رقم ( 11 ) : الباب الأساس
الفصل الأول : الحياة في ظل تطبيق الشريعة السنية عام 825

 الفصل الأول : الحياة في ظل تطبيق الشريعة السنية عام 825   

 ترتيب أكابر المجرمين

يقول المقريزى في إفتتاح هذه السنة ( شهر المحرم ) : ( 825 ) ( أهلت وسلطان مصر والشام الملك الصالح ناصر الدين محمد بن الظاهر ططر. والقائم بأمور الدولة الأمير الكبير نظام الملك برسباي الدقماقي. والأمير الكبير الأتابك طرباي. والدوادار الأمير سودن من عبد الرحمن. وأمير سلاح بيبغا المظفري. وأمير مجلس الأمير قجق. وأمير أخور الأمير قصروه. ورأس نوبة الأمير أزبك. والوزير تاج الدين عبد الرزاق ابن كاتب المناخ. وكاتب السر علم الدين داود بن الكويز. وناظر الخاص بدر الدين حسن بن نصر الله. وأستادار الأمير أرغون شاه. وقاضي القضاة الشافعي ولي الدين أبو زرعة أحمد بن العراقي. وباقيهم كما تقدم في السنة الخالية. وكاشف الوجه القبلي الأمير أقجا ونائب الإسكندرية الأمير فارس. ونائب الشام الأمير تنبك العلاي ميق. ونائب حلب الأمير تغري بردي من قصروه، وقد أظهر الخلاف. ونائب طرابلس الأمير تنبك البجاسي ونائب حماه الأمير شارقطلوا. ونائب صفد الأمير أينال. وبلاد الصعيد قد عاث بها العربان، وكثر فسادهم ) .نلاحظ :

1 ـ تجاهل المقريزى البدء بالخليفة العباسى ، ربما إحتقارا له، لأنه في العام الماضى عقد شرعية السلطة على ثلاثة سلاطين ، الطفل ابن المؤيد شيخ ، ثم الظاهر ططر ، ثم الطفل الآخر ابن الظاهر ططر . وسيأتى لاحقا لعقد شرعية السلطة لبرسباى في هذا العام 824.

2 ـ هذا هو العام الذى إعتلى فيه برسباى السلطنة ، لذا سيحدث تغيير في هذه المناصب ، أبرزها الإطاحة بالأتابك طرباى ، وهو يشارك برسباى في لقب الأمير الكبير الذى يعنى القيام على السلطان الطفل إبن الظاهر ططر . أطاح به برسباى وبآخرين ضمن صراع أكابر المجرمين على العرش .

3 ـ تجاهل المقريزى أسماء ثلاثة من قضاة القضاة الذين استمروا في وظائفهم، وذكر الشافعى فقط وهو ولى الدين أبو زرعة العراقى ، لأنه تم تعيينه بعد موت سلفه قاضى القضاة الشافعى جلال الدين البلقينى ( شيخ الإسلام ) بزعمهم .

( شهر الله المحرم، أوله الجمعة)

 أخبار الصراع على السلطة: 

1 ـ ( في ثالث عشره: قدم الخبر بفرار الأمير تغري بردي نائب حلب منها، بعد وقعة كانت بينه وبين الأمير تنبك البجاسي نائب طرابلس. وقد كتب له باستقراره د حشد أنصاره .

أخبار الفساد والخراب

1 ـ ( وفي يوم الأربعاء ثامن عشره: جمعت الصيارف بالاصطبل للنظر في الدراهم المؤيدية، فإنه كثر هرش الجيد منها. ومعنى الهرش أن يبرد من الدرهم حتى يجف وزنه، ويصير نحو ربع درهم. فاستقرت المعاملة بها وزناً لا عدداً. ورسم أن يكون كل درهم وزناً بعشرين درهماً فلوساً. وأن يكون الدينار الإفرنتي بمائتين وعشرين فلوسا، وبأحد عشر درهما فضة، وازنة عنها من المؤيدية اثنان وعشرون عدداً، زنة كل مؤيدي نصف درهم، فنزل بالناس من ذلك شدة لخسارتهم. وذلك أن المؤيدي الذي كان بسبعة دراهم فلوساً صار بخمسة دراهم، وفيها ما لا يبلغ الخمسة. وكثر مع ذلك الاختلاف في أسعار المبيعات، وقيم الأعمال، أجر المستأجرات، فذهب معظم مال الناس . ) . الدولة تمارس التلاعب بالعُملة لتسلب أموال الناس

2 ـ ـ ( وفي هدا الشهر: عز وجود لحم الضان في الأسواق، لقلة الأغنام . )  ـ

3 ـ ( وفيه كثر فساد لهانة وهوارة ببلاد الصعيد، وقطعهم الطرقات على المسافرين، وشنهم الغارات على البلاد، وإحراقهم عدة نواحي بما فيها. هذا مع ما ببلاد الصعيد من قلة وجود القمح عندهم، بحيث صار يحمل إليهم من القاهرة، وذلك لخراب بلاد الصعيد ودثور أكثر بلادها، بحيث العشرة أيام ببلاد الصعيد لا يوجد فيها أحد، ولا تزع أراضيها، فقلت الأغنام عندهم. وصار أهلها إلى فقر وبؤس، حتى أن غالب قوت أهلها إنما هو الذرة. ومع ذلك كله، فجور الولاة فيهم لا يمكن وصفه. ولعل هذا إن تمادى أن تهلك بلاد الصعيد كلها.)

 تصارع المماليك والأعراب على نهب الفلاحين في قرى مصر شمالها وجنوبها ، نتج عنه خراب الصعيد بالذات لبُعده عن القاهرة ، وهجرة أعراب هوارة وغيرهم اليه . 

 

( شهر ربيع الأول، أوله الاثنين)

أخبار الصراع على السلطة :

1 ـ ( في ثانيه: قدم الأمير طرباي من بر الجيزة . ) ـ أعطى برسباى عهودا لغريمه طرباى ليأتى الى القلعة ، وصدقه طرباى . هذا بينما إعتقل برسباى أنصار طرباى في القلعة ، واستعد للإطاحة بطرباى .

2 ـ ( وفي ثالثه: قبض الأمير برسباي على الأمير سودن الحموي، أحد أمراء الألوف، وعلى الأمير قانصوه أحد أمراء الطبلخاناة، وكانا من أصحاب الأمير طرباي، فكثرت القالة، وبات طرباي ليلة الخميس وجماعته يحذرونه الطلوع بثمن .

2 ـ ( وفي يوم السبت خامس عشرينه: توجه الأمير سودن الحاجب، ومعه مال برسم حفر خليج سكندريه فما أجدي شيئاً . ). يعنى لم ينجز المهمة . الذى يتم إنجازه بنجاح ساحق هو الفساد والخراب. 

3 ـ ( وفي هذا الشهر: أجدبت أراضي بلاد حوران والكرك والقدس والرملة وغزة، لعدم نزول المطر في أوانه، ونزح كثير من سكان هذه البلاد عن أوطانهم، وقلت المياه عندهم. ومع هذا ففي بلاد حلب وحماة ودمشق وبلاد الساحل كلها رخاء من كثرة الأمطار التي عندهم، فسبحان الفعال لما يريد. )

4 ـ ( وفيه عظم الخطب، واشتد البلاء ببلاد الصعيد، من كثرة الفتن، ونهب البلاد) ـ

5 ـ ( وفيه قُتل والى قوص، وتعذر أخذ الخراج. ) . هجوم على والى قوص المملوكى وتعذر  تحصيل الخراج . واضح أن الأعراب هم الفاعلون .

6 ـ ( وفيه عمل المارستان المؤيدي الذي بالصوة تحت القلعة جامعاً، تقام به الجمعة والجماعة، ورتب له إمام وخطيب ومؤذنون وبواب وقومة. وجعل جهة مصرف ذلك من وقف الجامع المؤيدي. وكان المؤيد قد جعل هذا الموضع مارستان، ونزل به المرضى. فلما مات لم يوجد في كتاب الوقف المؤيدي له جهة تصرف، فأخرجت المرضى منه، وأغلق، وصار منزلا للرسل الواردين من ملوك الشرق، فبقي حانة خمار برسم شرب المسكرات، وضرب الطنابير، وعمل الفواحش. ومع ذلك تربط به الخيول. فكان هذا منذ مات المؤيد إلى هذا الوقت، فطهره الله من تلك الأرجاس، وجعله محل عبادة . ) . هنا ملمح من ملامح فساد الأوقاف في دولة أكابر المجرمين . مستشفى ( مارستان ) خيرى يتم طرد المرضى منه، ويتحول الى حانة ووكر للبغاء بعد موت صاحب الوقف السلطان المؤيد شيخ . برسباى جعله مسجدا . كثيرا ما كان يحدث أن يتحول مسجد الى حانة وتتحول حانة الى مسجد . ذكرنا هذا في أجزاء موسوعة التصوف المملوكى .

7 ـ ( وفيه وقع الشروع في هدم المنظرة التي استجدها المؤيد فوق الخمس الوجوه. ثم انتقض ذلك، فبقي بناؤها مشعثاً، وسكنها بعض فقراء العجم . ). مات السلطان المؤيد شيخ ، فخربوا ما تركه ، وطردوا أولاده من القلعة .. ( فقراء العجم ) هم الصوفية الوافدون من الشرق الى مصر وقتها .

 شهر جمادى الأول، أوله الأربعاء:

أخبار الفساد والفتن والخراب والهلاك

1 ـ (  في سابعه: سارت تجريدة إلى بلاد الصعيد.).بعد قتل والى قوص، وتعذر أخذ الخراج من الصعيد كان إرسال حملة حربية لقمع الأعراب من هوارة وغيرهم  .

2 ـ ( وفيه قدم الخبر بكثرة الوباء ببلاد حلب وحماة وحمص، فهلكت خلائق . ) . أخبار المناطق البعيدة من الدولة المملوكية تصل الى المقريزى عبر البريد فيسجلها ، وقد كان البريد في الدولة المملوكية نظاما مستقرا مستمرا .

أخبار التعصب ضد أهل الكتاب 

(وفي ثامنه: نودي أن لا يخدم أحد من اليهود والنصارى في ديوان من دواوين السلطان والأمراء، فلم يتم ذلك. ) . كان هذا التعصب ظاهرة مؤقتة في العصر المملوكى  ، يهبُّ فجأة ويتم نسيانه حسب الظروف .

أخبار المؤسسات الدينية لأكابر المجرمين 
1 ـ ( وفي يوم الجمعة تاسعه: جددت خطبة بمدرسة شمس الدين شاكر بن البقري بالجوانية، جددها علم الدين داود بن الكويز كاتب السر، لقربها من داره التي يسكنها . )

1 / 1 : ابن الكويز كاتب السّر ( سكرتير برسباى ) قام بتجديد مدرسة قريبة من داره ، وجعل فيها صلاة الجمعة .

1 / 2 : في هذا العصر كانت الصلاة تُقام في سائر المؤسسات الدينية ت">أخبار الصراع السياسى بين أكابر المجرمين

(  في تاسعه: توجه السيد الشريف شهاب الدين أحمد بن علاء الدين علي بن البرهان إبراهيم بن عدنان الحسيني كاتب السر بدمشق ونقيب الأشراف إلى بلده. وكان قد طُلب من دمشق، فقدم القاهرة في ثالث عشر جمادى الأولى، وسُجن في بعض المدارس، وألزم بحمل عشرين ألف دينار. وكُتب باستقرار بعض مسالمة السمرة- ويقال له حسين عوضه ــ  في كتابة السر بدمشق. وكان حسين هذا قد قدم إلى القاهرة في الأيام الناصرية فرج، وخدم من جملة كُتّاب الأمير بكتمر شلق، ثم عاد إلى دمشق. واتفق أنه تزوج مملوك يقال له أزبك بابنة امرأة حسين. وكان أزبك هذا ممن أنشأه ططر، وصار أمير مائة مقدم ألف، فتحدث لحسين هذا في استقراره ناظر الجيش بدمشق، فأجيب إلى ذلك. واستقر حسين في نظر الجيش، عوضاً عن قاضي القضاة الحنفية شهاب الدين أحمد بن الكشك. ثم أضيف إليه كتابة السر، مع نظر الجيش ولم يتفق مثل ذلك في هذه الدول. وما زال السيد محبوساً حتى تقرر عليه عشرة آلاف دينار، فخلع عليه في رابع جمادى الآخرة، هذا وتوجه إلى بلده لحمل ما ألزم به. وسبب ذلك تنكر السلطان عليه لأمور بدت منه في حقه، وهو أمير بدمشق والسيد كاتب السر)

تعليق

1 ـ كان برسباى حقودا ، انتقم من خصومه بعد وصوله للسلطة . حين كان برسباى أميرا  في دمشق كان هناك عداء بينه وبين نقيب الأشراف فيها وهو أيضا كاتب السّر . عندما تسلطن برسباى إستدعاه الى القاهرة ، وسجنه وفرض عليه غرامة. وعيّن مكانه كاتبا للسّر في دمشق أحد اليهود من طائفة السمرة ، كانت له صلة بالأمير أزبك فتوسّط له عند السلطان الظاهر ططر ، فجعله ناظر الجيش عن قاضى القضاة الحنفية ابن الكشك ، ثم أضاف اليه برسباى وظيفة كاتب السّر في دمشق .

2 ـ  نلاحظ التناقض هنا : إذ صدر مرسوم في الشهر السابق بعدم توظيف أهل الكتاب ، أي طرد الموظفين منهم ، بعدها يطرد برسباى إثنين من الأعلام ، أحدهما نقيب الأشراف والآخر قاض للقضاة ، ويولى مكانهما يهوديا سامريا  .

 أخبار الحج

1 ـ ( وفي رابع عشره: نودي بسفر الناس في رجب إلى مكة، فكثرت المسرات بذلك، لبُعد العهد بسفر الرجبية. ثم انتقض ذلك . )، هذا عن عُمرة رجب .

2 ــ ( ونودي في سابع عشرينه لا يسافر أحد الرجبية . )  ـ 

أخبار الغلاء والفتن

 أخبار فتن الأعراب :

1 ـ ( وفيه كانت وقعة بين الأمير يونس نائب غزة وبين عرب جرم، هزموه فيها، وقتلوا عدة من عسكره .)

2 ـ ( وفيه كثرت الحروب والفتن والغارات والنهب والتخريب ببلاد الصعيد من عربانها. )

أخبار فساد القضاة

1 ـ ( وفي خامس عشره: توجه الهروي عائداً إلى القدس، بعد ما أهدى للسلطان هدية بنحو خمسمائة دينار، سوى ما أهداه للأمراء. وكاد أن يلي القضاء على أنه يقوم في كل سنة بثمانين ألف دينار. ويثبت في جهة جلال الدين بن البلقيني زيادة على ثمانين ألف دينار. ويحمل معجلاً خمسة آلاف دينار، فألزم أن يكتب خطة بذلك كله، فأنكر أن يكون قال شيئاً من ذلك، فانحل أمره، ورده الله خائباً، ولله الحمد . ). لم يفلح الهروى في العودة لمنصب قاضى القضاة برغم الرشوة الضخمة التي عرضها ، لأنه رفض أن يكتب إقرارا بما وعد . ( شُغل نصب وحرامية مع بعضهم ).!!

 2 ـ ( وفي سلخه: نودي من كانت له ظلامة فعليه بالاصطبل. وكان السلطان قد ترك جلوسه للحكم منذ قدم خبر صفد، فعاد للجلوس للنظر في محاكمات المتخاصمين، على عادته.). إلغاء للقضاء والقضاة بسبب فسادهم.! .

 

 شهر شعبان، أوله الاثنين.

أخبار فساد القضاة والفقهاء

1 ـ (  فيه تكرر النداء بجلوس السلطان للحكم . ). إلغاء للقضاء والقضاة بسبب فسادهم.! .

2 ـ ( وفي ثانيه: جلس للحكم، واستدعى مدرسي المدرسة القمحية بمصر، وأوقفهم بين يديه، وألزمهم بعمل حساب أوقافها وعمارتها، مما تناولوه من ريعها فيما سلف، وأخرج وقفها- وهو ضيعتان بالفيوم يقال لهما الأعلام والحنبوشية- لمملوكين من مماليكه، ليأكلوها إقطاعاً بينهما. وندب الأمير أزبك رأس نوبة للكشف عن المدرسة، فوجد الخراب قد أحاط بها من جوانبها، وصار ما هنالك كيمان تراب، وهي قائمة بمفردها ليس بجانبها عامر ولا بها ساكن، سوى رجل يحرسها، فطلب السلطان مدرسيها الخمسة، وأوقفهم بين يديه بالاصطبل، وألزمهم بعمل حسابها، والقيام بما استأدوه من العلوم، فخرجوا في الترسيم . )، أي قبض عليهم .

تعليق

كان الفقهاء ومنهم القضاة هم الذين يديرون الأوقاف المرصدة على المؤسسات الدينية والتعليمية ، وكان الإنفاق عليها من ضياع موقوفة على هذه المؤسسات . وبسبب فسادهم تحولت بعض تلك المؤسسات الى خرائب ، بينما يأكل القائمون عليها الريع القادم اليها . قام برسباى بالتحقيق مع الفقهاء القائمين على المدرسة القمحية ، وكانت من قبل من أشهر المؤسسات التعليمية الدينية ، وعرض لها المقريزى في كتابه ( الخطط ) ، ولكن تحولت الى خرابة في عهد برسباى . لذا صادر برسباى الضيعتين التابعتين لها ، وأعطاهما لاثنين من مماليكه إقطاعا ، وألزم الفقهاء الحرامية بتأدية ما سرقوه من ريعها، وحبسهم حتى يدفعوا ما نهبوه .

3 ـ ( وفيه نظر السلطان في أمر جامع عمرو بن العاص. ) , نفس الحال مع الأوقاف المُرصدة لجامع عمرو بن العاص . 

4 ـ (  وأخذ الناس في تتبع عورات القضاة والفقهاء لميل ولاة الشوكة إلى معرفة ذلك، فإن الأحدوثة عنهم قبحت، والقالة فيهم شنعت :
 

وكنا نستطب إذا مرضنا ** فجاء الداء من قبل الطبيب )

تعليق

بسبب هذا أخذ الناس في تتبع فساد الفقهاء والقضاة ، بتشجيع المماليك . والمقريزى يستشهد ببيت شعر يعبّر عن حسرته .!

أخبار النيل

( وفي يوم الخميس رابعه- الموافق له تاسع عشرين أبيب-: كان وفاء النيل ستة عشر ذراعاً. وهذا من النوادر، مع أن زيادته في هذا العام كانت مما يتعجب له، وذلك أن العادة التي عهدت أن زيادة النيل في شهر أبيب تكون قليلة، حتى أنه ليقال قديما: " في أبيب، يدب الماء دبيب ". وأما مسرى فأيام الزيادة الكثيرة، ويقال لها عرس النيل وهي مظنة الوفاء حتى يقال: " إذا لم يوف النيل في مسرى فانتظره في السنة الأخرى."  هذه عادة الله التي أجراها بين خلقه في أمر نيل مصر، وربما وقع الأمر في النيل بخلاف ذلك، فيعد نادراً. واتفق في هذه السنة أنه منذ ابتدأت الزيادة لم تزل زيادته كبيرة بحيث نودي عليه في يوم بزيادة خمسين إصبعاً، فكثر تعجب الناس لذلك، ثم ازدادوا تعجباً لوفائه قبل مسرى، ولله الحمد. وتولى تخليق المقياس وفتح الخليج الأمير الكبير بيبغا المظفري )

ضحايا الصراع بين أكابر المجرمين

1 ـ (  وفي يوم الثلاثاء سادس عشره: أخرج بالمظفر أحمد بن المؤيد شيخ وأخيه من قلعة الجبل نهارا ، وحُملا في النيل الى الإسكندرية ، فكانت هذه موعظة . فإن المؤيد أخرج أولاد أستاذه الملك الناصر فرج الى الإسكندرية ، فعومل مثل ذلك ، وأخرج الله ابنيه الى الإسكندرية ، كما يدين الفتى يدان ). الطفل الذى كان سلطانا ثم عزلوه يطردونه من القلعة . هذا تقليد في صراع أكابر المجرمين .

حركة تنقلات بين أكابر المجرمين لأخذ الرشوة  :

( وفى ثانى عشرينه خلع على بدر الدين محمود العينتابى ، وأعيد الى حسبة القاهرة عوضا عن صدر الدين أحمد بن العجمى . )

أخبار الحروب الصليبية البحرية

( وفى هذا الشهر كثر عبث الفرنج بالسواحل ، وهجم في الليل غرابان ( سفينتان حربيتان ) ، فيهما طائفة من الفرنج على ميناء الإسكندرية ، فوجدوا فيها مركبا للتجار ، فيه بضائع بنحو مائة ألف دينار ، فاقتتلوا معهم عامة الليل ، فخرج الناس من المدينة ، فلم يقدروا على الوصول اليهم لعدم المراكب الحربية عندهم . ولا وصلت سهامهم الى الفرنج ، بل كانت تسقط في البحر ، فلما طال الحرب بين الفرنج والتجار المسلمين واحترقت مراكب التجار ، نجوا في القوارب الى البر ، فأتت نار الفرنج على سائر ما فينخفض ) سعر الغلال ، حتى أبيع الأردب القمح بمائة وخمسن درهما من الفلوس ، وعنها ( أي يساوى ) يومئذ سبعة دراهم ونصف فضة أشرفية ، وأبيع الشعير بخمسة وثمانين درهما الأردب ، عنها أربعة دراهم وربع فضة ، وأبيع الفول بثمانين درهما الأردب ، عنها أربعة دراهم فضة . )

2 ـ ( وفيه ارتفع سعر السيرج ( هو زيت السمسم )، حتى أُبيع الرطل بثمانية عشر درهما من الفلوس ، ولم يعهد مثل ذلك . وسببه غرق السمسم ، فقلّ وجوده . )

 

أخبار أكبر أكابر المجرمين 

( وفى يوم الاثنين عشرينه جلس السلطان بدار العدل ، وعمل به الخدمة ، وأحضرت رسل الفرنج الفرنسيس بهدية ، وهذا أول جلوس جلسه السلطان بدار العدل ). أول جلوس للسلطان برسباى في دار العدل بالقلعة ، وفيه عقد المقابلات وقابل رسل الفرنج .

أخبار التنقلات بين أكابر المجرمين

1 ـ ( وفى حادى عشرينه خلع على الأمير أيتمش الخضرى، واستقر استادارا عوضا عن الأمير أرغون شاه.)

2 ـ ( وفى ثالث عشرينه خُلع على صدر الدين أحمد بن العجمى ، واستقر في نظر الجوالى . )

3 ـ ( وفيه خُلع على الأمير أرغون شاه أحد أمراء دمشق ، واستقر كاشف الوجه القبلى ، عوضا عن بلبان الجمالى . ). السلطان برسباى هو المستفيد من هذه التنقلات: سياسيا حيث لا يريد أن يستمر أحدهم في وظيفة فيتحول الى مركز قوة ، وماليا : بأخذ الرشوة .

أخبار فساد الفقهاء والقضاة

( وفى سابع عشرينه أن السلطان رسم أن لا ينزل أحد من الفقهاء عن وظيفته في وقف من الأوقاف ، وهدّد من نزل منهم عن وظيفته ، فامتنعوا عن النزول ، ثم عادوا كما كانوا ، ينزل هذا عن وظيفته من الطلب في الدروس أو التصوف في الخوانق ، أو القراءة ، أو المباشرة ، بالمال ، فيلى الوظائف غير أهلها ، ويُحرم مستحقوها ، فإن الوظائف المذكورة صارت بأيدى من هي بيده ، ينزلها منزلة الأموال المملوكة ، فيبيعها إذا شاء ، ويسمى بيعها نزولا عنها ، ويرثها من بعده صغار ولده . وسرى ذلك حتى في التداريس الجليلة  والأنظار المعتبرة ، وفى ولاية القضاء بالأعمال ، يليه الصغير من بعد موت أبيه ويُستناب عنه كما يُستناب في تدريس الفقه والحديث النبوى ، وفى نظر الجوامع ومشيخة التصوف .

فيا نفس جدى إن دهرك هازل .!!).

تعليق

1 ـ هذا من عظمة المقريزى مؤرخا . كان مستقلا مع كونه فقيها . إستقلاله عن أكابر المجرمين جعله ينتقدهم ، ويفضح أوجه الفساد المعتادة التي تجاهلها المؤرخون من أكابر المجرمين من أمثال بدر الدين العينى وابن حجر وأبى المحاسن وابن الصيرفى والسخاوى .

2 ـ كان من الفساد الذى أصبح عُرفا بيع الوظائف وتوارثها . الذى يحصل على وظيفة بالرشوة تصبح ملكا له يبيعها لمن يدفع له أكثر ، ويرثها إبنه ، وليس مهما إن كان يصلح أو لا يصلح لهذه الوظيفة . هي بالطبع وظائف تستلزم مؤهلات من الخبرة والعلم ، ولكن ضاع كل هذا ، وكان هذا من أسباب ضياع العدل وتأخر العلم وفشل التعليم .

3 ـ رائع أن يعقّب المقريزى قائلا يهاجم عصره : ( فيا نفس جدى إن دهرك هازل .!!). يدعو نفسه بالتمسك بالجد في عصر ساده الهزل .  

أخبار التعصب ضد أهل الكتاب

( وفيه أُغلقت كنيسة قمامة بالقدس عن أمر السلطان .)

أخبار الانحلال الخلقى

( وفى سلخه نودى بمنع النساء من الخروج الى الترب في أيام العيد ، وهددن بعقوبة إن خرجن ، فامتنع كثير منهن عن الخروج اليها. ) .

تعليق

1 ـ  إمتنع كثير منهن . والعادة أن يتم تناسى المنع .

2 ـ على أن هناك سببا في هذا المنع للنساء . فالدولة المملوكية تبيح شريعتها البغاء ، وتجعل ضريبة عليه تدفعه ضامنة المغانى . وحتى تكثر الجباية لا بد من منع الانحلال الشخصى ليتوجه الزُّناة الى دور البغاء . وهنا نفهم أن المنع كان على النساء وليس على الرجال ، حتى يتوجه الرجال الى شراء المتعة الحرام بدلا من الحصول عليها مجانا .

 

شهر شوال . أوله الجمعة

أخبار أكبر أكابر المجرمين

( فيه صلى السلطان صلاة العيد بجامع القلعة . ).

تعليق

الحرص على الصلاة من سمات أكابر المجرمين ، هو نفاق وتدين سطحى يشجع على المزيد من الاجرام طبقا للقاعدة الأساس في الأديان الأرضية في ضمان الجنة بتأدية عبادات لا تنهى النفس عن الفحشاء والمنكر . والعادة أن أكابر المجرمين من الفقهاء والقضاة يحوطون بالسلطان المجرم . كان هذا من عصور الخلافة واستمر حتى الآن .

أخبار فساد القٌضاة

1 ـ ( وفى رابعة رُفعت يد قاضى القضاة زين الدين عبد الرحمن التفهنى الحنفى عن وقف الطُرحاء ، ثم أعيد اليه بعد أيام ، وكان لما رُفعت يده عنه نودى : " من مات له ميت وعجز عن كفنه فعليه بمصلى المؤمنى تحت القلعة . ) .

تعليق

كان هناك وقف خيرى ( من أفراد ) لتكفين الموتى الفقراء . وكان قاضى القضاة الحنفى زين الدين التفهنى هو المشرف عليه . ظهر فساده فعزله السلطان ، دفع التفهنى مالا للسلطان فأعاده بعد أيام ، ولكن مع كف يده عن السرقة بإعلان أن مصلى المؤمنى في القلعة تفتح أبوابها لتكفين الموتى الفقراء . 

2 : ( وفيه رُفعت يد قاضى القضاة ولى الدين أبو زرعة العراقى الشافعى عن وقف قراقوش ، وفوّض السلطان أمره الى التاج الشوبكى والى القاهرة ، واستمر كذلك فلم يعد الى القضاة . فكان هذا مما يُستشنع . وكثرت الشناعات بمقت السلطان للقضاة والفقهاء ، وأنه يريد الكشف عما بأيديهم من الأوقاف . )

تعليق

2 / 1  ـ قاضى القضاة الشافعى لم يتخلف عن سباق الفساد ، خصوصا وهو رقم (1 ) في القضاة الأربعة ، وهو الذى يستحوذ على إدارة الكثير من الأوقاف والوظائف . الأوقاف الأهلية التي مات أصحابها كانت مرتعا رائعا للسرقة . ومنها وقف الأمير بهاء الدين قراقوش الذى بنى القلعة في حياة السلطان الناصر صلاح الدين . أدمن قاضى القضاة الشافعى سرقته فحسده برسباى ، وأخذه منه وعهد به الى والى القاهرة ( مدير الأمن فيها ) وظل بعدها وقف قراقوش بعيدا عن تحكم القضاة جميعا بسبب شهرتهم بالسرقة .

2 / 2  ـ شهرة القضاة بالسرقة واختلاس أموال الوقف الذى كان منوطا بهم حمايته جعلت أكبر أكابر المجرمين برسباى يظهر مُصلحا ، خصوصا وقد تكاثرت الأقاويل بفضائح القضاة وسرقاتهم ، فتشجع الناس على كشفهم خصوصا في سرقات أموال الأوقاف .

2 / 3  ـ تعبير المقريزى رائع ، وهو يقول : ( . فكان هذا مما يُستشنع ).!

3 ـ ( وفى هذه الأيام أُبتدىء بعمل الخربة ـ التي بخطّ الركن المخلّق من القاهرة ، وكالة . وفى هذه الخربة موضعها الآن داخل الدرب الأصفر ، حيث كان يُعرف قديما بالمنحر . وبابها من وسط سوق الركن المخلق ، عملته خوند بركة أم السلطان الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون ، أعوام بضع وسبعين وسبعمائة ليكون داخله قاعة ، بجوار القيسارية التي أنشأتها . وعُملت برسم بيع الجلود ، فماتت قبل عمارتها ، وقد فرغت واجهة الباب فقط ، فتعطلت دهرا الى أن أخذ الأمير جمال الدين يوسف الأستادار ، القيسارية المذكورة من وقف أم السلطان على مدرستها ، بخط التبّانة ، من قلعة الجبل ، وصيّرها من جُملة أوقافه على مدرسته التي أنشأها بخط رحبة باب العيد ، وضع يده أيضا على هذه الخربة . ومات قبل أن يعمل فيها شيئا ، فلم تزل معطلة حتى وقع اختيار السلطان في هذا الوقت على عملها وكالة ، فابتدىء بعملها . ).

تعليق

عملت خوند بركة أم السلطان الأشرف شعبان القلاوونى قاعة لبيع الجلود بجانب قيساريتها ، والقيسارية هي وكالة كبرى تضم محلات ودكاكين . ماتت السيدة قبل أن تكتمل عمارتها فاصبحت خرابا . ثم إستولى أحد أكابر المجرمين السابقين ( جمال الدين الاستادار ) على القيسارية وأوقاف خوند بركة ، وضمّها مع الخرابة المذكورة الى أوقافه على مدرسته ، ومات ، فظلت على نفس الحال الى هذا العام . قرر برسباى الاستيلاء عليها وعملها وكالة . وطبعا يحتاج الى تمويل . جاء التمويل في الخبر التالى :

4 ـ ( وفى يوم السبت تاسع هذا الشهر رسم بإعادة مكس دار التفاح الذى أبطله الملك المؤيد شيخ ، فأُعيد بسفارة الوزير تاج الدين عبد الرزاق ابن كاتب المناخ ، وطول سعيه فيه ، عامله الله بعدله ، فانه جدّد مظلمة يتلف من أموال الناس بنهب الظلمة الفُسّاق ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقليون.! )

تعليق

4 / 1 : المكس هو ما يعرف الآن بالجمارك . ومكس دار التفاح يعنى مركز جمارك داخلية على التجار الذين يمرون ببضائعهم . كان ظلما أبطله السلطان المؤيد شيخ ، ثم أعاده برسباى بعد أن ظل الوزير تاج الدين يقنع السلطان برسباى بإعادته ، فأعاده لأنه إحتاج الى تعمير الوكالة التجارية المشار اليها سابقا.

4 / 2  ـ المقريزى هو في احتجاجه الغاضب قال عن الوزير: ( عامله الله بعدله ، فانه جدّد مظلمة يتلف من أموال الناس بنهب الظلمة الفُسّاق ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقليون. ) . كان ينبغي على المقريزى أن يوجّه نقده الى السلطان وليس الوزير فقط . 

أخبار الصراع بين أكابر المجرمين
( وفي سابع عشرينه: قدم من صفد ثلاثون رجلاً، ممن أسر >

( في رابعه: اختفي الوزير تاج الدين عبد الرزاق ابن كاتب المناخ، فخلع على الأمير أرغون شاه، وأضيفت إليه الوزارة، فصار وزيراً أستادار، وذلك في يوم الاثنين ثامنه، فظهر ابن كاتب المناخ في عاشره، وصعد إلى القلعة فعفي عنه، ولزم بيته بطالاً على حمل مال قام ببعضه .)

تعليق

 الوزير الذى أقنع برسباى بإعادة الجمارك اختفى ، ربما لأن سرقاته في الجمارك أزعجت السلطان ، فأعطى السلطان منصب الوزارة لأرغون الاستادار . جمع الوزير مالا وأعطاه للسلطان فرضى عنه .

( وفي خامسه: عزل الأمير أيتمش الخضري، وأعيد الأمير أرغون شاه أستادارا، ولم تشكر سيرة أيتمش لعتوه وشدة ظلمه، مع عجزه عن القيام بما وليه . ) .

 

شهر ذي الحجة، أوله الاثنين

 أخبار فساد القضاة

( وفي يوم السبت سادسه: خلع على علم الدين صالح ابن شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني، وفوض إليه قضاء القضاة، عوضاً عن ولي الدين أبو زرعة أحمد بن العراقي، بمال كثير . )

تعليق

ابن ( شيخ الإسلام ) يدفع رشوة كبيرة ليتولى منصب أبيه ( شيخ الإسلام السابق ) .

أخبار الصراع بين أكابر المجرمين في ينبع
( وفي سابع عشرينه: نزل الحاج بينبع، وقد استعد من فيهم من المماليك السلطانية مع الأمير جانبك الخازندار أحد أمراء العشرات لحرب الشريف مقبل متولي ينبع، وقد قدم عقيل بن وبير الحسني من القاهرة صحبتهم، بعد ما خلع عليه بها، في شوال، واستقر أمير ينبع، شريكاً لعمه مقبل، بمال التزم به للدولة، فلما علم مقبل بذلك، نزح عن ينبع إلى واد بالقرب منها. ودخل الحاج إلى ينبع في ذي القعدة، فبعث أمراء الحاج الثلاثة، وهم افتخار الدين ياقوت أمير المحمل، وأسندمر الأسعردي من أمراء العشرات أمير الركب الأول، وجانبك أمير الركب الثاني، إلى الشريف مقبل حتى يحضر إليهم، فجرت أمور آخرها، أن يستقر عقيل شريكاً له كما كان أبوه وبير، وأن يكاتب السلطان بذلك. ومهما ورد المرسوم به اعتمده. ورحل الحاج من ينبع إلى مكة، وقد وجهوا نجّابا إلى السلطان بكتبهم، وتركوا عقيلاً بينبع، فاقتتل هو وعمه، فظفر به عمه، وقيده، وأقام بينبع حتى عاد الحاج إليها، فاستعد الأمير جانبك- كما قلنا- وركب في جمع من المماليك وغيره

( تطبيق الشريعة السنّية لأكابر المجرمين في عصر السلطان المملوكى الأشرف برسباى )

هناك من يطالب بتطبيق ما يسمونه بالشريعة ، ولا يعرفون أن أسلافهم طبقوا شريعة شيطانية لصالح أكابر المجرمين . هذا الكتاب يعطى تقريرا تاريخيا عن تطبيق شريعة أكابر المجرمين في عصر السلطان برسباى من واقع تاريخ السلوك للمقريزى.
more




مقالات من الارشيف
more