رقم ( 3 )
ب 1 ف2 :

ب 1 ، ف 2 ، ج 1 )ثلاث مقالات ) آيات تشريع الصوم فى سورة البقرة  

كتاب ( رمضان والصيام بين الاسلام والدين السنى ) دراسة أصولية تاريخية  

 الباب الأول : رمضان والصيام فى الاسلام :

مقالات متعلقة :

الفصل الثانى : تشريع الصيام فى رمضان  ( جزءان )

الجزء الأول :  ( خمس مقالات )

آيات تشريع الصوم فى سورة البقرة

المقال الأول

 أولا:
1 ـ كان العرب كانوا يصومون شهر رمضان طبقا لملة ابراهيم التى توارثوها جيلا بعد جيل .
وبعد نزول القرآن الكريم اعتاد المؤمنون بالقرآن صيام رمضان بنفس التوارث المعتاد ،ثم نزل تشريع الصيام في المدينة ليتحدث عن شهر شهر رمضان الذى أصبح معروفا للمسلمين بأنه شهر القرآن ، فهو الذي نزل فيه القرآن مرة واحدة على قلب النبي محمد حين كان في مكة.

أول آية في تشريع الصوم قالت : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ) لم تشرح ألآية الأولى في تشريع الصوم معنى الصوم وأنه الامتناع عن الطعام والشراب واللقاء الجنسي بالزوجة – كما تفعل كتب الفقه ـ والسبب بسيط هو أن العرب كانوا يصومون رمضان، بل وكانوا يتخذون منه عادة اجتماعية للهو واللعب بدون مراعاة للتقوى كما نفعل نحن الآن ، لذا تخبر الآية الأولى في تشريع الصوم القاعدة الأولى وهى تأدية الصوم كما اعتادوه بنفس ما كان في ملة إبراهيم (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ) من الامتناع عن الأكل والشرب واللقاء الجنسي، وهوالذى كانوا يفعلونه أنفسهم في مكة قبل أن ينزل التشريع القرآني بهذا التصحيح والتنقيح ، ثم تختم آية التشريع الأولى بتقرير إقامة الصوم في سلوك المؤمن عقيدة وسلوكا أي أن يكون هدف الصوم هو التقوى. (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
2 ـ بعد تقرير أن الصوم عبادة متوارثة ولا بد من مراعاة التقوى فيها تأتى الآيتان التاليتان بتقعيد تشريع جديد لم يكن موجودا من قبل، وهو فى التيسير باباحة الفطر في رمضان، ولأنه تشريع جديد فقد جاءت تفصيلاته واضحة، بل وتكررت في آيتين متتاليتين توضحان السماح بالافطار للمريض والمسافر وحتى القادر على الصوم ولكن مع قضاء الصوم (للمريض والمسافر ) أو دفع الفدية لمن يفطر وهو يطيق الصوم أى يقدر عليه بصعوبة مرهقة (البقرة 183- 185).
3 ـ وكان الصوم المعروف المتوارث وقتها قبل نزول التشريع القرآني الجديد يبدأ بعد العشاء ويستمر طيلة الليل والنهار حتى مغرب اليوم التالي ليكون الإفطار مرحلة قصيرة هي ما بين المغرب والعشاء فقط. وكانت هذه الفترة القصيرة لا تكفى إلا للطعام فحسب، ويأتي الليل فيضطر أحدهم لمباشرة زوجته بعد العشاء ، أى في وقت يجب أن يكون فيه صائما. ونزل التخفيف تشريعا جديدا مفصلا في قوله سبحانه وتعالى " أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ) أي جاء التشريع الجديد بأن مباشرة الزوجة مباح في ليلة الصيام (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ) وهنا يخبر الله سبحانه وتعالى عن وقوع بعضهم في مباشرة الزوجة في ليلة الصيام حين كان واجبا الصوم فيه، ويبشر الله سبحانه وتعالى بأنه عفا عنهم وتاب عليهم، وأنزل هذا التخفيف عليهم، لذا جاء التشريع الجديد يقول للمؤمنين (فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ). يأتي هنا تفصيل التشريع الجديد لوقت الإفطار في رمضان ، حيث يباح الأكل والشرب واللقاء الجنسي بالزوجة من مغرب الشمس إلى طلوع الفجر، وظهور أول تباشير الضوء حين تتمكن العين المجردة من تمييز الخيط الأبيض من الخيط الأسود . توضيح مفصل في تشريع جديد يعقبه تشريع جديد آخر يتضمن تصحيحا لتشريع قديم هو الاعتكاف في ليالي رمضان في المساجد (وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ )... البقرة 187-) إذ كانوا يعتكفون في المساجد رجالا ونساء، وكان الزوج يعتكف مع زوجته في المسجد في ليالي رمضان، وكان يحدث لقاء جنسي بينهما وقت الاعتكاف، لذا نزل التشريع الجديد يحرم ذلك اللقاء الجنسي بالزوجة أثناء الاعتكاف الرمضاني في المسجد.
4ـ ذلكم هو بيان القرآن لما يحتاج فعلا إلى بيان من تشريع جديد يعرفه الناس لأول مرة أو يوضح وجه الحق في تحريف أدخله الناس في تشريع سائد. لذا اختتمت الآية بتقرير أن ذلك هو بيان القرآن للناس لعلهم يتقون: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ]
وبالفعل فان بيان القرآن الكريم في تلك الآيات القليلة احتوى على كل ما يلزم المؤمن في تشريعات الصوم. وما أحدثه الفقهاء بعدها من ثرثرة وفتاوى وأحكام فقهية كلها هراء لا طائل من ورائه، لذا اختلفوا فيه وانشغلوا بهذا الاختلاف قرونا وكتبوا فيه آلاف الصفحات عبثا ، ومن أسباب ذلك أنهم شرّعوا لأنفسهم ما يريدون فى شكل احاديث ، ثم صدقوا أكاذيبهم ، فحجبوا عقولهم عن التفكير وعن التدبر فى القرآن الكريم فلم يفهموا فلسفة التشريع القرآنى ودرجاته.
وهم لم يكتفوا بالثرثرة، إذ ابتدعوا تشريعات ما أنزل الله تعالى بها من سلطان ، ونسبوها زورا للنبى محمد عليه السلام. 
ثانيا
التشريعات الاسلامية ـ عموما ـ تقوم على درجات ثلاث : أوامر ، وقواعد ، ومقاصد أوأهداف.
والعادة ان الأوامرالتشريعية تخضع فى تطبيقها للقواعدالتشريعية ، بينما تخضع القواعد التشريعية فى التطبيق الى المقصد التشريعى وهو التقوى ،والتقوى هى الغاية الكبرى من كل العبادات والأعمال الصالحة.
ونبحث عن الأوامر و القواعد والمقاصد فى آيات تشريع الصوم ، وبتدبرها يتضح الآتى:
1 ـ جاءت الأوامر بالصوم فى قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ) (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)، وجاء توضيح الأمر بالصوم فى قوله تعالى (فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْل ). وتنفيذ هذه الأوامر ـ بالصيام او الافطار ـ يخضع للقواعد التشريعية التى جاءت فى الايات نفسها.
2 ـ وجاءت القواعد ، وأساسها التخفيف والتيسير وليس التعسير ، فى قوله تعالى فى سياق تشريع الصيام :(يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) ( البقرة 185 ).
وهذه القاعدة فى التخفيف ورفع الحرج هى أساس فى قواعد الاسلام يختلف به عن الأديان الأرضية للمسلمين التى تقوم على الحظر والتضييق والتزمت والتحريم للمباح الحلال.
وفى قيام التشريع الاسلامى على التخفيف ،يقول جل وعلا عن الدين الاسلامى كله ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا ) ( الحج 78 )
ويقول (يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا ) ( النساء 28 ).
ويتردد هذا فى تشريعات جزئية كالطهارة ، يقول جل وعلا :(مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ( المائدة 6 ).
ويأتى فى مراعاة أحوال ذوى الاحتياجات الخاصة من المعوقين والمرضى : (لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ) ( النور 61 ) (لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ) ( الفتح 17 ).
ونفس الحال فى الحج (وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ( البقرة 196 ).
وفى الصلاة فى قصر الصلاة عند الخوف فى الحرب والمطاردة (النساء101 : 103 ) وعند خوف ضياع وقت الفريضة ( البقرة238 : 239 )
وفى قيام الليل (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ)(المزمل 20)
وهنا فى الصوم.( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) ( البقرة 185 )
لقد جاءت الرسالة الالهية الخاتمة ( القرآن الكريم ) بالتخفيف ورفع الاصر ، و(الإصر ) هو الثقيل من التكاليف التشريعية ، ولقد جاء فى آخر آية من سورة البقرة (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ) فليس فى الاسلام مؤاخذة على الخطأ أو النسيان ، لأن فى رسالته القرآنية الخاتمة رفع (الإصر ) أى التكاليف الشرعية الثقيلة التى كانت فى الرسالات السماوية الاسلامية السابقة . ومن هنا فان الله جل وعلا خاطب موسى عليه السلام فى الميقات عند جبل الطور متحدثا عن رفع الاصر عن أتباع الرسالة القرآنية الخاتمة فقال جل وعلا (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ) ( ألأعراف : 157 )
3 ـ ولأن الصوم فيه مشقة الحرمان فان التخفيف و التيسير جاء قاعدة فى أدائه ، ولذا فقد جاءت تفصيلات التخفيف والتيسير فى آيات تشريع الصوم باعتبارها تشريعا جديدا مفصلا لم يكن موجودا من قبل ، يقول تعالى :(أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ( البقرة 184 : 185 )
وهنا نستخلص قواعد التخفيف والتيسير كالآتى:
• من اصبح فى يوم من أيام رمضان مريضا أو على سفر فله أن يفطر ، ويقضى الأيام التى أفطرها بعد رمضان.
• ومن أصبح مريضا أو على سفر ولكن أراد أن يصوم دون استعمال رخصة الفطر فهو خير له.
• من كان يطيق الصوم ـ أى يقدر عليه ـ ولكن شاء الفطر فعليه أن يدفع فدية (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ). والفقه السّنى يحرّف معنى الآية الكريمة، فيقولون أن معناها أنه على الذين ( لا يطيقون ) الصيام ،أى يقولون بوجود(لا ) النافية ويزعمون أنها محذوفة. وهذا تحريف للقرآن الكريم بأن يزيد فى لغة القرآن الكريم ماليس فيها. ثم أن هذا المعنى المحرف لا يستقيم مع التيسير ، وهو القاعدة فى الصوم، ولا يستقيم مع سياق الآية قبلها حيث أباحت الفطر للمسافر والمريض ثم ألحقت به فطر من يطيق الصوم ويقدر عليه مع دفعه الفدية ، ولا يستقيم مع سياق الآية بعدها حيث يجعل الله تعالى التفضيل لمن يصوم وهو يطيق ـ اى يقدر ـ على الصيام ، كما لا يستقيم مع فهم كلمة (يطيق ) ومشتقاتها التى جاءت ثلاث مرات فى نفس سورة البقرة ، مرة بالاثبات فى موضوع الصوم :(وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ )، ومرتين بالنفى : (قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ) (رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِه) ( البقرة 249 ، 286 ). أى لو كان الله تعالى يريد أن يقول (وعلى الذين لا يطيقونه فدية ) لقالها وأثبت كلمة(لا ) ، ولكنه جل وعلا قال بالاثبات وليس بالنفى ، ليفيد فى معرض التيسير أنه على من يقدرعلى الصوم ويطيق الصوم ولكن يريد الافطار فعليه تقديم فدية طعام مسكين.
• ومفهوم بعدها أنه ـ من باب أولى ـ فالذى لا يستطيع الصوم يمكنه الافطار ودفع الفدية ، فاذا تطوع المفطر فى رمضان بزيادة الفدية فهو خير له ، ولو كان يستطيع الصوم ولكن بمشقة بالغة ولكنه تطوع بقبول مشقة الصوم فهو خير له ، وفى الصوم فائدة على كل حال (وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُم إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ).
• وجاء التخفيف الأخير فى تعديل مدة الافطار لتكون من بداية الليل بغروب الشمس الى أن يتبين الخيط ألأبيض من الخيط الأسود من الفجر. ( البقرة 187 ).
3 ـ تنفيذ هذه القواعد يخضع للتقوى. وهنا ندخل على المقصد من التشريع.
التقوى هنا هى ضمير الصائم الذى يمتنع عن الطعام والشراب والعلاقة الجنسية مع الزوجة ابتغاء مرضاة الله تعالى . هو بذلك يتعامل مباشرة مع ربه فيخشى الله جل وعلا بالغيب ،أى حين يكون وحيدا منفردا يتمسك بصومه حيث لا رقيب ولا حسيب عليه سوى مولاه عز وجلّ. ولذلك كانت عبادة الصيام وسيلة لتعلم التقوى ،أو على حد قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ).
وفى التقوى تجد الاجابة عن كل التساؤلات التى يسأل عنها الصائمون ،وهى البديل الأمثل الذى يستغنى به المسلم الصائم عن كل تلك الثرثرة الفقهية والخزعبلات التى حفلت بها كتب الفقه . ونعطى أمثلة:
*  فالقرآن الكريم لم يحدد ماهية السفر الذى يسبب ارهاقا يتساوى مع المرض ، وترك ذلك لتقدير الضمير المؤمن.
* ولم يحدد نوع المرض الذى يستدعى الافطار. المؤمن المتقى عليه أن يأخذ رأى الطبيب المختص ـ وليس الفقيه ـ فى تحديد هل مرضه يستوجب الافطار أم أن الصوم لا يضره ؟
* وليس فى القرآن الكريم تلك الثرثرة الفقهية عن صوم أوعدم صوم الحامل والمرضعة، وحكم تقبيل الصائم لزوجته، لأن كل ذلك متروك لضمير الصائم وتقواه.
* ولم يحدد الفدية التى يدفعها المفطر غير المريض وغير المسافر، قال فقط (فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) . التحديد يخضع لتقوى المسلم ، هل يعطى طعاما فاخرا أم معتدلا ، وهل يعطى طعاما عينيا أو مالا يقوم مقام الطعام ، وما هو الواجب على الغنى والفقير ؟ كل ذلك يقدره ضمير المؤمن الذى يسعى لرضا ربه جل وعلا عليه.
وفى الأحوال السابقة جاءت إشارة لطيفة للتقوى فى قوله تعالى (فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ )، وهى تخاطب من يستطيع الصوم ويطيقه ويقدرعليه ولكن يفطر ويعطى فدية، وموجهة أيضا لمن يستطيع الصيام فى السفر والمرض ولكن يختار الافطار.
* وجاء تحديد بداية الصوم ونهايته أيضا موكولا الى ضمير المؤمن الصائم ، فالبداية من حين يتبين له ـ هو ـ الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر. ويمكنه احتياطا أن يمسك عن الطعام قبلها . وحدد وقت الافطار بالليل ، والغروب هو بداية الليل ،أى يمكنك شرعا أن تفطر بمجرد غروب الشمس ، ولكن لمن أراد التيقن و التأكد أن يفطر بعدها بعدة دقائق.
* وهناك التساؤل المشهور عن سكان القطبين وبلاد اسكندنافيا ..كيف يصلون وكيق يصومون ؟
هناك لا خلاف على وجود يوم طوله 24 ساعة ، وعلى أساس هذا اليوم تسير حياة كل انسان ونومه وعمله وصحوه ويقظته وراحته و انشغاله، وليس صعبا أن تحدد بداية الفجر وبداية الليل ، ليس بالنهار الضوئى حين تستمر الشمس ظاهرة عدة أشهر ، وحيث يستمر الليل ما تبقى من العام ، ولكن بالنهار الذين يعتادون فيه العمل ، وبالليل الذى يعرفون ميقات بدئه ، وبهذا يصومون ويفطرون ، وفى تنفيذ ذلك تكون مراعاة التقوى.
* وفى كل الأحوال فالمتقى يختار لنفسه الأحوط ويعرف فى نفس الوقت ان الله جل وعلا فرض الصوم ليس مجرد الامتناع عن الطعام والشراب ومباشرة الزوج (الزوج تفيد الانثى والذكر ) ولكن ليكون الصوم مدرسة للتقوى وخشية الرحمن بالغيب ، ولذا فلا يتوقف عند التفصيلات التى لا لزوم لها . والآن يمكنه ان يعرف بالضبط موعد الغروب فى المكان الذى يعيش فيه ، ويعرف إنه لو أخطأ بحسن نية فهو مغفور له لأن الله تعالى يقول ( وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم ) (الاحزاب 5 ).
وبهذا يكتفى المؤمن بتشريع الله تعالى للصوم فى القرآن ، ويعلم أنه القرآن وكفى.
أما إذا صمم على الاسترشاد بكتب الفقه السنى فسيضل ،فاذا عمل على تطبيقها فقد أضاع ما تبقى من عقله.!

 

المقال الثانى :


 مزيد من التدبر

 

ونرجع مجددا لآيات الصيام لمزيد من التدبر :  يقول جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) البقرة ) . :

2 ـ أرجو من القارىء الكريم أن يقوم بنفسه بالتمعن فى الايات الخمس السابقة ، وأن يقوم بعدّ كل كلماتها . عدد كلماتها 177 كلمة . جاء منها 36 كلمة فقط فى فرضية الصوم وما يتعلق بها ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ )( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) ، بينما جاءت 109 كلمة فى إباحة الفطر فى رمضان للمسافر والمريض والذى يرهقه الصيام وتطويل ساعات الفطر فى قوله جل وعلا :( فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184) ( وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) ( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) . أى إن التركيز فى التشريع هنا هو على التخفيف والتيسير والترخيص فى الفطر . 

3 ــ  وهذا كله فى إطار المقصد التشريعى لعبادة الصوم ، وهو التقوى التى يتجاهلها تشريع المحمديين . المؤمن الذى يتقى ربه يمكنه أن يستعمل تشريع التخفيف فى المرض والسفر ، على أن يقضى المسافر والمريض صيام الأيام التى أفطرها ، ثم التخفيف على من يكون الصوم شاقا له بأن يدفع فدية طعام مسكين لكل يوم يفطره ، وليس عله قضاء .  

4 ـ نفهم سماحة التشريع القرآنى فى موضوع الصيام حين نتذكر ما جاء من تركيز على التخفيف فى تفصيلات التشريع والتى تكررت مرتين فى آيتى 184 ، 185 ، ( فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ )  ( وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) مع تأكيد يقول (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ ). الله جل وعلا يريد بنا اليسر ، ولكن فقهاء الدين السنى يريدون بنا العسر . الله جل وعلا يريد أن يخفف عنا لأننا ضعفاء : (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً (28) النساء ) ولكن فقهاء الدين السنى يريدون بنا المشقة والعنت . هؤلاء فى دينهم الأرضى يتناقضون مع ما أكده رب العزة أن الله جل وعلا لا يؤاخذنا إن نسينا أو اخطأنا ، وأنه جل وعلا لا يكلفنا ما لا طاقة لنا به ، وأنه جل وعلا لا يكلف نفسا إلا وسعها .

5 ـ ونفهم تشريعات الصيام فى ضوء المقاصد العليا للتشريع الاسلامى ، وعلى رأسها التقوى ، والخطاب بالتقوى هو للفرد فى الأساس ، مع إنه يأتى للجميع.  فالله جل وعلا يقول لكل فرد (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184)  ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ  ). التقوى هى تعامل قلبى بين الفرد وربه جل وعلا ، ولا دخل لأحد آخر فى هذا . وهذا يتحقق فى الصيام ، وبالتالى فإن الذى يستعمل رخصة الإفطار فى رمضان يجب أن يكون أكثر مراعاة للتقوى أكثر من الذى يصوم فعلا ، هذا حتى لا يُساء إستعمال الرُّخص فى الافطار .

6 ـ الروعة هنا أن الله جل وعلا يجعل السفر عذرا ، دون أن يحدد مسافته أو مدته أو كيفيته . ( مع إن فقهاء التزمت تدخلوا فى هذا ) ، وجعل الله جل وعلا المرض عُذرا ، مجرد المرض ، مطلق المرض دون تحديد . وجعل الله جل وعلا المشقة من الصوم ( الذين يطيقونه ) أى يقدرون على الصوم ولكن بمشقة ـ جعل تقديرها راجعا للفرد نفسه .  ترك التحديد للفرد المتقى ، هو الذى يحدد هل يستدعى سفره أو مرضه الصيام أم يستدعى الفطر ، وفى كل عليه القضاء لما أفطر من ايام، وهو الذى بيده أن يقدر هل يتحمل الصوم أم لا ، والحكم هنا لقلب الفرد المؤمن ، أى لتقواه ، لذا يقول جل وعلا مُذكّرا بتقوى القلوب : (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184)  ).

الروعة فى كل ما سبق أنّ رب العزة بذاته القدسية هو الذى يخاطب الفرد مباشرة ، بفرضية الصيام والتيسير فيه ، ولكن فقهاء السُّوء تدخلوا وأقحموا أنفسهم فى هذا الخطاب المباشر بين الله جل وعلا والفرد ، تدخلوا بفوازيرهم السمجة التى تحمل التشدد والتعنت والتزمت . جعلوا أنفسهم كهنوتا وواسطة بين الله جل وعلا والناس ، هذا مع إن رب العزة قال لخاتم المرسلين فى سياق تشريع الصوم : (  وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)  البقرة )، لم يقل (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فقل لهم َإِنِّي قَرِيبٌ ) حتى لا يكون النبى واسطة بين الله والناس ، لأن معنى أنه جل وعلا قريب أنه لا حاجة الى واسطة ، فالله جل وعلا أقرب الينا من حبل الوريد فى حياتنا (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)  ق  ) وأقرب الينا بما لانستطيع تصوره ـ عند إحتضار أحدنا (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85)  الواقعة ) . ولكنها عادة سيئة للكهنوت فى الأديان الأرضية أن يُباعدوا ما بين الناس ورب الناس ليتصدروا واسطة يحرمون الحلال ويستحلون الحرام وينغّصون على الناس حياتهم بفقه النّكد ، ولقد تخصّص الفقه السُّنّى بالذات فى (فقه النكد )

ثانيا: بناءا على ما سبق نقول :

1:  لا حرج على من يعيش قرب القطب الشمالى أن يفطر ويدفع الفدية ، ومثله المريض المستمر مرضه ، والعامل فى حرارة الشمس ، وسائق الاتوبيس ..وكل من يجد إرهاقا فى الصوم . لا حرج على هؤلاء طالما كان متقيا مخلصا لله جل وعلا قلبه وعبادته .

  2 : إن بداية الصيام جعلها الله جل وعلا تقريبية ، أى عندما يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود ( من الفجر ) أى ليس بالتحديد بالدقيقة والثانية موعد الفجر . وفى هذا التخفيف عُذر لمن لا يستطيع التأكد من طلوع الفجر ، أن يصوم مخلصا لله جل وعلا قلبه . وتمام صوم اليوم هو ( الليل ) وسبق أن كتبنا فى هذا مقالا ، والمستفاد أن الافطار هو بزوال قرص الشمس ، وهو بداية الليل الذى يزحف شيئا فشيئا الى ان تحل العتمة ، وهو موعد صلاة العشاء . قد تحدث غيوم ولا يعرف أحدهم موعد المغرب ، وقد يكون فى الطائرة أو فى مكان لا تتيسر فيه الرؤية ، وهو صائم . إن أخطأ فى تقديره فلا عليه طالما كان متقيا مخلصا لله جل وعلا قلبه وعبادته .

  3 : هناك إختلافات فى تحديد بداية شهر رمضان وإنتهائه. قد يصوم أحدهم الثلاثين من شعبان على أنه أول رمضان ، وقد يفطر أول رمضان على أنه الثلاثين من شعبان ، ونفس الحال فى إنتهاء رمضان وقدوم شوال . لا حرج فى هذا كله ، طالما يصوم مخلصا لرب العزة جل وعلا قلبه محافظا على تقواه.

كل عام وأنتم بخير.

 

 المقال الثالث

ومزيد من التدبر

 

يقول جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) البقرة ) . ونلاحظ الآتى :

1 ـ لم يذكر رب العزة بالتفصيل كيفية الصوم ( الامتناع عن الأكل والشرب واللقاء الجنسى ) مكتفيا بأنه مكتوب علينا بمثل ما كان مكتوبا على من كان قبلنا . وجاءت عنه إشارة فى سياق التخفيف من وقت الصيام  وبالتالى بمعنى الصيام ، إذ كانوا يصومون قبل نزول القرآن بنفس الطريقة من الامتناع عن الطعام والشراب والعلاقة الجنسية بالزوجة ، وكان الصوم يستمر من بعد العشاء الى غروب الشمس لليوم التالى فنزل التخفيف ، بأن يكون الصوم من الفجر الى غروب الشمس . وبغروب الشمس يكون الليل والافطار. فى هذا السياق جاءت إباحة الأكل والشرب واللقاء الجنسى ، من غروب الشمس أى غياب قرصها الى أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر .

وبالتالى فلا حاجة الى آلاف الفتاوى التراثية فى مبطلات الصوم ، فهى ثلاث فقط:  اللقاء الجنسى و ( الأكل والشرب ) اللذان يصلان الى المعدة ،أما ما يصل من هواء الى الجهاز التنفسى ـ كالتدخين ـ فليس أكلا ولا شربا ، وبالتالى لا يبطل، ومنشور لنا مقالات بهذا  .

 كما أنه لا أصل على الاطلاق لما يُسمى ب ( الامساك ) الذى إبتدعه الفقه التراثى بمعنى الامساك عن الأكل والشرب واللقاء الجنسى قبل الفجر بوقت إختلفوا فى تحديده . هذا ( الامساك ) المزعوم ينفيه رب العزة جل وعلا بقوله (  فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ) . أى إباحة الأكل والشرب حتى يتبين كذا من كذا .!

2 ــ أرجو من القارىء الكريم أن يقوم بنفسه بالتمعن فى الايات الكريمة السابقة من سورة البقرة ( 183 : 187 ) هى خمس آيات فقط ( بإضافة آية الدعاء رقم 186 ) . هذا هو كل تشريع الصيام فى رمضان . وأرجو أن يتذكر القارىء الكريم أن هناك عشرات الألوف من الصفحات ومئات الكتب وعشرات الألوف من الفتاوى صدرت ولا تزال عن صيام رمضان . وأرجو من القارىء الكريم أن يٍسأل نفسه : هل أنزل الله جل وعلا تشريع الصيام ناقصا فتكفل الفقهاء ( الأبرار ) بتكميل هذا النقص ؟ أم أنهم فى ثرثرتهم وأساطيرهم وخرافاتهم عن صيام رمضان غفلوا عن الحقائق التى جاءت بها الآيات الخمس فى سورة البقرة ؟ !.

3 ـ ونرجو من القارىء الكريم أن يتدبر قوله جل وعلا : ( إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمْ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَاذِبُونَ (105) النحل )، هنا التأكيد على أن من يختار لنفسه عدم الايمان بآيات الله لا يمكن أن يهديه الله ، خصوصا إذا كان يحترف الاضلال ،ومهما بلغ حرصك على هدايته فلن يهديه الله جل وعلا لأن ذلك الشخص ( مُضل )  ففى نفس السورة يقول جل وعلا  للنبى عليه السلام نفسه : ( إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) النحل ). ثم ينتظرهم عذاب أليم . هذا مضمون قوله جل وعلا : ( إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمْ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)) . هؤلاء الذين لا يؤمنون حقيقة بآيات الله يلجأون لاستبدالها بإفتراءات يصنعونها ينسبونها لله جل وعلا بزعم أنها وحى ، وأحاديث قدسية وللرسول بزعم أنها سُنة وأحاديث نبوية ، ثم يلتفتون الى تشريع الرحمن فى القرآن فيسلطون عليه ما أسموه ب ( النسخ ) الذى يعنى عندهم إلغاء الآية القرآنية بآية قرآنية أخرى . يرتكبون هذا لأنهم ــ فى الحقيقة ـ لا يؤمنون بكتاب الله وما أنزل فيه من آيات. هذا فحوى قوله جل وعلا عنهم : ( إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَاذِبُونَ (105) النحل ). هنا إعجاز و( آية ) تنطبق على أئمة الأديان الأرضية ، خصوصا السنيين ،السابقين منهم واللاحقين ، ومن إتبعهم فى الضلال الى يوم الدين .!! لم يعجبهم تشريع رب العزة فى القرآن فيما يخصُّ الصيام فإفتروا تشريعا آخر نسبوه للنبى عليه السلام ، وجعلوه دينا بلا قاع وبلا قعر ، يأتى فقيه فيزيد ما يريد ، كما فعل ابن باز وابن عثيمين فى فتاوي سمجة يضحك منها الحزين  .

أخيرا

    المشكلة فى ( صيام) أو ( صوم ) رمضان تنبع من عاملين :

 1 : إنه إرتبط بحياة إجتماعية استمرت قرونا جعلت لشهر رمضان طبيعة خاصة ، تتشكل على أساسها عقليات ( المحمديين ) وتؤثر على من يعايشهم من المسيحيين .وأن المعرفة برمضان والصيام فيه ليست مستمدة من القرآن الكريم بل من أساطير التراث الفقهى وأعاجيبه و ( فوازيره ) . ولذا فإن شهر رمضان هو شهر الفوازير العجيبة من  الفتاوى المتكررة والوعظ المعتاد الذى يقول كثيرا ولا يقول جديدا ، ولا ينتج عنه إصلاح فى الأخلاق .

2 ــ أذكر أن أول مقال لى عن الصيام فى شهر رمضان نشرته جريدة الأخبار المصرية فى أوائل التسعينيات ، وكان فى تدبر الآية الكريمة ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) البقرة )، وُوجه المقال بإستغراب لأننى أوضحت حقيقتين ذكرتهما الآية الكريمة : إن الصيام من ملة ابراهيم وكان معروفا الصيام من قبل ، ونزل التشريع فى المدينة بالجديد فى رُخص الافطار وفى تقليل مدة الصيام ، ثم أن الصيام وسيلة للتقوى شأن كل العبادات ، وليس غاية فى حدّ ذاته .  كانوا معتادين على أن يجترّ الشيوخ نفس الكلام المعتاد البعيد عن القرآن الكريم، فلما جاءهم المقال بحقيقتين من القرآن عن رمضان إستغربوا ، لأن القرآن قد إتخذوه مهجورا ، ولا يزالون .

3 ـ وجه الاستغراب كان ـ ولا يزال ـ نابعا من عاملين :

3 / 1  :  تجاهل المحمديين أن خاتم النبيين محمدا عليه وعليهم السلام ـ كان متبعا لملة ابراهيم ، ومنها الصلاة والصوم والحج والزكاة المالية ، ولذلك فإن منهج القرآن الكريم فى التعرض للعبادات المتوارثة ليس بذكر  تفصيلاتها المعروفة من كيفية الصلاة ومواقيتها مثلا ،ولكن بالتذكير بالخشوع فيها والمحافظة عليه لتكون وسيلة للتقوى ، ثم إذا جاء تشريع جديد فى ملة ابراهيم نزل مفصلا ، كصلاة الخوف والوضوء والاغتسال ، ورُخص الافطار فى رمضان ، وكل ذلك فى إطار التقوى و التيسير والتخفيف ورفع الحرج .

3 / 2 : إعتقادهم الخاطىء أن العبادات هدف فى حدّ ذاتها . وبالتالى فطالما تصوم جوعا فلا عليك من حرج مهما فعلت ، وطالما تصلى بحركات قيام وركوع وسجود فلا عليك مهما فجّرت من قنابل وفجرت فى سلوكك ، وطالما تتصدق وتبنى المساجد فلا عليك مهما سرقت ونهبت ، وإفعل ما تشاء وقم بالحج فسترجع كما ولدتك أُمُّك .!!. أى بالتناقض مع دين الرحمن ، ففى دين الاسلام التأكيد على أن العبادات كلها مجرد وسائل للتقوى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)  البقرة ) أما فى الدين الأرضى السّنى بالذات تكون العبادات هدفا فى حدّ ذاتها ، وبالتالى تصبح وسيلة للفسوق والعصيان والظلم والطغيان . فالطاغية فى بلاد المحمديين يحرص على تصويره وهو يصلى الجمعة خاشعا وحوله اعوانه حاشية الفساد ، وعندما كنت مُجبرا على التحقيق معى كل حين فى مبنى أمن الدولة فى لاظوغلى ، كنت أشاهد الذين يقومون بالتعذيب وهم يقفون فى صفوف لصلاة للظهر أو العصر ، وأرى سجادة الصلاة فى مكتب الضابط الذى يحقق معى .! .والواقع أنّ أكثر المجرمين والارهابيين هم الأكثر تدينا بالدين السنى الذى يتركز فى المظهرية السطحية ( النفاق ) والاحتراف الدينى . المجرم العادى يعرف أنه مجرم ، وقد يتوب ، أما من يجعل الاجرام دينا وجهادا وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر ، ويعتقد أنه مبعوث العناية الالهية لارغام الناس وإكراههم فى الدين ـ فمستحيل أن يتوب ، فقد زيّن له الشيطان سوء عمله فرآه حسنا . وقد قالها رب العزة لخاتم المرسلين : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) فاطر )

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ب 1 ، ف 2 ، ج 1 )مقالان ) آيات تشريع الصوم فى سورة البقرة  

( رمضان والصيام بين الاسلام والدين السنى ) دراسة أصولية تاريخية  

 الباب الأول : رمضان والصيام فى الاسلام :

الفصل الثانى : تشريع الصيام فى رمضان  ( جزءان )

الجزء الأول :  ( خمس مقالات )

آيات تشريع الصوم فى سورة البقرة

 

المقال الرابع

 نقاشات

 

 أثار المقال السابق عن (الصيام فى تشريع القرآن ـ 1 ـ ) ردود أفعال صاخبة فى موقعنا (أهل القرآن ) استدعت أن اكتب هذا المقال للتوضيح.
تركز النقاش حول قوله تعالى (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ ) وما قلته من أن الذى يطيق الصوم يعنى يستطيع الصوم ويقدر عليه ولكن يعانى من مشقته فله أن يفطر وأن يدفع فدية طعام مسكين ، وهو نفس ما جاء فى الاية الكريمة (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ) ، وهذا يخالف المعنى السائد وهو (من لا يطيقون الصيام فقط هم الذين لهم رخصة الفطر ودفع الفدية).وأرد بتوفيق الله جل وعلا وحمده وعونه.

أولا : معنى ( الذين يطيقونه )
المعنى التراثى
رجعت اليوم الى تفسير ابن كثير متوقعا أن يأتى بما تعلمناه فى الأزهر من خلال تفسير النسفى وغيره بأن معنى ( يطيقونه ) هو ( لا يطيقونه ) أى وجود (لا ) محذوفة . ولكن فوجئت بأن ابن كثير قد أتى بمفاجأة بين ثنايا ركام هائل فى تفسيره ، يقول (وَرُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيّ وَالسُّدِّيّ وَعَطَاء الْخُرَاسَانِيّ مِثْله ثُمَّ بَيَّنَ حُكْم الصِّيَام عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَمْر فِي اِبْتِدَاء الْإِسْلَام فَقَالَ " فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر " أَيْ الْمَرِيض وَالْمُسَافِر لَا يَصُومَانِ فِي حَال الْمَرَض وَالسَّفَر لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَشَقَّة عَلَيْهِمَا بَلْ يُفْطِرَانِ وَيَقْضِيَانِ بِعِدَّةِ ذَلِكَ مِنْ أَيَّام أُخَر. وَأَمَّا الصَّحِيح الْمُقِيم الَّذِي يُطِيق الصِّيَام فَقَدْ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْن الصِّيَام وَبَيْن الْإِطْعَام إِنْ شَاءَ صَامَ وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ وَأَطْعَمَ عَنْ كُلّ يَوْم مِسْكِينًا ، فَإِنْ أَطْعَمَ أَكْثَر مِنْ مِسْكِين عَنْ كُلّ يَوْم فَهُوَ خَيْر ، وَإِنْ صَامَ فَهُوَ أَفْضَل مِنْ الْإِطْعَام ، قَالَهُ اِبْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَطَاوُس وَمُقَاتِل بْن حَيَّان وَغَيْرهمْ مِنْ السَّلَف ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى " وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِين فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ") . اى يقول إن الصحيح القادر على الصوم إن شاء صام وإن شاء أفطر ودفع الفدية . ثم أكّد بعدها أن معنى يطيقونه أى يتجشمون الصعاب فى صومه(قالَ يَقُول " وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ " أَيْ يَتَجَشَّمُونَهُ )أى هو نفس الذى قلت (يقدرون عليه ولكن بصعوبة ومشقة). .http://quran.al-islam.com/Tafseer/DispTafsser.asp?nType=1&bm=&nSeg=0&l=arb&nSora=2&nAya=184&taf=KATHEER&tashkeel=0

المعنى اللغوى:
وأتى الاستاذ محمد مهند مراد أيهم فى تعليقه بتفسير لغوى ، قال:
(اصل الفعل طاق ,وهو القدرة على التحمل مع عدم الاجهاد (أي ضمن الطاقة الطبيعية .) وبإضافة الهمزة وهي همزة التعدية وهي التي تجعل الفعل اللازم متعديا , ويتغير المعنى تغيرا جزئيا ,كفعل جهد بمعنى بذل الجهد وأما فعل أجهد بمعنى جعله يبذل جهدا مضاعفا فيكون معنى طاق أي تحمل ولكن الفعل أطاق أي جعله يتعدى الحد الطبيعي للطاقة فيرهقه الصوم وبذلك يكون المعنى: أنه على الذين يستطيعون الصوم ولكن هذه الاستطاعة تكون اكبر من الجهد الطبيعي, وبما أنها اتت بعد الترخيص للمريض والمسافر, فيكون المعنى: أن على الذين يكون الصوم أو قضاؤه بعد رمضان يحملهم فوق طاقتهم فدية طعام مسكين : ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ)
المعنى ( الهندسى )
وفى تعليق آخر جاء الاستاذ محمود دويكات بشرح إستقاه من تخصصه الهندسى ، قال: (في الهندسة الانشائية عندما يتم تصميم عنصر انشائي .. عمود مثلا .. فإن المهندس يحسب كميتين: الاولى اسمها سعة العمودcapacity و الثانية قوة أو طاقة العمودstrength .. فإذا كانت سعة العمود مثلا 150 طن .. فإن قوته أو طاقته تكون أعلى (180 طن) .. يعني أن العمود إذا تم تحميله بمقدار سعته فإنه لا ينهار و لكن أي زيادة بعدها فإن أداء العنصر يكون في خطر.... أما إن تم تحميله بمقدار طاقته فأنه ينهار عندها ... الفرق بين الطاقة و السعة مقسوما على السعة هي عبارة عن معامل الامان لذلك العنصر... هذا هو الفرق بين السعة و الطاقة .. .. و هكذا نفهم قوله تعالى ( لاَيُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) بقرة/286 و قوله تعالى (رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ) بقرة/286 .... و بالتالي فإن قوله تعالى عن الذين يطيقونه أن الذين يقدرون على الصوم ولكن بمشقة بالغة قد تعرض حياتهم لخطر أو حرج . .. بمعنى أخر الذين وصل بهم الصيام الى طاقتهم و قدرتهم القصوى....و كما قال الدكتور أحمد .. يترك تقدير ذلك لتقوى الانسان)

والمعنى القرآنى:
قلت فى المقال السابق : (من كان يطيق الصوم ـ أى يقدر عليه ـ ولكن شاء الفطر فعليه أن يدفع فدية (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ). والفقه السّنى يحرّف معنى الآية الكريمة، فيقولون أن معناها أنه على الذين ( لا يطيقون ) الصيام ،أى يقولون بوجود(لا ) النافية ويزعمون أنها محذوفة. وهذا تحريف للقرآن الكريم بأن يزيد فى لغة القرآن الكريم ماليس فيها. ثم أن هذا المعنى المحرف لا يستقيم مع التيسير ، وهو القاعدة فى الصوم، ولا يستقيم مع سياق الآية قبلها حيث أباحت الفطر للمسافر والمريض ثم ألحقت به فطر من يطيق الصوم ويقدر عليه مع دفعه الفدية ، ولا يستقيم مع سياق الآية بعدها حيث يجعل الله تعالى التفضيل لمن يصوم وهو يطيق ـ اى يقدر ـ على الصيام ، كما لا يستقيم مع فهم كلمة (يطيق ) ومشتقاتها التى جاءت ثلاث مرات فى نفس سورة البقرة ، مرة بالاثبات فى موضوع الصوم :(وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ )، ومرتين بالنفى : (قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ) (رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِه) ( البقرة 249 ، 286 ). أى لو كان الله تعالى يريد أن يقول (وعلى الذين لا يطيقونه فدية ) لقالها وأثبت كلمة(لا ) ، ولكنه جل وعلا قال بالاثبات وليس بالنفى ، ليفيد فى معرض التيسير أنه على من يقدرعلى الصوم ويطيق الصوم ولكن يريد الافطار فعليه تقديم فدية طعام مسكين.
• ومفهوم بعدها أنه ـ من باب أولى ـ فالذى لا يستطيع الصوم يمكنه الافطار ودفع الفدية ، فاذا تطوع المفطر فى رمضان بزيادة الفدية فهو خير له ، ولو كان يستطيع الصوم ولكن بمشقة بالغة ولكنه تطوع بقبول مشقة الصوم فهو خير له ، وفى الصوم فائدة على كل حال (وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُم إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ).
وأقول أيضا:
1 ـ إن الخلاف ينحصر فى معنى (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ) هل تعنى ( الذين يطيقونه ) أو ( الذين لا يطيقونه )؟ أى هل للذى يطيق الصيام ويقدر عليه ولكن بمشقة يمكنه الفطر ودفع فدية تعويضا ؟ أم أنه مفروض عليه الصيام لأن معنى الآية أن الذى (لا ) يطيق الصوم و(لا ) يستطيعه هو فقط المباح له الفطر ، مقابل أن يدفع الفدية؟
الفيصل هنا فى قوله جل وعلا : (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) (البقرة 286 ).
فالقاعدة القرآنية الحاكمة أن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها ، وقد تكررت هذه القاعدة فى قوله تعالى ضمن الوصايا العشر التى تلخص تعاليم الاسلام (لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ) ( الأنعام 152 ) وفى قوله تعالى عن المؤمنين الفائزين بالجنة :(وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)(الأعراف 42 )أى ليس مطلوبا منهم أعمالا خارقة ليدخلوا الجنة ، بل مجرد ما فى وسعهم .وبعد الحديث عن صفات المتقين اصحاب الجنة قال الله سبحانه وتعالى عن حساب الآخرة(وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(المؤمنون 62). وفى التشريعات الجزئية كالرضاع ، نقرأ قوله تعالى (لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا ) ( البقرة 233 ) وفى تشريع نفقة الزوجة المطلقة أثناء عدتها يقول جل وعلا:(لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا )(الطلاق 7) وقوله تعالى للرسول محمد عليه السلام عن القتال (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ )(النساء 84 ) وعن الاستعداد الحربى للردع وتاكيد السلم (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ) (الأنفال 60).
فما معنى قوله تعالى: (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ) ؟ معناها فى نفس الآية الكريمة : (رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ). أى يستحيل فى شرع الله تعالى وجود تكليف فوق الطاقة الانسانية ، وفوق التحمل الانسانى وفوق ما يسعه الانسان.
إذن فالذى (لا يطيق الصوم ) ليس مفروضا عليه الصوم أساسا ،وليس مفروضا عليه الفدية وهو خارج الموضوع من البداية . أما الذى ( يطيق )الصوم ويقدرعليه ولكن بمشقة فله رخصة الفطر ، وعليه تقديم الفدية . ولزيادة التوضيح نقرأ قوله تعالى (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ) ثم فيما جاء فى المقال السابق عن قاعدة التخفيف والتيسير ورفع الحرج التى هى اساس فى الاسلام وتطبيق تشريعاته.
2 ـ إن للقرآن الكريم أساليب مختلفة فى التعبير ، منها الاسلوب المجازى والتصويرى فى الدعوة والحديث عن الاخرة والترغيب والترهيب ، ومنها الاسلوب التقريرى العلمى المحدد الذى لا مجال فيه للخلاف فى الرأى ، وهو الاسلوب المعتاد فى التشريعات . وفى كل الأحوال فلا يمكن أن يقول الله جل وعلا شيئا بالاثبات ويريد به عكسه وهو النفى . لا يمكن أن يقول :(وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ ) وهو يقصد ( الذين لا يطيقونه ) . ومن يقم باضافة (لا ) فقد ارتكب جريمة التحريف فى كتاب الله جل وعلا.
3 ـ وفى المقال السابق جاء تحليل آيات تشريع الصوم فى رمضان من حيث درجات التشريع الثلاث ؛الأوامر و القواعد والمقاصد ، وقلنا أن الأمر التشريعى بالصوم يخضع للقواعد التشريعية فى التيسير والتخفيف ، ثم يخضع تنفيذ القواعد للتقوى وهى المقصد الأساس والهدف. وأضيف هنا أن تشريع الصوم بالذات جاء مزدانا بقواعد التيسير ،بل سجلها قاعدة صريحة فى قوله جل وعلا (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ).
بل إن تفصيل التيسير كان الأغلب فى تشريع الصوم ، فقد أغفل الله تعالى تعريف الصوم وكيف أنه كان مفروضا على السابقين لأن ذلك كان مفهوما وقت نزول القرآن الكريم فلا حاجة للتعريف به ، ولكن فى تشريع التخفيف والتيسير جاء التفصيل بحيث زادت كلماته على عدد الكلمات التى جاءت سياق الأمر التشريعى و المقصد التشريعى . ولو راجعناها لوجدنا عدد كلمات الأوامر 48 بينما عدد كلمات التيسير 83 . وهذه ظاهرة تستدعى التدبر والاعتبار. كان ممكنا أن يكتفى رب العزة بالآية الأولى فى تشريع الصوم وهى تقرر حقيقتين :أن الصيام مفروض علينا بنفس ماكان مفروضا على من كان قبلنا ، وان المقصد التشريعى من الصيام هو التقوى .. ولكن جاءت التفصيلات بعدها لتؤكد على التيسير ثم لتنصّ عليه بأن الله جل وعلا يريد بنا اليسر ولا يريد العسر. ومن معالم هذا اليسر أن من كان يطيق الصوم ـ أى يتجشم التعب فى الصوم ـ فيمكنه أن يفطر ويدفع الفدية دون أن يقضى ما أفطره كالمسافر والمريض.
ثانيا : الرد على الأسئلة
(ا)
الكاتب الاسلامى الاستاذ ابراهيم دادى كتب أسئلة ، وأنقلها هنا مع الرد على كل منها:
1. إذا كان الله تعالى قد فرض الصيام على المؤمنين لعلهم يتقون،(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ) لعلكم، (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) فكيف يترك لهم الخيرة على طاقة الصوم من عدمه؟
أقول : إن الله تعالى قد فرض الصيام على المؤمنين لعلهم يتقون،وقد ترك للمؤمن الخيرة فى الصوم أو الفطر ، وأذا كان متقيا ويتجشم صعوبة فى الصوم فيمكنه أن يفطر ويدفع الفدية ويظل متقيا. المتقون فقط هم أصحاب الجنة ، والمتقون يوم القيامة درجتان : السابقون المقربون الأعلى منزلة ، ثم الأقل منزلة وهم أصحاب اليمين . وبالنسبة لمن يطيق الصوم بصعوبة ومشقة ويصوم فهو من المتقين السابقين، ومن يطيق الصوم بمشقة ويفطر ويدفع الفدية فهو من أصحاب اليمين . وهذا بالطبع إذا حافظ كل منهما على الايمان والعمل الصالح والتزم بالتقوى طيلة حياته.

2. نجد أن المولى تعالى قد عفى وأعطى الخيرة للمريض والمسافر أن يفطر، على أن يقضي أيام فطره في أيام أخر، فهي تعتبر دينا عليه، فلماذا لم يجمع الكل على الطاقة ( الاختيارية) فيفتدي الجميع بإطعام مسكين؟ ما دام الأمر اختياريا، حسب ما يفهم من رأي الدكتور أحمد.

وأقول : يقول تعالى (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) أى من (اصبح مريضا أو على سفر) ، كان هنا بمعنى أصبح. أى جاء العذر طارئا لمن يصوم واعتاد عليه ولا يجد فيه صعوبة . عليه أن يصوم أياما أخر بعدة ما أفطر. أما الآخر الذى يتجشم المشقة فى الصوم ويطيقه بصعوبة فلا نتصور ان يفطر ثم يقضى ما أفطره ، ولكن يعوض ذلك بالفدية. وفى كل الأحوال فالاختيار قائم للجميع . يمكن من يطيق الصوم بصعوبة أن يصوم ، ويمكن للمسافر والمريض الصوم إذا كان فى وسعهما ، ويمكن للجميع التطوع بالفدية وأضعافها . وهذا ما قاله رب العزة (فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ )

3. كيف يمكن للمسكين المتقي أن يفتدي عدم الصوم بإطعام مسكين؟ هذا إذا كان الصوم اختياريا.؟.
ليس عليه دفع الفدية إذ لا يكلف الله جل وعلا نفسا إلا وسعها ، ولا يكلف نفسا إلا ما آتاها.

4. هل على الذي يطيق الصوم أي يستطيع الصوم، ولا يصوم ويفتدي ذلك بإطعام مسكين، هل يمكنه الرفث إلى نسائه إذا كان هو وزوجه اختارا فدية إطعام المسكين؟
لا تسرى عليه أحكام الصوم ، فيمكنه الرفث الى زوجه نهارا وليلا كيف شاءا.

5. هل يمكن للمطيق بفدية إطعام مسكين، وصوم بعض الأيام من رمضان؟
نعم
6. هل يمكن مثلا أن يطعم مسكينا لمدة 15 عشر يوما، ويصوم ما بقي من رمضان؟
نعم
7. ما حكم مؤمن متق له مرض مزمن، ولا يستطيع صوم شهر رمضان المفروض، ولا أن يقضيه في أيام أخر، فهل يدخل ضمن المطيق للصوم المفتدي بإطعام مسكين، أم له رخصة أخرى وما هي؟


لا يكلف الله جل وعلا نفسا إلا وسعها ، له ان يفطر لعدم الاستطاعة وليس لمجرد المرض الطارىء. وعليه أن يعطى الفدية كالمعتاد.
8. وباختصار شديد كيف كان العرب يفهمون من فعل ( يطيقونه)؟
أى يفعل مع المشقة.

9. هل ثبت تاريخيا أنه في عهد الرسول كان المؤمنون يطيقون الصيام ومع ذلك لا يصومون ويطعمون مسكينا؟
التدوين للسيرة بدأ فى العصر العباسى ،أى بعد موت النبى محمدعليه السلام بنحو قرنين من الزمان ، وركز على ما أسموه بالمغازى ، أى الغزوات ، ولم يهتم برصد الحياة الاجتماعية و الدينية ، وقد تكفلت ببعض ذلك الأحاديث التى تم اختراعها لتقنن للعصر العباسى وثقافته المختلفة والمخالفة لعصر النبوة ، لذا صيغت تلك الأحاديث لتعبر عن العراق وبقية البلاد المفتوحة وليس عن المدينة ، ولتعبر عن القرن الثانى للهجرة وما تلاه وليس زمن النبوة.
10 . يقول المولى تعالى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(180).آل عمران. فما معنى : (سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) هل يدخل في ذلك بخلهم لأنفسهم لعدم الصوم مع المقدرة واختيار الفدية؟ ).
وأقول : قوله تعالى : (سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) لا علاقة له بقوله تعالى (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ). ولقد تحدثت فى موقعنا فى إحدى الحلقات المذاعة المسموعة عن (الحميم ) ، وآلية العذاب التى تحيط ـ أى تطوق ـ أهل النار . فقوله تعالى : (سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) تشير الى هذه الدائرة الجهنمية التى ستحيط باهل النار ، وكيف تتحول أعمالهم السيئة الى نار تكون ضمن النسيج الجسدى الملتهب فيهم . وقد تكرر مرتين قوله تعالى (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) ( التوبة 49 ، العنكبوت 54 ) وقال جل وعلا فى تقرير حرية الايمان وحرية الكفر ومسئولية الانسان على اختيلاره يوم القيامة (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا) ( الكهف 29 ) أى فالنار تحيط بهم وتطوقهم.
(ب)
وثارجدل حول معنى كلمة (أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ).

والمعنى واضح ،فلا يعنى اياما قليلة ، ولكن يعنى أننا نعد شهر رمضان يوما بيوم حتى نكمل عدته ، أو بالتعبير القرآنى عن شهر رمضان (وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ )أى عدد أيامه إن كان الشهر كاملا (30 يوما ) أو ناقصا ( 29 ) طبق الحساب الفلكى للأشهر القمرية.
(ج)
وسؤال آخر من الاستاذ الصنعانى (كنت أريد منكم بمناسبة الصيام حكم المفطر عمداً )

للدين السنى والفقه السنى حكم هنا ما أنزل الله تعالى به من سلطان ، وسنعرض له فى مقال خاص عن الصوم فى الفقه السنى.
ولكن فى الاجابة على السؤال أقول : هنا محل التقوى وموقف كل انسان منها فى حالة الصوم . هناك من يعصى ويفطر عمدا ولا يصلى ولا يلتزم باى فريضة تعبدية. طبقا للتشريع الاسلامى فليست هناك عقوبات على حقوق الله جل وعلا من العبادات والعقائد . حق الله جل وعلا مؤجل الى الله تعالى وحده يوم القيامة حيث الخلود فى الجنة أو الخلود فى النار. ولا يصح لأى سلطة ان تتدخل فى هذا وإلا نازعت الله جل وعلا فى الوهيته وملكوته .ولا يصح لأى سلطة أن ترغم الناس على الصلاة أو الصوم أو الحج أو التبرع للصدقات . ولا يصح لأى سلطة بشرية أن تعاقب أحدا لأنه أفطر فى رمضان أو لأنه لا يصلى أو لايحج ..الخ ..وما يفعله مطوعة السعودية ضلال فى ضلال فى ضلال.
هناك من يفطر ويدفع الفدية ويراعى ربه فى عقيدته وسلوكه ويؤدى العبادات المفروضة بالحد الأدنى . هذا من المتقين (أهل اليمين ) إذا حافظ على ذلك حتى الموت...
وهناك من يصوم طبقا لما وجدنا عليه آباءنا ، أى يصوم كعادة اجتماعية ، لذا تراه يصوم ولا يصلى ،أو يصلى فى رمضان فقط ، وفى كل الأحوال فالصوم هو الهدف بالنسبة له ،اى لا يصلح شيئا فى سلوكياته إلى أن يموت كما هو ، أى هو صوم بلا تقوى.. أى مجرد جوع وعطش .إذا ظل هكذا الى أن يموت محافظا على سلوكياته السيئة وعقائدة المخالفة للاسلام من تقديس للبشر والحجر فسينطبق عليه قوله تعالى (كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ) (البقرة 167 ) أى يحبط الله جل وعلا أعماله ( الصالحة ) فلا يبقى له إلا عمله السىء و عقيدته الفاسدة فيدخل النار خالدا مخلدا ،يتحسر على ما قدم من عمل لم ينفع وما هو بخارج من النار. وتأمل قوله تعالى لخاتم الأنبياء (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) ( الزمر 65 )

 

المقال الخامس 

  ضياع التقوى وتحول الصوم الى عادة اجتماعية مقدسة  
1 ـ لقد تحول رمضان ـ بفعل الدين السنى ـ الى مجرد عادة اجتماعية ، ومجرد شهر للجوع والعطش دون أن يفلح هذا الصوم فى ترقية المسلمين خلقيا وقيميا ، والتقوى هى الرقى الخلقى فى التعامل مع الناس واخلاص العقيدة والعبادة لرب الناس جل وعلا. ضاعت التقوى من صيام المسلمين فانتشرت بينهم عبادة الأضرحة وتقديس البشر والحجر والانهماك على المعاصى وسوء الخلق وسفك الدماء البريئة ـ كل ذلك وهم يصومون كل رمضان خلال 14 قرنا . ويتحول شهر رمضان الآن ـ بفضل الارهاب الذى ينتسب زورا الى الاسلام ـ الى شهر دموى، يقوم الارهابيون ( الصائمون ) بقتل الأبرياء عشوائيا ،تقربا الى الله ـ جل وعلا ـ بزعمهم خلال شهر الصيام.
2 ـ الدين السنى بالذات هو المسئول عن ضياع التقوى من الصيام . وهذا يستلزم وقفة.
قلنا هناك درجات ثلاث للتشريع الاسلامى ؛الأوامر و القواعد والمقاصد ، وقلنا أن الأمر التشريعى بالصوم يخضع للقواعد التشريعية فى التيسير والتخفيف ، ثم يخضع تنفيذ القواعد للتقوى وهى المقصد الأساس والهدف . ولكن الدين السّنى تلاعب بها وأورد المسلمين مود التهلكة.
ونعطى أمثلة:
* فى القتال:
جاء تشريع القتال فى سورة البقرة (الايات 190 : 194 )، يقول تعالى فى بدايته : (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) هنا تجد الأمر التشريعى (وَقَاتِلُواْ ) يخضع للقاعدة التشريعية ، وهى أن يكون القتال فى سبيل الله جل وعلا أى أن يكون دفاعا عن النفس ،اى قتالا لمن يبدأ بقتالنا ، وليس اعتداءا على من من لم يعتد علينا ، وتأتى الآية الكريمة تربط الأمر التشريعى سريعا بالقاعدة التشريعية فتقول (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) ثم تأتى التفصيلات فى الآيات التالية ومنها ما يؤكد رد العدوان بالمثل كقوله تعالى (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ )
ثم يأتى المقصد التشريعى وهو الأعلى والحاكم فى التشريع ، وهنا فالمقصد التشريعى من القتال الدفاعى هو منع الفتنة فى الدين ، والفتنة ـ فى التعامل بين البشر ـ تعنى فى مصطلح القرآن الكريم الاكراه فى الدين ،او استعمال القوة لحمل الناس على اتباع عقيدة معينة ، يقول تعالى عن مشركى قريش (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ )( البقرة 217 ). وهذا محرم فى الاسلام (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) ( البقرة 256 ) ،لأن الهدف هو أن تتوفر الحرية الكاملة لكل انسان ليختار ما يشاء من عقائد ليكون مسئولا عن اختياره الحر يوم القيامة ، وحتى لا تكون له حجة يوم الدين . ولذلك لا بد أن يكون الدين لله تعالى يحكم فيه يوم القيامة بعد أن يكون كل انسان قد اختار بحرية ما يريد ويكون مسئولا عن اختياره. ومن هنا نفهم قوله تعالى فى المقصد التشريعى من القتال ضد المشركين الذين اعتادوا إكراه الناس فى دينهم (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ).
فإن انتهوا عن تسلطهم واعتدائهم فلا مجال لقتالهم (فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (فَإِنِ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ ).
وهذا المقصد الخاص فى تشريع القتال (أى منع الفتنة فى الدين ) يؤكده المقصد العام وهو التقوى، لذا تأتى الآيات مذيلة بالتقوى فى التشريع الاسلامى ، ونجدها هنا فى قوله تعالى(فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ).
فماالذى فعله الدين السنى فى درجات التشريع الاسلامى فى القتال ؟
قام بالتركيز على الأوامر وتطرف فيها وأهمل القواعد والمقاصد.
فى موضوع القتال إقتصر على الأمر (وَقَاتِلُواْ) متناسيا قوله تعالى (فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) . وبالتالى أصبح القتال ليس فى سبيل الله ولكن فى سبيل الدنيا باحتلال بلاد الآخرين وارغامهم على دخول الدين وسلب أموالهم واغتصاب نسائهم واسترقاق ذريتهم تحت مصطلحات السبى والغنائم والجهاد ، وهذا ما فعله الصحابة فيما يسمى بالفتوحات (الاسلامية ) حيث قاموا بالاعتداء على من لم يعتد عليهم بحجة (تخييرهم) بين ثلاث (الاسلام أو الجزية أو الحرب ) هو إكراه وبلطجة وابتزاز واعتداء ، والله جل وعلا لا يحب المعتدين. ولهذا انتهت الفتوحات بالتنازع على الغنائم والفتنة الكبرى و الحروب الأهلية؛ ذلك النفق الذى دخله المسلمون ولم يخرجوا منه ، ولن يخرجوا منه الا بابتعادهم عن أديانهم الأرضية التى نشأت لتسوغ ثقافة الاعتداء والفتنة الكبرى.
إغفال قاعدة (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ) تجعل القتال فى الفتوحات العربية قتالا فى سبيل الشيطان ، حيث لا وجود لاحتمال ثالث هنا ،فإما أن تقاتل دفاعا عن النفس فيكون قتالا مشروعا وفى سبيل الله جل وعلا الذى لا يحب الظالمين والمعتدين ، وإما أن يكون للاعتداء على الغير ظلما وعدوانا ، أى فى سبيل الشيطان ، وهذا التحديد الصارم جاء فى قوله تعالى (الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ)( النساء 76 ).
وطبعا لا تسأل عن التقوى هنا .. فقد ضاع أساسها وهو القاعدة.
نفس الحال فى موضوع الحجاب للنساء.
جاء الأمر التشريعى بأنه خمار يغطى الصدر وليس الرأس والوجه والشعر (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ) ( النور 31 )، جاء أمرا ضمن أوامر أخرى فى نفس الآية ، وهى تخضع كلها لقاعدة تشريعية هى التحذير من الاقتراب من الزنا ، وليس مجرد الزنا ( وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً ) ( الاسراء 32 ). والعادة أن المقصد الأسمى هو التقوى.
مالذى فعله الدين السنى فى درجات التشريع الاسلامى هنا ؟
قام بالتركيز على الخمار فاصبح ( حجابا ) مخالفا لمعنى كلمة حجاب ومشتقاتها فى القرآن الكريم والتى تعنى العازل أو الستارة ، ثم حوّله الى تدين سطحى مظهرى يغلفه الرياء والتظاهر والنفاق ، والاتهام الضمنى للأخريات بعدم التمسك بالدين. ثم بالغوا فى الحجاب فاصبح نقابا يعبىء المرأة فى كيس تنظر منه الى العالم خلال ثقب أو ثقبين . هذا التطرف فى الأمر بالخمار وتحويله الى نقاب أتاح للمرأة إذا أرادت الزنا أن تفعل ما تشاء دون أن يتعرف عليها أحد . أى أن التطرف فى الأمر أضاع القاعدة التشريعية وأضاع المقصد التشريعى.
بنفس الطريفة تعامل الدين السّنى مع تشريع الصيام
قام بالتركيز على الصيام مع إغفال للقواعد الميسرة للصوم ، ومع تجاهل كامل وتام للتقوى . لذا أصبح الصيام هدفا فى حد ذاته ، فطالما تصوم فلا عليك مهما فعلت . ولأن الصيام شديد التداخل بالحياة الاجتماعية فقد أصبح التمسك به شعيرة اجتماعية مجردة عن التقوى الاسلامية ، ينشأ عليها الطفل المسلم يتعلم الصوم ويؤديه كعادة اجتماعية يتميز بها المسلمون عن غيرهم ، ونمت الى جانبها عادات أخرى من الطعام والشراب و قضاء وقت رمضان ، وتلك العادات الاجتماعية الأخرى قامت عليها حرف ومهن وصناعات ومواسم وعيد لانقضاء شهر الصوم سموه عيد الفطر وزكاة للفطر. أى تأسس صيام آخر متخم بكل شىء عدا التقوى ، ومن الطبيعى بعدها أن ننظر بهلع عندما نعرف قواعد التيسير فى الصيام وأن منها أن الذى يقدر على الصوم ويطيقه بمشقة فله أن يفطر ويدفع فدية طعام مسكين. أصبح النظر الى تلك التيسيرات ضارا (بقدسية) الصيام نفسه الذى أضحى هو الهدف والمقصد ، فالأهم أن تصوم حتى لا تخرج عن إجماع المجتمع الصائم . وزاد من المشكلة تعنت الدين السنى فى عقوبة من يفطر (عمدا ) .. وجاء العصر المملوكى بعد العصر العباسى فأصبح تطبيق الصيام السنى عادة اجتماعية ـ ولا يزال.
ومن الأمثال الشعبية المتداولة في العصر المملوكي : (يا طالب الشر بلا أصل، تعالى للصايم بعد العصر) ( الأبشيهي .المستظرف 37. ) ومعنى ذلك أن الأصل كان الإهتمام بالصيام، إلا أنهم تحملوه مضطرين مقهورين، فكان رمضان – خاصة في نهاية اليوم فيه – مسرحاً للمشاجرات والإنفلات العصبي بحجة الصوم والحرمان – ولا يزال ذلك مرعياً حتى اليوم..

3 ـ نكرر أن الهدف من الصوم ليس مجرد الحرمان وإنما هو التقوى، فإذا لم تتحقق التقوى لصائم فلا جدوى لصيامه.وبغياب التقوى فقد تحول الصيام السنى إلى عكس ما يهدف إليه الصوم الإسلامي. فرمضان أصبح شهر الأطعمة المشتهاة في الإفطار والسحور وهو شهر تدخر له أطعمة بعينها أصبحت علماً عليه وعلما عليها،وهو شهر يسهر فيه الناس الليل مع ما حرم الله من لهو وصخب وينامون فيه النهار – أو يتكاسلون – لكى يمضي اليوم – النهار – سريعاً ليستقبلوا الليل بملذاته وامتلائه. وهو شهر المشاجرات والمنازعات لأتفه الأسباب – أو بدون أسباب ،ويجد الناس في صومهم حجة للغضب بمبرر وبدون مبرر.. فالدين السنى جعل من الصوم مجرد عادة اجتماعية تتكرر شهراً كل عام ترتبط بذكريات الأكل والسهر وموعد الأفطار والمسحراتي واستقبال الفجر عند الأضرحة، واعتمدوا في ذلك على ما يجتره الإنسان – من ذكريات طفولته في رمضان مع أبيه واخوته وتقاليدهم عند الإفطار وعند السحور وتزاور الأهل والأصحاب .. وأين التقوى في ذلك كله؟ أصبحت في رمضان مجرد سبحة تتراقص بين أصابع التدين السطحى والقلب غافل.
والنساء أكثر اهتماما برمضان – فلأنه أضحى شهر الإمتلاء – فعليهن عبء تجهيز الطعام بأصنافه وشتى مسمياته، والنساء أقدر على تذكر المظاهر الرمضانية الطفولية – ورمضان لا يعني أكثر من تلك الذكريات الاجتماعية..

4 ـ تقول إحدى الصحفيات عن ذكرياتها في رمضان – ونحن بذلك نؤكد أن رمضان أصبح لدينا فعلا مجرد مناسبة اجتماعية (تناهى إلى أذني صوت دقات الطبلة تتردد أصداؤها في الحي من بعيد، تعالت الدقات مقترنة بصوت المسحراتي المؤثر " يا عباد الله.. وحدوا الله " اضطرب قلبي بمشاعر متناقضة وأنا أذكر أن الليلة هى أولى ليالي شهر رمضان، امتلأت الحجرة المظلمة حولى بالأطياف القادمة من زمن مضى ولن يعود،زمن الطفولة والفوانيس الملونة المضاءة بالشموع، وأغنية وحوي يا وحي ترتفع بها أصواتنا الرفيعة أنا وإخوتي في صحن البيت، وياميش رمضان يملأ جيوبنا ، وصواني الكنافة والقطائف والفطائر في المطبخ ندور حولها ونمد إليها أصابعنا الصغيرة في تلصص لنلعق السكر المعقود من خلف ظهر الوالدة الطيبة،ودوي مدفع الإفطار وصوت الآذان يتردد من فوق مآذن العباسية، والسفرة معدة وصوت الوالد القوي يرتفع بالدعاء، " اللهم إني لك صمت وعلى رزقك أفطرت " وصوت الراديو وهو يتعالى بأغنية يا ألف مرحب يا رمضان ، وروائح البخور تصل إلى أنوفنا من البيوت المجاورة لسبيل أم عباس ، وضحكاتنا المكتومة ونحن – الإخوة الأربعة – نعاكس بعضنا في الخفاء، واجتماعنا بعد الإفطار حول الوالد الجالس فوق سجادة الصلاة وبين يديه المصحف يقرأ القرآن..دقات طبلة المسحراتي كانت وما تزال تملأ أذني وأنا جالسة على مقعدي محدقة في الكلام ، ومع إيقاع الطبلة الرتيب رأيت أطياف الماضي وهى تتلاشى كالدخان واحدا بعد الآخر .. فمع مضى الأيام والسنوات انسحب الوالد من الحياة ولحق به الخال .. وانكسر جمع الأحبة) ( حسن شاه . جريدة مايو عدد 19 السنة الأولى 6 / 7 / 1981. ).

أخيرا :

آه .. تذكرت .. تحول رمضان فى المعتقد الشعبى الى إله يعاقب من يفطر فيه . وكنا فى الطفولة نسمع حكايات مرعبة عن إنتقام رمضان من المفطرين ..
وكل عام وانتم بخير..

 

 

 

 ب 1 ف2 ج 2 :  التدخين ليس حراما ولا يفطر الصائم   

كتاب ( رمضان والصيام بين الاسلام والدين السنى ) دراسة أصولية تاريخية

  الباب الأول : رمضان والصيام فى الاسلام :

الفصل الثانى : تشريع الصيام فى رمضان  

الجزء الثانى : ليس من تشريع الصيام فى الاسلام ( مقالان )

المقال الأول :  التدخين ليس حراما ولا يفطر الصائم   

أولا:
ليس الدخان من الطعام والشراب ، فمجرى الطعام و الشراب هو الجهاز الهضمى ( الفم ـ البلعوم ـ المرىء ـ المعدة ـ الأمعاء الدقيقة ، فالغليظة ـ فالشرج ) أما التدخين فمجاله الجهاز التنفسى ، من القصبة الهوائية الى الرئتين شهيقا وزفيرا، وبالتالى فالتدخين لا يفطر الصوم فى رمضان أو غير رمضان.

 وأيضا فليس التدخين محرما لأن التحريم لا يكون إلا بنصّ قرآنى صريح . ومثلا فإن المحرمات فى الطعام محصورة ومحددة و غيرها موصوف بالطيبات ، ويحرم تحريم شيء من تلك الطيبات ، نفهم هذا من قوله تعالى (فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ) (النحل 114 : 116 ) وتكرر هذا فى آيات قرآنية مثل ( البقرة 172 ـ ) ( المائدة: 1 ، 3 ـ 87 ـ ، 96 )(الأنعام 145 ) ( يونس 59 ـ ) والمحرمات فى الشراب هى الخمر ( المائدة 90 ـ ). والتدخين ليس طعاما ولا شرابا.
ثانيا:
1 ـ لم يعرف العصر العباسى التدخين والتبغ ، لأن التدخين عرفه الأوربيون من الهنود الحمر بعد الكشوفات الجغرافية ، ونقله الأوربيون ثم انتشر فى العالم ، وعرفه المسلمون فى نهاية العصر العثمانى.
وفى العصر المملوكى إكتشف المسلمون القهوة والحشيش ، واشتهر الصوفية بادمان الحشيش وسموه ( الحشيشة ) وأطلقوا عليها (لقيمة الفكر و الذكر )، وراجت بهم القهوة ، وفى نفس الوقت اتخذ الفقهاء السنيون موقف العداء من القهوة و الحشيش ، فافتوا بتحريمهما فى إطار الصراع بين دينى السنة و التصوف مما دفع الشيخ الصوفى علم الدين ابن الصاحب لأن يقول فى قصيدته المشهورة:
فى خمار الحشيش معنى مرام
يا أهيل العقول والأفهام
حرموها من غير عقل ونقل
وحرام تحريم غير الحرام.
وقال ابن الأعمى الدمشقى:
ولا نص فى تحريمها عند مالك
ولا حدّ عند الشافعى وأحمد
ولاأثبت النعمان تنجيس عينها
فخذها بحد المشرق المهند.
وذلك موضوع شرحه يطول وسيأتى بعونه جل وعلا أوانه.
ونفس الحال تقريبا حدث مع الدخان فى نهاية العصر العثمانى ، أفتى بتحريمه الفقهاء ودافع عنه بعض محققى الصوفية.
2 ـ من الفقهاء القدامي الذين حرموا التدخين في العصر العثماني :من المذهب الحنفي محمد العيني في رسالته في تحريم التدخين، وابو الحسن البصري الحنفي وعمر بن احمد المصري الحنفي وعيسي الشهادي في الاستانة ،والامام الشربنلاني واسماعيل النابلسي وعلاء الدين الحصفكي.
ومن المذهب المالكي خالد بن احمد الجعفري ساكن مكة ،وابراهيم اللقاني شيخ المالكية بمصر ،وابو الغيث القشاش المغربي وسالم السنهوري.
ومن الفقهاء الشافعية نجم الذين الغزي الشافعي الدمشقي ،وابن علان الصديقي صاحب كتاب اعلام الاخوان بتحريم الدخان ،ومحمد حياة المدني وشهاب الدين القليوبي وسليمان البحيري واحمد عبجي مفتي حلب.
ومن الفقهاء الحنبلية سائر الفقهاء النجديين والوهابيين ،ومنهم محمد بن ناصر بن معمر وعبد الله ابن عبد الرحمن ابا بطين ،ومحمد بن ابراهيم بن محمد بن عبد الوهاب ،وعبد الرحمن بن ناصر السعدي وعبد الله بن علي الفضية ،وفي مصر احمد السنهوري البهوتي.
ومن الفقهاء المصريين الذي حرموا الدخان مصطفي الحمامي ،وفي حماة السورية محمد الحامد ،وفي حلب احمد كردي المفتي فيها ،وفي دمشق بدر الدين الحسيني وهاشم الخطيب وعلي الدقر ،وقد قاموا بحملة ضد التدخين هناك.
ومن علماء الحجاز عبد الله العصامي وتلميذه محمد بن علان وعبد الله الحداد والحسين بن ابي بكر وعبد الرحمن بن محمد الحضرمي وسعيد البلخي المدني ،وعمر البصيري ومكي بن فروح.ومن تركيا محمد الخواجا.
وأشهر من دافع عن الدخان العلامة الصوفى الشيخ عبد الغنى النابلسي في كتابه (الصلح بين الاخوان في اباحة الدخان ) وقد ردّ على من أفتى بحرمته ، وقد ذكر أن بعض علماء الدولة العثمانية افتي بنجاسة التبغ وفساد صلاة المدخن ،وانه لا يعفي عن نجاسة رائحة الدخان في الثوب والبدن وان تعذر ازالتها بخلاف الخمر ،وذلك لتعمد شرب الدخان من غير ضرورة ..وقد ترتب علي تلك الفتوي ايقاع الاضطهاد بالمدخنين وقتها.
3 ـ وعلى العادة فى الفقه السنى فقد بالغ بعضهم فى تحريم الدخان الى درجة االتجديف فى الغيب والكذب على الله تعالى ورسوله ، فبعضهم افتي بأن المدخن يحشر يوم القيامة في جهنم مع شارب الخمر اسود الوجه والغليون في عنقه يلتهب نارا ،وصنعوا في ذلك احاديث نسبوها للنبي ، ، تجعل المدخن من أصحاب الجحيم . أى إن مصانع أنتاج الحديث كانت تعمل بكل طاقتها حتى العصر العثمانى ، مع ان التدخين ظهر بعد عصر النبي بحوالي عشرة قرون ولم يكن النبي يعلم بما سيحدث بعده.
على أن الوهابيين هم أكثر من حارب التدخين وجعل حرب التدخين من أصول الدين ( السنى ) فهناك فتوى محمد ابن ناصر بن معمر الحنبلي النجدي الذي الحق التدخين بالخمر ، وقرر ان المدخن يجب معاقبته بالجلد اربعين جلدة ،وايده عبد الله بن عبد الرحمن في فتوي مشابهه ، ولا يزال التدخين من اهم وأفظع المنكرات فى المملكة السعودية.
وهذا يعطينا فكرة عن ان تحريم الدخان ارتبط احيانا بنوع من التفريعات الفقهية والاحكام الاضافية التي تتطرف في تحريم الدخان وتمتد الي متعلقات المدخنين والتدخين ،مثل القول بفساد صلاة المدخن ونجاسة ثيابه وبدنه ،واختراع احاديث للنبي تجعله من اصحاب الجحيم.
ثم فتاوي اخري تلحق التدخين بالخمور وتجعله من المسكرات .وقد بدأ هذا القول في العصر العثماني ،وممن قاله ابن العلاء الصديقي في كتابه (اعلام الاخوان بتحريم الدخان )، وكرر نفس الفتوي محمد بن ناصر بن معمر الحنبلي النجدي الذي الحق التدخين بالخمر وقرر ان المدخن يجب معاقبته بالجلد اربعين جلدة ،وايده عبد الله بن عبد الرحمن في فتوي مشابهه .وقبلهم قال خالد بن احمد الجعفري ساكن مكة انه لا تجوز امامة من يشرب الخمر ولا تجوز الصلاة خلفه ،ولا تجوز شهادته ،وبالتالي لا يجوز الاتجار بالدخان.
4 ـ وفي عصرنا الراهن تكرر الموقف من الفقهاء المعاصرين الذين حرموا الدخان واستدلوا بنفس الادلة ،وقال بعضهم بنفس التطرف في التفريعات الفقهية خصوصا مع دخول المسلمين فى المرحلة النفطية و السيطرة السعودية الوهابية ، حيث قامت دعائم الفكر الوهابي علي عدة اسس منها تحريم الدخان ،واشتهروا بذلك في تاريخ الدولة السعودية الاولي والثانية والثالثة الحالية .وفي عصرنا الحالي يفتي مفتي السعودية السابق محمد إبن ابراهيم بتحريم الدخان وعدم جواز امامة من يشرب الدخان وتحريم الاتجار به ،ويفتي عبد الرحمن الناصر السعدي بتحريم الدخان والاتجار فيه وتحريم الاعانة علي ذلك ،وعلي من يفعل ذلك ان يتوب.
ويشتم بعض الفقهاء السعوديين الفقهاء الاخرين المخالفين لهم في الرأي والذين يردون عليهم بالحجج الفقهية ، فيشتم عبد الرازق عفيفي الفقيه الذي يطالب بدليل شرعي ينص علي تحريم الدخان بالاسم ولا يقتنع بالنصوص العامة ،يقول عنه ( قصير النظر ضعيف الفكر جاهل بمصادر الشريعة استهواه الشيطان وحبب له الخبائث ) ،وقال محمد بن مانع مدير معارف السعودية في عصره ان القول باباحة التدخين (ضرب من الهذيان ،فلا يعول عليه الانسان ..فلا تغتر بأقوال المبيحين )( شعيب العباسي :السيجارة مقبرة المدخنين :166،168 ،172،194،157،180 :181 ،173 -،148 .-جريدة الاخبار 22/4/1994 ، جريدة اللواء الاسلامي 9/12/1993 ،جريدة الجمهورية 18/7/1980.)


وبالتعاون مع منظمة الصحة العالمية(WHO ) وبدعم السعودية تم عقد المؤتمر الاول في جنيف من 9 : 14 سبتمبر 1974 لتحريم الدخان ،وشارك فيه علماء من الازهر ومن السعودية ،كان ابرزهم شيخ الازهر وقتها الشيخ جاد الحق ،ود.عبد الجليل شلبي ،ود.حامد جامع ،ود.زكريا البري ،الشيخ عطية صقر ،الشيخ مصطفي محمد الحديدي الطير ،الشيخ عبد الله المشد ،ود.احمد عمر هاشم ،د. الحسيني عبد المجيد هاشم .واتخذت بحوث المؤتمر اساسا فكريا لكل الابحاث التالية في تحريم التدخين واستنكاره في العالم الاسلامي .وعقدت بعده مؤتمرات في داخل البلاد الاسلامية منها ذلك المؤتمر الذي انعقد في نوفمبر 1993 وحضره مائة فقيه اسلامي.
ومع كل هذه المؤتمرات فأنها لم تأت بجديد في الناحية الفقهية .اذ انها رددت ولاتزال تردد نفس الادلة وتتمسك بنفس العلل والاسباب.
5 ـ اشهر من حرم التدخين في عصرنا:
اشهر من حرم التدخين في العصر الحديث هو شيخ الازهر محمود شلتوت في الستينيات من القرن العشرين .وقد بني علة التحريم علي اساس الضرر قائلا :ان اضرار الدخان في الصحة والمال تقتضي حظره ،وافتي بتفريعات اخري منها تحريم زراعة الدخان وصناعته مالم تعرف له فوائد اخري ،وافتي بصحة الصلاة في حقل الدخان [الفتاوي للشيخ شلتوت 384 :385 :القاهرة 1964 ].هذا مع ان شيخ الازهر الاسبق محمود شلتوت كان يدخن ولم يقلع عن التدخين!!.
والدكتور زكريا البري استاذ الشريعة الاسلامية في جامعة القاهرة واحد اصدقاء الرئيس السادات افتي في جريدة الاخبار في 12/10/1972 بأن حكم الدخان بين الحرام والكراهة التحريمية بعد ثبوت ضرره ..والكراهة التحريمية درجة اقل من الحرام واكبر من الكراهة العادية في الاحكام الفقهية .وافتي بتفريعات اخري منها انه يباح التدرج في الاقلاع عن التدخين لمن كان يدخن معتقدا ان التدخين حلال ،ووجوب اصدار تراخيص جديدة للاتجار فيه ،ومعاونة المتاجرين في الدخان لينتقلوا الي التجارة في اشياء بديلة ،وتدبير موارد للدولة تغنيها عن جمارك الدخان.
والدكتور زكريا البري –المتخرج في جامعة الازهر ،والذي كان يرأس الشئون الدينية للحزب الوطني الحاكم في عصر السادات ،كان يدخن ،وكان صديقه الرئيس السادات مشهورا بالغليون.
وفي الثمانينيات افتي محمد عبد الله الخطيب احد علماء الازهر بتحريم الدخان ، وجاء بالادلة
المعتادة.
وفي الثمانينيات ايضا افتي الدكتور محمد الطيب النجار رئيس جامعة الازهر ووكيل الازهر السابق ان هناك تشابها بين الخمر والدخان ،وهذا التشابه يوجب تحريم الدخان ،قال ذلك في ندوة تليفزيونية في التليفزيون المصري وعارضه بعض الصحفيين فرد عليه الطيب النجار في الاخبار سنة 1983.
وفي التسعينيات اشتدت موجة تحريم الدخان بالتاثير السعودى ،وتزعمها الشيخ جاد الحق شيخ الازهر السابق الذي اعتبره هلاكا للنفس والمال واضرارا بالاخرين ،وتبعه الدكتور عمر عبد الكافي احد الدعاة المشهورين في منتصف التسعينيات ،والدكتور احد عمر هاشم الرئيس الأسبق لجامعة الازهر، ود. رمضان السيوطي استاذ الشريعة في الازهر .الذي افتي بتحريم بيع الدخان ووجوب رد ثمنه للمشتري ،ووجوب احراق الدخان دون ان يرد المشتري ثمنه للبائع مثلما يجب اراقة الخمر.
اما الشيخ عطية صقر رئيس لجنة الفتوي بالازهر فقد امر بمكافحة التدخين للوقاية والعلاج ،وجعل الوقاية بالتوعية وهي من باب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ،واقترح للعلاج اصدار تشريعات لمقاومة التدخين وحظر بيع السجائر لصغار السن ،وتفضيل غير المدخنين في المناصب القيادية ،وحظر التدخين في الاماكن العامة ووسائل المواصلات ،والحد من انتاج الدخان وتوزيعه ،وفرض ضرائب علي المنتجين ومنع ظهور التدخين علي شاشات السينما والتليفزيون ومنع الاعلان عن السجائر.
وافتي د.عبد الصبور شاهين بأن التدخين حرام بالنص وليس بمجرد الاجتهاد .وقال ان الخمر تدخل في انضاج التبغ ،وعليه افتي ببطلان احرام الحاج اذا دخن وهو في الحج.
وقد افتي عبد الغني تاج الدين – من علماءالازهر –بحرمة التدخين ،وافتي بأنه لا يصح ان يفطر الصائم علي سيجارة وان كان صيامه صحيحا.
اما الشيخ القرضاوي الفقيه المشهور فقد افتي بحرمة التدخين بسبب الضرر وجاء بتفريعات اخري هي : تأكيد حرمة التدخين في احوال معينة مثل تدخين الفقير ،واستيراد الدخان من بلاد الاعداء ،او كون المدخن من علماء الدين او الاطباء ،او اذا اصدر الحاكم قراره بمنع التدخين ..المدخن الراغب في الاقلاع عن التدخين ولا يستطيع يكون معذورا .تحريم الدخان اقل درجات التحريم بسبب اختلاف الفقهاء في حكمه .التدخين للمرأة اشد قبحا .دعوة اجهزة الدولة لمحاربة التدخين ومنع الاعلان عنه .وهي فتاوي لا تخلو من طرافة وتناقض.
وفي اغسطس (6/8/2000) اعلن مفتي مصر د.نصر فريد واصل في غضون حملته علي التدخين في مجلة اكتوبر ان الذي يدخن لا تقبل صلاته ولا صومه ولا زكاته ولا شهادته .والحق التدخين بالخمر والمخدرات والمعاصي ،وحكم بكفر المدخن الذي يعلم بحرمة التدخين ولا يقلع عنه ،وشبهه بمن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعضه ،وجعل التدخين والخمر من الكبائر التي تجب فيها العقوبة أي مثل الزنا والسرقة ،وبذلك يكون فاسقا لا تقبل شهادته مثل الذي يرمي المحصنات وشهادته باطلة.
و مفتي مصر السابق د. نصر فريد واصل دخل في مزايدة فى التحريم مع فقهاء السعودية الحنابلة ، فقد أصدر تفريعات اخري منها تحريم اخذ الجوائز من شركات التدخين ،وتحريم صنع الحلوي علي شكل سجائر حتي لا يتعود الاطفال علي شرب السجائر ،وامتدت فتاويه الي العلاقات الزوجية والاسرية ،فمن حق الزوج في رأيه ان يطلق زوجته المدخنة التي فشلت محاولات علاجها ،ومن حق الزوجة ان تطلب الطلاق من زوجها المدمن في نفس الحالة .وان الاب والام اذا دخن احدهما امام الاولاد فقد ارتكب اثما محرما وجريمة في حق الله وحق المجتمع تستوجب لعنة الله وعذابه في الدنيا والاخرة ،والابن المدخن هو مريض يجب علاجه ،ويجب عقاب المدخن في الاماكن العامة اذا لم يسبتجب للنصح والارشاد ،والعاملون في مجالات التدخين يجب عليهم البحث عن عمل اخر حلال ،فاذا لم يتيسر لهم ذلك ولم يكن لهم دخل اخر فلا بأس .وقال اخيرا انه لا يجوز شرعا اعطاء الزكاة للمدخن لانها اعانه له علي معصيته ،والاعانه علي المعصية تكون معصية.
وهذا التطرف من جانب المفتي في التحريم والحظر جعل شيخ الازهر د.محمد سيد طنطاوي يسارع بنشر رأيه في نفس المجلة (27 /8/2000) ليخفف من وقع اراء المفتي ،اذ قال شيخ الازهر ان تدخين السجائر مكروه ،ولا يتساوي مع شرب الخمر والزنا.
6 ـ الدولة السعودية الراهنة( الثالثة ) هى السبب.
فالعقيده الوهابيه تحرم الدخان ،وحين انشأ عبد العزيز ال سعود الدوله السعوديه الثالثه (1902 1932) كان الاخوان المتشددون هم عماد قوته، وكانو يقتلون المدخنين بحيث كان البدو يدخنون سرا خوفا من الاخوان [جون حبيب :الاخون السعوديون :71،80،84 )وحين حاصر الاخوان الكويت كان من شروطهم ان يترك اهل الكويت شرب الدخان [ناصر السعيد: تاريخ آل سعود : 619:618].
ومع ذلك فحين استولى عبد العزيز على مدينة ( جدّة ) وامر بمصادرة مخازن الدخان فيها اشتكى التجار من خسائرهم الفادحه اذا احرق الدخان ،وعرف ان حصيلة جمارك الدخان تفوق عوائد البترول وقتها فسمح باستمرار استيراد الدخان [جلال كشك:السعوديون والحل الاسلامي 624:623 ].وبسبب مرونة عبد العزيز ثار عليه الاخوان عماد جيشه ،وبعد ان قضى عليهم سنة 1930 تهاوت تدريجيا محظورات الوهابيه من الموسيقى والغناء والتدخين والخمور،وتسربت خلسه الى القصور الملكيه وقصور الامراء[الياسيني :الدين والدوله السعوديه 95].
ونرفض تلك القصة التى يرويها ناصر السعيد ـ فى كتابه (تاريخ آل سعود ، ص 541 ) ونضطر لذكرها بكل اسف . يقول:
(ولدينا القصص الكثيرة وبالاسماء عن افعال ال سعود التي هي في منتهي الاباحية التي وصلت بهم ان يجعلوا من عقوبة (مدخن الدخان ) اكبر من عقوبة مرتكب الدعارة في بناتهم ،ونوادر آل سعود في ذلك كثيرة ،نختار منها قصة الاميرة المعروفة التي اغتصبت احد الشباب بعد ان اختطفته من الشارع العام ،ولما قضت شهوتها معه وجلس القرفصاء يستعيد انفاسه واخرج سيجارة بطريقه لا شعورية وبدأ يدخنها هاجمته الاميرة وانهالت في وجهه صارخة مرددة شتائمها بقولها الشهير ( اتشرب المخزي في حوينا يا خائن ؟) أي تدخن الدخان في بيتنا .والدخان هو الشئ (المخزي ) من الخزي !! وليس في اغتصاب الاميرات للمارة واختطافهن للرجال الابرياء أي (خزي ) او شئ مخزي ..المهم ان الاميرة استدعت هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وسلمت لهم الشاب بتهمة (تدخين المخزي ) ولما سألها احد اعضائها قائلا : ( ماالذي جاء بهذا الشاب الي القصر ليشرب الشئ المخزي امامك يا اميرة المؤمنين ؟ ) افادته الاميرة بقولها (انني وجدته في الشارع يسير بمفرده ،فاعجبت بشكله فاجبرته علي الركوب لاوسع به صدري باللعب عليه ، لكنه لم يحسن اللعب معي بل بقي متقرفصا وكأنه خائف مني ان اكله، مع ذلك يشرب المخزي في حوينا !) فأخذه (رجالات الدين )وسلموه الي الشيخ عمربن حسن رئيسهم ،الذي امر بتأديبه بجريمتين ارتكبهما الشاب ،الاولي :عدم احسان الشاب اللعب مع الاميرة !، والجريمة الثانية هي (تدخين المخزي في حويتها )أي تدخينه الدخان في قصرها ..هذه قصة شائعة حدثت في عام 1946 وذلك قبل ان يبدأ الامراء الآن باستيراد الدخان الامريكي ..ليصبحوا وكالاء شركاته ).انتهى..
واصبح مشهورا ادمان بعض الامراء والملوك السعوديين للخمور والسجائر ، وحين اقتحم الاخوان الجدد الحرم المكي سنة 1979 فى حركة جهيمان العتيبى ،كان ولي العهد الامير فهد يحضر مؤتمرا في تونس وبسبب انزعاجه الشديد كان يدخن بشراهه علنا امام آلات التصوير.(ملف الانتفاضه :47:اصدار منظمة الثوره الاسلاميه. ).
هذا بينما يجتهد الفقهاء السعوديون وخدمهم في تحريم الدخان.
أخيرا
1 ـ وبرغم الصخب السابق نقول إن التدخين مباح ولا يصح تحريمه طالما لم يرد نصّ قرآنى بتحريمه ، والمحرمات محددة لا يصح الاضافة اليها ، وليس هناك قياس فى التحريم لأن القياس يؤدى الى تحريم الحلال المباح ،أى الاعتداء على حق الله تعالى فى التشريع.
ونؤكد أيضا أن التدخين الذى يتخذ مجراه فى الجهاز التنفسى لا يؤثر فى الصيام ، ولا يفطر به الصائم.
2 ـ ونتساءل : ماذا لو عرف العصر العباسى الدخان لأول مرة .. ماذا كان سيفتى ويقول الأئمة مالك والشافعى والبخارى ؟
دعنا نبتسم ونتخيل ماذا كانوا سيقولون،ونكتب تخيلنا هنا للترفيه عن القارىء:
* سيكتب مؤلف الموطأ نقلا عن مالك تحت عنوان (أحاديث فى تحريم التدخين فى نهار رمضان ):
(وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أنه قال : من دخن عامدا متعمدا فى نهار رمضان لم يجزئه صوم الدهر كله وإن صامه.)
 (حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أنه قال : بئس عبد السيجارة ..بئس ابن الحمارة.. بئس وانتكس وإذ شيك فلا انتقش)
( وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، وَأَبَا، هُرَيْرَةَ فى حديث يرفعه الى .. يؤتى يوم القيامة بالمدخنين وعلى وجوههم دخان من طين فيلقى بهم فى جهنم فى وادى النيكوتين ليتجرعوا العذاب أبد الآبدين .ما تقولش آمين..)
* وسيكتب الشافعى فى (الأم ):
( وأكره للصائم أن يفطرعلى سيجارة أو أن يدخن وهو يركب الحمارة ، واحب للمدخن قبل السحور أن ينفث الدخان على اليمين ليكون من أهل اليمين ،وأكره له أن ينفث الدخان على الشمال حتى لا يكون من اليساريين و الشيوعيين أصحاب الشمال.)
وقال الشافعى:
‏[‏قَالَ الشَّافِعِيُّ‏]‏‏:‏ ومن أفطر وهو مسافر فى رمضان فلا يجوز له التدخين إلا بعد أربعين فرسخا .. .فإن اشعل سيجارة قبل بلوغه الفرسخ الأربعين رجع من سفره الى الفرسخ الأول..وإن إضطر الرجل للتدخين كأن هددوه بسكين فأكره له أن يستعمل السجائر الأمريكية الامبريالية ، وعليه بالسجائر المصرية، برغم ما فيها من حشرات حرصا على اصلاح ميزان المدفوعات.. والضرورات تبيح المحظورات.
‏[‏قَالَ الشَّافِعِيُّ‏]‏‏:‏ ومن أدركه الفجر وهو يدخن الجوزة أو الشيشة أو السجارة أو السيجار فأسرع فابتلع الدخان أتم صومه وعليه القضاء . فإن غلبه الدخان فنفثه فى الهواء صح صومه وليس عليه قضاء.
‏[‏قَالَ الشَّافِعِيُّ‏]‏‏:‏ ومن ادركه الفجر وهو يدخن فاراد كتم النفس ( بفتح النون والفاء ) وكان فى وضع غير مريح فغلبه الريح فقد انتقض وضوؤه ولكن صيامه صحيح .
‏[‏قَالَ الشَّافِعِيُّ‏]‏‏:‏ ومن أدركه الفجر وهو يجامع زوجته وهو يدخن أثناء الجماع فاسرع فنزع وأطفأ السيجارة صح صومه ، حتى لو أنزل بعدها وقت دخول الصوم ،لأنه أنزل بعد مباشرة مباحة . فإن نزع وغفل عن إطفاء السيجارة فصيامه صحيح ، فإن تعمد ألا يطفىء السيجارة بطل صومه وعليه فدية وكفارة . وقال بعض أصحابنا إن عليه تقديم الفدية قاروصة سجاير مارلبورو..
وسيكتب البخارى فى باب ( تحريم التدخين )
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ ـ رضى الله عنه ـ قَالَ   : قوم من امتى لا تشملهم شفاعتى ..يشربون الجوزة والشيشة ..ألا سحقا لهم .إذا لقيتموهم فالعنوهم ..قيل لأبى هريرة : هل سمعت هذا الحديث من الرسول عليه الصلاة و السلام ؟ فضحك وقال : كلا ..إنه من كيس أبى هريرة.)
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ، سَمِعَ يَزِيدَ بْنَ هَارُونَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى ـ هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ ـ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ، أَخْبَرَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ بْنِ خُوَيْلِدٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَخْبَرَهُ أَنَّهُ، سَمِعَ ابن عباس يقول : من اصبح جنبا بلا إحتلام وعلى سيمائه التدخين بلا احتشام فقد بطل صومه والسلام.. وده آخر كلام..)
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رضى الله عنه أنه قال : إن المدخن إذا أشعل السيجارة فإن ملكا من الملائكة يقعد على يمينه ويقعد الشيطان على شماله ، فاذا عطس المدخن بادره الملك فصفعه على قفاه وقال : ذق أمراض الصدر قبل أن تذوق عذاب القبر ، بينما يربت الشيطان على قفاه ويقول : إشرب ما تشاء يا ابن اللخناء ولا تستمع للسفهاء .. قالوا يا أبا هريرة : هل سمعت الرسول يقول هذا الحديث ؟ فقال : لم اسمعه ، وإنما رويته عن ابن عمر ، وهو أحفظ منى .)

السطر الأخير:
لست.. ولن أكون بإذن الله جل وعلا.. من المدخنين...ولا أنصح مطلقا بالتدخين ..وأتمنى من المدخنين الاقلاع عن التدخين ..

التعليقات

حمد حمد

بارك الله جل وعلا بعلمك وعمرك دكتور أحمد المحترم.


من المعلوم حاليا تم السماح في بعض الدول الاوربيه وبعض الولايات المتحدة في تعاطي الماريجوانا والحشيش وفي حدود معقوله وتحت إشراف صحي فهل هذا يعتبر تدخل في الحرية الشخصيه وفي ما لم يحرمه الله سبحانه أم إنه أمر صحي وهل من الممكن  يتم تنفيذه مع تدخين السجائر ، وماذا عن المخدرات بأنواعها وخطورتها أنا أعرف إنه تم التطرق لها سابقا ولكن اتمنى ضمها في هذا الكتاب المميز عن الصيام. ولدي سؤال كنت أتمنى أن لا نقول عن مايسمون أنفسهم علماء وفقهاء المسلمين أليس الأفضل أن نسميهم سفهاء أو تعساء المسلمين أو الأفضل أعداء الدين فهو مناسب جدا لهم مع خالص التقدير لكم. 

أحمد صبحى منصور 

جزاك الله جل وعلا خيرا استاذ حمد ،  

 1 ـ نحن نتكلم عن الحرام والحلال . فى الدولة الاسلامية يجوز عبر مجالسها التشريعية وضع ضوابط ـ بقرارات بالأغلبية ـ فيما فيه المصلحة والنفع ، وقد تعرضنا لهذا فى كتاب ينتظر النشر عن ( ماهية الشريعة الاسلامية ) ، فيما يخص المجالات المتاحة للدولة الاسلامية فى التشريع وضوابطها.
2 ـ هذا الكتاب تم الانتهاء منه ونشره من سنوات طويلة . ولم يكن قد ضاق صدرى ـ بهذه الدرجة من فقهاء الدين السنى ، ولم أكن قد توسعت فى استعمال وصف المحمديين . عذرا ..وشكرا . وكل عام وأنت وجميع الأحبة بخير ونعمة.  

 

 

 

 

 

 

 

 

ب 1 ف2 ج 2 : الله جل وعلا وحده هو الذى سيعاقب المفطر فى رمضان وليس غيره    

كتاب ( رمضان والصيام بين الاسلام والدين السنى ) دراسة أصولية تاريخية

  الباب الأول : رمضان والصيام فى الاسلام :

الفصل الثانى : تشريع الصيام فى رمضان  

الجزء الثانى : ليس من تشريع الصيام فى الاسلام ( مقالان )

 المقال الثانى : الله جل وعلا وحده هو الذى سيعاقب المفطر فى رمضان وليس غيره    

إسلاميا : لا يجوز عقاب من يفطر علنا فى رمضان
 

أولا : عقوبة المفطر فى رمضان بين الاسلام وأديان المحمديين الأرضية 
1 ـ فى مقالات الصيام المنشورة هنا قلنا إن تشريع الصيام فى القرآن ركّز أكثر على رٌخص الافطار للمسافر والمريض ، والذى يرهقه الصيام ، وتخفيف الصيام ليكون من الفجر الى الليل بعد أن كان الصيام من قبل يمتد من العشاء الى غروب اليوم التالى . وأن الصيام ـ كشأن العبادات ـ هو وسيلة التقوى . ولكن تحول الصيام الى طقس إجتماعى لمجرد التجويع والانفلات الخلقى وقضاء النهار فى كسل وغضب ، وقضاء الليل فى مجون و سهر ، فأضحى رمضان شهر الامتلاء والمسلسلات والفوازير والوعظ السلفى بالتكفير والنكير والجهاد السلفى بالتفجير والتدمير ، وإنقطعت صلته بالتقوى . كما أصبح شهر مناسبة يتسلط فيه المتطرفون على الناس ، يعاقبون من يُفطر ، بغض النظر إذا كان يمارس رُخصة تشريعية مذكورة فى القرآن ، أم يمارس حريته الدينية التى منحها الله جل وعلا للبشر ، وهو وحده جل وعلا الذى سيحاسبهم على إيمانهم وعلى عبادتهم وعلى عملهم يوم الدين . 
2 ـ إن حق الله جل وعلا فى الايمان به وحده لا شريك له وفى عبادته وحده ــ هذا الحق مرجعه الى الله جل وعلا وحده يوم الدين ليحكم فيه بين الناس فيما هم فيه مختلفون . أما حقوق البشر ( حق العباد ) فقد نزلت فيه تشريعات الاسلام لتحفظ حقوقهم وتمنع من الظلم والبغى والعدوان . ولذا ، فليس فى الاسلام ــ على الاطلاق ـ إكراه فى الدين ، فى الايمان أو الكفر ، فى إقامة العبادة أو تركها ، فى الدخول فى الاسلام أو فى الخروج منه . وليس فى فضيلة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر الاسلامية تسلط على الناس . إن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هو التواصى بين أفراد المجتمع كلهم بالحق والخير والصبر، وليس لفئة أن تتخصص فى هذا تأمر الناس بالبر وينسون أنفسهم ، كما أن حدود الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لا تتعدى النصيحة القولية ، وإذا أصرّ الفرد على ما هو عليه فرب العزة يقول ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (105) المائدة ) . وإصراره على المنكر لا يعنى التبرؤ منه بل من عمله السىء فقط ، يقول جل وعلا لخاتم المرسلين : ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) ) الشعراء ) لم يقل له أن يتبرا منهم بل من عملهم ، ولم يقل إضربهم بل مجرد البراءة من عملهم ليتحملوا هم وزره يوم الدين . 
وبالتالى فإن من يتدخل فى إرغام الناس على الصلاة وتأدية العبادات ، ويعاقب بالقتل تارك الصلاة ويعاقب بالضرب و( التعزير ) من يفطر علنا فى نهار رمضان إنما يعتدى على حقّ رب العزة جل وعلا فى التشريع ، وهو جل وعلا الذى خلق البشر أحرار فى الطاعة أو العصيان وجعل للدين يوما هو يوم الدين . أما هذا المتسلط على الناس فقد نصب نفسه إلاها على الناس ، يقيم لهم يوما للحساب والعقاب قبل مجىء اليوم الآخر ، ويمارس سلطة دينية ودنيوية عليهم باسم الخالق جل وعلا إفتراءا على الخالق جل وعلا . هم أعداء لله جل وعلا الذين يرفعون أنفسهم فوق منزلة خاتم المرسلين ـ عليهم السلام . تدبر ما قاله رب العزة جل وعلا للنبى محمد عليه السلام : (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26) الغاشية ) وقال له جل وعلا : (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100) يونس ) وقال له جل وعلا : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) القصص ) 
3 ــ والعادة السيئة فى أى دين أرضى أنه يملكه أربابه ورجال كهنوته، وهم يتخذون من هذا الدين الأرضى وسيلة للاستعلاء على الناس وأكل أموالهم بالباطل والتحكم فيهم . ويحتاج المستبد الى رجال الدين الأرضى يركبهم ويركب بهم الناس . وإذا كان هذا الدين الأرضى مؤسسا على العنف فالويل للناس من عسفه ، وهذا ما نراه فى شعوب يسيطر عليها الكهنوت الوهابى ، ويقوم بإكراه الناس فى الدين ، وتتخصص طوائف من كهنوتهم تطارد الناس فى الشوارع والأسواق بالإثم والبغى والعدوان المنهى عنه فى دين الله جل وعلا . ومن الطبيعى أن ينال المفطر فى هذه البلاد عقابا من أولئك الظالمين المفترين .
ثانيا : لمحة عن موقف الدين السنى الأرضى ممّن يفطر فى رمضان
1 ـ الله جل وعلا أنزل دينه على أساس التخفيف والتيسير ورفع الحرج وتشريع الرخص وقبول الأعذار كما يتجلى فى آيات التشريع فى الصيام . ولكن من يملكون الدين السنى أسسوا دينهم على التزمت والتعنت والغلو والتطرف والتعصب والتسلط . 
2 ـ بدأ الأمر فى العصر العباسى بتغليظ العقوبة على من يفطر فى رمضان ، فى مزايدة ممجوجة على شرع الرحمن جل وعلا . إن الله جل وعلا يوجب على من أفطر يوما أن يقضى يوما مثله . ولكن تبارى فقهاء الدين السُّنّى الذين يملكون دينهم السُّنّى فى المزايدة على رب العزة بطريقتين :
2 / 1 ـ فرض كفارة مغلظة على من أفطر بالجماع الجنسى ، فأوجبوا عليه القضاء مع الكفارة، وهي عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا عن كل يوم أفسد صيامه بالجماع الجنسى .
2 / 2 ــ المغالاة فى عقوبة من أفطر يوما واحدا فى رمضان . منهم من قال: ( لا يجزيه القضاء ولو صام الدهر كله، لأنه أفسد صيامه متعمدا من غير عذر فلا يكفيه أن يأتي بيوم مكان )، وبعضهم قام بتحويل هذا الإفك الى حديث زعم أن أبا هريرة رواه ، يقول : ( من أفطر يوم من رمضان عمداً لم يقضه صيام الدهر وإن صامه ) ، وروى آخرون نفس المعنى بطريقة أخرى فجعلوا الحديث يقول :( من أفطر يوما من رمضان متعمدا لم يجزه صيام الدهر،حتى يلقى الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه .) . وكان هناك من توسّط فقال أن من أفطر يوما من رمضان وجب عليه أن يصوم في قضائه اثني عشر يوما ، وقال آخر : يجب عليه أن يصوم شهرا، وقال آخر : يجب عليه أن يصوم ثلاثة آلاف يوم. ولا عجب.! . فهو دينهم السّنى الذى يملكونه ويملكون حق التشريع فيه . ووقتها كان الحنبلة يسيطرون على العصر العباسى الثانى ، وعلى العراق فدمروه. ولنا مقالات تؤرخ للحنبلية ( ام الوهابية ) وتدمير العراق فى العصر العباسى الثانى . 
3 ــ إختلف الأمر فى العصر المملوكى حيث تسيد التصوف وما يعنيه من انفلات أخلاقى ودينى وتهاون فى العبادات ومنها الصوم ، وقد تعرضنا لهذا فى الجزء الأول والجزء الثانى من كتاب ( اثر التصوف فى الحياة الدينية فى مصر المملوكية ). لم يكن هناك وقتها التسلط الحنبلى السنى الذى دمّر العصر العباسى الثانى ، فقد جاء التصوف بعدم الاعتراض بديلا عن الأمر بالمعروف وتغيير المنكر على الطريقة الحنبلية . لذا قام الفقهاء الحنابلة بصبّ جام غضبهم على من يفطر فى رمضان بإعلان كراهية المفطر وتكفيره ، فقال ابن تيمية :( من أفطر عامداً بغير عذرٍ كان تفويته لها من الكبائر.). وقال الذهبي في الكبائر: ( أَنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ أَنَّهُ شَرٌّ مِنْ الزَّانِي وَمُدْمِنِ الْخَمْرِ بَلْ يَشُكُّونَ فِي إسْلَامِهِ وَيَظُنُّونَ بِهِ الزَّنْدَقَةَ وَالْإِلْحَاد. )
4 ـ وفى عصرنا البائس سيطرت الوهابية بالنفوذ الأمريكى البترودولارى ، وتخصصت الشرطة الدينية فى المملكة السعودية فى الإكراه فى الدين ومطاردة الناس الآمنين فى الشوارع والحارات والأسواق والميادين . وبالنفوذ الوهابى ظهر فقهاء يمتلكون الدين الأرضى الجديد ، ويزايدون على من سبقهم من أئمتهم فى العصرين العباسى والمملوكى فأفتوا بضرب من يفطر فى رمضان . 
5 ـ قال هذا الشيخ محمد متولى الشعراوى فى كتابه الفتاوى،( الجزء الثالث ص 45 ) إذ أفتى بتعزير من يفطر جهرا فى رمضان ، وفسّر التعزير طبقا للدين السنى ـ هو التأديب بالضرب أو الشتم أو المقاطعة أو النفى . مع ملاحظة ان مصطلح التعزير فى الدين الاسلامى طبقا للقرآن الكريم هو : التكريم والإعزاز والمناصرة ، يقول جل وعلا : (وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمْ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمْ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ (12) المائدة )( فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (157) الاعراف) (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9) الفتح ) هذا ( التعزير ) فى دين الاسلام تحول معناه الى النقيض فى الدين السُّنّى دليلا على التناقض بينهما ليس فقط فى أُسُس التشريع بل أيضا فى ألفاظه ومصطلحاته ، ولمن يريد المزيد عليه بالرجوع لمقالنا عن ( التأويل )، وهو منشور هنا. .
6 ــ وسار فقهاء آخرون فى عصرنا البائس على طريقة ابن تيمية فى تحقير وتكفير من يفطر علنا ، فقالوا : ( ومن جاهر بالفطر في نهار رمضان، قاصداً أو مستهزئاً فيخشى أن يكفر بذلك، لأنه يستهزئ بركن من أركان الإسلام، ويجب على ولي الأمر منع المجاهر بالفطر، ويستحق عقوبة تعزيرية من القاضي، والعقوبة التعزيرية أية عقوبة يقدرها القاضي، وينبغي أن يكون هناك نص على حكم من أفطر في نهار رمضان بغير عذر وجاهر بالأكل أو الشرب أمام الناس.) أى تحريض للحاكم المستبد بإصدار عقوبات جديدة يكون فى يد الفقهاء الحكم بها وتنفيذها ليتسلطوا بهذا على الناس، ويشاركوا سيدهم المستبد فى سلطانه وتسلطه .
7 ــ ولقد سارت على الدين الوهابى السعودى دول أخرى ، فالكويت أصدرت القانون رقم 24 لعام 1986م بشأن المجاهرة بالإفطار في شهر رمضان الفضيل». وينص القانون في مادته الأولى على أن يعاقب بالغرامة التي لا تتجاوز مائة دينار «حوالي 350 دولارا» وبالحبس لمدة لا تتجاوز شهرا أو إحدى هاتين العقوبتين كل من جاهر بالإفطار في مكان عام في نهار رمضان، وكذلك كل من أجبر أو حرض أو ساعد على تلك المجاهرة، مع جواز إضافة عقوبة غلق المحل العام الذي استخدمه لهذا الغرض لمدة لا تتجاوز الشهرين. ولوزير الداخلية سلطة إصدار قرار بإغلاق ما يرى ضرورة إغلاقه من المحال في نهار رمضان؛ تحقيقا لأغراض هذا القانون ومعاقبة المسؤول عن إدارة المحل . ويتعرض المفطر فى رمضان للضرب المبرح فى افغانستان بدون الحاجة لقانون . وفي جزر القمر يتعرض المجاهر بالفطر لعقوبة السجن، وقررت الصومال، معاقبة المجاهرين بإفطارهم، حيث حذر اتحاد المحاكم الإسلامية في الصومال عام 2006م من المجاهرة بالإفطار في نهار رمضان، واتخذ إجراءات لمعاقبة المخالفين.
8ـ وفي مصر هناك مشروع قانون طرح على مجلس الشعب منذ عدة سنوات لمعاقبة المجاهرين بالإفطار،ينص على عقاب كل من يجاهر بالإفطار في نهار رمضان بالحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أيام، وغرامة لا تقل عن مائة جنيه، مع الحبس شهرا لمن يفتح مطعما، أو يسهل تناول الطعام جهارا في نهار هذا الشهر. ولكن مشروع القانون لم يشاهد النور حتى اليوم. مع تأييد الشيوخ له . 
وقامت حملة أمنية باعتقال المجاهرين بالإفطار في رمضان لأول مرة بمصر محاكاة للسعودية ، حدث هذا يوم الإثنين 17 رمضان 1430هـ - 07 سبتمبر 2009م. وفى محافظة أسوان ألقت الشرطة المصرية القبض على 150 مصرياً وأودعتهم السجن وحررت لهم محاضر جنحة الجهر بالافطار في نهار رمضان. وفي مدينة الغردقة على ساحل البحر الأحمر ألقت الشرطة المصرية القبض على العديد من المصريين خلال إفطارهم في نهار رمضان، وأغلق محافظ البحر الأحمر المقاهي والمطاعم في نهار رمضان علماً بأن هذه المحافظة من المحافظات السياحية. وألقت كذلك مباحث طلخا بمحافظة الدقهلية بدلتا مصر القبض على سبعة شباب يجاهرون بالافطار في نهار رمضان ويدخنون السجائر في الشارع العام، وحرّر لهم رئيس مباحث طلخا محضراً بالواقعة وتم عرضهم على النيابة التي أمرت بالافراج عنهم بكفالة 500 جنيه . كما لو أنه قد تم حلُّ كل مشاكل وأزمات مصر ، ولم يعد فى مصر سلب ولا نهب ولا فساد ولا قهر ولا تعذيب ولا فقراء جوعى يأكلون من القمامة والنفايات . أصبحت مصر فى نقاء سويسرا ، ولم يبق فى مصر سوى أزمة بعض المفطرين فى رمضان ، والذين يٌسبب إفطارهم خطرا داهما على النظام وتكديرا للأمن العام وتهديدا للسلم الاجتماعى والوحدة الوطنية ..والوحدة العربية ..!!. وعلى رأى المتنبى 
وكم ذا بمصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكا
ولم تتخلف الإفتاء المصرية عن هذا التخلف. اصدرت بيانا تم نشره فى 19 رمضـان 1433 هـ 7 اغسطس 2012 يتهم المجاهر بالإفطار في نهار رمضان بأنه ( مستهتر وعابث بشعيرة عامة من شعائر المسلمين»، وبينما طالبت «الإفتاء» ولي الأمر في مصر باتخاذ ما يلزم لمنع المجاهرين من الإفطار في الأماكن العامة والشوارع، وتبارى شيوخ أزهريون فى تحريض العسكر على إصدار قوانين تعاقب من يفطر فى رمضان بغير عذر ، أى تتفرغ الحومة المصرية ـ المثقلة بالمشاكل والعاجزة عن حلها أصلا ـ للقبض على المفطرين والتحقيق معهم هل إفطارهم بعذر أم لا ، وإثبات هذا العذر بالطب أو بالقرائن ، وبالتفتيش على مكنون الصدور ..

وثانيا وعلى رأى المتنبى 
وكم ذا بمصر من المضحكات     ولكنه ضحك كالبكا
أخيرا 
الى متى يظل أعداء الله جل وعلا يشوهون دين الله جل وعلا ويزايدون على شرع الله جل وعلا ؟

( رمضان والصيام بين الاسلام والدين السنى ) دراسة أصولية تاريخية
كما يبدو من عنوانه فهذا الكتاب يوضح التناقض أصوليا بين الصيام فى الاسلام والدين السُّنى ، ويعطى الجذور التاريخية لهذا التناقض مع باب كامل عن رمضان فى التاريخ .
more