1ــ يحرم القرآن الكريم اكتناز الأموال والذهب والفضة "(وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ) (التوبة 34: 35"
ويتوعد القرآن ذلك الذي ينشغل باكتناز الأموال بأن يكون عذابه في الدنيا من خلال أمواله وأولاده : (فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ) (وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ) ( التوبة /55 ، 85 ) ويحذر القرآن من تركز الثروة وما تؤدي إليه من وقوع انفجار في المجتمع من الداخل أو من الخارج ، وهي التهلكة التي تنتظر أي مجتمع تتسع فيه الفجوة بين الأغنياء المترفين ، والفقراء الجائعين، يقول تعالي : (وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (البقرة : 2/195) .
هذا هو الإسلام .. ولكن الإسلام في واد والمسلمون في واد آخر ولهذا عرف المسلمون في تاريخهم كثيرا من المهالك ــ التهلكة ــ كان سببها ما حذر منه كتاب الله أي تركز الثروة في أيدي المترفين علي حساب الجائعين ..
ونضرب اليوم مثلا تاريخيا من الدولة العباسية المترفة التي واجهت ثورة الزنوج الجائعين (255ـ 270هـ).
2ــ والحديث عن ترف العباسيين يستغرق مجلدات . ولكن نكتفي منه ببعض اللمحات فقد ظهر ترف العباسيين في منحهم أموال المسلمين في سفه للشعراء المنافقين ، فالشاعر مروان بن حفصه مدح الخليفة الهادي فأعطاه ( 130 ألف دينار ) والرشيد أعطي الشاعر منصور النميري ( مائة ألف) وأعطي اسحق الموصلي(200 ألف). وكان الخليفة يعتقد أنه يملك الأرض وما عليها ومن عليها ، ومن حقه أن ينفق الأموال كيف يشاء. ولديه أئمة الفقه السنى يزينون له أنه صاحب الحق فى أموال الناس وفى حياتهم أيضا يقتل من يشاء و يصادر اموال من يريد . ونفس الحال كان فى الخلافة الفاطمية ودينها الشيعى .
وتحدث المؤرخون عن تبذير الأموال الذي ظهر في حفل زواج الخليفة المأمون من بوران بنت الوزير الحسن بن سهل . فقد كتب الوزيرالحسن بن سهل أوراقا فيها أسماء ضياع وثروات وجعلها في بندق ونثرها علي الحاضرين فكل من أخذ واحدة كسب ماهو مكتوب فيها ، ويقول المسعودي إن الوزير نثر الأملاك والأموال مالم ينثره ولم يفعله ملك قط في جاهلية ولا في إسلام ..!!
ويقال إن جملة ما أنفقه ذلك الوزير بلغ ( 50 ألف ألف درهم ) ..!! وأن الوزير يجري علي طريقة خليفته المأمون ، فقد وصل للخليفة إيراد وصل إلي( 30 مليار درهم ) ففرقه منها علي الحاضرين من أتباعه ( 24 مليار) .
وكان الذهب حلية العباسيين ، وكان الخليفة المعتز ( الذي قتل في السنة التي قامت فيها ثورة الزنج) أول من جعل الذهب في سرج دوابه ، وكان له تاج من الذهب وقلنسوة من الجواهر ووشاحان مليئان بالجواهر ، وقد ثار عليه قواده من الأتراك فعزلوه من الخلافة وأقاموه في الشمس يلطمون وجهه ويقولون له : اعزل نفسك ، ثم بعد أن عزل نفسه قتلوه عطشا ، واختفت أمه ثم ظهرت بعد أن صالحت القائد التركي ابن وصيف فعفا عنها في نظير ما أعطته من أموال قيمته 13مليون دينارمع جواهر قيمتها (2مليون دينار).
وتولي بعده الخليفة المهتدي الذي جنح للزهد ورفض الترف ، فأمر بإخراج أواني الذهب والفضة وضربها دراهم ودنانير، ورفع فرش الديباج وذبح الكباش التي كان الخلفاء يتسامرون بمناطحتها. ولكن سرعان ما ثار القواد الأتراك عليه وقتلوه ، وتولي بعده الخليفة المعتمد الذي واجه ثورة الزنج وعاد لسيرة آبائه في الترف فقد كان له ورّاق ـ أى صاحب ورق أى ما يشبه الناشر فى عصرنا ـ يكتب شعره بماء الذهب ، وانتهي أمره إلي أنه كان يريد الدرهم والدينار فلا يستجيب له أحد وقال في ذلك شعرا :
أليس من العجائب أن مثلي
يري ماقل ممتنعا عليه
وتؤخذ باسمه الدنيا جميعا
ومامن ذاك شيء في يديه
3ــ وكانت ثروة المترفين في العصر العباسي ترجع إلي مجهودات الزنوج وعرقهم .. !!
فقد نشأ الإقطاع الزراعي من خلال الملكيات الواسعة التي كان يقطعها الخليفة لأتباعه ، وكان من أهم هذه الأراضي مناطق كثيرة من الأراضي البور في منطقة البطائح بالبصرة ، ووقع علي الزنوج العبيد عبء استصلاحها، وتخصص التجار في استجلاب هؤلاء الزنوج إلي جنوب العراق وحول الخليج ، وتكدست بهم هذه المنطقة حيث عملوا في استزراع الأراضي تحت ضرب السياط وسوء التغذية ، يحملون علي البغال الطبقة الملحية التي تكونت بفعل ظاهرة المد من الخليج العربي ويكشفون عن التربة الزراعية تحتها ويقومون بنقل أكوام الطبقة الملحية إلي حيث تباع ، وفي نظير هذا العمل الشاق كانوا يحصلون علي غذاء بائس من تمر وسويق ، في الوقت الذي كان فيه المترفون في بغداد بجانب الخليفة يأكلون طبق ( الجام) وهو لسان السمك ، ويبلغ ثمنه أكثر من ألف درهم !!
4ــ لذا كانت معسكرات الزنوج وقودا لثورة الزنج التي قادها مغامر مجهول الاسم تسمى باسم علي بن محمد وقد ادعي النسب العلوي والتشيع ودعا للثورة في المنطقة بين الأعراب النجديين ، وانتقل بهم الى جنوب العراق ،بعد أن غيّر دينه من التشيع الى الخوارج ، كى يتحبب الى الزنوج ويتألف ويتودد الى قادتهم . وبين دينى التشيع والخوارج استغل سوء الأوضاع والفجوة الهائلة بين الفقراء المعدمين في جنوب العراق وحول الخليج وبين المترفين في بغداد حول قصور الخلافة العباسية .
وقد استمرت ثورته من 225 ــ 270هـ . وتكاثر أتباعه ولم تتغلب عليه الدولة العباسية إلا بشق الأنفس ، وقد دخل بأتباعه من الزنج البصرة وأعمالها وخربوها وسبوا النساء وأحرقوا ما وجدوه ، وأعقب ذلك الوباء الذي أفني خلقا لا يحصون ، وذكر الصولي إن صاحب الزنج قتل من المسلمين نحو مليون ونصف المليون ، وأنه قتل في يوم واحد بالبصرة نحو ثلاثمائة ألف وكان له منبر في مدينته يصعد عليه يسب فيه الصحابة ، وقالوا أنه كان ينادي علي المرأة الهاشمية في معسكره بدرهمين وثلاثة دراهم لمن أراد شراءها، وأنه كان عند الواحد من الزنج العشر من السبايا الهاشميات يطؤهن ويستخدمهن ..
أبعد هذا تهلكه؟!
5ــ قبيل ثورة الزنج كان الخليفة المهتدي في جنوحه للزهد يقول لقومه : يابني هاشم دعوني حتى اسلك مسلك عمر بن عبد العزيز فأكون فيكم مثل عمر بن عبد العزيز في بني أمية .. ولكنهم تخلوا عنه وتركوه وحده يحارب الثائرين عليه من القواد الأتراك حتى قتل ، وتولي المعتمد العباسي فزينوا له أن يسير مسيرة أسلافه في الفساد والترف ، وكانت النتيجة أن أصبحت الحرائر من نساء بني هاشم سبايا في أيدي الثائرين من الزنج !!
ويبدو أنه قدر لهذه المنطقة أن تشهد صراعا هائلا بين المسلمين ، سببه تلك الفجوة الهائلة بين المترفين والمعدمين ..
ولا يزال الدرس باقيا بين الأحفاد .
اجمالي القراءات
17172
لقد ذكرتني بقصيدة كتبتها ونشرتها حين كنت في السابعة عشرة من عمري عنوانها ( يا نفط بلادي)
وهي تتحدث عن نفس الموضوع .ولعل الذي قال ان التاريخ يعيد نفسه كان صادقا فيما قال.
لقد شجعتني ان انشرها على هذا الموقع المبارك باذن الله تعالى.
تحياتي الأخوية الحارة