب المناخ الاستادارية ، بعد أن تولى كاشفا للشرقية .

13 ـ (  وفي تاسع عشرينه: سلم أرغون شاه إلى الأمير ناصر الدين محمد بن أبي والي أستادار ليستخلص منه ستين ألف دينار، فنزل من القلعة مع أعوان الوالي حتى دخل داره التي كان يسكنها أرغون شاه وقد سكنها ابن أبي والي، فعندما دخلها بكى، وكان في بلائه هذا أعظم عبرة. وذلك أن ابن والي في ابتداء حاله كان من جملة أجناد أرغون شاه الذين يخدمونه أيام عمله وهو أستادار نوروز الحافظي، فدارت الدوائر حتى صار ابن أبي والي أستادار عوضاً عن أرغون شاه، وسكن في داره بالقاهرة التي كان بالأمس يتردد إليه فيها. ويجلس حتى يستأذن له عليه. ثم أخذ ليعلقه في هذه الدار، يحضره من كان يخدمه بها. أعاذنا الله تعالى من سوء العاقبة وزوال نعمه، ورزقنا العافية بمنه وكرمه .).

تعليق :

هنا دراما أغرب من الخيال . الاستادار الجديد ( إبن أبى والى ) كان في السابق خادما للاستادار السابق أرغون شاه . ثم تولى احب التدبير في الدولة نقضاً وإبراماً، لكثرة اختصاصه بالسلطان، ومزيد قربه منه. ). العبرة ليست بالكفاءة بل بالثقة . هذا أساس في حكم العسكر ، كان ولا يزال .!

7 ـ ( وفي سادس عشرينه: ثارت المماليك بأستادار لعجزه عن تكملة النفقة، وضربوه، ففر حتى التجأ إلى بيت بعض الأمراء . ), الاستادار الجديد ( إبن أبى والى ) لم يستمتع كثيرا بمنصبه ، إذ عجز عن تدبير نفقات العسكر فضربوه فهرب منهم وإلتجأ الى بيت بعض الأمراء . لم يحمه جاهه ومنصبه من أن يضربه العسكر ( الجنود المماليك ), إذا كانوا يفعلون هذا بالاستادار ، فكيف بعموم الشعب المصرى ؟ هذا يذكرنا بما يحدث الآن في مصر تحت حكم العسكر ، الذى قسّم المصريين الى أغلبية ساحقة مقهورة ( عبيد ) وأقلية غاية في الضآلة ، هم الأسياد . الفرد المصرى الذى ليس من الأسياد ( جيش شرطة ، قضاة نيابة ..الخ ) هو ( مواطن عادى ) . يتعرض للإهانة وعليه أن يتحملها لأنه ( مواطن عادى ) بلا ثمن .!!

8 ـ ( وفي ثامن عشرينه: ختم على مطابخ السكر، وألزم من يدولب طبخ السكر ألا يتعرض أحد منهم لعمله، ومنعت باعة السكر وباعة الحلوى من شراء السكر إلا من سكر السلطان. وعمل لذلك ديوان، وأقيم له جماعة ليدولبوا السكر، فامتنع كل أحد من بيع السكر، إلا السلطان، ومن شراه إلا من سكر السلطان، فضاق الناس ذرعاً بذلك، وتضرر به جماعة عديدة . ).

تعليق :

إشتهر برسباى بالجشع ، إحتكر التجارة الشرقية ، وهنا نراه قد إحتكر صناعة السكر ، وألزم الناس بشراء السكر من عنده فقط . العسكر ( الجيش ) المصرى الحاكم الآن يطبق نفس الشريعة السُّنيّة ، فلا جديد تحت الشمس المصرية .
شهر ذي الحجة، أوله الجمعة:

1 ـ ( في ثالثه: ركب الأمير ناصر الدين محمد ابن السلطان للسرحة في عدة من الأمراء حتى اصطاد، ودخل القاهرة من باب النصر، وصعد القلعة من باب زويلة. ومولده في سنة تسع عشرة. وركب أيضاً في سادسه . ). برسباى يجهّز ابنه الطفل للحكم .  العسكر المصرى الحاكم الآن يطبق نفس الشريعة السُّنيّة ، فلا جديد تحت الشمس المصرية .

2 ـ ( وفيها تحرك سعر الغلال، وفشت الأمراض في الناس من الحميات ) . وباء وغلاء .

3 ـ ( وفي ليلة السبت سادس عشره: زلزلت القاهرة زلزلة كلمح البصر، ثم زلزلت كذلك في ليلة الأحد )... ثم زلزال .

4 ـ ( وفي حادي عشرينه: ألزم الناس أن لا يتعاملوا بالذهب الإفرنتي المشخص، إلا من حساب كل دينار بمائتين وعشرين فلوساً، وكان آخر ما استقر عليه الحال أن الدينار بمائتين وخمسة وعشرين، فلم يتغير صرفه عن ذلك مدة إلى أثناء هذه السنة، زادت العامة في صرفه حتى بلغ مائتين وثلاثين، فأنكر السلطان ذلك عندما بلغه، ورسم أن ينقص كل دينار عشرة دراهم، حتى يبقي بمائتين وعشرين درهماً، فخسر الناس مالاً كثيراً . ).

تعليق :

1 ـ كان الناس يثقون بالدينار الايطالى ( الافرنتى ) لأنه ليس فيه غشُّ مثل نقود ومسكوكات الدولة المملوكية التي تطبّق شريعتها في حق السلطان في أن يفعل ما يشاء لأنه الذى يملك ( الرعيّة ) ، وقد أفتوا له بأن ( من حق الإمام أن يقتل ثُلث الرعية لاصلاح الثلثين ) . الأسهل أن ينهب السلطان أموال الناس ، ويتركهم أحياء يمتصُّ عرقهم . هذه هي الخلفية التي جعلت برسباى يحتكر ويتحكّم في الحياة الاقتصادية ، ويتدخل في سعر العُملة الأجنبية .

2 ـ ألا يتكرر هذا في مصر الآن ؟ . طبعا مع فارق مؤلم . في العصر المملوكى لم يكن هناك تهريب للبلايين الى البنوك في الخارج و ( الأوف شور ). إضطر العسكر المملوكى الى تحصين سرقاتهم بالوقف ، وبناء مؤسسات دينية يحصّنون بها أموالهم ، وتقدم خدمات للناس ، بعضها جيد ، لا تزال تلك المؤسسات حتى الآن أهم الآثار في القاهرة . أما عسكر مصر الآن فهم الذين يثبتون أن مصر أغنى دولة في العالم ، بدليل أنه برغم أنّ ما سلبوه من مصر وهربوه الى الخارج يقترب من تيريليون دولار ..ولا تزال مصر مع ذلك باقية تتنفّس .! ربما لأنها ( مصر المحروسة بالحرامية ).!!

6 ـ ( وفي ثامن عشرينه: قدم مبشرو الحاج، وأخبروا برخاء الأسعار، وكثرة الأمطار، وأن الشريف حسن بن عجلان لم يقابل أمير الحاج ونزح عن مكة، لما بلغه من الإرجاف بمسكه، فنودي من يومه بعرض الأجناد البطالين، ليجهزوا إلى التجريدة بعد النفقة عليهم لغزو مكة، فاستشنع ذلك . ). كان الحجاز ضمن ممتلكات الدولة المملوكية ، ووالى مكة خشى من القبض عليه ز وامر برسباى بتجنيد الأجناد البطّالين ( أي الجنود الاحتياط ) لتأديب والى مكة . وستأتى أخبار عن هذا في العام التالى .

7 ـ ( وفي هذه السنة: اشتد غضب متملك الحبشة وهو أبرم- ويقال له إسحاق بن داود بن سيف أرعد- بسبب غلق كنيسة قمامة بالقدس، وقتل عامة من في بلاده من الرجال المسلمين، واسترق نساءهم وأولادهم، وعذبهم عذاباً شديداً، وهدم ما في مملكته من المساجد، وركب إلى بلاد جبرت فقاتلهم وقتل عامة من فيها،

( تطبيق الشريعة السنّية لأكابر المجرمين في عصر السلطان المملوكى الأشرف برسباى )

هناك من يطالب بتطبيق ما يسمونه بالشريعة ، ولا يعرفون أن أسلافهم طبقوا شريعة شيطانية لصالح أكابر المجرمين . هذا الكتاب يعطى تقريرا تاريخيا عن تطبيق شريعة أكابر المجرمين في عصر السلطان برسباى من واقع تاريخ السلوك للمقريزى.
more