رقم ( 6 )
ب 3 ف 1

ب 3 / ف 1 / ج 1 : رمضان بين سطور التاريخ : الجزء الأول (أربع مقالات )

 كتاب ( رمضان والصيام بين الاسلام والدين السنى ) دراسة أصولية تاريخية

الباب الثالث : لمحة عن رمضان فى التاريخ  

مقالات متعلقة :

الفصل الأول : رمضان بين سطور التاريخ : الجزء الأول ( أربع مقالات )

المقال الأول :

غرائب وقعت في رمضان

  

1 ـ  في رمضان 787هـ حدث في القاهرة أمر غريب، ولدت إمرأة طفلة لها رأسان كاملان على صدر واحد ويدين ومن تحت السرة تنقسم إلى شكل نصفين في كل نصف ساقان كاملتان، وماتت ولم تعش .. ولو عاشت لشهد العصر المملوكي نموذجاً للتوأم السيامي قبل أن يعرف العالم أين تقع سيام .

 2 ـ والحوليات التاريخية كانت تسجل الغريب من أحداث الشارع الشعبي ،كأنما كان المؤرخون يشترطون على الفرد العادي أن يأتي بالشيء المستغرب حتى يستحق شرف التسجيل مع كبار رجالات العصر. وإن لم يكن بمقدور الشخص العادي أن يفرض نفسه على صفحات التاريخ فإن غرائب الطبيعة أرغمت المؤرخين على أن يحولوا بصرهم عن السلطان وحاشيته ويلتفتوا حولهم يسجلون أخبار ثورات الطبيعة من سيول وأمطار وعواصف وأوبئة وظواهر بلا تفسير .

ونلتقط بعضها مما حدث في رمضان :
  في 24رمضان 707هـ ذكر المؤرخ ابن كثير أن مطراً قوياً شديداً وقع بالشام في أيامه وذكر أن الناس كانوا مشتاقين للمطر منذ مدة ، فاستبشروا بذلك خيراً ورخصت الأسعار،ولم يتمكن الناس من الخروج للصلاة من كثرة المطر.   
 ونفس الحال تقريباً حدث في القاهرة في أيام المقريزي وسجله في أحداث رمضان 838هـ في سلطنة الأشرف برسباي حيث وقع مطر غزير ودلفت المياة إلى سقف البيوت وسالت المياة من جبل المقطم سيلاً عظيماً وظل الماء في الصحراء عدة أيام ،" ويقول المقريزي "وهذا مما يندر وقوعه بأرض مصر" وصدق في هذا. 
ومن المطر إلى العاصفة الشديدة التي هبت على القاهرة ليلة الجمعة 5رمضان 770هـ تلك العاصفة التي أسقطت الزروع والنخيل وأعالي البيوت في القاهرة وأغرقت عدداً من السفن ، وتسبب عنها موت جماعة من الناس تحت البيوت التي تهدمت.. يقول المقريزي "وكان أمراً مهولاً عامة تلك الليلة  ". "
 وكل ذلك مفهوم ويحدث ولكن غير المفهوم هو تلك الواقعة الغريبة التي يذكرها المقريزي في حوادث رمضان807هـ يقول "وفي هذا الشهر ظهر في بر الجيزةعلى شاطئ النيل وفي النيل وفي مزارع القليوبية شبه نيران كأنها مشاعل وفتايل سرج تقد ، ونار تشتعل فكان يرى من ذلك عدد كبير جداً مدة ليالٍ متوالية ، ثم اختفى.".  أي كانت هناك نار تظهر غامضة على شكل مشاعل ومصابيح موقدة ولهيب مشتعل وفي أعداد كبيرة لمدة ليالٍ متتابعة ثم اختفى كل ذلك . ولو حدث ذلك في عصرنا لكتبت عنه وكالات الأنباء ، ولتحدث عن ذلك المغرمون باخبار الأطباق الطائرة وأهل الكواكب الأخرى . ويظل هذا الخبر الذي حدث في رمضان 807هـ أحد الأخبار الغامضة التي رآها وسجلتها الحوليات التاريخية مثل الأجرام السماوية التي كانت تمر على مرأى العين وربما كان منها مذنب هالي ، وكانوا يطلقون عليها لفظ النجوم أو الكواكب ، ولعل المغرمين بأخبار الأطباق الطائرة يعتقدون أنها لا تختلف عن الأطباق الأخرى التي رصدتها كتب السابقين .. علم ذلك عند الله وحده. 
 وفي يوم الإثنين 27 رمضان 738هـ وفي سلطنة الناصر محمد بن قلاوون حدثت سلسلة من الغرائب كان اجتماعها معاً سلسلة من الغرابة في حد ذاتها :  ..
يقول المقريزي " أنه في ذلك اليوم هبت ريح سوداء معتمة بناحية الغربية ــ وسط الدلتا ــ وأظلم الجو وسقطت دور كثيرة ثم سقط من السماء قطع سوداء طعمها مُرّ جاءت به الريح من نحو البحر حتى ملأت تلك القطع الطرقات ، وكان بعضها يزن قدر بيضة النعامة وبعضها أقل من ذلك ، وكان الزرع قد قارب الحصاد فلما وقعت تلك القطع الغامضة على الزرع أهلكته وأهلكت معه أغناماً كثيرة ، بل وأسقطت شجرة جميز ضخمة سقطت في نصفها احدى تلك القطع فشطرتها نصفين ، كما لو كانت منشاراً ، وسقطت إحدى تلك القطع على ظهر بقرة فشقتها نصفين ، واتلفت تلك "القنابل المجهولة" زروع ثمانية وعشرين بلداً فجمع الفلاحون زرعها وجاءوا به للسلطان الناصر محمد فأمر والي الغربية أن يكشف تلك النواحي وما حدث فيها ويسقط عنها الخراج .

وجاء الخبر من قوص بأن السماء إحمرت في شهر رمضان هذا حتى ظهرت النجوم متلونة فكانت تحمر ساعة وتسود ساعة وتبيض ساعة إلى ان طلع الفجر فجاء مطر لم يعهد مثله في تلك البلاد .  وجاء الخبر أيضاً بأن أسوان شهدت ريحاً هائلة هدمت عامة البيوت وكثيراً من النخل وهبت ريح أخرى في نواحي ( قنا ) فأسقطت ألفين وخمسمائة نخلة مثمرة، وقدم بذلك محضر بيد القاضي فيها .

وجاء الخبر من منفلوط بأن الفئران تكاثرت فيها فحصدت الزرع حصداً وأتلفت جرون الغلال بحيث كان يذهب ربع الجرن في ليلة واحدة ، فصار الناس يبيتون بالمشاعل طول الليل . وهم يقتلون الفئران ثم يتولى أمر النهار طائفة أخرون  لا يفترون عن قتلهم ، ثم يحمل ما قتل منه في الشباك كل يوم نحو مائة حمل . وشوهد منه عجب وهو أن جمعاً عظيما من فئران بيض خرجوا حتى ملأوا الأرض فخرج مقابلهم فئران سود واصطفوا صفين في أرض مساحتها فدانان ثم تصايحوا وحمل بعضهم على بعض واقتتلوا ساعة وانكسرت الفئران السود وتبعتهم البيض يقتلونهم حتى مزقوهم في تلك الأراضي ، وكان ذلك بمحضر عالم كبير من الناس ، فكتب بذلك إلى السلطان والأمراء فنقص خراج السلطان بناحية منفلوط ستين ألف أردب فول بسبب الفئران . هذا ما يذكره المقريزي. وهو إن كان يبالغ فيما يقول فهي غريبة ، وإن كان صادقاً فذلك أغرب .   
 

المقال الثانى

 بعض أعمال للخير فى رمضان .. زمان

  أولا :
موائد الرحمن يقيمها وزير الخليفة المقتدر بالله العباسى
سنة 306 هـ أصدر الخليفة المقتدر بالله مرسوماً بتعيين حامد بن العباس وزيراً ، وكان حامد مشهوراً بالثراء وبالكرم ، وكان يتفنن في الإنفاق في رمضان، حتى أنه كان يقيم ولائم للناس في داره ويجعلها عامة لكل من أراد الدخول، وكان عدد الموائد يبلغ أحياناً أربعين مائدة ، وقد غضب على القائمين على الموائد حين رأى قشراً في مخلفات الطعام فظن أن ضيوفه يأكلون البقول دون اللحوم، وهدأ غضبه حين تأكد أن الضيوف عنده يأكلون أطيب الطعام ويحملون الفائض إلى بيوتهم .

وحدث وهو يتفقد الآكلين في تلك الموائد الرمضانية أن وقفت له امرأة وشكت له الفقر، فكتب لها ورقة بمائتي دينار ، فلما ذهبت للصراف لتصرفها استنكر الصراف كلمة دينار وذهب للوزير وعرض عليه الورقة، فضحك الوزير وقال : " والله ما كان في نفسي إلا أن أعطيها مائتي درهم ولكن شاء الله أن كتبت دينار مكان درهم، فأعطها المكتوب كما هو "!. 
وفي اليوم التالي كان عند الإفطار يتفقد الضيوف على عادته فوقف له رجلاً وشكا له أنه زوج تلك المرأة وأنها أصبحت تتغطرس عليه وتطلب منه الطلاق بعد أن أعطاها الوزير مائتي دينار، وطلب الزوج من الوزير أن يجعلها تكف عنه، فضحك الوزير وأمر له بمائتي دينار وقال له : " قد صار لك الآن مثل مالها فلن تتغطرس عليك ولن تطالبك بالطلاق." 
ثانيا : فى العصر المملوكى 
كثيراً ما كان رمضان ينجح في إلانة القلوب المتحجرة للحكام الظلمة ، وما كان أقسى قلوب المماليك والعسكر عموما عندما يحكمون . ولكن رمضان كان ينجح أحيانا فى أن يدفع بعض المماليك إلى عمل الخير بالإفراج عن المساجين والبر بالمساكين ، ويأتي المؤرخون فيبتهجون بذلك العطف السامي والكرم النادر ويسارعون بتسجيله في الحوليات التاريخية ، مع بقية الأحداث الأخرى التي تعطينا فكرة عن الواقع الحقيقي الذي جعل ذلك الحاكم الظالم يفعل الخير .
  الأمير الكبير برقوق قبيل أن يعلن نفسه سلطاناً ــ أمر بالإفراج عن المساجين بسجن الديلم وسجن الرحبة ــ وكان من بين المساجين من هو محبوس على ديون فسددها عنهم ،وكان ذلك في رمضان 874هـ ، وبعدها أعلن نفسه سلطاناً يوم الأربعاء 19رمضان 874هـ إذن كان السبب هو تهيئة الجو له ليتقبله الناس سلطاناً وينهي حكم أسرة قلاوون .   
ولاقى السلطان برقوق عنتاً من إختلاف الأمراء عليه فعاد في رمضان التالي 785هـ يسدد ديون المسجونين في سجن القضاء ويوفّي عنهم ديونهم على يد الأمير جركس الخليل، وبذلك أفرج عنهم .
 وحدثت محنة للأمير شيخ وهو أمير فى دمشق على الشام التابع وقتها للدولة المملوكية ــ وكان ذلك قبل أن يصير الأمير شيخ سلطاناً للدولة المملوكية. لذا بعد أن جاءه الفرج خرج من منزله بدار السعادة ماشياً إلى جامع بني أمية ، وهو حافٍ بلا حذاء متواضع لربه تعالى ، حتى دخل الجامع وتصدق باقراص محشوة بالسكر فأطعم الفقراء والقراء ــ أي الطلبة ــ وسدد ديون المحبوسين المعسرين عن السداد وذلك في ليلة 21رمضان 811هـ. 
 وتسلطن الأمير شيخ تحت لقب المؤيد شيخ ،وكانت لديه نزعة خير تظهر أحياناً خصوصاً في رمضان، وكانت خزانة شمايل من أسوأ السجون المملوكية ، وقد تم هدمها ، ولكن أقيم بعدها سجن ضيق قاسى فيه المساجين غماً وكرباً بسبب ضيق مساحته وكثرة عددهم ، فاختار لهم قصر الحجازية ليكون سجناً واستأجره من صاحبه بعشرة الآف درهم لمدة سنتين وأعده ليكون سجناً . ثم أهمل الموضوع ، وكان ذلك في رمضان سنة 820هـ . 
  أما السلطان الأشرف برسباي فقد أصابه المرض الذي مات فيه، وأثناء هذا المرض في رمضان 841هـ أصدر السلطان قراراً بالإفراج عن جميع المساجين وأمر بغلق السجون كلها وألا يسجن أحدُ ، فأغلقت السجون . ولكن ترتب على ذلك كما يقول المقريزي "انتشار اللصوص والمجرمين والمفسدين في البلاد ، وامتنع من عليه أموال أن يسددها لأصحابها لأن السلطان اطلق المحبوسين الذين كانت عليهم ديون، ومنع أن يحبس أحد بسبب ما عليه من دين ."
 وفي يوم الخميس 22رمضان 875هـ أصدر الأمير الكبير يشبك ــ الرجل الثاني في عهد السلطان قايتباي ــ قراراً باطلاق سراح الفلاحين المحبوسين بسبب ما عليهم من ديون واطلاق سراح من صودرت أمواله ودخل السجن ، وبذلك القرار تم الإفراج عن مائة وسبعين مسجوناً ، ودفع الأمير يشبك ما عليهم من ديون للدولة , والسبب في ذلك الكرم المفاجئ الذي انتاب الأمير يشبك المشهور بقسوته وظلمه ،أنه كان على وشك السفر في حملة عسكرية لتأديب شاه سوار الثائر على الدولة المملوكية في العراق ،وقد قصد الأمير يشبك أن يتقرب إلى الله تعالى بهذا البر في رمضان حتى يمن الله عليه بالنصر ، وحدث أن لقي ذلك الأمير حتفه في تلك الحملة.  ولا تزال القبّة التى بناها فى الميدان المسمى فى القاهرة ب " ميدان القبة ".
 وأصاب الفقراء والمساكين خير كثير في رمضان من نوبات الكرم التي كانت تصيب المماليك ، فالأمير بيدرا مرض حتى أوشك على الموت وقيل أنه شرب السم ثم عوفي في رمضان سنة 691هـ فتصدق بصدقات جمة ورد أملاكاً كان قد اغتصبها من أصحابها، وأطلق كثيراً من المسجونين في سجونه وجمع الناس في 10رمضان بجامع بني أمية في دمشق وعملا حفلاً لختم القرآن وزع فيه الصدقات .
 وفي الشام أيضاً كان الأمير هو (شيخ) الذي ارتبط بالشوام فترة طويلة وحدث أن جاء غلاء ضخم في رمضان 808هـ في سلطنة فرج بن برقوق حين كان شيخ نائباً للسلطان في دمشق ، فقام الأمير شيخ بجمع الفقراء وتفريقهم على الأغنياء ليقوموا باطعامهم ، واختص نفسه بعدد كبير منهم يقوم على اطعامهم بنفسه ، وحدثت مأساة في بعض الليالي إذ تكاثر الفقراء لأخذ الطعام فمات في الزحام أربعة عشرشخصاً..!! ولك أن تتخيل عدد الفقراء وقتها.
 وتولى شيخ السلطنة في القاهرة ولم يشهد صلاة الجمعة في أول رمضان 819هـ بسبب مرضه ، وحتى يشفيه الله تعالى فأنه فرق مبلغاً من المال في الخانقاه التي أنشأها ــ وهي الخانقاه المؤيدية ــ وجهز عدة أبقار فذبحت في مواضع متعددة، وفرق لحمها، وكانت تلك عادة للظاهر برقوق من قبل .
 وأثناء توليه السلطنة زار المؤيد شيخ الشام الذي عاش فيه أميراً سنين طويلة وتصادف أن كان ذلك يوم الجمعة 25 رمضان 820هـ فزار بيت المقدس وفرق في أهله مالاً جزيلاً وصلى الجمعة وجلس بالمسجد ، وقرأ الفقهاء صحيح البخاري ـ كتابهم المقدس ـ بين يديه ، وقام المداحون بعدهم ينشدون، فانتشى السلطان وأنعم عليهم بالأموال ، ثم ذهب الى مدينة الخليل حيث زار مشهد أو ضريح ابراهيم الخليل وتصدق هناك .. مع أن المعروف أن ذلك الضريح مزور ، أقيم للاسترزاق .
وبويع الأمير ططر سلطاناً للدولة المملوكية ، وكان وقتها في دمشق وذلك في يوم الإثنين 17رمضان 824هـ . واستبشاراً بتوليه السلطة وتقرباً للناس وقبل ان يرتحل الى القاهرة عاصمة الدولة المملوكية أصدر السلطان الجديد (الظاهر ططر ) قرارات للتخفيف عن أهل الشام ،منها أن المحتسب كان يجمع لوالي دمشق 1500 ديناراً يجمعها من الناس ظلماً فأمر ططر بإعطاء الوالي ضيعة في نظير أن يستغني عن ذلك المال الذي يجمعه له المحتسب ، وأذاع بياناً في دمشق يقول فيه : إن طلب منكم المحتسب يا أهل دمشق شيئاً فارجموه.. ونقش هذه الحادثة على حجر في المسجد الأموي .. وأثناء عودته لمصر وفي طريقه للقدس عرف أن والي القدس يأخذ ضريبة سنوية من الفلاحين قدرها أربعة آلاف دينار زيادة عما هو مقرر فأمر بتعويض الوالي عن هذه الضريبة وأبطلها ، ونقش ذلك على حجر بالمسجد الأقصى .. وفعل كل ذلك الخير في رمضان 824هـ.
وحدث ما أراده السلطان إذ استبشر الناس بولايته خيراً. 
وأخيرا 
ولا تزال نوبات الخير تؤثر أحيانا فى الحكام المستبدين خلال شهر رمضان .. حتى لو كان أولئك المستبدون من العسكر..وانظر الى ما يفعلونه أحيانا فى شهر رمضان بدءا من الفوازير إلى اطعام الناس لحوم الحمير .!!

  
 المقال الثالث : 

نطلب رأى الصائمين فى هذه الحكاية

هذه حادثة لا أستطيع تصديقها أو تكذيبها ، ولم تحدث فى رمضان ، ولكنها أقرب ما تكون الى رمضان بما فيها من شفافية وصوم .  .
الحادثة رواها ابن الجوزى فى تاريخه ( المنتظم : ج 11 : 151 ـ ) فى احداث عام 230 
وبطلتها زوجة كانت تعيش فى قرية فى منطقة خوارزم أواسط آسيا مما يطلق عليه اليوم افغانستان ، قتل الأتراك زوجها وعانت من الجوع فرأت نفسها فى منام حيث قابلت زوجها وأطعمها فى المنام ، واستيقظت ، وظلت بعدها تعيش دون جوع ، ودون أن تأكل ، ودون أن تضطر للاخراج من بول وغيره . واشتهر أمرها فى المنطقة وامتحنوا أمرها فتيقنوا من صدقها .. ننقل الرواية كما هى .. ونطلب رأى الصائمين .

يقول ابن الجوزى : ( ثم دخلت سنة ثلاثين ومائتين ... ... وظهر في هذه السنة في بعض قرى خوارزم عجب من امرأة رأت منامًا فكانت لا تأكل ولا تشرب ، وقد ذكر قصتها أبو عبد الله الحاكم في تاريخ نيسابور ‏. أخبرنا زاهر بن طاهر قال‏:‏ أخبرنا أبو بكر البيهقي أخبرنا الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري قال‏:‏ سمعت أبا زكريا يحيى بن محمد العنبري يقول‏:‏ سمعت أبا العباس عيسى بن محمد المروزي يقول‏:‏
وردت في سنة ثمان وثلاثين مدينة من مدائن خوارزم تدعى هزارسف ، فأخبرت أن بها امرأة من نساء الشهداء رأت رؤيا‏:‏ كأنها أطعمت في منامها شيئًا فهي لا تأكل ولا تشرب منذ عهد عبد الله بن طاهر والي خراسان ـ وكان قد توفي قبل ذلك بثماني سنين ـ فمررت بها وحدثتني حديثها فلم أستعص عليها لحداثة سني ، ثم إني عدت إلى خوارزم في آخر سنة اثنين وخمسين ومائتين فرأيتها باقية ، ووجدت حديثها شائعًا مستفيضًا ، فطلبتها فوجدتها غائبة على عدة فراسخ ، فمضيت في أثرها ، فأدركتها بين قريتين تمشي مشية قوية ، وإذا هي امرأة نصف جيدة القامة حسنة البنية ظاهرة الدم متوردة الخدين ، فسايرتني وأنا راكب وعرضت عليها الركوب فلم تركب . وحضر مجلسي أقوام فسألتهم عنها فأحسنوا القول فيها ، وقالوا‏:‏ أمرها عندنا ظاهر فليس فينا من يختلف فيها . وذكر لي بعضهم أنهم لم يعثروا منها على كذب ولا حيلة في التلبيس ، وأنه قد كان من يلي خوارزم من العمال يحضرونها ويوكلون بها من يراعيها فلا يرونها تأكل شيئًا ولا تشرب ولا يجدون لها أثر غائط ولا بول ، فيبرونها ويكسونها . فلما تواطأ أهل الناحية على تصديقها سألتها عن اسمها فقالت‏:‏ رحمة بنت إبراهيم ، وذكرت أنه كان لها زوج نجار فقير يأتيه رزقه يومًا بيوم ، وأنها ولدت منه عدة أولاد ، وأن ملك الترك عبر على النهر إليهم ، وقتل من المسلمين خلقًا كثيرًا . قالت‏:‏ ووضع زوجي بين يدي قتيلًا فأدركني الجزع ، وجاء الجيران يساعدونني على البكاء ، وجاء الأطفال يطلبون الخبز وليس عندي شيء، فصليت وتضرعت إلى الله تعالى أسأله الصبر وأن يجبر بهم ، فذهب بي النوم في سجودي ، فرأيت في منامي كأني في أرض خشناء ذات حجارة وشوك وأنا أهيم فيها وألزم خبري أطلب زوجي ، فناداني رجل‏:‏ إلى أين أيتها الحرة ؟ قلت‏:‏ أطلب زوجي. قال‏:‏ خذي ذات اليمين . فأخذت ذات اليمين ، فوقفت على أرض سهلة طيبة الثرى ظاهرة العشب ، فإذا قصور وأبنية لا أحسن وصفها ، وإذا أنهار تجري على وجه الأرض من غير أخاديد ، وانتهيت إلى قوم جلوس حلقًا حلقًا ، عليهم ثياب خضر ، قد علاهم النور ، فإذا هم القوم الذين قتلوا في المعركة ، يأكلون على موائد بين أيديهم ، فجعلت أتخللهم وأتصفح وجوههم أبغي زوجي، لكنه بصرني فناداني‏:‏ يا رحمة يا رحمة، فتحققت الصوت ، فإذا أنا به في مثل حالة من رأيت من الشهداء ، وجهه مثل القمر ليلة البدر وهو يأكل مع رفقة له قتلوا يومئذ معه. فقال لأصحابه‏:‏ إن هذه البائسة جائعة منذ اليوم أفتأذنون لي أن أناولها شيئًا تأكله؟ فأذنوا له ، فناولني كسرة خبز ، وأنا أعلم حينئذ أنه خبز ولكن لا أدري كأي خبز هو‏!‏ أشد بياضًا من الثلج واللبن وأحلى من العسل والسكر وألين من الزبد والسمن، فأكلته فلما استقر في معدتي قال‏:‏ اذهبي فقد كفاك الله مؤونة الطعام والشراب ما بقيت في الدنيا ، فانتبهت من نومي وأنا شبعى ريًا لا أحتاج إلى طعام وشراب ، وما ذقته منذ ذلك اليوم إلى يومي هذا ، ولا شيئًا مما يأكله الناس ‏.‏
قال أبو العباس‏:‏ وكنا نأكل فتتنحى وتأخذ على أنفها تزعم أنها تتأذى برائحة الطعام ، فسألتها‏:‏ هل تتغذى بشيء غير الخبز أو تشرب شيئًا غير الماء فقالت‏:‏ لا . فسألتها‏:‏ هل يخرج منها ريح قالت‏:‏ لا . أو أذى ؟ قالت‏:‏ لا . قلت‏:‏ فالحيض ؟ أظنها قالت‏:‏ انقطع بانقطاع الطعم .قلت‏:‏ فهل تحتاجين حاجة النساء إلى الرجال؟ قالت‏:‏ لا . قلت‏:‏ فتنامين ؟ قالت‏:‏ نعم أطيب نوم . قلت‏:‏ فما ترين في منامك ؟ قالت‏:‏ ما ترون . قلت‏:‏ فهل يدركك اللغوب والإعياء إذا مشيت قالت‏:‏ نعم ‏. وذكرت لي أن بطنها لاصقة بظهرها ، فأمرت امرأة من نسائنا فنظرت فإذا بطنها لاصقة بظهرها ، وإذا هي قد اتخذت كيسًا فضمنته قطنًا وشدته على بطنها ليستقيم ظهرها إذا مشيت . فأجرينا ذكرها لأبي العباس أحمد بن محمد بن طلحة بن طاهر والي خوارزم فأنكر ، وأشخصها إليه ، ووكل أمه بها ، فبقيت عنده نحوًا من شهرين في بيت فلم يروها تأكل ولا تشرب ولا رأوا لها أثر من يأكل ويشرب ، فكثر تعجبه، وقال‏:‏ لا تنكر لله قدرة . وبرّها وصرفها ، فلم يأت عليها إلا القليل حتى ماتت رحمها الله ‏.) . انتهى..
ما رايكم ؟ دام فضلكم ؟ وتقبل الله جل وعلا صومكم ؟

 

المقال الرابع :    

دجال يخدع السلطان

 في يوم الخميس 17 رمضان قدم مصر الشيخ يوسف الكيماوى في سلطنة الناصر محمد بن قلاوون سنة 730هـ ، وسبقته شهرته لمصر وللسلطان . في ذلك الوقت كانت الكيمياء تعني المقدرة على تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب عن طريق الكرامات أو القوة النفسية ، أي كانت طريقة للتحايل على الناس ، ولكنها كانت تتمتع بتصديق الناس لأنها ارتبطت بالكرامات في عصر كان يعتقد في الكرامات وأساطير المعجزات والخوارق التي يدعيها محترفو المشيخة ، وكان منهم صاحبنا الشيخ يوسف الكيماوي الذي اكتسب لقبه من حرفته الكيمياء .  
 يقول المقريزي عن هذا الرجل أنه كان نصرانياً من الكرك ــ الأردن ــ فأسلم ، ثم مضى إلى صفد ، وقابل أميرها بهادر وأظهر له التقوى ، فاعتقد فيه الأمير بهادر وصدق دعاويه ، وأنفق عليه أمواله على أمل أن يقلب له المعادن ذهبا حقيقيا ، فلما يأس منه بعد مدة عرف حقيقته فأدخله السجن وبعدها أطلقه. وخرج يوسف الكيماوى إلى دمشق وعرض على أميرها بضاعته ، ولكن الأمير تنكز نائب السلطان في الشام وواليه على دمشق كان لديه علم بذلك الدجال فأمر بشنقه فصاح يوسف قائلاً " أنا جيت للسلطان حتى أملأ خزائنه ذهباً وفضة". وعنئذٍ خاف الأمير تنكز أن يشنقه فيتهمه أعداؤه بأنه أضاع على السلطان فرصة كان يمكن أن تنجح ، لذا اضطر إلى إرساله إلى السلطان في القاهرة مع البريد ومعه بعض الثقات من أتباعه ورسالة فيها التحذير للسلطان من ألاعيب ذلك الرجل ودهائه . 
  ولما وصل الشيخ يوسف للسلطان الناصر محمد استمع إليه وأصغى إليه ، وفى ذلك الوقت كان الناصر محمد واقعاً تحت تأثير التصوف ورجاله بعد أن انقلب على صديقه السابق الإمام ابن تيمية وسجنه ، وبعد أن اصطلح مع الصوفية وأنشأ لهم خانقاه سعيد السعداء ، وأعطى أذنه لأشياخ الصوفية يلقون فيها بأساطير الكرامات ، ومن هنا كان سهلاً أن ينخدع السلطان بأقاويل الشيخ يوسف الكيماوى ويعرض عن تحذيرات الأمير تنكز نائبه في الشام .  وسرعان ما أخذ الشيخ يوسف وضعه كما يحلو له عند السلطان الناصر محمد فأنزله السلطان عند الأمير بكتمر الساقى ، وأجرى عليه الأموال والرواتب ، وأقام عنده الخدم يتولون أمره ، وألبسه التشريفة ، وأحضر له كل ما يريد لكى يباشر مهمته في تحضير الذهب من المعادن الرخيصة، وانتظر السلطان النتيجة .  .
 وفى الموعد المحدد حضر يوسف بين يدى السلطان الناصر محمد ، ليعرض عليه ما توصل إليه ، وكان في المجلس أعيان الدولة ومنهم ناظر الجيش وتاج الدين إسحاق وابن هلال الدولة والأمير بكتمر الساقى وعدد من الأمراء والشيخ ابراهيم الصائغ كبير الصاغة وعدد من الصاغة. فأوقدت النار على بوتقة قد ملئت بالنحاس والقصدير والفضة حتى ذاب الجميع فألقى عليه الشيخ يوسف شيئاً من صنعته وأوقدوا عليها النار ساعة ، ثم أفرغوا ما فيها فإذا سبيكة ذهب أجود ما يكون زنتها ألف مثقال، فأعجب السلطان ذلك كثيراً وأنعم على الشيخ يوسف بهذه السبيكة، وألبسه التشريفة للمرة الثانية وأركبه فرساً مسرجاً بالحرير وبالغ في إكرامه وحقق له ما يريد . واتصل بيوسف الكيماوى الخدم وقدموا له أشياء كثيرة فاستخف عقولهم حتى ملكها وأكل أموالهم ، ثم سبك يوسف للسلطان سبيكة ثانية من الذهب فكاد يطير به فرحاً وصار يستحضره بالليل ويحادثه فيزداد محبة فيه فأذن له أن يركب الخيول السلطانية ويمضي حيث شاء بالقاهرة ، فركب وأقبل على اللهو ، واتى إليه عدة من الناس يعطونه أموالهم ليعلمهم صناعة الكيمياء أو تحويل المعادن إلى ذهب ، وعاش أجمل أيامه، ثم سأل السلطان أن يأذن له بالعودة إلى موطنه بالأردن لإحضار نبات هناك فأركبه السلطان خيل البريد وأرسل معه الأمير طقطاي مقدم البريدية وكتب إلى نائب غزة ونائب الكرك بخدمته وقضاء جميع حوائجه من ديوان الخاص (أى ديوان السلطان) فمضى يوسف إلى الأردن واختفى وانقطع خبره . بحث السلطان عنه حتى وجدوه وقد ظهر للسلطان كذبه فأودعه في السجن .  
 وفي رمضان( أيضاً ) في العام التالي سنة 731هـ هرب يوسف الكيماوي من السجن ، فنودى عليه بالقاهرة ومصر ، وصدرت الأوامر على البريد لولاة الأقاليم بالقبض عليه . وفي شهر ذي الحجة 731هـ قبض عليه في مدينة أخميم بالصعيد ، وحمل مقيداً في الحديد إلى قلعة الجبل ، فوصلها في 24 ذي الحجة وسأله السلطان عن المال فقال إنه ضاع منه، فسأله السلطان عن الكيمياء فقال: كل ما كنت أفعله إنما هو خفة يد .!! فعوقب بالضرب الشديد، ثم اعتقل بخزانة شمائل .  ومات ليلة الأحد 25 ذي الحجة، وطيف بجثته بالقاهرة يوم الأحد.  وما أغنى عنه ماله وما كسب .. وكل عام وانتم بخير.

تنويه مع الاعتذار     
بعد تركى جامعة الأزهرسنة 1987 وغلق كل ابواب الرزق فى وجهى عانيت اشد سنوات الضنك والفقر الشديد فيا بين 1989 – 1995 فالتفت الى موهبتى فى كتابة السيناريو لأتعيش منها كمورد رزق وامل يبدد الكآبة والاحباط من حولى ، فعكفت على اتمام مشروع " تحويل التراث الاسلامى الى دراما "وكان قد اكتمل لدى العلم بكل دقائق تاريخ المسلمين وتفصيلاته الدينية والعقيدية والعقلية واللغوية والحضارية .
بدأت ببحث التاريخ المجهول للشخصيات عير المعروفة فى تاريخ المسلمين كنوع من أنواع التحدى لمهنتى كباحث تاريخى ومفكر اسلامى ، ثم قمت بتحويل تلك الأبحاث الى قصص تاريخية بدأتها بالشخصيات النسائية ، وكنت املأ الفجوات التاريخية بابداعى الأدبى والفنى أى باختراع أحداث وشخصيات مستعينا بفهمى لأحداث العصر التاريخى وشخصياته وثقافته وعقلياته وعاداته فى الملبس والحديث والتصرفات الاجتماعية. ونشرت هذه السلسلة من القصص التراثية تحت عنوان " نساء بين سطور التاريخ " نشرتها مجلة "حواء" ثم مجلة " سطور " واتسعت الحلقات التالية المنشورة فى "سطور" لتشمل قصصا عن الشخصيات التاريخية المغمورة من الرجال من المستوى الثانى والثالث فى الأهمية . وقمت بعدها بتحويل العديد من تلك القصص التاريخية الى سيناريوهات كاملة تحت اسم " مشروع تحويل التراث الاسلامى الى دراما " والى الآن لم أجد من ينتجه ليخرج للنور. 
من أوراقى فى مشروع تحويل التراث الى دراما ذلك الملخص التاريخى عن الشيخ يوسف الكيماوى الذى خدع السلطان المملوكى الناصر محمد .  اعداد ملخص تاريخى هى المرحلة الأولى (البحثية ) ثم كانت المرحلة الثانية وهى تحويل الأحداث التاريخية الى قصة ، ثم المرحلة الأخيرة تحويلها الى سيناريو . أقول هذا حتى لا يسطو بعضهم على هذه القصة التاريخية ويحولها الى سيناريو. فلم يكن سهلا البحث بين سطور التاريخ المملوكى و مخطوطاته للعثور على هذه الحكاية الواقعية . ولذا فاننى احتفظ بحقى فى تحويلها الى عملا درامى .  اقول هذا حتى لا أجد حرجا من نشر كل قصصى التاريخية على اساس احتفاظى بكل الحقوق كمؤلف . أما الكتابات الاسلامية والقرآنية فهى مباحة مجانا للنشر لكل من أراد.   

التعليقات

حمد حمد

خرافة علامات ليلة القدر.

 دكتور أحمد جزاك الله خيرا بالدنيا والآخره وبارك بعلمك وعمرك

 في سؤال هل هناك ضواهر تم ربطها بليلة القدر كما يزعم بعض الدجالين سنويا ويصدقها الجهله و أن لها علامات اي هل هي من خرافات سابقه أم هي حديثه تلك الخرافه .

أحمد صبحى منصور.

 جزاك الله جل وعلا خيرا استاذ حمد ، واقول : 

لنا كتاب عن ليلة القدر هى ليلة الاسراء ، ولم نتعرض فيه لما كان يحدث فى ليلة القدر فى التاريخ . هذا حسب ما أتذكر. 

 

 

ب 3 / ف 1 / ج 2 : رمضان بين سطور التاريخ : ( أربع مقالات )

كتاب ( رمضان والصيام بين الاسلام والدين السنى ) دراسة أصولية تاريخية

الباب الثالث : لمحة عن رمضان فى التاريخ  

الفصل الأول : رمضان بين سطور التاريخ : الجزء الثانى : ( أربع مقالات )

 

المقال الخامس 

الإحتكار في رمضان

 لم يكن شيطان الإحتكار ومصادرة أموال الناس يهدأ فى رمضان فى العصر المملوكي . والإحتكار والمصادرة سياسة مستقرة ثابتة فى عصر العسكر المملوكي ، وكان المنتظر أن يكون لرمضان أثره فى تخفيف الظلم فى شهر الصيام ، ولكن العقلية المملوكية وجدت حلا يتيح لها أن تستمر فى تيار الظلم هو أقتران الظلم بعمل الخيرات على مذهب القائل هذه نقرة وهذه نقرة ، إذا يصادرون الأموال ويبيحون شراء المناصب والرشوة ويحتكرون التجارة ، ثم تراهم من ذلك السحت يقيمون المؤسسات الدينية وينفقون على الطلبة والعلماء ويتصدقون على الفقراء والمساكين ،  وكأنهم لم يعرفوا أن الله تعالى لا يقبل من الصدقات إلا ما كان من مال حلال ، يقول تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) ( 2/ 267") . فالله تعالى يأمرنا بالتصدق من الرزق الطيب الحلال ويحذرنا من الأنفاق من المال الخبيث الآتي عن طريق الظلم . 
الظلم المملوكي فى مصر والشام 
وأتخذ الظلم المملوكي من سكوت الناس وخضوعهم عاملا آخر ساعده على الانتشار ، وكان يحدث أحيانا أن يثور الناس على الظلم كما حدث فى رمضان 807 حين كثرت المصادرات والمظالم فى الشام ودمشق وقت اندلاع الخلاف بين الأمراء المماليك ، وفى ذلك الوقت فرض الأمير حسن نائب القدس على أهلها مالا فرفضوا دفعه، فتركهم حتى اجتمعوا بالمسجد الأقصى وأغلق عليهم الأبواب وألزمهم بدفع الأموال ، فأبوا ، وحدثت معركة بينهم وبينه وقتل منهم بضعة عشر رجلا ، ولكنهم تكاثروا عليه ففر منهم ، فلما بلغ الخبر الأمير شيخ نائب الشام عزله وولى غيره . 
وأمير الشام وقتها – أو نائب الشام – الأمير شيخ هو الذي أصبح سلطانا فيما بعد تحت اسم المؤيد شيخ ، وكان كثير البر والصدقات ولكنه كان أيضا على شاكلة المماليك لا يخلو من الظلم ولا يرى تعارضا بين هذا وذاك .   
وفي رمضان 813 أفتتحه المماليك بمصادرة الناس في دمشق ، فأخذوا من الخانات والحمامات والطواحين والحوانيت والبساتين أجرتها عن ثلاثة أشهر سوى ما أخذ قبل ذلك ، واتهموا بعض الناس بأن لديهم ودائع أودعها لديهم المماليك الشيخية من أتباع الأمير شيخ نائب الشام ، فأخذوا أولئك الناس وعاقبوهم بالضرب ليعترفوا بما لديهم من أموال مزعومة ، وفتشوا بيوتهم .    
وفى نفس الوقت كانت القاهرة تئن من مظالم الأمير بكتمر جلق الذي ألزم المحتسب ابن الدميري بأن يجمع له ألفي دينار من الناس فى نظير أن يلزم الناس بشراء قمح بالسعر الذي يحدده ، وأغتصب أموالا من بعض تجار الشام بالقاهرة ، وأخذ من الأمير منقلي الأستادار ألف دينار . والمفروض بعدها أن هذا الأمير بكتمر جلق كان صائما فى رمضان ويفطر على مظالم الناس ومصادرة أموالهم.   
السلطان يحتكر الفلفل فى رمضان 
والسلطان الأشرف برسباي ــ الذي أقام الخانقاه الأشرفية على أنها من أعمال البر والذي فتح قبرص على أنها جهاد فى سبيل الله ـ هو نفسه الذي عانى الناس في عهده من الإحتكار وشراهته للأموال . قال عنه المقريزي الذي عاش عصره ( كان له فى الشح والبخل والطمع من الجبن والجور وسوء الظن ومقت الرعية وكثرة التلون وسرعة التقلب فى الأمور وقلة الثبات أخبار لم نسمع بمثلها. وشمل بلاد مصر والشام فى أيامه الخراب وقلة الأموال ..)
هذا السلطان لم يمنعه شهر رمضان من مصادرة الفلفل على أمل بيعه لتجار أوروبا ، وكان الفلفل الأسود والبهارات من أثمن الأشياء ، وكانت تستوردها أوروبا عبر الدولة المملوكية التى تحتكر استيرادها من الهند وأسيا . وقد قامت الكشوف الجغرافية وضمن أهدافها التخلص من إحتكار المسلمين لتلك التجارة بالوصول إلى الهند من طريق بعيد ، وبذلك أكتشفوا أمريكا ورأس الرجاء الصالح .   
ونعود إلى رمضان 835 وفيه صادر السلطان الأشرف برسباى فلفل التجار وأرغمهم على أن يبيعوه له بخمسين دينارا للحمل . وكان السلطان قد أرغمهم من قبل على أن يشتروا منه الفلفل فى أول السنة بسبعين دينارا للحمل ، وأمر بأن تحتكر متاجر السلطان استيراد الفلفل الوارد من ميناء جده وغيره، وأن لا يبيعه لتجار الفرنجة القادمين للإسكندرية غيره ، وبذلك أستخدم نفوذه فى أكل أموال التجار ، يقول المقريزى ( فنزل بالتجار من ذلك بلاء كبير).!
وجدير بالذكر أن رمضان فى العام بعد التالي 837 شهد ردود فعل غاضبة على جشع السلطان ، فقد أرسل ملك الفرنجة الكتيلان خطابا شديد اللهجة للسلطان برسباي لأنه ألزم التجار الفرنجة بأن يشتروا منه الفلفل من خلال المتجر السلطانى لا من التجار العاديين مما سبب لهم خسارة وقد غضب برسباى من تلك الرسالة ومزقها  .
السلطان قايتباى ينصف الإسكافية
وفى رمضان 875 كان السلطان فى مصر هو الأشرف قايتباى المشهور بين السلاطين بتدينه وكثرة تلاوته للأوراد وكثرة ظلمه أيضا . ولكن يبدو أن رمضان قد أفلح معه فى تراجعه عن الظلم ، وذلك ما حدث فى 14 رمضان ، يقول المؤرخ ابن الصيرفى الذى عاش هذه الفترة أن الضيق وصل بأهل القاهرة مداه بسبب عدة عوامل ، فأرباب الحرف من الخياطين وصناع الجوخ وغيرهم قد جمعهم الأمير الكبير يشبك من مهدى الذى يعد حملة حربية كبرى يذهب بها للعراق لتأديب شاه سوار الثائر على الدولة المملوكية هناك . وقد أحتاج ذلك الأمير لأولئك الحرفيين والصناع فى تجهيز مهمات العسكر من الكساء والملابس والخيام والآلات ، وهو ينفق في كل يوم ألف دينار على تلك التجهيزات ولكن لا يعطى أجورا للعمال الذين يخشون المطالبة بحقوقهم خوفا من ذلك الأمير العاتي المشهور بقسوته وظلمه .
ثم يعانى التجار من ضائقة مالية بسبب أخر فقد أغلقوا حوانيتهم منذ أول رمضان 875 حتى 14 رمضان بسبب انتظارهم لبيع التركة الضخمة التى خلفها الأمير الجمقدار والى الشام وكاتبه أبو بكر ، وتلك التركة الهائلة كانت متعددة الأصناف ، وكل من التجار يحرص على شراء ما تيسر منها ، ولكن البيع متوقف بسبب انشغال السلطات المملوكية بالتجهيز لحرب شاه سوار . ثم وصل الضيق الى الإسكافية وصناع الجلود وقد كانوا يتركزون فى حى الصليبة وبين القصرين بالقاهرة، وقد احتكر الوزير ابن غريب تجارة الجلود وألزم الإسكافية بأن يشتروها منه بثمن مضاعف عن السنة الماضية ، وأجبرهم على الدفع الفورى ، فأطاعه الإسكافية فى بين الصورين ودفعوا له ما يريد ، أما أسكافية الصليبة فقد رفضوا الظلم ، وتجمهروا أمام القلعة فطردهم الحراس ، فصعدوا الى أعلى الجبال يهتفون ، فسمعهم السلطان قايتباى وهو بالحوش فسأل عن خبرهم وعرف شأن الوزير معهم ، فأمر السلطان قايتباى بإنصافهم ، وكان هذا من نوادر الأحداث فى شهر رمضان 875 .
ونصل الى سؤال :   
هل اختلف لصوص رمضان هذا العام عن لصوص رمضان العصر المملوكى ؟ لا أعتقد فالعسكر هم العسكر ، سواء كانوا مماليك أم من أبناء الشعب ، فالعسكر هم شر الناس حين يحكمون ،إذ يوجهون سلاحهم الى الشعب الذى من المفترض أن يدافعوا عنه ، ويستخدمون السلاح فى حكم الشعب وقهره ، ولا بد أن يتحكموا فى الثروة طالما تحكموا فى السلطة . 
ومن قام بثورة يولية 1952 كانوا ضباطا من الطبقة الوسطى ، وكان أغلبهم لا يملك سوى مرتبه قبل الثورة ، فلما نجحت الثورة و حكموا مصر ما لبث أن تحولت الى جيوبهم وجيوب خدمهم واتباعهم ثروة مصر خلال نصف قرن من الزمان ، بدءا من مجوهرات أسرة محمد على التى كان تملأ عشرات الصناديق الى ثروة مصر العينية التى نهبوها تحت اسم التأميم و التمصير والقطاع العام ، ثم أعادوا نهبها تحت اسم بيع القطاع العام والخصخصة . حتى ديون مصر لم تسلم من النهب. والاحتكار المملوكى لا يقاس باحتكار الحديد وغيره مما يفعله اللصوص الذين يتحكمون الآن فى وزراء مصر ( المحروسة ). 
ومنذ أكثر من عشرين عاما كتبت مقالا فى جريدة (الأحرار ) فى سلسلة قال الراوى عن أحد لصوص مصر فى العصر المملوكى ، وقلت فى آخر فقرة فيه: ( إن مصر أغنى بلد فى العالم ، كانت ولا تزال. وهذه حقيقة يعرفها اللصوص جيدا ) . وتم نشر المقال ، ولكن بعد أن حذف ـ رئيس التحرير الاستاذ وحيد غازى ـ تلك الجملة . وأختم بها هذا المقال مع سبق الاصرار والترصد : ( إن مصر أغنى بلد فى العالم ، كانت ولا تزال. وهذه حقيقة يعرفها اللصوص جيدا ).
ولا تحية لّلصوص

 

المقال السادس

السخرة فى رمضان

1 ـ  كانت الإصلاحات المعمارية وإقامة الجسور والكباري لا تنقطع فى شهر رمضان فى العصر المملوكي .. ونأخذ على ذلك بعض الأمثلة :

* فى 27رمضان 722 يذكر المؤرخ ابن كثير أنه اكتملت عمارة الحمام الذي بناه بهاء الدين ابن عليم بزقاق الماحية من جبل قاسيون بدمشق بالقرب من مسكنه ، وقد أنتفع به أهل الناحية ومن جاورهم.

*  وفى يوم الاثنين 11 رمضان 811 شرع الأمير شيخ فى تعمير عدة مواضع داخل مدينة دمشق ، وكانت قد خربتها حروب تيمورلنك ، وألزم الأمير شيخ بعض السكان بتعمير بيوتهم المهدمة وشجعهم على بدء حركة تعمير في دمشق . .
* وقام بعضهم فى رمضان 835 ببعض إصلاحات فى مكة المكرمة ،" إذ أجرى العين حتى دخلت مكة بعد ما ملأت البرك داخل باب المعلاة ، ومرت على سوق الليل إلى الصفا وأنتهت إلى باب إبراهيم ، وساحت من هناك ، فعمّ النفع بها وكثر الخير،  لشدة احتياج الناس بمكة وقتها إلى الماء وقلته أحيانا وغلاء سعره ، والسبب هو عدم صيانة البئر والعناية بها ، وأنتهى ذلك بتلك الإصلاحات التي أقامها بمكة تاجر محب للخير والإنفاق فى سبيل الله تعالى، وهو سراج الدين عمر بن شمس الدين محمد بن المزلق الدمشقي".. وبذلك خلد اسمه فى التاريخ .  ..
  2 ـ ونحن لا نتصور أن مثل هذا التاجر المحسن قد أرغم الناس على العمل لديه سخرة فى ذلك العمل الخيري ، ولكن تسخير الناس فى الأعمال الخيرية وعمليات الإصلاح كان سياسة مملوكية ، إذا كان المماليك لا يستريحون لفكرة دفع أجور للعمال والعوام أو" الحرافيش " فى لغة العصر ،والأسهل لديهم أن يأكلوا أموال الرعية وحقوق العمال ، حتى لو كان ذلك فى شهر الخير والثواب ( شهر رمضان ) 
ففي رمضان 738: أنشأ الناصر محمد بن قلاوون جسرا على النيل فيما بين بولاق والزمالك حاليا ، وربما يكون موضعه الآن هو موضع كوبري أبو العلا ،وكان ذلك المكان الذي أقيم فيه جسر الناصر محمد يسمى حكر ابن الأثير ، وقد سماه المؤرخ أبو المحاسن فيما بعد جسر ابن الأثير. والسبب فى بناء هذا الجسر أن فيضان النيل وأمواجه كانت تفيض على شاطىء بولاق وتحدث أضرارا فى بيوت بولاق المطلة على النيل ، إلى درجة أنها هدمت جامع الخطيري فاحتيج إلى تجديده ، بل وأمر السلطان الناصر سكان بولاق الذين يطلون على النيل بعمل الزرابي ، والزرابي هي حوائط ومصدات للماء يقيمها أصحاب البيوت القريبة من النيل، ومنها سلالم تصل ساكني تلك البيوت بالنيل ، وأقام السكان تلك الزرابي تجاه بيوتهم ولكن ذلك لم يفد شيئا . وفي النهاية أمر السلطان بإحضار المهندسين من الصعيد والوجه البحري وركب السلطان معهم النيل فى تلك المنطقة ، وتشاوروا فى الحل ، ثم أتفقوا على حفر خليج فى الجزيرة المقابلة لبولاق – حيث توجد الزمالك الآن – ويمتلىء ذلك الخليج بماء النيل ثم يقام جسر فى وسط النيل يكون سدا يتصل بالجزيرة ، فإذا زاد النيل جرى ماؤه فى الخليج وصده السد وجعله يتراجع إلى الشط الآخر ناحية إمبابة المقابلة لبولاق . وأقتنع السلطان بالفكرة ولم يبق إلا التنفيذ . فأرسل السلطان من الغد إلى (المشد) فى كل منطقة يجمع الرجال المسخرين بلا أجرة للعمل ، وجمعهم المشدون فقطعوا الحجارة من الجبل ، وقام آخرون بالسخرة أيضا فيحملون تلك الحجارة ويملأون المراكب ، وتأتي المراكب المحملة بالحجارة فيغرقونها بحمولتها فى المنطقة المراد ردمها حيث الجسر. وعمل الجميع فى ذلك الجسر سخرة تحت يد الأميرين أقبغا عبد الواحد وبرسبغا الحاجب. وأمر السلطان والى القاهرة بتسخير عوام القاهرة أيضا فى العمل فكان المماليك يقبضون على الناس من الشوارع والأسواق والمساجد والجوامع ويأخذونهم للعمل تحت لهيب الأسواط وفى نهار رمضان ، وهرب من أستطاع وأختفى من أستطاع،
يقول المقريزي يصف تلك السخرة " ووقع الإجتهاد فى العمل ،وأشتد الاستحثاث فيه حتى أن الرجل كان يخر إلى الأرض وهو يعمل لعجزه عن الحركة فتردم عليه رفقته الرمال فيموت من ساعته ، وأتفق حدوث هذا لخلائق كثيرة جدا ، وأقبغا راكب فى الحراقة- وهى سفينة حربية – يستعجل المراكب المشحونة بالحجارة ، والسلطان ينزل إليهم ويباشرهم ويغلظ على أقبغا ويحمله على السرعة واستنهاض العمل حتى أكمل فى مدة شهرين." 
وأورد المقريزي عدد المراكب التي أغرقت بحمولتها فى النيل لبناء ذلك الجسر ، وأورد حمولتها من الحجارة ، ولكن لم يكن لديه حصر بأعداد الرجال الذين ماتوا فى تلك السخرة ، ولم يكن لديه عدد لأولئك الذين خرجوا أحياء بعد هذه السخرة. ورمضان كريم .!!

3 ـ  وبالمناسبة كانت للماليك حيل عجيبة فى القبض على الناس واستخدامهم فى التسخير والعمل بلا أجرة .   
ففي شهر ربيع الأول سنة 877 وفي سلطنة قايتباي كان المماليك يقومون ببناء جسر على النيل عند الجيزة وكانوا كالعادة يريدون الانتهاء منه بسرعة ، وأعوزتهم اليد العاملة فلجأوا إلى حيلة خبيثة لتوفير اليد العاملة بأسهل طريق ؛كانت القاهرة المملوكية وقتها تعج بآلاف الفلاحين الهاربين من السخرة وظلم الولاة والكشّاف فى بلادهم، فأضيفت أعدادهم الى آلاف العاطلين من القاهريين . ولكي يحشدهم المماليك جميعا ليسخروهم في الحفر فإنهم جاءوا بشخص بريء وصلبوه على خشبه ودقوا المسامير فى أطرافه الأربعة، وطافوا به فى شوارع القاهرة ينادون عليه : "هذا جزاء من يقتل النفس التي حرمها الله "، فأجتمع الناس للتفرج عليه وساروا خلفه بالآلاف إلى أن انتهت المظاهرة عند موضع الحفر حيث تكامل العدد المطلوب للحفر، فقبض المماليك على الجمهور وسخّروهم في العمل. 
4 ـ  وقبل النهاية نذكر بكل أسى إن عصر المماليك الذى شهد أقسى أنواع الظلم هو نفس العهد الذى عاش تطبيق الشريعة ، ليس الشريعة الاسلامية ولكن شريعة الدين السنى . .
ونذكر أيضا ـ وبأسى أعظم ـ أن السخرة ظلت تسود مصر فى تنفيذ المشروعات الكبرى، وأحيانا بناء المساجد والقصور للأمراء المماليك فى الدولة المملوكية والعصر العثمانى وعصر محمد على . ثم أراد الخديوى سعيد باشا ان يطبقها فى حفر قناة السويس ولكن المهندس الفرنسى ديليسبس المشرف على المشروع اشترط فى العقد دفع أجور للعمال المصريين ، ولم نعرف هل تم تنفيذ ذلك أم ظل حروفا على الورق . 
ونذكر بكل ما فى العالم من أسى أن السخرة عادت بطرق ملتوية تعتصر حيوية العمال المصريين ، فى الداخل ؛ مثل تسخير جنود المراسلة والأمن المركزى فى خدمة الضباط ، والاجحاف بحقوق العمال فى المصانع المصرية ، وتدنى أجور العاملين فى القطاع العام والحكومة ، وخصوصا فى أشرف مهنة ، وهى التعليم والتدريس.. وبالتالى لا يحق لنا أن نتعجب كثيرا من استعباد المصريين فى دول الخليج تحت مسمى ( الكفيل ). 
  5 ـ وفى النهاية نتذكر قوله جل وعلا (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ) ( ابراهيم 42 ـ ). وكل عام وانتم بخير..

 

 المقال السابع

صوم حواء فى مصر المملوكية

1 ـ قبل أن نتعرض لصيام حواء فى العصر المملوكي نتوقف قليلا مع قوام حواء المملوكية . هل ينتمي إلى فصيلة غصن البان ، أم فصيلة الجميز ؟. إن الصور المرسومة للعصر المملوكي على قلتها ـ تظهر فيها بعض الفتيات النحيفات ، ولكن ذلك ليس مقياسا ، المقياس فى نوعية الأكل ، وهذا ما نعرفه مما أورده الفقيه ابن الحاج فى كتابه " المدخل " الذي ينتقد فيه مظاهر الحياة الاجتماعية فى العصر المملوكي من وجهة نظره كفقيه ناقم يحاول اصلاح عصره من وجهة نظر فقهية صوفية.ونأخذ من كتابه إشارة هامة ، إنه ينتقد الجزارين ويقول : إن بعضهم كان يغش اللحم ، فإذا كانت الذبيحة قليلة الشحم فإنه يجعل معها شحم غيرها لكي يرغب الناس فى شراء اللحم لكثرة الدهن فيه.  أى أن المفهوم عند الناس فى العصر المملوكي كان رفض اللحم الأحمر ( البروتين ) ويفضل عليه الدهون واللحم الأبيض السمين .. وكان ذلك عاما فى الرجال والنساء . وبالتالي فإن القوام الأنثوي كان يميل للسمنة .. وذلك مجرد استنتاج .

2 ـ أما الدليل الحاسم فهو ما أورده ابن الحاج من معلومات غريبة عن حواء المملوكية تحت عنوان عجيب يقول " فصل فيما يتعاطاه بعض النسوة من أسباب السمن ".   
يقول إن بعضهن " اتخذن عادة مذمومة ، وهى أنها قبل النوم وبعد طعام العشاء تأخذن لباب الخبز وتجعله ثريدا تضيف إليه أشياء أخرى ، ولأنها لا تستطيع ابتلاعه بعد شبعها فترغم نفسها على ابتلاعه بالماء "  وربما تعود إلى تجرع نفس الوصفة بعد النوم وقبل الفجر .    
ويحكى ابن الحاج أن بعضهن كن يتعاطين وصفة بلدية تجعلهن أكثر سمنة ، وهى أكل الطين والطفلة الطينية مع بعض أدوية من العطار ، حتى يقل شبعها ويكثر التهامها الطعام ويزيد وزنها وتصبح أجمل الجميلات وفق مقياس العصر المملوكي.   
وقد أدى هذا الشحم الزائد إلى ظهور نماذج فريدة من المرأة المملوكية ، كان بعضهن لا تستطيع أن تتوضأ أو تغتسل لأن ذراعيها أقصر من أن تصل إلى مواضع الطهارة ،وكانت إحداهن لا تستطيع الصلاة وهى قائمة فتضطر للصلاة جالسة .

3 ـ وبالتالي كان صوم رمضان فريضة ثقيلة عليهن،  لذلك استنكر ابن الحاج أن بعضهن ـ وبعضهم ـ كان يفطر فى نهار رمضان جهارا. لأن البدانة فى العصر المملوكي كانت عادة سيئة للرجل والمرأة .
وأصبح من العادات المذمومة ـ فيما يحكيه ابن الحاج ـ أن النساء البدينات يفطرن فى شهر رمضان حتى لا يفقدن بعض سمنهن ، وامتد ذلك إلى الفتيات الأبكار ، إذ كان أهلهن يرغموهن على الإفطار فى نهار رمضان " خيفة على تغير أجسامهن عن الحسن والسمنة " بتعبير ابن الحاج الذي يربط الحسن بالبدانة والسمن .

4 ـ وبعض النساء كن يحافظن على صيام رمضان ، ومع ذلك فلم يسلمن من انتقاد ابن الحاج . فبعضهن كانت إذا أتتها العادة الشهرية فى رمضان فإنها تصوم ولا تفطر ، ثم لا تقضى تلك الأيام التى كانت فيها حائض ، ويعللن ذلك بأنهن يصعب عليهن الصوم أو قضاء الصوم فى أيام الإفطار حين يأكل الناس وهن يصمن . وبعضهن فى أيام الدورة يفطرن ثلاثة أيام فقط ، ويصمن المدة الباقية حتى مع استمرار الدورة ، بل إن ابن الحاج ينتقد النساء اللائي يصمن مدة الحيض ويقضين المدة صياما أيضا ، ويراهن آثمات . ومنهن من يفطرن فى تلك الأيام ولكن يكتفين فى الإفطار بتمرة أو أقل القليل من الطعام ، أى كأنها صائمة ، وذلك تجويع وتعذيب لا مبرر له .   
5 ـ ومن المفيد أن نذكر أن الفقه التراثي جرى على اعتبار الحيض من الأسباب التى توجب الإفطار فى رمضان ، ويتعين قضاؤه . إلا أن القرآن الكريم يحصر الأعذار التى تبيح الفطر فى رمضان فى شيئين فقط وهما السفر والمرض " فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر " وللمريض والمسافر أن يصوم إذا استطاع لأنها مجرد رخصة ، والله تعالى يقول " فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم " .. " البقرة  184" .
إن الوضوء شرط فى الصلاة ، لذلك فإن الحيض يقطع الوضوء فقط ، ولا بد من الاغتسال والتطهر . أما الصيام وباقي فرائض الإسلام من حج وزكاة وقراءة القرآن فليست الطهارة شرطا فيها ، وعليه فإن على الحائض ـ وفقا لتشريع القرآن ـ أن تصوم .وقد نتعرض لهذا بالتفصيل فى باب التأصيل .  .
6 ـ ونعود إلى ابن الحاج وانتقاده لصيام حواء فى العصر المملوكي ، وهو يستنكر قيام بعضهن بالصوم فى رمضان ولكنهن يتركن الصلوات الخمس بدون عذر شرعي ، ويقول : إن بعضهن اعتدن ترك الصلاة ويعتقدن أن الصلاة لا تجب إلا على النساء المتقدمات فى السن ، فإذا نصحتهن أحد بالصلاة تقول : أعجوزا رأيتني !! يقول ابن الحاج " فكأن الصلاة ليست بواجبة على الشابة "!.."
ولقد كان صوم رمضان فى العصر المملوكي ـ ولا يزال ـ عادة اجتماعية مرتبطة بالسهر والمواسم الدينية وإحياء الليالي فى الأضرحة ولدى الأولياء مع الأطعمة المشهرة والسحور ومدفع الإفطار ورؤية الهلال 
لذلك فإن من اعتاد إهمال الصلاة نراه متمسكا بعادة الصوم فى رمضان .. وذلك ما استنكره الفقيه ابن الحاج على من يصوم ولا يصلى.   
ولا يزال بعضنا يصوم ـ كعادة اجتماعية ـ بدليل أنه لا يصلى .   
هل نحتاج للفقيه ابن الحاج فى عصرنا؟
كل عام وانتم بخير..

 

المقال الثامن

 تجارة العملة فى رمضان المملوكى

أولا :

1 ـ لم تختلف النقود المملوكية عن غيرها من حيث التقسيم المعهود : الدنانير الذهب ، والدراهم الفضة والفلوس النحاس . إلا أن النقود المملوكية تختلف عن غيرها فى أنها شهدت متغيرات شتى فى العيار والوزن والحجم خصوصا في الدينار الذهبي الذي هو قاعدة النقد ، بالإضافة إلى تعويم الدينار وخضوعه للعرض والطلب ، والأخطر من ذلك هو فوضى النقد التي أحدثها جشع المماليك ورغبتهم في الربح على حساب ثبات سعر العملة ، ثم دخول المزيفين أو ( الزغلية ) إلى ميدان سك النقود ، ومع أن السلطات المملوكية كانت تقف بالمرصاد لأولئك الزغلية وتقطع أيديهم أحيانا – إلا أن بعض المماليك كان يشارك في عملية التزييف ابتغاء الربح .   

 2 ـ ولم يلحق التغيير فى الوزن والعيار والحجم الدينار الذهبي المملوكي وحده وإنما تعدى ذلك إلى الدرهم الفضى الذي لم يعد يدل على النقود الفضية الخالصة وإنما وصل به التغيير إلى أنه أصبح مدلولا هلاميا بين الفضة والنحاس ، ولحقته شتى الأسماء حسب اسم الذي يصدره أو حسب مكان السك أو حسب طبيعة الدرهم وحالته وقيمته . وأصبح ذلك التغير سمة أساسية فى الدراهم التى ظهرت فى الدولة المملوكية البرجية ، حيث التضخم والغلاء وجشع المماليك والاضطرابات الاقتصادية والمجاعات والأوبئة . وقد ضرب السلطان برقوق " الذى أسس دولة المماليك البرجية" الدراهم الظاهرية سنة 789 كما ضرب الأمير نوروز دراهم نوروزيه في دمشق سنة 815 وضرب السلطان شيخ الدراهم المؤيدية سنة 818 وضرب منها أجزاء أهمها النصف المؤيدي ، ثم ما لبث أن أصبح الدرهم المؤيدي نصف مؤيدي سنة 825 ، وكانت قيمة الدرهم المؤيدى 18 درهما من الفلوس ، وأصبح النصف المؤيدى يساوى تسعة من الدراهم الفلوس ، إذ أصبح هناك خلط بين الدرهم الفضة والدرهم الفلوس ، وتتغير قيمة أحدهما بالنسبة للآخر تبعا لاضطراب العملة واضطراب الحياة الاقتصادية فى ذلك الوقت . لذا أصبح من الضروري على كل من يبيع شيئا أن يحمل ميزانا لوزن النقود عند بيع العملات ، وأصبح من الألفاظ المعهودة أن يقال أن ( فلانا وزن كذا ) أى دفع كذا .. أي لجأوا للميزان حيث انعدمت الثقة فى العملة.  ..
والمؤسف أن تجارة العملة فى الدراهم الفضية شهدت نوعا من التناقص بسبب غلبة الدراهم النحاسية عليها حتى أصبحت الدراهم الفضة في معرض المزايدات ، بينما امتلأت الأسواق بالدنانير والفلوس النحاسية أو الدراهم النحاسية.   
3 ـ وفي الوقت الذي عانى فيه الدينار المملوكي من التغير فى الوزن والعيار والحجم مع عدم الدقة فى الصنع فان الدينار الأفرنتي كان أفضل منه فى جميع الحالات وكان سيد العملات الأجنبية فى الأسواق المملوكية ، والدينار الأفرنتي هو تلك العملة الذهبية التى قرر مجلس شيوخ البندقية إصدارها فى 31 أكتوبر سنة 1284 أي فى عهد السلطان قلاوون ، وانتشرت فى أوروبا باسم الدوكات(Ducat) بينما ، وعرفت فى الدولة المملوكية بأسماء شتى منها : البندقي ، الدنانير المشخصة لما عليها من صور ، والأفرنتى وهو أشهر أسمائها . ويشير المقريزي فى تاريخه السلوك إلى انه منذ سنه 800 هـ كثر تداول الدينار الأفرنتى وأصبح هو الدينار المطلوب فى التعامل ، مما ترتب عليه أن تسربت كميات من الذهب من الدولة المملوكية إلى البندقية لتسك منها تلك العملة الأفرنتية . وكان من الطبيعى أن تفوز الدنانير البندقية فى الأسواق المملوكية بما فيها من دقة الصنع والوزن الثابت (3.45 جراما ) والعيار المرتفع ، وذلك فى مقابل دينار مملوكى هزيل ليس له عيار ثابت أو قطر محدد ، ثم هو دائم التغير فى الوزن ، لذا كان من السهل على التجار فى سوق العملة استلام الدينار الأفرنتى بالعدد دون حاجة إلى وزن ، أما الدنانير المملوكية فكان لابد من وزنها ثم قد يضطر أحدهم إلى إضافة قطع ذهبية أخرى لعلاج النقص فيها .   
4 ـ وكان من المعتاد أن تسك النقود النحاسية ( الفلوس ) لتقوم مقام ( الفكة) الصغيرة فى نفقات البيوت وشراء الخضروات وغير ذلك ، وكان الدرهم يساوى 24 فلسا فى بداية الدولة المملوكية . ثم ضرب السلطان كتبغا فلوسا خفيفة الوزن ، وزنة الفلس الواحد يساوى وزن الدرهم الفضى ، والرطل من هذه الفلوس يساوى قيمة الدرهمين من الفضة ، وبدأت بذلك حكاية الوزن فى العملات . ولم يتقبل الباعة فكرة الوزن مما جعل الدولة تضرب بعضهم لترغمهم على قبول تلك الفكرة ، ثم ضرب السلطان الناصر محمد فلوسا جديدة وقد حلت محل الفلوس الخفيفة التي أصدرها كتبغا التي تم جمعها من السوق . 
ولما جاءت الدولة المملوكية البرجية أنتشر الفساد فى سك الفلوس النحاسية أسوة بمنظومة الفساد الذى استشرى فى كل شىء ، وعهد السلطان برقوق أول سلطان برجى إلى محمود الأستادار ضرب الفلوس فخلط النحاس بالحديد والرصاص ليحصل على المزيد من الربح ، وتكاثرت تلك الفلوس وسيطرت على الأسواق وطردت العملات الجيدة ، وكانت الدولة تستورد النحاس من أوروبا لتسكة عملات فلوسا ، بل وكانت ترغم الناس على بيع ما بأيديهم من العملات النحاسية السابقة والتى تحتوى على النسبة الأكبر من النحاس ، وتشتريها منهم بسعر رخيص ، ثم تدخلها دار السك فتخرج عملة جديدة أقل قيمة ولكن أعلى سعرا ويستفيد السلطان والأستادار من ذلك الفرق بينما يخسر الناس.

ثانيا :

 كان ذلك هو حال العملة المملوكية . فهل كان لرمضان تأثيرة الإيجابى على مسئولى الدولة بحيث يجعلهم يرجعون للحق والعدل ؟ والجواب بالنفى . فالمماليك كانت لهم فلسفتهم الخاصة فى أستمرار الظلم مع بناء المؤسسات الدينية التي لا تزال شامخة حتى الآن وهم يرون أن ذلك يكفر عنهم مظالمهم .ومن هنا فقد أستمرت سياستهم النقدية فى رمضان أسوة بغيرة من الأشهر . ونأخذ على ذلك بعض الأمثلة : 
1 ـ يذكر المقريزي أنه في يوم الأربعاء 6 رمضان 811 صدر النداء بالقاهرة ألا يتعامل أحد بالذهب وهددوا من يبيع بالذهب ، وأستدعى الأمير جمال الدين جميع التجار وكتب عليهم تعهدات بذلك فنزل بالناس ضرر عظيم – على حد قول المقريزي –لأن النقد الرابح هو الذهب وبه كان يتعامل جميع الناس ، وصدر النداء أيضا بمنع المصنوعات الذهبية والمصوغات فأستمر الحال على ذلك أياما ، ثم نودى فى 21 رمضان بأن يتعامل الناس على أن يكون كل مثقال بمائة وعشرين درهما وأن يكون الدينار المشخص ( البندقى ) بمأئة درهم ، وترتب على ذلك أن أحتفظ الناس بالذهب فأرتفعت الأسعار إرتفاعا كبيرا.
فالدولة المملوكية كانت تعانى من نقص فى الذهب بسبب إحتكار السلاطين لتجارة التوابل لأنفسهم ، وتلك قصة أخرى – مما أدى إلى ظهور نظام المقايضة فى التجارة بين المماليك والبندقية ، ولتعويض هذا النقص فى الذهب – فى الداخل كانت تلك المحاولة التى حكاها المقريزي .

2 ـ وقد تكرر ذلك يوم الخميس 15 رمضان 829 فى عصر السلطان برسباي أثناء زيادة الصراع الحربى مع القراصنة الفرنجة ، إذ نودي بمنع الناس من التعامل بالدنانير الافرنتية ولا بد من إحضارها إلى دار الضرب حتى يعاد سبكها وتهدد من يخالف ذلك ، يقول المقريزي إن الناس لم يأبهوا لهذا النداء لقلة ثبات الولاة على قرارتهم ، وكثرة القرارات.   
3 ـ ونتعرف على أسعار العملات في رمضان المملوكي في سنوات مختلفة :

3 / 1 : ففي رمضان سنة 803 ( فى بداية الدولة البرجية ) يحكى المقريزي أن أحوال الناس توقفت بسبب الذهب حيث بلغ سعر الدينار البندقى الأفرنتى 39 درهما من الفلوس فى السعر الرسمى عند الصيارفة بينما هو عند الناس 38 درهما فتناقص حتى وصل 35 درهما ، أى أن الدولة كانت تجمع دنانير البندقية بأعلى سعر . وإذا وصلنا إلى رمضان 806 وجدنا سعر الدينار الأفرنتى قد وصل إلى 70 درهما ، ثم إذا قفزنا إلى 9 رمضان سنة 819 فى سلطنة المؤيد شيخ وجدنا الدينار الأفرنتى قد وصل إلى 230 درهما ، وصدر النداء بعدم الزيادة فى سعره بعد أن أكتسح الدينار البندقى إمامه الدرهم المؤيدي الذي أصدره السلطان ، وهدد السلطان من يعصى هذا النداء ، ويقول المقريزى انه كثر الغبن من انحطاط النقود وتغيرها مع ثبات السعر ، أى التضخم ، فالعملة الأجنبية يزداد سعرها كل يوم والأسعار تتضاعف والعملات المحلية تتناقص قيمتها .

 3 / 2 : وكان الحال فى الفلوس النحاسية أسوأ وهى العملة السائدة فى ذلك العصر ، ففى رمضان 807 تنازع المماليك فى دمشق فكثرت بها مصادرة الأموال وغلت الأسعار بسبب كثرة التغيير فى النقود النحاسية التى كثرت وصغر حجمها ، وتأخذ الدولة الفلوس القديمة بأرخص الأسعار ويعاد ضربها مزيفة بأغلى الأسعار ، وفى ذلك الوقت بلغ سعر الدينار البندقى 70 درهما . وفى رمضان 811 كان الأمير شيخ واليا على الشام فأصدر فلوسا كل 6 منها بثمن درهم وترتب عليها كما يقول المقريزى أن شمل الضرر أهل مصر والشام . وفى 28 رمضان 826 جمع السلطان برسباى التجار والصيارفة بسبب الفلوس النحاس فقد صدر سعر جديد للفلوس النحاسية كان منخفضا عن قيمة النحاس الموجود بها فجمعها التجار من أيدي الناس وصهروها وصنعوا منها الأوانى النحاسية وفصلوا منها بقية المعادن كل منها على حدة وأستعملوها فيما تصلح له ، وبعضهم صدرها إلى الحجاز واليمن والمغرب .. وبلغ سعر القنطار من تلك الفلوس 800 درهما ، وربحوا منها كثيرا ، لذلك عزف الناس عن التعامل بها وفضلوا بيعها للتجار الذين يجمعونها بأعلى من سعرها الرسمى الذى حددته الدولة . وترتب على ذلك أن توقفت أحوال الناس ، فلما أجتمع السلطان بالتجار والصيارفة إستقر الرأي على أن تكون الفلوس المنقاة بتسعة دراهم الرطل بدلا من سبعة . وصدر النداء بعدم التعامل بغير ذلك ، ومن صدر شيئا منها للخارج عوقب 
وأخيرا 
هل تغير الحال فى مصر المعاصرة عن مصر المملوكية؟
أترك لكم الاجابة . 
وكل عام وانتم بخير.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ب 3 / ف 1 / ج 3 : رمضان بين سطور التاريخ : ( أربع مقالات )

كتاب ( رمضان والصيام بين الاسلام والدين السنى ) دراسة أصولية تاريخية

الباب الثالث : لمحة عن رمضان فى التاريخ  

الفصل الأول : رمضان بين سطور التاريخ : الجزء الثالث ( أربع مقالات )

 

 المقال التاسع

حفل ليلة القدر فى الحرم المكى عام 479 هـ

"ليلة القدر" وختم القرآن الكريم في الحرم الشريف بمكة سنة 479 هـ

شهد ابن جبير الحفل المقام في الحرم بمكة بمناسبة ختم القرآن الكريم وسجل ذلك فى رحلته ( رحلة ابن جبير ) في أحداث سنة 479 هـ.
كانت ليلة جمعة "27رمضان"

ويعبر ابن حبير عن تأثره بحضور تلك الليلة في الحرم فيقول "كانت الليلة الغراء والختمة الزهراء ،والهيبة الموقرة الكهلاء والحالة التي تمكن عند الله في القبول والرجاء ،  وأي حالة توازي شهود ختم القرآن ليلة سبع وعشرين من رمضان خلف المقام الكريم  وتجاه البيت العظيم،  وإنها لنعمة تتضاءل لها النعم تضاؤل سائر البقاع للحرم .   
وقد بدأ الاستعداد لهذه الليلة قبل ذلك بيومين أو ثلاثة،  فأقيمت إزاء حطيم أمام الشافعية خشب عظام بائنة الارتفاع موصول بين كل ثلاث منها بأذرع من الأعواد الوثيقة فاتصل منها صف كاد يمسك نصف الحرم عرضاً ووصلت بالحطيم الأول ثم عرضت بينها ألواح طوال مدت على الأذرع المذكورة ، وعلت طبقة منها طبقة أخرى حتى استكملت ثلاث طبقات ، فكانت الطبقة العليا منها خشبا مستطيلة مغروزة كلها مسامير محددة الاطراف لاصقا بعضها ببعض كظهر السهم , نصب عليها الشمع والطبقتان تحتها ألواح مثقوبة ثقبا متصلا وضعت فيها زجاجات المصابيح ذوات الأنابيب المنبعثة من أسافلها ، وتدلت من جوانب الألواح والخشب ومن جميع الأذرع المذكورة قناديل كبار وصغاروتخللها أشباه الأطباق المبسوطة من الصفر ، قد انتظم كل طبق منها ثلاث سلاسل تقلها في الهواء وخرقت كلها ثقبا ووضعت فيها الزجاجات ذوات الأنابيب من أسفل تلك الأطباق الصفرية،  لا يزيد منها أنبوب عن الآخر في الحجم ،  وأوقدت فيها المصابيح ، فجاءت كأنها موائد ذات أرجل كثيرة تشتعل نوراً ، ووصلت تلك بالحطيم الثاني الذي يقابل الركن الجنوبي من قبة زمزم خشب على الضفة الأولى المذكورة سابقاً واتصلت إلى الركن الجنوبي وأوقد المشعل الذي في رأس القبة وصففت شباكها شمعاً مما يقابل البيت المكرم . وحف المقام الكريم بمحراب من الأعواد المشرجية المخرمة محفوفة الأعلى بمسامير حديدة الأطراف بنفس الكيفية وقد علاها الشمع ، نصب على يمين المقام ويساره شمع كبير الجرم في أتوار "شمع دانات" تناسابها كبراً, وصفت تلك الأتوار "الشمعدانات" على الكراسي التي يصرفها السدنة مطالع عند الإيقاد ، وجلل جدار الحجر المكرم كله شمعاً في أتوار من الصفر فجاءت دائرة نور ساطع واحدقت بالحرم المشاعيل وأوقد جميع ما ذكر.   
وبعد ذلك الوصف التفصيلي للتجهيزات التي تمت في الحرم بدأ ابن جبير يتحدث عن وقائع الاحتفال بليلة القدر وختم القرآن . وقد تجمع صبيان مكة وأحدقوا بشرفات الحرم ، وقد وضعت بيد كل واحد منهم كرة من الخرق المشبعة وقوداً،  فوضعوها متقدة في رؤوس الشرفات ، وأخذت كل طائفة منهم ناحية من نواحيها الأربع ، وأخذت كل طائفة من الصبيان تتبارى مع الأخرى في سرعة إيقادها ، فيخيل للناظر أن النار تثب من شرفة إلى شرفة لخفاء أشخاص الصبيان وراء الضوء ، وفي أثناء عملهم يرفعون أصوات قائلين :"يا رب يا رب" على لسان واحد فيرتج الحرم لأصواتهم . فلما تكامل إيقاد الجميع يغشى الأبصار شعاع تلك الأنوار فلا تقع لمحة طرف إلا على نور تشغل حاسة البصرعند استمالة النظرة، فيتوهم المتوهم – لهول ما يعانيه من ذلك – إن تلك الليلة المباركة نزهت لشرفها عن لباس الظلماء فزينت بمصابيح السماء.!! 
وتقدم قاضي الحرم فصلّى فريضة العشاء الأخيرة ثم قام وابتدأ بسورة القدر وكان أئمة الحرم في الليلة قبلها قد انتهوا في القراءة إليها، وسكت أئمة الحرم عن القراءة في تلك الليلة تعظيما لختمة المقام وحضروا متبركين بمشاهدتها . 
وكان المقام المطهر قد أخرجوه ووضع في محله الكريم مصلى مستور بقبته التي يصلي الناس خلفها ، فختم القاضي بتسليمتين , وقام خطيباً مستقبل المقام والبيت العتيق ، فلم يتمكن من سماع الخطبة أحد بسبب الازدحام وضوضاء العوام . ( فلما فرغ من خطبته عاد الأئمة لإقامة التراويح وانفض الجميع ونفوسهم قد استطارت خشوعاً وأعينهم قد سالت دموعا ،  وشعر الجميع بالقبول من الله وأن تلك الليلة هىّ ليلة القدر . ).!!..

 

المقال العاشر

مجاعة فى رمضان سنة 595هـ في مصر الأيوبية

 1 ـ هذه مقالة تبعث على التألم لأنها تصف تاريخاً وقع، ولكن في التألم عبرة وعظة . ولذا نكتب التاريخ.

  في هذه السنة يئس الناس من زيادة النيل فارتفعت الأسعار وانتشر القحط فهرب الفلاحون للمدن ، وهرب كثيرون إلى الشام والمغرب والحجاز واليمن وتفرقوا في البلاد ، ودخل القاهرة كثيرون اشتد بهم الجوع حتى إذا جاء رمضان سنة 595هـ كانت المجاعة على أشدها والمآسي التي تحدث بسببها لايصدقها عقل،ولولا أن فيلسوفاً حكيماً كان في القاهرة في ذ لك الوقت وقص ما شاهده وهو معروف بصدقه واتزانه ــ لولا ذلك ــ ما صدق القارئ ما كان يحدث في رمضان 595هـ وما بعده .    

 تصادف أن كان في القاهرة الفيلسوف الطبيب / عبد اللطيف البغدادي وشهد تلك المجاعة ،فكتب عنها وعن مشاهداته في مصر كتابه القيم "الإفادة والإعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر" وكما يدل العنوان فقد استقى الحوادث مما رأى ومما سمع فكان كتابه وثيقة حية تنبض بالصدق المُرّ والواقعية المفجعة ...
 2 ـ يقول " واشتد بالفقراء الجوع حتى أكلوا الميتات والجيف والكلاب والبعر والأرواث ،ثم تعدوا ذلك إلى أن أكلوا صغار بني آدم ، فكثيرا ما يعثر عليهم ومعهم صغار مشويون أو مطبوخون ، فيأمر صاحب الشرطة بإحراق الفاعل لذلك والآكل ، ورأيت صغيراً مشوياً في قفة وقد أحضر إلى دار الوالي ومعه رجل وإمرأة زعم الناس أنهما أبواه فأمر بإحراقهما " 
3 ـ ثم يأخذ عبد اللطيف البغدادي في وصف مشاهداته المروعة فيقول " ووجد في رمضان وبمصر رجل وقد جردت عظامه عن اللحم فأكل، وبقى قفصاً كما يفعل الطباخون بالغنم.. ولقد رأيت إمراة يسحبها الرعاع في السوق ظفروا معها بصغير مشوي تأكل منه ،وأهل السوق ذاهلون عنها ومقبلون على شئونهم وليس فيهم من يعجب لذلك أو ينكره ، فعاد تعجبي منهم أشد ، وما ذلك إلا لكثرة تكرره على إحساسهم حتى صار في حكم المألوف الذي لا يستحق أن يتعجب منه، ورأيت قبل ذلك بيومين صبياً نحو الرهاق مشوياً وقد أخذ به شابان أقرَا بقتله وشيِّه وأكل ْ بعضه .

4 ـ ويحكي عبد اللطيف البغدادي أقاصيص مزعجة في هذا السياق ، وكلها تدور حول فقراء جوعى من رجال ونساء وقد انتشروا في شوارع القاهرة يخطفون الصغار ويأكلونهم ، وقد أصابهم الجوع بالسعاروالجنون، وأنه إذا عوقب أحدهم بالحرق ما لبث أن يأكله الآخرون . ويقول تلك العبارة المؤلمة " ثم فشا فيهم أكل بعضهم بعضاً حتى تفانى أكثرهم ، ودخل في ذلك جماعة من المياسير والمساتير، منهم من يفعله احتياجاً ومنه من يفعله استطابة ."!!

5 ـ ثم يحكي عن الحيل التي كان يخترعها بعضهم للإيقاع بالناس وأكلهم . ويقول أن الوالي حكي له أن إمراة دعيت إلى وليمة فوجدت لحماً كثيراً فاسترابت في الأمر وسألت بنتاً صغيرة من المنزل سراً عن ذلك اللحم فقالت:إنها فلانة السمينة دخلت لتزورنا فذبحها أبي وهاهي معلقة.. فهربت السيدة إلى الوالي فهجم على المنزل ولكن هرب صاحب البيت . ويروي من الغرائب أن إحدى النسوة الأثرياء كانت حاملاً وكان جيرانها من الصعاليك فكانت تشم عندهم رائحة طبيخ فاشتهت منه كما هي عادة الحبالى فأكلت منه وأحبته وعرفت منهم أنه لحم آدمي فأدمنته وصاروا يتصيدون لها ، وغلبها السعار ، واكتشف أمرها في النهاية فحبست وأرجئ قتلها احتراماً لزوجها الغائب حتى تضع حملها.
6 ـ ويقول عبد اللطيف البغدادي أنه يحكي ما يشاهده دون قصد، وأن ما رآه أكثر مما يحكيه وأنه كثيراً ما كان يفر مما يرى من بشاعته .  ويقول إن المضبوطات في بيت الوالي كانت تشتمل على كوارع ورءوس آدمية وأطراف مطبوخة في القمح وغيره، ويقول وكثيراً ما يدعي بعضهم أنه يأكل ولده او زوجه أو حفيده ولئن يأكله هو خير من أن يأكله غيره . ويقول ومما شاع أيضا نبش القبور وأكل الموتى وبيع لحمهم، وهذه البلية وجدت في جميع بلاد مصر من أسوان وقوص والفيوم والمحلة والاسكندرية ودمياط وسائر النواحي .

7 ـ وتحدث عن قطع الطريق وقتل المسافرين وعن موت الفقراء في الطرقات والجثث العائمة في النيل ، وخلو القرى والمدن من السكان ، وتحدث عن بيع الأولاد والبنات بدراهم معدودة ،حتى تباع الفتاة الحسناء بدراهم ، ويقول أنهم عرضوا عليه فتاتين مراهقتين بدينار واحد ، وأنه رأى فتاتين إحداهما بكر يُنادى عليهما باحدى عشر درهماً ، وقد سألته إمرأة ان يشتري إبنتها وكانت جميلة دون البلوغ بخمسة دراهم فقال لهم إن ذلك حرام فقالت له: خذها هدية .!! ويقول إن كثيراً من النساء والولدان أصحاب الجمال كانوا يترامون على الميسورين ليشتروهم أو يبيعوهم . ووصل بعضهم إلى إيران . وفي هذه المحنة برز بعض الفجرة الأغنياء اشتروا الأحرار الجوعى واسترقوا النساء الحرائر بأقل الأثمان ويحكي البغدادي أن بعضهم كان يفتخر بأنه اشترى خمسين بكراً أو سبعين .
8 ـ ومن الطبيعي أن القارئ قد يغضب إذا قرأ هذا التاريخ الذي وقع بأرض مصر ، ولكن لابد من معرفته لنتأكد إلى أي حد كنا في حاجة للتحكم في الفيضان حتى لا يأتى الجفاف وتحدث المجاعات التي كانت تتكرر في دورات متتابعة في تاريخ مصر القديم والوسيط . ولكن ـ وآه من لكن هذه ـ فبعد بناء السد العالى واختفاء دورة المجاعات والأوبئة التى كانت تحدث بسبب جفاف او طغيان الفيضان ، فان العسكر الذى استبد بمصر طيلة اكثر من نصف قرن قد وصل بها الان فى رمضان 1429 الى حافة المجاعة ، فالأخبار تاتى بالاقتتال حول رغيف الخبز وشهداء الكفاح من أجل الحصول على رغيف من الخبز لا يخلو من المسامير و الحشرات الميتة .. هذا فى الوقت الذى يلعب فيه أبناء المترفين بالملايين ينفقونها فى المخدرات والمجون . نحن هنا أمام كارثة يصنعها عن عمد واصرار حكام خانوا الأمانة ، ونسوا قوله جل وعلا (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ )( ابراهيم 42).
اللهم جنّب مصر الكارثة القادمة .. فيكفى ما عانته فى تاريخها القديم والمتوسط.!!..

 

 

المقال الحادى عشر

أوبئة حدثت في رمضان 

مقدمة :

1 ـ كانت الأوبئة والمجاعات من المعالم الأساس في تاريخ العصور الوسطى والقديمة ، وإن كان العصر الحالى قد تمكّن من القضاء على معظم الأوبئة وحصر المجاعات في أضيق حدود فإن علينا أن نسترجع ذكريات التاريخ المؤلمة لنرى ما أنعم الله علينا من نعمة التقدم ، ولنكون أحرص على استمرار تلك الحرب المقدسة ضد الجوع والمرض لتكون الكرة الأرضية في المستقبل القريب وطناً للرخاء والشفاء .

2 ـ وكانت المجاعة تحدث في مصر على فترات دورية مرتبطة بجفاف النيل الذي لم يستطع أجدادنا السيطرة عليه، وبعد المجاعة يأتي الوباء غالباً بعد أن تمتلئ الأرض بالجثث والعفن، وقد يأتي الوباء منفرداً ، وله هو الآخر دورته الخاصة إذ ينتشر سريعاً ثم يهدأ وينكشف بعد أن يكون قد أباد مئات الألوف ، خصوصاً من الأطفال الذين لم تكن لديهم حصانة من قبل .  ولم يكن رمضان بعيداً عن الأوبئة والمجاعات ، إذ كان له فيهما نصيب مثل باقي الأشهر.   

 2 ـ وقد أدرك المقريزي وهو طفل تلك المجاعة التي حدثت قبل شهر رمضان سنة 776هـ واستمرت إلى آخر شوال، وجاء بعدها وباء أهلك الكثيرين ممن نجوا من المجاعة, يقول المقريزي " إبتدأ الوباء في نصف جمادى الآخرة،  وكثر موت الفقراء والمساكين بالجوع ، فكنت أسمع الفقير يصرخ بأعلى صوته :لله لبابة ــ أي كسرة خبز ــ قدر شحمة أذني أشمها وخذوها "  فلا يزال كذلك حتى يموت ."
  ويتحدث المقريزي عن الكساد الذي ساد بسبب هذه المجاعة: " هذا وقد توقفت أحوال الناس من قلة المكاسب لشدة الغلاء وعدم وجود ما يُقتات به ، وشُحّ الأغنياء وقلة رحمتهم ، ومع ذلك لم يزدد اجر العمال من البنائين والفعلة والحمالين ونحوهم من أرباب الصنائع ، بل استقرت على ما كانت عليه قبل الغلاء، فمن كان يكتسب في اليوم درهماً يقوم بحاله ويفضل له منه شيئ صار الدرهم لا يجدي شيئاً، فمات ، ومات أمثاله من الأجراء والعمال والصناعين .." أى دفع الفقراء والعمال و الحرفيون الثمن جوعا وموتا .
3 ـ ثم يتحدث المقريزي عن الغلاء فيقول " وفي شهرى رجب وشعبان اشتد الغلاء، فبلغ الأردب القمح مائة وخمسة وعشرون درهما ،ًوالأردب الشعير تسعين درهماً ،والأردب الفول ثمانين درهماً ، والبطة الدقيق زنة خمسين رطلاً بأربعة وثلاثين درهماً ، وشنع الموت في الفقراء من شدة البرد والجوع والعرى وهم يستغيثون فلا يغاثون، وأكل الناس خبز الفول والنخالة عجزاً عن خبز القمح، وبلغ الخبز الأسود كل رطل ونصف بدرهم، وكثر خطف الفقراء له ما قدروا عليه من أيدي الناس ."..!!.. والمصريون يتقاتلون اليوم ليس فى سبيل الله جل وعلا ولكن فى سبيل الخبز .. فهل تقترب مصر اليوم من هذه الحالة . نرجو من الله تعالى السلامة..!!
4 ـ ويقول المقريزي أن المساجين كانوا أشد الناس جوعاً ، وقد حدث أن أقيم بالسجن حائط من طين فأكله المساجين من شدة جوعهم!! وقد أصبحت الدواب نادرة لموتها بالجوع .

5 ـ وفي يوم 24 شعبان قررت السلطات المملوكية أن تفرق الفقراء على الأمراء والميسورين ليطعموهم فجمعوا الفقراء وفرقوهم عليهم ، كل حسب حاجته ، ثم نودي بالقاهرة بألا يتصدق أحد على حرفوش ( الحرافيش هم العوام )، وإن أى حرفوش تسول شيئاً فجزاؤه الصلب .! . وبذلك التزم كل واحد بمن معه من الفقراء [الحرافيش] فخفت الصراعات التي كانت تحدث في الشوراع ، إلا أن الوباء انتشر وزداد عدد الموتى خصوصاً في شهر رمضان مع نفاذ الأقوات حتى بلغ الموتى في القاهرة يومياً حوالي 500 . ولم يعد بوسع أحد أن يدفن كل هذا العدد فشوهدت الكلاب تأكل الجثث ، وهنا تدخلت السلطات المملوكية فأعلنت أن من أتى بميت أعطوه درهما فأتاهم الناس بالموتى ، فقامت السلطات بتغسيلهم وتكفينهم ودفنهم ، فلما أفنى الوباء الفقراء بدأ عمله في الأغنياء فازداد سعر الأدوية ، وفي نفس الوقت أصبحت الفراريج نادرة حتى كان السلطان يبعث في طلبها من الأقاليم.. وهكذا كان الفقير قبل موته يتمنى ان يشم كسرة خبز، أما الغني فقد كان يعاني في مرضه لا من الجوع بل من غلاء سعر الدواء.! 
6 ـ وكان الوباء ينتقل من بلد إلى آخر ، وفي موسم الحج كان يجد الفرصة للإنتشار. وفي رمضان سنة 837هـ تناقص الوباء بمكة بعد ان أخذ دورته، وفي رمضان 839هـ ظهر الوباء بمدينة تعز في بلاد اليمن وشمل سائر نواحيها . وفي سنة 841هـ بدأ الوباء في الصعيد ودمشق وحلب في شهر رجب فأظهر أهلها التوبة على حد قول المقريزي ــ وأغلقوا حانات الخمر ومنعوا البغايا من الوقوف بالشوارع ( وكان البغاء حرفة مصرحا بها فى معظم فترات العصر المملوكى للزنا والشذوذ، وكانت الدولة تجبى منه الضرائب ) ، فتناقص الموت وخف الوباء حتى كاد يرتفع ، يقول المقريزي " وجعلوا شكر النعمة أن فتحوا الخمارات وأوقفوا البغايا والأحداث (أى الصبيان ) للفساد ، وضربوا عليهم الضرائب فأصبحوا وقد مات من الناس ثمانمائة انسان ، واستمر الوباء في ازدياد في شعبان ووصل القاهرة في رمضان.
  وفي يوم الثلاثاء أول رمضان وصل عدد الموتى بالقاهرة 18فرداً  ، ثم تزايد العدد حتى فشا الطاعون في القاهرة ومصر خصوصاً في الأطفال والعبيد والجواري ، ووصل إلى أطراف مصر في الواحات بينما تضاءل في الصعيد. 

7 ـ هذا الغضب الالهى سببه الفساد العقيدى و السلوكى من الظلم الى انتشار الفواحش مع رفع راية الالتزام بتطبيق الشريعة ( السنية وحكم قضاة الشرع الشريف ) على حد قولهم ، فقد كان من العادة أن يقام حفل لختم البخاري في القلعة ، ويحضره السلطان وكبار العلماء والقضاة ، وفي هذا العام كان الحديث مع السلطان حول الوباء الذي يصرع الناس وكيفية الخلاص منه . وقال العلماء ان السبب في الطاعون هو انتشار الزنا وخروج المراة متبرجة فأمر السلطان برسباي بمنع خروج النساء جميعهن من بيوتهن ومن خرجت فعقوبتها القتل . فامتنعت النساء من الخروج ، وتتبع والي القاهرة من تخرج منهن وكان يضربهن ، فلم تعد إمرأة تخرج من بيتها , فثرتب على ذلك تعطل أحوال النساء الأرامل والعاملات والساعيات في الرزق ، وتعطل البيع والشراء وكسدت الأحوال فاضطرت الدولة في 27رمضان للسماح بخروج الجواري للأسواق لقضاء الحوائج ولكن لا يتنقبن،وأن تخرج العجائز لقضاء مصالحهن ، وسمح للنساء بالخروج إلى الحمامات ولكن لايقمن بها إلى الليل، يقول المقريزي فكان في ذلك نوع من الفرج.
8 ـ  وجدير بالذكر أن رمضان كان دافعا في حد ذاته للتقليل من خروج المراة المملوكية للشارع بدون أزمة الوباء الذي حدث 841هـ ، ففي 28رمضان سنة 825هـ نودى بالقاهرة بمنع النساء من الخروج إلى الترب والمقابر في أيام العيد وهددن بالعقوبة إن خرجن، فامتنعت نساء كثيرة من الخروج ، وفي رمضان 835هـ كان دولات قجا والي القاهرة ( أى مدير الأمن ) مشهورا بعنفه وقسوته ، وكان يكثر من الخروج بفرسانه للتفتيش على الشوارع ، وأمر الناس بكنس الشوارع ورشها بالماء ويعاقب من لايفعل ، وهو الذي منع النساء من الخروج للترب والمقابر في أيام الجمعة.. 
9 ـ ونعود إلى تاريخ الأوبئة في رمضان ،  ونذكر الوباء الذي حدث في رمضان سنة 843هـ في الطائف وعامة بلاد الحجاز،وهلك فيه من قبائل ثقيف وغيرهم عالم لا يحصيه إلا خالقهم بحيث صارت أنعامهم هملاً وأخذها من ظفر بها ، وامتد الوباء إلى نخلة وهي على مسيرة يوم من مكة.
* وفي رمضان 841 انتشر الطاعون في العراق ، وفي نفس الوقت انتشر الجراد الكثير بالقاهرة وضواحيها.
10 ـ وبعض الأوبئة كان يصيب المواشي ، ففي رمضان 691هـ كثر موت الجمال في الشام حتى حمل الأمراء المسافرون أثقالهم على الخيل وذلك في سلطنة الأشرف خليل.وبعدها بحوالي قرن أى فى رمضان 794هـ وقع وباء فى البقر حتى بيعت البقرة في مصر بعشرين درهماً بعد ما كانت بخمسمائة درهم ، ثم ازداد انتشار الموت فيها فأصبحت البقرة تباع بخمس دراهم، وترك الناس أكل البقر استقذاراً له وعم الوباء في البقر في مصر كلها وأفنى الجزء الأكبر منها.
11 ـ  وفي أول رمضان{ يوم الأربعاء} سنة 873هـ الموافق 15 مارس 1468 م كانت بداية الطاعون في مصر والشام ومات فيه ابن صغير للسلطان قايتباي ، وانتشر المرض في هذا الشهر وما بعده ووصل سائر المدن والقرى المصرية.
12 ـ وقد تحدث بعض الأمراض الموسمية فيزداد غلاء الأدوية  ،  كما حدث في رمضان سنة807هـ وفيه كانت أسعار الأدوية كالآتي:بذر الرجلة من 60 إلى 80 درهماً القدح ، وقنطار الشيرخشك من 1400 : 30 ألف درهم، قتطارالترنجبين من 400 : 15 ألف درهم وهو دواء ملين وينفع مع السعال والصفراء ، ووصف طبيب دواء لمريض فبلغ ثمن الدواء 120 درهماً... 
وأخيرا

واليوم فان الوباء الأساس والمرض المتوطن فى نفس المناطق هو نفس ما توارثناه من العصرين المملوكى و العباسى ،أى الفساد والاستبداد . وبينما ينعم الغرب بالديمقراطية وحقوق الانسان فان الانسان العربى والمسلم لا يزال يعانى من الظلم والقهر والتضييق فى الرزق . صحيح أن التقدم العلمى المستورد من الغرب و المساعدات التى تأتى من الغرب قد أفلحت فى الحد من خطورة الأوبئة والأمراض المتوطنة ولكن أخطر الأمراض المتوطنة وأخطر الأوبئة لا تزال تلتهم الناس ، ليس بالموت السريع المريح ولكن بالموت البطىء المؤلم المخيف ؛ مرض الاستبداد والفساد ، وهو المسئول عن خسارة المسلمين للدنيا والآخرة معا.
على هامش الاستبداد والفساد نشأت تلك الأديان الأرضية للمسلمين لتشرع الخنوع للحاكم ولتنشر ثقافة العبيد ، وبها يعانون العذاب المؤقت فى الدنيا والعذاب الخالد فى الآخرة ..فهل بعد ذلك خسران ؟.
 فى الدنيا يعانى المصريون العرب والمسلمون من التلوث البيئى والتلوث الأخلاقى والتلوث العقيدى ..وقد يتجمع كل ذلك فى مولد أحد الأولياء وحول ضريحه المقدس..
ونضع كلمة ( الفساد ) مكان كلمة التلوث ، ونقرأ قوله تعالى يصف عصرنا : (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) ( الروم 41 )
ونتدبر قوله تعالى (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) ونسأل أنفسنا : هل هناك أمل فى أن نرجع لكتاب الله جل وعلا نحتكم اليه فيما وجدنا عليه آباءنا من أديان أرضية وثقافات عباسية ومملوكية وعثمانية ؟
لعل .. وعسى..!!

 

المقال الثانى عشر

 الغلاء في أسعـــار رمضان

 

1 ـ في رمضان سنة 755هـ كان الرخاء كثيراً بمكة المكرمة، فثمن غرارة القمح 80درهماً، والغرارة سبع ويبات مصرية، وهىّ قريبة من (الشوال) أو الكيس المستعمل في الريف المصري الآن، وكان ثمن غرارة الشعير 50 درهماً ، إلا أن الماء كان قليلاً بحيث نزحت الآبار وانقطعت عين جدبان فأغاثهم الله تعالى بمطر عظيم .. هذا ما ينقله المقريزي عن أحوال مكة في رمضان سنة 755هـ ضمن أحداث أخرى منها رجوع إمام الزيدية اليمني عن مذهب الزيدية، وتفاصيل تلك الأخبار يوحي بأن المقريزي ينقل عن شاهد كان حاضراً في مكة في ذلك الوقت .

 2 ـ والغلاء في مصر المملوكية كان مرتبطاً بفيضان النيل كما كان مرتبطاً بالسياسة الاقتصادية المملوكية، وحين يتناقص الفيضان يرتفع ترمومتر الأسعار ويبدأ التخزين في الحبوب تحسباً لمجاعة قادمة محتملة، وينقطع ورود الغلال من الصعيد، ويقوم تجار الغلال في ساحل بولاق بإخفاء ما لديهم، وتثور الإشاعات وتبلغ القلوب الحناجر، كان ذلك يحدث في رمضان وفي غير رمضان، وفي رمضان سنة 827هـ في سلطنة الأشرف برسباي حدث أن زاد النيل إصبعين، وكان قياس النيل يتم يومياً في ذلك الوقت من السنة القبطيةـ ثم قاسوه في اليوم التالي فوجدوه قد نقص، يقول المقريزي وكان يعيش ذلك الوقت " زاد النيل إصبعين ثم نقص، فأصبح الناس في قلق وطلبوا القمح ليشتروه وبدأ بعضهم في تخزينه خوف الغلاء إلا أن النيل زاد الأحد 18رمضان في الليل ونودي يوم الاثنين 19رمضان بتلك الزيادة فسُرِّ الناس ."
3 ـ وقد يأتي الفيضان بالمطلوب ولكن تأتي المشكلة من تقصير الدولة المملوكية في إصلاحات الجسور والكباري، والمماليك البرجية انهمكوا في امتصاص دم الشعب دون رعاية للمرافق النيلية، ولهذا كان يحدث الغلاء أحيانا مع وفرة المياه في الفضيان، وكان يحدث ذلك في رمضان، يقول المقريزي في حوادث يوم11 رمضان سنة 825هـ أن النيل بلغ 19 ذراعاً و6 أصابع وأن النفع عم بهذه الزيادة في الفيضان وكان منتظراً أن يعم الرخاء إلا أن الذي كان يتولى صيانة الجسور لم يعتن بها مما أدى لأن غمر ماء النيل الزراعات الصيفية وأفسدها، وضاع محصول السمسم ومحصول البطيخ، وكان زيت السيرج يستخرج من السمسم لذا ارتفعت أسعار السيرج في أسواق القاهرة يوم 28 رمضان من ذلك العام حتى وصل الرطل منه إلى 18درهماً من الفلوس لأن محصول السمسم غرق فقلَّ المحصول، يقول المقريزي "ولم يعهد مثل هذا  ".
  4 ـ وعموماً كان الغلاء أرحم في دولة المماليك البحرية منه في دولة المماليك البرجية، و المقريزي سجل أحوال مصر في الدولة المملوكية البحرية نقلاً عمّن سبقه من المؤرخين السابقين الذين عاشوا وقت هذه الدولة أمثال النويري وابن الفرات وبيبرس الداودار، ثم سجل أحوال الدولة المملوكية البرجية التي عاشها من مواقع المشاهدة والمعاصرة، وكان أحيانا ينقل أحوال الناس في الدولة البحرية ثم يعلق عليها بالحسرة من أحوال الناس في عصره . وكانت سنة 783هـ هي آخر سنة في الحكم الرسمي للدولة المملوكية البحرية إذ أسس السلطان برقوق الدولة المملوكية البرجية بدءاً من سنة 874هـ بعد سنوات من التحكم في ذرية بني قلاوون بوصفه الأمير الكبير. 
5 ـ والمقريزي ينقل أحوال الناس في رمضان 783هـ حين ارتفعت الأسعار ثم يقارن بين هذا الغلاء وسوء الأحوال في عصره بعد ذلك بثلاثين عاماً. يقول المقريزي عن رمضان 783هـ " وكانت الأسعار قد ارتفعت في شهر رمضان حتى بلغ الأردب القمح إلى أربعين درهماً وتزايد حتى بلغ في ذي القعدة ستين درهماً وعزَّ وجوده وارتفعت أسعار الحبوب كلها، وتعذر وجود الخبز بالأسواق، واختطفه الناس من الأفران !! ويقول المقريزي : ـ أن الناس في ذلك الوقت بدءوا في الشكوى من غلاء الأسعار، ولم يكن ذلك معروفاً من قبل، إذ كانت العادة أن يستنكف المستوردون من الشكوى من الغلاء، وإذا اضطر أحدهم للشكوى حسبوها عليه عيباً، يقول المقريزي عن أحوال الناس قبل شهور من قيام الدولة المملوكية البرجية "وكثرت الشكاية في الناس جميعهم، فكانت الشكاية مما تجدد ولم يكن يعرف بل أدركنا الناس إذا شكا أحد من الناس حاله عُدَّ عليه ذلك، فصرنا وما من صغير ولا كبير إلا وهو يشكو، وتزايد أمرهم في ذلك حتى صار أمر الناس بمصر في أيام الناصر فرج (ابن برقوق) وما بعدها إلى فاقة وضعة " أي فقر ومذلة.!! 
* 6 ـ وفي عصر المقريزي كان الغلاء شيئاً عادياً، بل كانت المجاعات خبراً عادياً، يقول المقريزي في رمضان 818هـ " وفي هذه السنة حدث غلاء عظيم بديار مصر."

 وفي رمضان 828هـ في سلطنة الأشرف برسباي يقول المقريزي "عَزَّ وجود اللحم بالأسواق.." .

وقد يحدث نوع من الفرج فيفرح به الناس وسط ذلك الضنك كما حدث في رمضان سنة 796هـ حين زاد محصول البطيخ العبدلاوي فرخص سعره حتى بيع المائة رطل منه بدرهم !!، وقد يحدث فرج أكبر فتهبط الأسعار في القمح والغلال، ففي سنة 828هـ التي أصبح العثور على اللحم فيها عسيراً هبطت أسعار الحبوب فيقول المقريزي عن رمضان 828هـ أن سعر الغلال انحل مع بداية رمضان وأنها كثرت في الشون وفي ساحل بولاق" من غير سبب يظهر في ارتفاعها أولاً ثم في انحطاطها،إن الله على كل شيء قدير!! أي ارتفعت الأسعار ثم هبطت، وبدون سبب مفهوم، وقد عهدنا المقريزي خبيراً بالاقتصاد في تعليقاته، ولكنه يعجز عن حل هذه الفزورة، وربما كان هذا بداية فوازير رمضان.! 
  7 ـ وبسبب تدهور الأحوال في عصر المقريزي فإن الغلاء الذي كان يتضرر منه الناس قبل خمسين عاماً يكون رحمة ورفاهية بالنسبة للضنك الذي كان يعيشه أحفادهم في القرن التاسع.. ونتأمل ذلك الخبر، يقول المقريزي في أخبار يوم 11رمضان سنة 825هـ أن الأسعار للغلال نزلت فبلغ سعر أردب القمح 150درهماً، والشعير 85درهماً، والفول80درهماً.. كان ذلك يعد هبوطاً للأسعار، وإذا رجعنا إلى أسعار سنة 783هـ قبيل الدولة البرجية وجدنا الناس يتضررون من الغلاء لأن أردب القمح وصل أربعين درهماً ... وذلك يشبه عصرنا .. فقد كان أجدادنا في العشرينات يتضررون إذا وصل ثمن أردب القمح إلى جنيه واحد ، وإذا انخفض سعر الأردب في عصرنا إلى مائة جنية اعتبرنا ذلك رحمة ورفاهية .

8 ـ ودخلت الأسعار في دوامة الغلاء والتضخم مع تردي الأحوال في الدولة الملوكية البرجية، ونلقي عليها نظرة سريعة فيما يخص شهر رمضان بالذات :  :
في رمضان سنة 825هـ كانت الأسعار كالآتي : أردب القمح 150 درهماً ، الشعير85درهماً..

وفي رمضان في سنة 831هـ، كان القمح 260درهماً، الشعير فوق200درهماً، والبطة من الدقيق 80درهماً (والبطة من الدقيق تساوي50رطلاً )

وفي رمضان 843هـ وصل القمح إلى 330 درهماً، والبطة من الدقيق إلى110درهماً . وأورد المقريزي تفصيلات أخرى عن أسعار هذا الشهر(رمضان843): فدان البرسيم أكثر من ألفي درهم، وتناقص لحم الضأن بالأسواق عدة أيام، ولم يكد يوجد السمن وعسل النحل هذا مع علو النيل، وطول مكثه، وحدث نقص في عدة زروع مثل اللفت والفجل والكزبرة. والسبب هو السياسة المملوكية وظلمها وعسفها وسوء تدبيرها.   
9 ـ ثم إذا تركنا عصر المقريزي وجئنا إلى عصر قايتباي وجدنا غلاءاً باهظاً في أول رمضان 873هـ (الموافق 15مارس 1468م). ثم جاء غلاء آخر في رمضان التالي 874هـ حيث وصل ثمن أردب القمح إلى 1300درهماً، أي ارتفع ثمن أردب القمح في نصف قرن من 150 درهماً إلى 1300درهماً، وذلك من سنة 783هـ إلى سنة 874هـ، ولم يكن في طاقة الناس تحمل ذلك الغلاء في عصر قايتباي لذلك اشتكوا إلى المحتسب وهو الذي يراقب الأسواق والأوزان والتسعيرة، واشتكى المحتسب إلى السلطان فأمر قايتباي بأن ينخفض السعر إلى ألف درهم وأمر بفتح المخازن السلطانية وبيع ما فيها بسعر ألف درهم للأردب، فهرع الناس إلى مخازن السلطان واشتروا منها بهذا السعر وهم يدعون للسلطان، وترتب على ذلك انخفاض ثمن الخبز، وكان الخبز يباع وقتها بالرطل، وقد وصل ثمن الرطل إلى تسعة دراهم، وبعد انخفاض سعر القمح نزل سعره إلى ستة دراهم للرطل، وكان أردب الشعير قد بلغ 900 درهم للأردب فنزل سعره إلى أقل من 600 درهم.
وأخيرا 
من قال إن الدولة المملوكية قد انتهت ؟
انتهى اسمها ولكن بقيت فلسفة الحكم العسكرى الاستبدادى قائمة .. الحكم العسكرى الذى يجثم على قلب مصر من عام 1952 وحتى الان يكرر كل فظائع المماليك من استبداد وفساد وتعذيب وقهر للشعب ، واستخدام القوة المفرطة ضد الشعب الأعزل.! 
الفارق أن العسكر المماليك كانوا أجانب جىء بهم بالشراء ليكونوا جنودا ليدافعوا عن مصر الوطن والانسان فوجهوا سلاحهم ضد مصر الوطن والانسان مستبدين بالحكم ومستاثرين بالثروة ، ولكن العسكر المصرى (مصرى) ولكن بدلا من أن يترفق بأهله سامهم خسفا و ذلا وقهرا ، فاق ظلم المماليك.   
والفارق أن العسكر المملوكى كانت ثقافته متسقة مع العصور الوسطى ، فالاستبداد الدينى و العسكرى كان هو السائد ، ولم يعرف العصر الوسيط وقتها معنى الديمقراطية وحقوق الانسان .. ولكن العسكر ( المصرى ) هو الذى صادر الديمقراطية و الليبرالية التى سبقت بها مصر كل العرب و المسلمين منذ أن أنشأ الخديوى اسماعيل أول مجلس نيابى فى مصر فى العقد السابع من القرن 19 ..ثم سارت مصر فى تطور ليبرالى ديمقراطى أسفر عن دستور 1923 . صادر العسكر المصريون كل هذا التطور ، ووصلوا باهلهم المصريين الى أحط درجات القهر. أين مصر الان من ديمقراطيات أفريقية وآسيوية ؟
الفارق إن المماليك العسكر أحرزوا انتصارات يحق لهم الفخر بها ، المماليك هم الذين اوقفوا الزحف المغولى فى عين جالوت ، وهم الذين دمروا الامارات الصليبية وطردوا الصليبيين من آخر معقل لهم فى عكا.. وفى عصر المقريزى غزا السلطان برسباى جزيرة قبرص وفتحها ،ووصل نفوذ مصر المملوكية الى جزر أخرى فى البحر المتوسط ، ولا ننسى أن الدولة المملوكية هى التى جعلت القاهرة عاصمة الخلافة العباسية وأهم عاصمة للمسلمين وقتها، وهى التى سيطرت على الشام واجزاء من العراق وآسيا الصغرى ، مع الحجاز ..اين هذا من هزائم العسكر المصريين فى اعوام 1956 ، و1967 ، وفى الثغرة 1973 .. إذا كان من حق المماليك الفخر بأنهم وصلوا بحدود مصر الى جنوب تركيا وغرب العراق وشمال اليمن فان من حق العسكر المصريين أن يشعروا بالخزى و العار وهم الذين أضاعوا سيناء واستعادوها منقوصة السيادة بعد حرب لم تسمن ولم تغن من جوع ..بل جاء بعدها الجوع .  ..
وبمناسبة الجوع فقد كانت الأوبئة و المجاعات قدرا متكررا لا حيلة للمماليك فيه بسبب قلة أو زيادة فيضان النيل فى العصر المملوكى ، فما هو العذر الذى يتحجج به العسكر المصريون فى الجوع الذى يعانى منه المصريون الان ؟ .. انه ليس مجرد غلاء ..بل هو اقتتال على رغيف الخبز فى وطن أصبح النيل فيه خادما وديعا للزراعة ؟!..
أن كل ما سبق نشره فى موقعنا ( أهل القرآن ) من هذه الحلقات عن رمضان بين سطور التاريخ أصبح مؤلما لى ـ ليس فى إعدادها من بين سطور التاريخ ، وهو عمل بحثى متعب ومرهق ـ ولكن الألم الحقيقى حين أضطر لعقد المقارنة بين مصر الآن ومصر المملوكية .   
ولكن هذه المقارنة ضرورية لنتعرف على الوهدة التى أوصلنا اليها العسكر( المصرى ) ..والتى تجعلنا نترحم على العسكر المملوكى الغريب الذى كان ارحم بالمصريين والذى رفع اسم مصر عاليا فى وقته .
ولا حول ولا قوة إلا بالله ..جل وعلا .!

 

 

 

ب 3 / ف 1 / ج 4 : رمضان بين سطور التاريخ : ( ثلاث مقالات )

كتاب ( رمضان والصيام بين الاسلام والدين السنى ) دراسة أصولية تاريخية

الباب الثالث : لمحة عن رمضان فى التاريخ  

الفصل الأول : رمضان بين سطور التاريخ : الجزء الرابع ( ثلاث مقالات )

 

المقال الثالث عشر 

ملامح من رمضان فى عصر قايتباى

المرجع الأساس لعصر قايتباى هو المؤرخ ابن الصيرفى الذى أرّخ له وهو يعمل قاضيا للسلطان ، بالاضافة الى اثنين من المؤرخين هما ابو المحاسن ابن تغرى بردى وابن اياس . وننقل ملامح من رمضان فى القاهرة فى عصر السلطان المملوكى قايتباى :
رمضان سنة 873 هـ
 بداية الأسبوع الثالث من رمضان 873هـ يوافق 29 مارس 1468م
كان الطاعون منتشراً في أوائل شهر رمضان ثم خفت حدته بحلول الأسبوع الثالث منه . ومع نقص الطاعون فالموت لا يزال موجوداً بكثرة بين الأمراء والأعيان من المماليك 
في ليلة الخميس 16 رمضان مات بالطاعون الأمير قانباي الحسني والي القاهرة المحروسة، وكان من مشاهير الظلمة ودفن في اليوم التالي ، وقال عنه المؤرخ أبو المحاسن " وأما أفعاله فسيئة ، وباشر الولاية مباشرة سيئة ، وحسابه على الله تعالى .  ".
وقال عنه المؤرخ ابن الصيرفي فى كتابه ( إنباء الهصر بأبناء العصر ) " أصله من عتقاء الملك الأشرف إينال، وله الوقائع المعلومة الصادرة عنه من الظلم والأذى إلى غير ذلك .  " .
  رمضان سنة 875 هـ
بداية الأسبوع الثالث من رمضان 875 هـ الموافق 6 مارس سنة 1475 م
يقول المؤرخ القاضى ابن الصيرفى إنه منذ منتصف رمضان إلى نهاية هذا الأسبوع عاش الصناع (الحرفيون ) في القاهرة في ظلم شديد بسبب تعسف المماليك، فالخياطون وصناع الجوخ وأرباب الصناع سخرهم الداودار الكبير للعمل عنده في تجهيز عدة الجيوش ومستلزماتها أثناء استعداده للزحف إلى شاه سوار الثائر على الدولة المملوكية في العراق . ومع أن الداودار الكبير قرر لهم أجوراً نظير عملهم إلا أنه كان يماطلهم ولم يعطهم شيئاً . وأما التجار وأصحاب الجوانيت فإنهم من أول شهر رمضان إلى نصف الشهروهم بلا عمل بسبب انتظارهم لبيع تركة الأمير بردبك نائب الشام، وحتى الأسبوع الثالث من رمضان لم ينته البيع ، ثم إن الوزير ابن الغريب فرض على الإسكافية أن يشتروا منه جلود المدابغ بضعف ثمنها، واضطر الإسكافية في(بين الصورين) للشراء وصبروا على الظلم ، أما أساكفية حي (الصليبة) فإنهم أخذوا الجلود ووعدوا أعوان الوزيربدفع بعض الثمن، ثم أصبحوا فوقفوا أمام القلعة يستجيرون بالسلطان قايتباي ، فمنعهم خدام الحوش السلطانى فرجعوا وصعدوا إلى أعلى الجبل المقابل لحوش السلطان الذى يجلس فيه للخدمة والأحكام واستغاثوا، فسأل السلطان عن أمرهم فأخبروه بحالهم وأن الوزير ابن غريب فرض عليهم الجلود بضعف ثمنها وغرمهم، فأمر السلطان بإنصافهم وكف الوزير عنهم ، فدعوا للسلطان وانصرفوا. 
رمضان سنة 876هـ
في يوم الإثنين 15 رمضان 876 عرضت كسوة الحرم الشريف بمكة على العادة بالقصر السلطاني بالقلعة، وأنعم السلطان قايتباي على القاضي برهان الدين الكركي وهو إمام المسجد السلطاني بالقلعة ، وأنعم على ابن القاضي شرف الدين الأنصار لأنه ناظر كسوة الحرم الشريف، وكان برهان الدين الكركي هو الذي باشر إعداد كسوة الكعبة، وأنعم السلطان إيضاً على بقية من باشر في إعداد الكسوة الشريفة.
وفي نفس اليوم صعد رسل السلطان العثماني لمقابلة السلطان قايتباي بالقلعة، وكان رسل السلطان العثماني في موكب حافل واستقبلهم السلطان قايتباي في أبهة زائدة، وقدموا هديتهم للسلطان فقبلها، وكانت هديتهم أربعة من المماليك وأثواب سمور وسنجاب وعشرة أقفاص فضيات . وكان مع كبير الرسل العثمانيين رسالة للسلطان قايتباي فقرأها السلطان قايتباي سراً. وكان رسل السلطان العثماني في طريقهم للحجاز. وكان الحجاز تحت السيطرة المملوكية وفي هذا اليوم كان أول شهر برمهات القبطي... وكان البرد فيه شديداً للغاية.  .

 

المقال الرابع عشر

ذنوب في رمضان ـ وزلزال في ذي الحجة

1 ـ حدث زلزال عام في مصر في ذي الحجة يوم 23 سنة 702هـ والمقريزي يرى أن ذلك الزلزال هو عقوبة على ما حدث في رمضان الذي قبله ، فقد انتصر المماليك على غازان والتتار في الشام وجاءت البشرى للقاهرة فأقيمت الأفراح والليالي الملاح وظهرت الخمور وتبرجت النساء ، وكان لابد من العقوبة . يقول المقريزي " وفيها كانت الزلزلة العظيمة ، وذلك أنه حصل بالقاهرة ومصر في مدة نصب القلاع والزينة من الفساد في الحريم وشرب الخمور ما لايمكن وصفه من خامس شهر رمضان إلى أن قلعت ـ أى الزينة ـ في أواخر شوال ، فلما كان يوم الخميس يوم 23 ذي الحجة عند صلاة الصبح اهتزت الأرض كلها وسمع للحيطان قعقعة وللسقوف أصوات شديدة، وصار الماشي يميل والراكب يسقط حتى تخيل الناس أن السماء انطبقت على الأرض ، فخرجوا في الطرقات رجالاً ونساءاً، ومن شدة الخوف والفزع خرجت النساء مكشوفات الوجه ( لاحظ هنا أن النساء كن يلبسن النقاب ، ومع ذلك كان الفسق سائدا حتى فى رمضان ) ..واشتد الصراخ وعظم الضجيج والعويل وتساقطت الدور وتشققت الجدران وتهدمت مآذن الجوامع والمدارس، ووضع كثير من الحوامل ما في بطونهن ، وخرجت رياح عاصفة ففاض ماء النيل حتى ألقى المراكب التي كانت بالشاطئ ، وعاد الماء عنها فأصبحت على اليابس وتقطعت مراسيها ، واقتلع الريح المراكب السائرة في وسط الماء وحدفها على الشاطئ  ).
  ونتابع المقريزى وهو يقول : ( وضاعت للناس أموال كثيرة ، فقد خرجوا من بيوتهم مفزوعين وقد تركوا خلفهم بيوتهم بكل ما فيها وقد ذهلوا عن أموالهم، وسرعان ما دخلها اللصوص وسرقوها، وترك الناس القاهرة إلى خارجها ، ونصبوا الخيم من بولاق إلى الروضة وباتوا فيها. ولم تكد دار في القاهرة تسلم من الهدم أو الفوضى ، وسقطت المنشئات التي في أعلى البيوت، ولم تبق دار إلا وعلى بابها التراب والطوب، وبات الناس ليلة الجمعة بالجوامع والمساجد يدعون الله تعالى إلى وقت صلاة الجمعة .!! )
  وعن الزلزال خارج القاهرة يقول المقريزى : (وتواترت الأخبار من الغربية بسقوط جميع دور مدينة سخا حتى لم يبق بها جدار قائم وصارت كوماً ، وأن ضيعتين بالشرقية خربتا حتى صارتا كوماً ، وقدم الخبر من الآسكندرية بان المنارة انشقت وسقط من أعلاها نحو الأربعين شرفة ، وان البحر هاج وألقى الريح العاصف أمواجه حتى وصل باب البحر، وصعد بالمراكب الأورربية على البر ، وسقط جانب كبير من السور المقام على الشط ، ومات جمع كبير من الناس ).!! ( وقدم الخبر من الوجه القبلي بأن في اليوم المذكور هبت ريح سوداء مظلمة حتى لم ير أحدٌ أحداً لمدة ساعة ، ثم ماجت الأرض وتحركت وظهر من تحتها رمل أبيض وفي بعض المواضع رمل أحمر ، وكشط الريح مواضع بين الأرض فظهر من داخل الأرض عمائر قديمة ــ فرعونية ــ كانت الرمال قد أخفتها ، وخربت مدينة قوص .) ، وقدم الخبر من البحيرة أن دمنهور لم يبق بها بيت عامر.!! 
  وعن خسائر الزلزال فى العمائر المملوكية الشهيرة يقول المقريزى : ( وتركت الزلزلة آثارها المدمرة على المساجد المشهورة بمصر والقاهرة مثل جامع عمرو بن العاص ، فالتزم الأمير سلار النائب بعمارته ، وخربت أكثر سواري جامع الحاكم بالقاهرة وسقطت مئذنتاه فالتزم الأمير بيبرس الجاشنكير بعمارته ، وخرب الجامع الأزهر فالتزم الأمير سيلار بعمارته أيضاً وشاركه فيه الأمير سنقر الأعسر. وخرب جامع الصالح خارج باب زويلة فعمره السلطان من ديوان الخاص وتولى عمارته الأمير علم الدين سنجر، وخربت مئذنة المدرسة المنصورية فعمرت من إيراد الوقف عليها وقاد بترميمها الأمير سيف الدين كهرداس الزراق ،وسقطت مئذنة جامع الفكاهين ، وأمر السلطان بعمار ما تهدم من سور الأسكندرية .)
 وعانى أهل الشام من نفس الزلزال ، يقول المقريزى : ( وقدم البريد من صفد يخبر بأنه في يوم الزلزال سقط جانب كبير من قلعة صفد، وأن البحر من جهة عكا انحسر قدر فرسخين وانتقل عن موضعه إلى البر فظهر في موضع الماء أشياء كثيرة في قعر البحر من أصناف التجارة كانت غارقة. وتشققت جدر جامع الأموي في دمشق.)
  وعن طبيعة الزلزال والهزات التالية الناتجة عنه يقول المقريزى يعكس ثقافة عصره عن الزلازل : واستمرت الزلزلة خمس درجات ( بمقياس العصر المملوكي وليس بمقياس ريختر ) إلا أن الأرض أقامت عشرين يوماً ترجف ، وهلك تحت الردم خلائق لا تحصى ، وكان الزمان صيفا فتوالى بعد ذلك رياح شديدة الحرارة عدة أيام ).)
ويقول عما حدث بعد هدوء الأرض وسكوت الزلازل : ( واشتغل الناس بالقاهرة ومصر مدة طويلة في ترميم المباني وإعادة بنائها، وارتفعت أسعار مواد البناء لكثرة الطلب عليها ، لأن القاهرة أصبحت لمن يراها كأن جيشاً أغار عليها وخرّبها. ).
ثم يعود المقريزى ليؤكد الحجة المعروفة من ان الفسق والفجور والعصيان أسباب الزلزال ، لذا أقلع الناس ( مؤقتا ) عنها ، يقول المقريزي " فكان ذلك من لطف الله تعالى بعباده، فإنهم رجعوا عن بعض ما كانوا عليه من اللهو والفساد أيام الزينة ، وفيهم من أقلع عن ذلك لكثرة ما توارد من الأخبار من بلاد الفرنج وسائر الأقطار مما كان من هذه الزلزلة ".."
  وعلى هامش الزلزال ردد الناس قصصا قد تكون خيالية او صحيحة ، فأثناء ترميم الأمير بيبرس الجاشنكير للجامع الحاكمي بعد الزلزال وجدوا في ركن من المئذنة كف انسان مع ذراعه قد لف في قطن وعليه أسطر مكتوبة لم يعرف أحد قراءتها )، ( وحدث ان نبشوا دكان لبان كان قد تهدم فإذا أخشاب الدكان قد تصلبت على اللبان وهو حي وعنده جرة لبن ظل يتقوت منها عدة أيام، فأخرجوه حياً لم يمسسه سوء!!)( وفى مدينة قوص بالصعيد حدث أن رجلاً كان يحلب بقرة فارتفع ذلك الرجل في وقت الزلزلة وبيده المحلب وارتفعت معه البقرة حتى سكنت الزلزلة ثم انحط إلى مكانه من غيران يتبدد شيئ من اللبن الذي في المحلب . ) )
  وفي القرون الوسطى كان التطرف سيد الموقف،إذا لاحت فرصة للإحتفال والزينة والإنحلال الخلقي تطرفوا في المعاصي، وإذا جاءتهم كارثة بعدها تطرفوا في الشعور بالذنب ، ثم إذا انتهت الكارثة عادوا إلى ما كانوا عليه من اللهو واللعب، وكان ذلك يحدث غالياً قبل كوارث المجاعات والأوبئة وبعدها.. وكم في تاريخ العصور الوسطى من محن وعبر.!! 

 المقال الخامس عشر 

 رمضان فى العصر الفاطمي

1 ـ تحول رمضان فى الخلافة الفاطمية إلى مناسبات شتى وطقوس متنوعة وحفلات متتابعة أصبح بها فريدا بين شهور العام ..

2 ـ وتبدأ الاحتفالات الفاطمية بأول يوم فى رمضان أو ما يعرف بغرة رمضان . وهناك ما كان يعرف بطبق غرة رمضان حيث يرسل الخليفة الفاطمي فى أول رمضان هدية لجميع الأمراء والموظفين والخدم ، وهذه الهدية عبارة عن طبق لكل واحد منهم وطبق لكل واحد من أولاده ونسائه ، وفى الطبق حلوى وفى وسطه صرة من الذهب ، فيعم ذلك سائر أهل الدولة ، ويقال لذلك غرة رمضان.  وقبل توزيع غرة رمضان يكون ركوب الخليفة الفاطمي فى موكب يشق القاهرة ويبدأ الاستعداد لركوب الخليفة بانقضاء الأيام  الأخيرة من شعبان .

3 ـ طقوس ركوب الخليفة الفاطمي: 

ركوب الخليفة الفاطمي فى أول رمضان كان يعنى عند الشيعة الإسماعيلية رؤية الهلال، ومع ذلك فأن طقوس ركوب الخليفة الفاطمي فى رمضان هي نفس الطقوس الفاطمية فى ركوب الخليفة فى كل المناسبات خصوصا ركوبه فى أول العام . وكان من العادة أن تكتب منشورات رسمية إلى الولاة والعمال والنواب فى الأقاليم تصف هيئة ركوب الخليفة فى تلك المناسبات وما حدث فيها .

وقبل خروج الخليفة يتم تزيين الشوارع . ويقوم بذلك تجار القاهرة ومصر ( ويقصد بهما ما يعرف الآن بالقاهرة الكبرى) وأولئك التجار كان فى مقدمتهم الصيارفة وتجار الجواهر والقماشون والصاغة ، وكل تاجر يزين الطريق بما تقتضيه تجارته وبما يعد فى عصرنا إعلانا عن التجارة التي يمارسها ويحرص على كتابة الشعارات التي توضح أنه ينتظر البركة من مرور موكب الخليفة بجواره.

ويصطف العساكر والعبيد على الطرقات وعلى أبواب الحارات التي يجرى تجميلها وتنظيفها لمرور الموكب ، ثم يبدأ الخليفة باستدعاء الوزير ليطمئن منه على برنامج الموكب ، وبعدها يخرج الخليفة من قاعة الذهب وأمامه الوزير فيجتاز باب الذهب ، وتكون صفوف العساكر عن يمينه ويساره من القصر إلى الشارع . وحين يخرج من القصر يبدأ بباب الفتوح حيث يستقبله العساكر وهم فى أبهى زينة .

ويمشى الموكب فى الشوارع وقد علقت عليها الستائر والأعلام ، ويدخل من باب النصر ويتم توزيع الصدقات على المساكين وتفرقة الأموال على (المستورين ). ثم يعود إلى القصر فيدخله من باب الذهب الذي خرج منه ، وهنا يتلقاه المقرئون بترتيل الآيات القرآنية فى طول الدهاليز إلى أن يدخل خزانه الكسوة الخاصة بالخليفة ، وفى الخزانة يغير الخليفة ثياب الموكب بثياب غيرها ، ويتوجه بالثياب الجديدة إلى تربة آبائه ليقرأ عليهم الفاتحة ، ثم يعود إلى قصره للراحة . وفى ذلك الوقت تكون الأسمطة – أي الموائد – قد تجهزت ، بنفس الطقوس المعتادة فى تجهيز الموائد وفى حضورها وفى تفرقة الطعام ..

4 ـ سماط شهر رمضان

وكانت العادة أن تقام المآدب الرسمية لشهر رمضان فى قاعة الذهب حيث يوجد عرش الخليفة الفاطمي –أو السريرـ المصنوع من الذهب الخالص والمطعم بالجواهر .وكان لجلوسه على ذلك العرش الذهبي طقوس خاصة تخرج عن موضوعنا ، ولكن كانت قاعة الذهب هي مكان سماط الشهر الرمضاني .

وتبدأ المآدب الرسمية من يوم الرابع فى رمضان إلى السادس والعشرين منه.

ويتم دعوة الضيوف إلى هذه المآدب الرسمية باستدعاء رسمي من قصر الخلافة. ووفقا  لنظام خاص ، فقاضى القضاة تأتيه الدعوة فى ليالي الجمع توقيرا له ، أما الأمراء ففي كل ليلة يأتي قوم منهم بالنوبة وبالترتيب حتى لا يحرمونهم من الإفطار مع أسرهم وأولادهم ، ويتم ذلك طبقا لاستدعاء رسمي لكل منهم حتى لا يتأخر ، والوزير يحضر كل يوم ويجلس فى صدر المجلس ، فإن تأخر أو لم يحضر لعذر طارئ حضر عنه أبنه أو أخوه ، وإن لم يحضر ناب عنه صاحب الباب أو الحاجب.

فإذا حضر الوزير أخرجوا إليه من الطعام الموجود أمام الخليفة ، ويمر الخليفة بيده على ذلك الطعام تشريفا للوزير ، وربما حمل الوزير لسحوره بعضا من السحور الخاص بالخليفة .

وكل ما هو معروف ومشهور من الطعام يوضع على تلك الموائد فى طول القاعة بحيث لا يفوت القائمون على إعداد السماط شيء من أطايب الطعام ، وسفرة  الطعام مبسوطة تشمل ثلثي القاعة ، والفراشون قيام يخدمون الحاضرين ويحضرون لهم الماء المبخر فى كيزان الخزف .

وتنتهي المأدبة بعد العشاء الآخرة  فيتفرق الحاضرون ، وبعضهم يأخذ معه ، ما يكفى جماعة ، ويتم توزيع ما يبقى على أهل القاهرة ، وتصل تكلفة السماط الرمضاني ثلاثة آلاف دينار فى مدة سبعة وعشرين يوما .

5 ـ سحور الخليفة :

وبعد الإفطار وسماط رمضان ، يجلس الخليفة فى الروش إلى وقت السحور والمقرئون تحته يقرأون القرآن ( يتغنون به ) ويطربون بحيث يشاهدهم الخليفة ، ثم يحضر بعدهم المؤذنون فيأخذون فى التكبير وذكر فضائل السحور ويختمون بالدعاء، ثم يأتي الوعاظ فيذكرون فضائل رمضان وينشدون مدائح للخليفة وقصائد صوفية ، ثم يقوم الجميع للرقص ويستمرون فيه إلى منتصف الليل ، فيأتي للخليفة أستاذ من القصر ومعه كشف بالإكراميات للمقرئين والمؤذنين والوعاظ ، فينظر فيه الخليفة ثم يأذن بتوزيعه عليهم ، ثم تأتى إليهم كميات ضخمة من القطائف والحلوى فيأكلون ويملئون أكمامهم ليعودوا لأولادهم بشيء منها وما يتبقى يتخطفه الفراشون والخدم.

ثم يجلس الخليفة فى سماط السحور فى نفس القاعة – قاعة الذهب – وبين يديه المائدة ، وقد عبئت بكل أنواع اللحوم من حيوان وطيور ، وفى وسط المائدة آنية ضخمة اسمها " القعبة الكبيرة" وقد ملئت بطعام خاص بالخليفة ، ويحضر جلساء الخليفة على السحور وكل منهم يأكل ما يقدر عليه ، ثم يومئ الخليفة لهم بالأذن من أكل الطعام الموجود فى " القعبة الكبيرة" فيفرق الفراشون عليهم منه ، وكل من تناول منه شيئا قام وقبَّل الأرض أمام الخليفة وأخذ منه على سبيل البركة لأولاده ، وبعدها تقدم لهم الصحون الصيني مملوءة بالقطائف فيأخذون منها كفايتهم .

وبعدها ينتقل الخليفة إلى مكان أخر اسمه الباذهنج فيجلس وأمامه العصائر وأنواع اللبن والسويق والفواكه ، ثم يكون بين يديه صينية ذهب مملوءة من السفوف ، ويحضر الجلساء ويأخذ كل منهم فى تقبيل الأرض أمام الخليفة ويسأله أن ينعم من ذلك ،فيفرق الفراشون عليهم منه فيأخذونه فى أكمامهم وينصرفون بعد السلام.

كشف المساجد:.

وفى الأيام الثلاثة الأخيرة من رمضان يقوم القضاة بكشف المساجد ، فيطوفون بمساجد القاهرة ومصر لينظروا حالها وما تحتاجه من عمارة وتنظيف ووقود للقناديل وحصير وغير ذلك ، وتبدأ مسيرة القضاة بجامع المقس ثم ببقية المساجد والجوامع ثم بالأضرحة ثم بالقرافة ، وكان يصحب القضاة كثير من الشهود والطفيلين الذين ينتهزون الفرصة بذلك لحضور السماط مع القضاة .

الختم فى آخر رمضان :.

وموعده يوم 29 رمضان ، وفيه يتم إعطاء المقرئين والمؤذنين والوعاظ أضعاف ما كانوا يأخذون فى الليالي السابقة . ويحضره الوزير وآله مع الخليفة مع جمع من المقرئين والمؤذنين والوعاظ ، وتحضر سيدات القصر أنواعا من الأطعمة والمثلجات وتوضع أمام المقرئين والمؤذنين لتشملها بركة ختم القرآن ، ثم يستفتح المقرئون القراءة بالحمد إلى خاتمة القرآن تلاوة وتطريبا ، ثم يقف الخطيب فيسمعون منه ويدعو للخليفة ، ثم يكبر المؤذنون ويهللون وينشدون القصائد ، ثم ينثر الخليفة عليهم الدنانير والدراهم ، وتقدم لهم أواني القطائف مع أنواع الحلوى ثم يخرج أستاذ من القصر ومعه كسوة التشريفة ويتم توزيعها على الخطيب وغيرة مع دراهم أخرى تفرق على المقرئين والمؤذنين والوعاظ.

وفى أواخر رمضان سنة 516 وفى خلافة الآمر الفاطمي أقام الخليفة حفلا لختم رمضان وعبىء سماط

الفطرة فى مجلس الملك بقاعة الذهب ، وكانت الحلوى أهم طعام فى السماط ، وبعدها صلى الخليفة الآمر بالناس صلاة العيد فى المصلى التي تقع بالقرب من باب النصر ، وخطب بالناس . وكان ذلك كله قد أبطله الوزير الأفضل فعاد العمل به بعد مقتل الأفضل .

اجمالى التكلفة

وبلغ المصروف على نفقات الموائد فى ليالي رمضان كلها 16436 دينارا ، بالإضافة إلى مرتبات المقرئين والمسحراتية وثمن المشروبات والحلاوة والألعاب ، وبلغت المصروفات العامة على شهر رمضان مائة ألف دينار نقدا وتشمل النفقات الإضافية والصدقات وحلوى عيد الفطر وكسوة العيد .

وكانت العادة أن تضرب الخلافة الفاطمية نقودا تذكارية تصل جملتها السنوية خمسمائة دينار وتتحول إلى عملة تذكارية صغيرة ويتحول الدينار إلى عشرين خروبة . وكلها يتم توزيعها فى مناسبات رمضان .

 

كل عام وأنتم ــ أحبتى ـ بكل خير وفضل من الله جل وعلا ونعمة .

( رمضان والصيام بين الاسلام والدين السنى ) دراسة أصولية تاريخية
كما يبدو من عنوانه فهذا الكتاب يوضح التناقض أصوليا بين الصيام فى الاسلام والدين السُّنى ، ويعطى الجذور التاريخية لهذا التناقض مع باب كامل عن رمضان فى التاريخ .
more




مقالات من الارشيف
more