رسالة من الملك جوزيف الثاني لحاكم مصر
الملك جوزيف الثاني ملك النمسا ما بين عامي (1765: 1790م) أخذ على نفسه عاتق الإصلاح السياسي بعد سلسلة حروب أهلية في النمسا وخارجية على المستعمرات بدأت عام 1740 واستمرت 8 سنوات، وقد علم جوزيف من هذه الحروب يقينا أن المجتمع العاقل ينتج سلطة عاقلة، والشعوب الجاهلة لا يمكن أن تحب السلام، فعقد العزم على التنوير وإصلاح مجتمعه ولو بطريقة غير مألوفة.
هو الإبن الأكبر للإمبراطورة ماريا تريزا، وقد أثرت نشأته الملكية في غرس صفات النبلاء فيه من حب السيطرة والسلطة، ولكن ميله لتيار “اليعاقبة”، جعله أقرب لليسار والإصلاح الحكومي الذي ينطلق من مفهوم (شمولية الدولة)، واليسار عموما مهتمون بالعدل الاجتماعي والمساواه والدفاع عن حقوق الفقراء، لذلك مثل لديه هذا الاتجاه نوع من المواجهة مع أصحاب النفوذ وقتها لديه في النمسا، وهم طبقة النبلاء والأغنياء، إضافة لاطلاعه وعشقه للفلسفة دخل في مواجهة أخرى مع رجال الدين.
كان التحدي الأكبر لجوزيف هو كيف يجعل مجتمعه آمنا بعيدا عن الحروب، وكيف يجعله مستنيرا، فأطلق مصلطحه الشهير “الحُكم المطلق المستنير” فلطبيعة أوروبا وقتها لم تكن ديمقراطية كان عليه أن يؤسس لهذا الحكم بعيدا عن تدخلات أكبر وأقوى الطبقات الدينية والشعبية نفوذا، واهتدى إلى أقصر الطرق لذلك وهو “القانون” وفرضه جبرا بقوة السلطة.
بدأ جوزيف -أو يوسف- حكمه بإلغاء العقوبات الوحشية السائدة في عصره كالإعدام حرقا وبالخازوق والتعذيب…إلخ. بل ألغى عقوبة الإعدام ولم يطبقها إلا في أضيق الحالات، وسن قوانين للتسامح مع بقية الطوائف والأديان كاليهود والأرثوذكس والبروتستانت، وسن قانون مميز بإلزام أولياء الأمور بدفع أبنائهم للمدارس العلمانية التي تسقيهم مبادئ التنوير، وإلا سيدفعوا ضرائب أعلى. وبالتالي استخدم سلطاته في فرض التنوير ولم ينتظر من الآخرين أن يقدموا على هذه الخطوة.
بخلاف ما قام به عبدالفتاح السيسي في مصر الذي كلف الأزهر بالتنوير، وكأن جوزيف يكلف الكنيسة بالمهمة، وإنها والله لعار وشانة على الفهم، إذ كيف يتخلى طرف عن مصالحه بمحض إرادته. فما بالك وهذه الحالة تعني القضاء تماما على الأزهر كمؤسسة تعليمية دينية وتعطي حق الإفتاء والتعليم الديني لغيرهم من المثقفين والمهتمين..!
سبب اختياري لجوزيف الثاني كنظير للسيسي أنهما يملكان نفس الصفات وغالبا نفس النظام، السيسي –كما أعلن-يريد التنوير، لكن حسب تقديرنا فهو ضال للطريق، جوزيف جاء بعد أزمة وتهديد حقيقي للدولة، والسيسي كذلك، فشربا نفس المفهوم وهو “الخوف من الماضي” أو بتعبير مصري “اللي يقرصه الثعبان يخاف من الحبل” أو “اللي يتلسع من الشوربة ينفخ في الزبادي”.
السيسي مستبد ولا يسمح بتواجد حقيقي للمعارضة في عهده، ويرى أن المعارضة الآن خطر في عز حربه على الإرهاب، أو بتعبير آخر “غير ناضجة”، وهي رؤية الدكتاتوريين دائما حيث ينتقصون من المعارضة ويطعنون في أهلية الشعب للقيادة. أيضا جوزيف كان مستبد ونسخة قديمة محققة لكمال أتاتورك، لكن يفصل بينه وبين أتاتورك أنه كان عاشقا للحروب تأخذه زهوة النصر فيتمادى دون أن يبالي بدماء وأرواح الجنود، وهو نفس ما حدث للسيسي، رجل يكره الأزمات فيورط نفسه مع حزب الله في لبنان، رجل يكره الحروب فيورط نفسه في اليمن..!
جوزيف شن عدة حروب في مدة حكمه التي ناهزت 25 عاما، ولم يشفع له ما استقاه من مبادئ السلام عندما كان أميرا وإبنا أكبر ينتظر شارة القيادة، ومع جهوده العظيمة في التنوير إلا أن وفاته ونهاية حكمه كانت بائسة، فالرجل تعرض لشبه ثورة شعبية عليه وخصوصا من الفلاحين الذي تعرضوا للظلم الاجتماعي أواخر عهده، وهي الرسالة التي أبعثها للسيسي، أن الاستبداد مهما أنجز “آخرته وِحشة” أو بتعبير عربي “خاتمته سيئة” أو بتعبير الشيوخ “جهنم وبئس المصير” أو بتعبير الثوار “يسقط النظام”.
ورسالة أخرى أن الرجل فهم معنى التنوير فسعى إليه وطبقه، ونادى في البلاد هلموا إلى التنوير (الناجز) وليس المشهور في عرف السيسي بالتنوير الذي يأتي من الشعب، وكأن الشعب قطعان من الفلاسفة (ابتسامة) أو هو الذي يأتي بالأزهر وكأن الشيوخ يرضون بالانتحار الجماعي كظاهرة الحيتان النافقة على الشواطئ.
وليس أدل من نجاح جوزيف أن امبراطورية النمسا وقتها امتد نفوذها لتملك نصف أوروبا بما فيها ألمانيا والمجر، وهذا يعني أن ثمة (تنوير ناجز) أتى مفعوله بصعود فلاسفة ألمان من أقطاب عصر التنوير كيوهان هردر، وفريدريش شيلر، وهيجل، وفيتشة، ويوهان لامبرت، حتى أن (تنويره الناجز) أخرج لنا فلاسفة بعد موته بنشأة المجتمع لهم كالعظيم إينشتاين وشوبنهاور ومارتن هيدجر وإيمانويا كانط وفيورباخ.
بينما السيسي لم ينتج في تنويره (الغير ناجز) سوى مجموعات من الإعلاميين البلهاء (أعتذر عن اللفظ ولكنه حقيقة) والجنرالات عديمي الأفق السياسي، ومجموعة كتاب متكلسين معرفيا ووجدانيا لا يقولون إلا ما يقوله الحاكم، ولا توجد لديهم خطط ولا برامج نهضوية حقيقية، مجموعات من الناقلين والتقليديين، اختفى الإبداع وأصبحت الثقافة في عهد السيسي على المحك، فكن على الأقل كجوزيف ينجز تنويره الخاص بيده ولو لم تقتنع به الآن أو رأيته خطرا على الشعب أو على سلطانك فعلى الأقل (كن محايدا) لا تقف بجوار الكهنوت وتدعم الشيوخ ضد الفلاسفة والمفكرين، ثم تأتي لنا بثياب الثعلب تتخفى في ثوب الناصحين.
الغ قانون الازدراء المعيب في حق الدولة، وادعم الحريات خصوصا حرية التعبير، لن أحدثك في السياسة. فالمقام ليس هو، لكن في التنوير أنت وعدت، ووعد الحر دين.
اجمالي القراءات
8464