الفصل الأول : القرآن وحق المرأة فى رئاسة الدولة الإسلامية
لمحة سريعة :
من الممكن تلخيص موقف الاسلام من رئاسة المرأة للدولة الاسلامية فى بضعة سطور:
منهج التشريع القرآنى أنه لا يذكر المباح و المسموح به ، لأن المباح هو الأصل ولأن ذكر كل المباحات يحتاج آلافا من المجلدات. لذك فان التشريع القرآنى ـ وكذلك التشريعات البشرية ـ تركز على الأوامر والنواهى ، اى على الممنوع أو المحرم أو الحرام بالاضافة الى الواجب المفروض.
وبناء على هذه القاعدة المنهجية فإنه طالما لم يرد شىء ضمن الممنوعات والحرام فهو مباح ولا يصح تحريم المباح كما لا يصح تحليل الحرام.
وعليه فإنه طالما لم يأت فى التشريع القرآنى نهى أو تحريم على تولى المرأة منصب رئاسة الدولة الاسلامية فهو أمر مباح .
هذه الفتوى تكفى ..
ولكنها تستحق بحثا تفصيليا . وهو هذا الفصل الأول الذى نناقش فيه ــ قرآنيا ــ الاعتراضات التى قد تثور حين نقول بحق المرأة فى رئاسة الدولة الاسلامية.
أولا : مفهوم الدولة الإسلامية :
فى البداية نحن نقول بأن الإسلام دين ودولة . ولكن تصوراتنا عن الإسلام دينا ودولة تخالف الحركة الأصولية بنفس ما تخالف به الفكر العلمانى . فكما تخالف الفكر العلمانى الذى يفصل بين الدين والدولة تخالف الأصولية التى تؤسس الدولة الدينية على التصورات الدينية للعصور الوسطى ، سواء كانت تلك التصورات سنية أو شيعية .
نحن نقول إن الدولة فى الإسلام دولة مدنية تقوم على الديمقراطية المباشرة وليس من وظيفتها إدخال الناس إلى الجنة ، لأن تلك مسؤلية شخصية ، بل وظيفتها إقرار العدل فى الدنيا ، وضمان حقوق المواطنة . وهذه الحقوق للجميع بالتساوى ، إلا أن المساواة المطلقة قد تتضمن إخلالا بالعدل ، لذلك فإن الحقوق المطلقة للفرد تتضمن حقه المطلق فى العدل و حقه المطلق فى حرية العقيدة والفكر . وإلى جانب ذلك فله حقوق نسبية فى الثروة حسب سعيه وإجتهاده وفى المشاركة السياسية وفى الأمن . وفى هذه الحقوق النسبية يكمن التوازن بين الفرد ومصلحة المجتمع بحيث لا يستأثر فرد وحيد بالثروة أو بالسلطة ، وهما معا حق أصيل للمجتمع وليس للفرد وذلك موضوع شرحه يطول ،وليس مجاله هنا ، ولكن نكتفى منه بحق المرأة فى تولى رئاسة الدولة الإسلامية.
ثانيا : إختلاف مفهوم الدولة الإسلامى عن الدولة فى العصور الوسطى :
1 ـ والفكرةالسائدة عن تولى المرأة رئاسة الدولة تأخذ ملامحها من المتوارث لدينا عن السلطة السياسية فى العصور الوسطى ، حيث كان الخليفة أو السلطان أو الملك يملك الأرض ومن عليها ويحكم مستبدا لا معقب لكلمته . وهذا ما كان سائدا فى الشرق ( المحمدى ) والغرب ( المسيحى ). ولا زلنا نتمتع ببعض مظاهره حتى الآن . وبالتالى فإن تصور امرأة فى مقعد السلطان يجعلنا نترفق بعض الشىء مع مثقفى وفقهاء العصور الوسطى المقهورين ، فإذا تحملوا قهر السلطان الرجل فكيف لهم أن يتحملوا قهر السلطانة المرأة ؟
2 ـ إلا إن القصة مختلفة تماما ، بنفس اختلاف الحكم الشورى الذى كان فى دولة الإسلام فى عصر النبوة عن حكم الاستبداد الذى عرفه المسلمون فى تاريخ الخلفاء الراشدين والخلفاء الفاسقين ، ولا يزالون تحت أوزاره حتى الآن.
3 ـ إذن نحتاج الى لمحة عن حقائق الحكم السياسى لدولة الإسلام من خلال تشريع القرآن لنتعرف على إمكانية أن تتولى المرأة فيها سلطة الرئاسة.
ثالثا: المساواة بين الرجل والمرأة فى تشريع القرآن:
1 ـ وحتى نفهم القرآن وتشريع القرآن علينا فى البداية أن نفهم لسان القرآن بالقرآن نفسه . فاللسان العربي شأن كل الألسنة ( أو اللغات) كائن حى يتطور ويتبدل . ولذلك تطورت اللغة العربية زمنيا ومكانيا . بل أصبحت هناك مصطلحات عربية خاصة بالفقهاءوأخرى بالصوفية وأخرى بالفلاسفة .. وهكذا. وقبلهم فللقرآن أيضا مفاهيمه ومصطلحاته ، ولا يمكن أن نفهم القرآن إلا من خلال مفاهيمه ومصطلحاته.وهذا أيضا موضوع شرحه يطول ، ولكن كالعادة – نقتصر منه على ما يخص موضوعنا .
2 ـ وهنا نلفت النظر سريعا إلى بعض الحقائق القرآنية التى تؤكد المساواة بين الرجل والمرأة:
فكلمة ( الزوج ) فى القرآن يدل بمنتهى المساواة عن الرجل و المرأة ، و السياق هو الذى يوضح المقصود منهما إلا إذا جاء فى الآية القرآنية والسياق ما يؤكد اقتصار الخطاب على الرجل ( راجع كلمة زوج ومشتقاتها فى المعجم المفهرس ).
وكلمة ( الوالدين ) و( آباؤكم ) تدل على الرجل والمرأة ، . وتدخل المرأة فى الخطاب القرآنى فى كلمات مثل ( الناس ) ( بنى آدم ) و ( الذين آمنوا ) فالقرآن مثلا حين يأمر بالصيام يأمر الذين آمنوا بالصيام وكذلك حين يأمر بالصلاة . ومعروف أن الأمر يشمل الجنسين. وكل خطاب عام فى القرآن الكريم يأتى للبشر و للمؤمنين و الناس وبنى آدم يشمل الرجل والمرأة بالتساوى ، إلا إذا كان فى السياق تخصيص لأحدهما .
3 ـ ويكفى تلك المساواة القرآنية بين الذكر والأنثى:
3 / 1 فى كونهما بشرا وإنسانا ينتميان لأب واحد وأم واحدة . يقول جل وعلا : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً ) (1) النساء ) ويسرى هذا على كل البشر مهما إختلفت ألوانهم وثقافاتهم ، يقول جل وعلا : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) الحجرات )
3 / 2 : فى المسئولية والجزاء بين الذكر والأنثى : (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ )(195) آل عمران ) (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124) النساء ) (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) النحل ) (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) غافر )
4 ـ ولذلك كانت المرأة شريكا رئيسا فى إقامة الدولة الاسلامية فى عهد النبى محمد ، بدأت شراكتها بالهجرة ، ثم بالبيعة ـ ثم بالمشاركة الفعالة فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ولذا فإن حديث القرآن عن الشورى ، وهى الملمح الأساسى لدولة الإسلام يشمل المرأة مع الرجل . وهنا ندخل فى بعض التفصيلات .
رابعا: عمل المرأة
الإسلام لم يحرم على المرأة أى عمل حلال يقوم به الرجل ، ويسرى ذلك على الجهاد ، والدليل أن الأعذار المبيحة للتخلف عن الجهاد هى أعذار تحدث للمرأة والرجل على حد سواء، فليس هنا حرج على الأعمى أو الأعرج أو المريض فى موضوع القتال الدفاعى فى الإسلام (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا )(الفتح / 17 ). هذه الأعذار تسرى هذا على الجنسين فى الذكر والأنثى . وحتى فى الصيام والحج كانت الشروط عامة للذكر و الأنثى (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) (وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ( البقرة 185 ، 196 )
وقد قلنا أن الأمر يأتى بلفظ "الذين آمنوا " ، " يا بنى آدم " ، " يا أيها الناس " ليخاطب المرأة والرجل معا، وكل أمراة يشملها الأمر والنهى كالرجل تماما ، وأن النسق القرآنى فى تشريع الأحوال الشخصية من زواج وطلاق لا يذكر مطلقا لفظ زوجة وإنما يقول " زوج " دلالة على الزوج والزوجة ويأتى السياق يحدد المقصود بها. والمقصود هنا هو المساواة الكاملة من حيث التكوين بين الزوج الرجل والزوج الأنثى فكلاهما واحد من حيث الأصل والنشأة ، وكلاهما لهما نفس الحقوق وعليهما نفس الواجبات طبقا للعدل .
خامسا : سفر المرأة
هناك شيىء هام فى سياق آيات سورة الممتحنة يستلزم الإيضاح . هو حق المرأة فى السفر والهجرة وترك موطنها إلى حيث تريد طبقا لإختيارها العقيدى شأن الرجل تماما ، وهذا ما حققته المرأة فى عهد النبى محمد عليه السلام إذ هاجرت المؤمنات إلى الحبشة مرتين ثم مرة ثالثة إلى المدينة ، بعضهن كن عذاراى وبعضهن كن متزوجات هاجرن مع أزواجهن المؤمنين أو كن أزواج تركن أزواجهن المشركين . أى أن من حق المرأة فى الإسلام أن تهاجر إذا شاءت ، والهجرة أصعب أنواع السفر لأنه سفر يحتمل المطاردة والملاحقة . وبالتالى فان من حقها السفر العادى بمفردها ،وليس لزوجها الحق فى منعها إلا إذا كان هذا الحق للزوج منصوصا عليه فى عقد الزواج. هذا فى الإسلام .ولكن فى دين السنة تم حرمان المرأة من هذا الحق فمنعوها حتى من السفر إلا بإذن زوجها ، بل وجعلوا لها كفيلا – إذا لم تكن متزوجه ـ هو" المحرم " أى الذى يحرم عليها أن تتزوجه كالأب والابن والأخ والعم والخال ، أى اعتبروها شخصا غير كامل الأهلية، حتى لو كانت أما. وتخيل أن تربى الأم ابنها فاذا كبر أصبح آمرا ناهيا لها، يبلغ مبلغ الأهلية بينما تظل أمه مخلوقا ناقص الأهلية.
سادسا : المرأة شريكة فاعلة فى تاسيس الدولة الاسلامية
البيعة، أو العهد : أساس فى إقامة الدولة الاسلامية : مشاركة المرأة فى إقامة الدولة الاسلامية
لقد سبق الإسلام فى تعريف الدولة بأنها عقد بين الفرد والنظام الحاكم، وأن هذا العقد يستلزم التزامات معينة من الفرد مقابل قيام الدولة برعاية الفرد وحمايته .
بعد هجرة المرأة كان لا بد من تسجيل مشاركتها فى إقامة الدولة الاسلامية و تسيير شئونها بان تعقد عهدا أو عقدا مع النبى محمد رائد هذه الدولة .
وقد جاءت سورة الممتحنة باشارة الى البيعة؛ بيعة النساء للنبى محمد عليه السلام. يقول تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. )( الممتحنة 12 )
سورة الممتحنة من أوائل السور التى نزلت فى المدينة ، وقد وردت فيها تلك الاشارة إلى وجود عقد أو ميثاق أو عهد بين افراد المسلمين والنبى يتضمن تعهد كل فرد بطاعة القائد وهو النبى محمد عليه السلام ؛ ليس طاعته كشخص وفرد ولكن طاعة القيم الأخلاقية المنبثقة عن إلايمان الحق بالله تعالى واليوم الآخر، تلك هى البيعة العامة( الممتحنة 12 ) . ثم هناك بيعة خاصة طارئة مؤقتة تستلزمها ظروف المواجهة العسكرية حين يتعرض المجتمع المسلم إلى هجوم لابد من صده ، وحينئذ يتطلب الأمر بيعة خاصة للإلتزام بالدفاع عن الدولة ( الأحزاب 15 ، 22 ، 23 )( الفتح : 10 ، 18 ).
وفى كل الأحوال ( البيعة العامة والبيعة الخاصة ) فإنها بيعة لله تعالى ؛ فمن يبايع النبى – أو القائد – إنما يبايع الله ، أى يلتزم أمام الله تعالى بالوفاء بالعهد والميثاق . وبالتالى فإن ضميره الشخصى هو الرقيب عليه فى مدى هذا الإلتزام بهذا العهد، أى أنه مسئول أمام الله تعالى يوم القيامة فقط فى مدى وفائه بهذا العقد أو العهد أو الميثاق أو البيعة. وفى كل الأحوال أيضا فإن تلك البيعة العامة والخاصة تشمل الرجال والنساء معا بما يعنى المساواة بين الرجل والأنثى .
ذكرت روايات السيرة النبوية أن النبى محمدا عقد معاهدة سرية مع وفد من المدينة قبل الهجرة ،وعقد معاهد أخرى مع وفد أخر فى العام التالى إلا أنها لم تذكر عقد معاهد عامة مع أهل المدينة . القرآن الكريم فى تعليقه على تباطؤ أو تخاذل بعض المؤمنين فى الوفاء بهذا العقد كان يذكرهم بالعهد الذى التزموا به ، وقد حدث هذا فى تأنيب المنافقين حين تقاعسوا عن الدفاع عن المدينة فى غزوة الأحزاب بينما اشاد بمن حافظ على العهد و صمد فى القتال ( الأحزاب : 15 ، 22 ). و فى أوائل السور المدنية نجد القرأن الكريم ينهى المؤمنين عن خيانة الله ورسوله ، وخيانة العهد والأمانة ، ويأمرهم بالإستجابة وطاعة رسول الله ( الانفال / 24 : 27 ) وتعبير الخيانة للعهد يعنى وجود عهد قائم بين الله تعالى والمؤمنين وأنهم لم يقوموا بالإلتزام بهذا العهد . وفى أواخر السورة المدنية يتكرر الأمر للمؤمنين بطاعة الله ورسوله وأن يواجهوا إعتداء المشركين ، ليس بالوهن والإستسلام والحرص على حياة ذليلة وإنما بالدفاع البدنى والإنفاق المالى فى المجهود الحربى ، وإن لم يفعلوا فمصيرهم إلى الإستئصال ،وعندها يأتى رب العزة بمؤمنين آخرين خيرا منهم ( محمد / 32 : 38 )
وكان البخل شائعا بين هذه النوعية من المؤمنين وترتب عليه أن توعد الله تعالى بالعذاب اولئك الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل وذلك بعد أن كررلهم أوامر العهد والميثاق وهى عبادة الله وحده لا شريك له والإحسان للوالدين والأقارب واليتامى والجيران وأصحاب وأبناء السبيل والرقيق ( النساء / 36 : 37 ) وفى مواجهة ذلك البخل ونسيان العهد والميثاق والبيعة ينزل القرآن يذكر المؤمنين بالإيمان بالله تعالى ورسوله والإنفاق فى سبيل الله ثم يعيب عليهم أنهم لا يؤمنون قلبيا وعقيديا بالله تعالى وحده ، مع استمرار دعوة الرسول محمد عليه السلام لهم بأن يكون إيمانهم بالله تعالى وحده إلها، وبرغم أنهم عاهدوا الله تعالى ورسوله على ذلك الا أنهم كانوا ينسون مما يستدعى تذكيرهم وتأنيبهم (الحديد /7 : 8 )
وفى أواخر ما نزل من القرآن يتكرر نفس الموضوع فى تذكيرهم بالميثاق الذى عقدوه يوم بيعتهم ، وكيف أنهم قالوا سمعنا وأطعنا مع أن قلوبهم لم تكن مخلصة . ويحذرهم الله تعالى بأنه يعلم خفايا الصدور . ( المائدة /7 )
هذا العهد والميثاق أو البيعة العامة كانت لكل فرد يدخل فى إطار الدولة الإسلامية . وخلافا لما اعتاده العرب وما اعتادته ثقافة العصور الوسطى أعطيت المرأة نفس حق المواطنة الايجابية وحق المشاركة السياسية فى الدولة الإسلامية، فقد كان عليها أن تبايع نفس المبايعة ، وتضع يدها على يد النبى تعطيه البيعة. وهذا ما جاء فى سورة الممتحنة ( /12 ) .
ولأنه أمر جديد لم يكن معروفا من قبل فإن الخطاب نزل للنبى محمد يوضح كيفية بيعة النساء للنبى ، فالمؤمنات إذا أتين مهاجرات ليصبحن مواطنات فى الدولة الجديدة فعليه أن يبايعهن على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يقعن فى بهتان ولا يعصين النبى فى معروف ، فإذا بايعن النبى على هذه البنود فعليه أن يستغفر لهن الله على ما سبق من ذنوبهن، لأنهن قد دخلن فى مرحلة جديدة من حياتهن. وهذا ما ينطبق على الرجال أيضا.: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. )( الممتحنة 12 ) .
والواضح أن كل بنود البيعة للمؤمنين والمؤمنات تتلخص فى تطبيق الإسلام والإيمان فى العقيدة وفى السلوك . تطبيق الإسلام فى العقيدة بعدم الوقوع فى الشرك والكفر ،أى بعدم الإعتقاد فى إله إلا الله الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، والإيمان والإسلام سلوكا بمعنى طاعة الله تعالى فى التعامل السلمى مع البشر بعدم الإعتداء على حياة الأخرين وأعراضهم وأموالهم أى التمسك بالقيم العليا المتعارف عليها من العدل ومنع الظلم .
إذن بنود البيعة تتلخص فى طاعة الله تعالى ، وهنا تكون المساواة بين المسلمين جميعا بما فيهم النبى نفسه، فهم مأمورون جميعا بطاعة الله الواحد عز وجل الذى لا شريك له فى الملك. وعليه فإن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هو تناصح بالتمسك بالقيم العليا المتعارف عليها والإبتعاد عن الرذائل المستنكرة من جميع الناس، وهذا التناصح يعنى أن ينصح كل مؤمن أخاه أو أخته ، وأن تنصح كل مؤمنة أخاها أو أختها. وهنا مساواة المؤمنين جميعا رجالا ونساء ؛ كلهم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ( العصر / 3 ) ،أى ليست هناك طائفة تأمر الأخرين ولا يأمرها أحد، فليس فى الاسلام كهنوت وليس فيه طائفة تحتكر إصدار الأوامر وتضع نفسها فوق القانون أو فوق الجميع بقوة القانون.
وبالتالى فليس هناك طاعة لشخص أو لحاكم حتى لو كان النبى نفسه . فالأية تقول عن أحد بنود البيعة عن النساء :( وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) لو قالت الأية " ولا يعصينك " فقط لكان ذلك فرضا بطاعة النبى طاعة مطلقة. ومصطلح النبى يعنى شخص النبى محمد وعلاقاته بمن حوله، لذا كان العتاب واللوم يأتى بصفة النبى بينما الطاعة تأتى مرتبطة بالرسول والذى يعنى أيضا الرسالة والقرآن. ولأن النبى هنا هو شخص النبى محمد فإن طاعته كشخص مرتبطة بأن تكون فقط فى "معروف "، والمعروف هو المتعارف عليه من القيم العليا التى جاء بها القرآن والتى تجلت فى سائر بنود البيعة . وإذا كانت طاعة النبى محمد – وهو القائد – مرتبطة بالمعروف وليست له طاعة كشخص ، فإنه لا يجوز لأى شخص أن يطلب من المؤمنين طاعته دون قيد أو شرط. ولذلك فقد اشتق الفقهاء المسلمون الأحرار قاعدة سياسية تقول " لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق " أى لا يصح الطاعة إلا فى إطار طاعة الله تعالى وحده ، فالمطاع هو الله تعالى وحده، ومن يطع القرآن ـ أو الرسالة الالهية الخاتمة بعد موت الرسول محمد ـ فقد أطاع الله تعالى ( النساء /80 ) وكل من يأمر بما جاء فى القرآن فيجب طاعة ما ينطق به من القرآن ، وليس طاعته هو كشخص.
وهذا معنى الأمر بطاعة الله ورسوله وأولى الأمر، ( النساء / 59 ) ليس هنا تثليث ،أو عبادة لله والرسول واولى الأمر، بل أن طاعة ولى الأمر وطاعة الرسول فيما يقال من أوامر جاءت من الله تعالى فى كتابه الكريم ونطق بها الرسول وبلغها ، ثم يقوم على رعايتها أولو الأمر. وإذا زاغ أحد منهم عن أوامر الله تعالى فلا طاعة له ، بل يجب اعلان العصيان لأمره وتوضيح أنه يأمر بما يخالف القرآن ، حتى نبرىء دين الله تعالى من استغلال دينه العظيم من الاستغلال والفساد والاستبداد.
باختصار : إن البشر عليهم أن يطيعوا الله تعالى وحده ويحرم عليهم طاعة أمر يخالف تشريع الله تعالى ومبادئه .يسرى هذا على البيعة العامة فى الدخول فى مواطنة الدولة الإسلامية كما يسرى هذا على البيعة العامة فى الدخول فى مواطنة الدولة الإسلامية كما يسرى على البيعة الخاصة التى تفرضها ظروف الحرب .
سابعا : مشاركة المرأة فى المجتمع :-
فى سورة الممتحنة ملمح واضح يدل على مساواة المرأة بالرجل فى الحقوق والواجبات فى الإسلام حيث يحق لها المشاركة السياسية وحقوق المواطنة كالرجل إذ عليها أن تبايع الحاكم شأن كل رجل .
مشاركة المرأة السياسية أكدها القرآن الكريم ليس فقط على المستوى التشريعى ولكن أيضا على المستويين التطبيقى والتاريخى .
على المستوى التطبيقى كان للمرأة ان تجادل النبى وتشكوله ولا تقتنع باجاباته فتدعو الله تعالى ان ينزل لها وحيا يحل مشكلتها فينزل الوحى يقول : (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) المجادلة /1).
وكان مجتمع المدينة فى عصر نزول القرآن خلية نحل تموج بالحركة والنشاط، حيث أباحت حرية الفكر والعقيدة والتعبير والحركة السلمية المعبرة عن العقائد ــ أن تتألف جماعات من المنافقين والمنافقات يتحركون معا فى مظاهرات يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف فتقابلهم جماعات أخرى من المؤمنين والمؤمنات للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر : ( الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )(التوبة / 67 ، 71 )، هذا والدولة الاسلامية فى عصر النبى محمد لا تتدخل فى منع هذا او تاييد ذاك لأن مهمتها هى كفالة الحرية فى العقائد والآراء السسياسية والتعبير عنها بالطرق السلمية دون أن يقوم طرف باكراه الآخرين أو اضطهادهم فى الدين.
على المستوى التاريخى فقد جعل الله تعالى المثل الأعلى للمؤمنين فى كل زمان ومكان إثنتين من النساء هما السيدة مريم العذراء وزوجة فرعون ، كما جعل المثل الأسفل لكل الكافرين فى العقيدة والسلوك امرأتين أيضا هما زوجة نوح وزوجة لوط .( التحريم / 10 ـ 12) . كما قص الله تعالى قصة ملكة سبأ ( النمل / 22 ـ 44)، وتكررت فى القرآن قصة فرعون موسى. والتدبر القرآنى ـ وهو فريضة منسية ـ يحمل المسلم على المقارنة بين إثنين من الحكام كلاهما تعامل مع نبى من الأنبياء بطريقة مختلفة، وفازت الحاكم الأنثى ( ملكة سبأ ) وخسر الحاكم الذكر ( فرعون موسى ) وأضاع عرشه وقومه. ليس المقصد هنا أن المرأة أفضل من الرجل فى مجال الحكم، ولكنها إشارة تاريخية الى أن إمرأة حكمت فكانت راشدة فى وقت يضل فيه أغلب الحكام الذكور.
المقارنة هائلة هنا بين الاسلام والدين السنى . الدين السنى يمنع ولاية المرأة للرئاسة ، ويمنع توليها القضاء ، بل يجعل المرأة مخلوقا من ضلع أعوج يستحيل اصلاحه ، ويجعلها "ناقصة عقل ودين ".!! هل يصح أن يقال عن السيدة مريم عليها السلام أنها ناقصة عقل ودين بعد كل هذا المدح الذى قاله الله تعالى عنها فى القرآن الكريم؟
وفى الحضارة الغربية لم يتم إعطاء المرأة حقوقها السياسية إلا مؤخرا ، ولكن الإسلام سبق الجميع فى ذلك.
ثامنا : الشورى ( الديمقراطية المباشرة ) فى الدولة الإسلامية ودور المرأة فيها :
الديمقراطية مجرد نظام للحكم ، منه النيابى التمثيلى يقوم على اختيار الشعب ممثلين عنه يقومون بتصريف سياسته ، ومنه المباشر الذى يقوم فيه الشعب بحكم نفسه عبر خبراء من اولى الشأن أو أولى الأمر . وهذه الديمقراطية المباشرة موجودة فى بعض دول الغرب ، وكانت من قبل فى بعض مراحل التاريخ اليونانى ، ونزلت فى تشريع القرآن الكريم تحت مسمى ( الشورى ) التى تشمل كل المجتمع المسلم رجالا ونساءا . ومنشور لنا هنا كتاب عن الشورى الاسلامية التى طبقها النبى محمد عليه السلام فى دولته المدنية فى المدينة . ولكن ما لبث الحكم الاستبدادى للخلفاء أن قام بتغييب فريضة الشورى فى القرآن . ونعرض للشورى الاسلامية سريعا على النحو التالى :
* فأمر الشورى نزل فرضا دينيا على المسلمين فى مكة قبل أن تقوم لهم دولة ، وذلك ضمن آيات وصفت ملامح المجتمع المسلم فى سورة الشورى (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ )(1) فالخطاب هنا يشمل الرجل والمرأة على السواء ، فهم معا موصوفون بالذين استجابوا لربهم و أم أمرهم شورى بينهم . ولم يرد هنا تخصيص للرجال أو أستبعاد للنساء فى عملية الشورى. ومن ضمن ملامح الشورى أيضا أنها جاءت الشورى بين الصلاة والزكاة ، وهى المرة الوحيدة فى القرآن التى يأتى فيها فاصل بين الصلاة والزكاة . والمعنى المراد أن الشورى فريضة كالصلاة ، وكما لا يصح الاستنابة فى الصلاة فكذلك لا يصح الاستنابة فى تأدية الشورى . أى إنها فريضة على كل إنسان ، رجلا كان أم امرأة فى البيت ، والمصنع والشارع والمجتمع وفى السياسة والاقتصاد وشتى مناحى الحياة.
* وقد طبق المسلمون فريضة الشورى فى مكة ثم طبقوها فى المدينة حيث كان المسجد مقر الصلاة والشورى والحكم . وحيث كان يجتمع المسلمون جميعا رجالا ونساءا إذا جد ما يستدعى الشورى ، وحينئذ ينادى المؤذن " الصلاة جامعة" فيجتمعون ، ويتكون مجلس للشورى من جمعية عمومية ، كل أعضائها جميع المسلمين من رجال ونساء يمارسون الديمقراطية المباشرة و يتداولون الرأى . وفى البداية لم يكن أهل المدينة من الأنصار قد تعودوا على هذه الفريضة ، لذلك كان بعضهم يتخلف عن حضور المجلس بدون عذر ، وبعضهم يأتى ويعتذر للنبى ويخرج ، وبعضهم بعد أن يحضر يتسلل من المجلس . لذلك نزلت الآيات الأخيرة من سورة ( النور ) أولى السور المدنية تستنكر ذلك وتجعل حضور هذه المجالس فريضة دينية وتحذر من يتخلف عن حضورها من الأنتقام الإلهى ، يقول تعالى : (إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)
بالمناسبة فقد كان حضور النساء للمساجد فريضة دينية . وقد تحدث القرآن عن فريضة الأعتكاف فى المسجد فى ليالى رمضان ، ونهى عن مباشرة الزوجة أثناء الأعتكاف فى المسجد (وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ) (البقرة 187 ) مما يدل على مشاركة النساء للرجال فى كل الفرائض والأنشطة حتى ما يتعلق منها بالمساجد .
* وحتى تنطبق فريضة الشورى على النبى محمد نفسه عليه السلام نزل قوله تعالى له (َبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ )(آل عمران 159 ) أى إنه بسبب رحمة من الله جعلك يا محمد هينا لينا معهم ، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك وتركوك . وإذا تركوك وانفضوا من حولك فلن تكون لك دولة ولن تكون حاكما ، لأنه باجتماعهم حولك صار لك السلطان ، فأنت تستمد سلطتك السياسية منهم ، أى أن الأمة هى مصدر السلطات ، وليس الله ، كما تقول الدولة الدينية وكما يقول أصحاب الحق الملكى المقدس" "The Divine Right Of KINGS . ولأنك تستمد سلطتك السياسية منهم فاعف عنهم إذا أساءوا إليك واستغفر لهم إذا أذنبوا فى حقك ، وشاورهم فى الأمر لأنهم أصحاب الأمر ، فإذا عزمت على التنفيذ باعتبارك سلطة تنفيذية معك أولو الأمر أى أصحاب الشأن والاختصاص والخبرة ــ فتوكل واعتمد على الله . وقوله تعالى للنبى محمد (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) يشمل النساء و الرجال وكل الراشدين الذين تجمعوا حول النبى محمد عليه السلام واقاموا له دولة ، وهاجروا اليه من خارج المدينة.
والمستفاد مما سبق أن النبى وهو الذى يوحى إليه كان مأمورا بالشورى ، وكان كقائد يستمد سلطته السياسية من الشعب ، فإذا كان ذلك حال النبى فإن من يستنكف عن المساءلة من شأنه إنما يضع نفسه فوق النبى ، أى – يكون دون أن يدرى – مدعيا للألوهية . ويعزز ذلك حديث القرآن المتكرر عن فرعون موسى الذى وصل به الإستبداد إلى إدعاء الألوهية وإلى تدمير نفسه ودولته. وقد جعله رب العزة جل وعلا عبرة لكل مستبد. ومع ذلك فلم يتعظ به أحد .. لأن خمر السلطة يذهب بالعقول .
* وقد وازن القرآن بين الشورى وطاعة أولى الأمر.
وأولو الأمر ليسوا الحكام فى مصطلح القرآن ، ولكنهم أصحاب الشأن أو أصحاب الخبرة فى الموضوع المطروح ، سواء كانوا من الرجال أو من النساء.
وتكون طاعتهم فى إطار طاعة الله ورسوله، أى فيما يحقق العدل والقسط ، لأن تشريعات القرآن ـ وهى بضع صفحات – كلها بأحكامها وقواعدها وتفصيلاتها تهدف لتحقيق القسط والعدل . وما تركة تشريع القرآن ، تكون فيه الشورى وخبرة أصحاب الشأن أو أولي الأمربشرط تحقيق مقاصد التشريع القرآني ، وهي التيسير ورفع الحرج ومراعاة التوسط والاعتدال والالتزام بالعدل والقسط .
إن عمل أولي الأمر أو أولي الاختصاص يكون في مجالين:تطبيق النصوص القرآنية، وإنشاء تشريعات جديدة وتطبيقها في ضوء المقاصد التشريعية القرآنية سالفة الذكر. وبالشورى أو الديموقراطية المباشرة يتم تعضيد أولي الأمر أى أولوالخبرة لكل أفراد المجتمع رجالا ونساء. والشورى الإسلامية بهذا المعنى تجعل الشعب- وليس الحاكم – هو مصدر السلطات أى أن الشعب هو القوة الكبرى،ولذلك فإن الشورى الإسلامية فى حقيقتها هى فن ممارسة القوة يقوم بها الشعب وليس لأولى الأمر سوى طاعة الأمة أو الشعب ، أى أن ولى الأمر هو مجرد موظف بعقد مؤقت لدى الشعب إذا أحسن فقد فعل المطلوب منه وإذا أخفق استحق العزل ، وإذا أساء استحق العقاب شأن أى موظف عام لدى الشعب .ولأنه صاحب خبرة فيستوى إن كان رجلا أو إمرأة لأن التعويل على الخبرة فقط.
والاكتفاء بالشورى لا يجدى إذا كان المجتمع جاهلا خاليا من الكفاءات وأصحاب التخصص والخبرة فى الموضوع المطروح. كما أن سيطرة أصحاب الخبرة أو ( التكنوقراط ) على مقاليد الأمور دون مساءلة من جانب الشعب ودون إشراف يكون استبدادا مخالفا للاسلام .
أى لا بد من وجود ديمقراطية مباشرة للشعب كله مع مشورة أهل الخبرة و الاختصاص ، كل منهم فى مجال تخصصه ، ويتم ذلك كله فى إطار من الشفافية و العدل. ومن الطبيعى أن تتغير تشريعات وتطبيقات أولى الأمر بتغيير ظروف المجتمع . وبهذا تحقق الشورى وطاعة أولى الأختصاص صلاحية التشريع القرآنى لكل زمان ومكان .والمرأة هنا حاضرة باعتبارها نصف المجتمع ـ أى نصف الجمعية العمومية لمجالس الشورى ، وأيضا باعتبارها ـ او يمكن أن تكون ـ صاحبة خبرة.
والديمقراطية بهذا الشكل وتلك الممارسة تقوم بتعليم كل أفراد الشعب تحمل المسئولية وتدريبهم على المشاركة الفعالة فى تسيير المجتمع باعتبار كل فرد جزءا من هذا المجتمع على قدم المساواة مع الأفراد الآخرين ـ بلا تمييز على أساس العقيدة والملة لأن المواطنة هى للمسالم بغض النظر عن إعتقاده ، وبغض النظر عن النوع أو الجنس ( ذكرأ كان أو أنثى ) أو اللون أوالوضع الاقتصادى أو غيره.
*وليس فى الدولة الاسلامية حاكم فرد
1 ـ كل الأوامر القرآنية لا تأتى لحاكم بل للمجتمع رجالا ونساءا، ومنها قوله جل وعلا : (،(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) محمد )، (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60) الانفال ) (هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38) محمد )
2 ـ وكلمة ( يحكم ) فى القرآن الكريم جاءت بمعنى الحكم القضائى ، أى فى التقاضى ، أى ( يحكم بين ) وليس بمعنى يحكم الشعب . يقول جل وعلا فى خطاب مباشر للمؤمنين : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) النساء ).
3 ـ بل إن كلمة ( الحكام ) لم تأت فى القرآن الكريم إلا مرة واحدة ، فى سياق الفساد السائد فى المجتمع ، وفى النهى عن رشوة الحكام الظالمين لأجل أكل أموال الناس بالباطل ، يقول جل وعلا : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) البقرة ). والمستفاد أنه حيث يوجد ( حُكام ) فالسبيل سهل الى الفساد .
ومع وجود قائد فهو ليس بالحاكم المتعارف عليه لأن هذا القائد هو صاحب صفة تنفيذية ، هى الأساس ، ويستوى فيه أن يكون رجلا أو امرأة ، المهم أن يكون كفؤا فى خدمة الأمة وبعد أن تنتهى مدته يصبح شخصا عاديا يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق كما كان يفعل النبى عليه السلام . أى أن تشريع القرآن لا يمنع أن تكون المرأة على رأس الدولة طالما كانت من أهل الكفاءة والاختصاص.
* وهذا كله فى إطار نظام الشورى الذى لا يمكن تطبيقه إلا إذا كانت القوة كلها فى أيدى الشعب أو الأمة. أما إذا كان الشعب ضعيفا مستكينا إنفرد الحاكم دونه بالقوة ليقتسمها مع جيشه وأتباعه . وعلى قدر قوة الحاكم تكون درجة مشورته لمن حوله ، وتكون نظرته للشعب الذى يحكمه. والمفروض أن تخاف الحكومة من الشعب لأنها خاضعة للشعب وخادمة للشعب ، هذا إذا كان الشعب قويا برجاله ونسائه . أما إذا كان الشعب ضعيفا وإستاثر مستبد بحكمه فإنه ينظر لهذا الشعب على أنه قطيع من الأغنام يملكه ويستغله ، يذبح منهم ما يشاء ويستبقى ما يشاء . وذلك منطق الراعى والرعية فى العصور الوسطى فى تاريخ المسلمين ، ومن تراث المسلمين نبعت تلك الفتوى الفقهية التى تقول أن للحاكم أن يقتل ثلث الأمة أو ثلث الرعية لأصلاح حال الثلثين .!!
تاسعا : رئاسة المرأة الدولة وقوامة الرجل على المرأة
1 ـ قوامة الرجل فى الزواج أى مسئوليته عن الزوجة ورعايته لها، وتتحقق هذه القوامة بقيامه بالإنفاق عليها بعد ان دفع صداقها .( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ) النساء 34)
بدون الانفاق لا تكون للرجل قوامة على الزوجة الا برضاها واختيارها. كما أن للزوجة أن تشترط أن تكون العصمة بيدها ، أو ان تكون لها القوامة على الرجل . ان عقد الزواج مجال للتفاوض بين الطرفين يضع فيه كل طرف ما يعبر مكانته ومقدرته، وما يتم الاتفاق عليه فى العقد يصبح سارى المفعول طبقا لأمر الله تعالى للمؤمنين فى أول سورة المائدة بالوفاء بالعقود..
2 ـ والطريف أن من يعترض علينا بموضوع القوامة يتصور رئاسة الدولة فى حاكم مستبد وقد عرفنا أن صورة الحاكم فى الدولة الإسلامية تناقض ذلك تماما ، بل إن الشعب هو فى الحقيقة صاحب القوامة على الحاكم ، فهو الذى يدفع للحاكم مرتبه فى مقابل ما يؤديه الحاكم فى خدمة الشعب وذلك فى إطار عقد محدد ومن هنا يمكن القول أن المرأة قد تكون أقدر على الطاعة والخدمة للشعب " القوى " .
3 ـ كما أننا نتحدث عن إمرأة ذات مواصفات خاصة تصلح بها أن تكون من ( أولى الأمر ) فى الدولة الاسلامية ، ولا نتصورها ( ست بيت ) أو ( ربة منزل ) عادية .
4 ــ ثم نعيد التذكير على أن الثقافة الديمقراطية المباشرة المرتبطة بالدولة الاسلامية تستلزم وعيا مستمدا من العقيدة الايمانية ( لا إله إلا الله ) . هذا الوعى الايمانى لا مجال فيه لتقديس بشر من الأنبياء أو من غيرهم ، وهو مؤسس على ألا يتعالى فرد على آخر ، بل هى المساواة والعدل بين البشر ذكورا وإناثا فى إطار المواطنة لكل فرد مُسالم بغض النظر عن دينه وملته وعقيدته . هذا الوعى يرتفع بعقلية الجميع خصوصا النساء ، ويحولهن الى ناشطات فى العمل العام ، ويجعلهن صاحبات قوامة ، او على ألأقل الأغلبية منهن .
5 ـ ونؤكد أن وضع المرأة من حيث الوعى ومن حيث النشاط الاجتماعى والحراك الاجتماعى هو مقياس مدى التحضر أو التخلف فى أى مجتمع . وهذا ما نراه فى تاريخ الصحابة أثناء حياة النبى وبعده ، كما نراه اليوم فى مقارنة بين المرأة ( المحمدية ) التى تم تعبئتها ـ برضاها ـ لتكون سلعة وأسيرة النقاب والمرأة المسيحية المتفاعلة مع مجتمعها . ومهما وصل الوضع التقدمى للمرأة الغربية المسيحية فهو دون حق المرأة فى التشريع الاسلامى القرآنى .
عاشرا : فى الشهادة فى المعاملات التجارية :
1 ـ يقول جل وعلا فى أطول آية قرآنية : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 282 ) البقرة ).
2 ـ هنا الأمر بكتابة الديون المؤجلة ، يكتبها كاتب عدل ، وعليه الامتثال لما يُملى عليه . أما الذى يُملى فلا بد أن يلتزم بالعدل فيما يُمليه على الكاتب . فإن كان صاحب الحق ( الدائن ) غير مؤهل فليقم ولى أمره بالاملاء عنه . ثم ليكن هناك شاهدان من الرجال ، أو رجل وإمرأتان . ولا بد من حضور الشهود ، ولا بد من كتابة التفاصيل فى الديون . إلا إذا كانت تجارة حاضرة متوالية فليس واجبا الكتابة عن طريق كاتب مستقل وشهود . أما البيع فيشترط فيه الاشهاد . ولا بد من حصانة الكاتب والشهود لأنهم محايدون . وإذا حدثت مؤاخذة للكاتب والشهود فهذا دليل فساد وفسوق فى المجتمع وفى جهازه القضائى .
3 ــ وواضح أن الآية الكريمة فيها أوامر ونواهى تشريعية لها مبرراتها ، وفيها أيضا مقاصد وأهداف تشريعية تعلو على تلك الأوامر والنواهى ، وتعمل فى إطارها الأوامر والنواهى . الأهداف التشريعية تسرى فى كل زمان ومكان أما الأوامر والنواهى فإمكانية تطبيقها تبعا للظروف فى إطار الالتزام بالأهداف التشريعية . أهم الأهداف التشريعية هو القسط والعدل ، وسبقت الاشارة الى ان إقامة القسط هى الهدف التشريعى لكل الرسالات السماوية . وفى هذه الآية الكريمة ــ التى تتعرض بالتفصيل لموضوع كتابة الديون والاشهاد عليها ــ نلاحظ تكرار الاشارة الى العدل ( المقصد التشريعى ) إما صراحة بالاتيان بنفس الكلمة ، وإما ضمنا بضمانة الحصانة للكاتب والشهيد . ولكن الأوامر التشريعية تأتى فيها التقييدات والحيثيات ففى شهادة المرأتين : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ) تأتى الحيثيات وهى : ( أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى )، أى بدونها يمكن أن تتساوى شهادة المرأة بالرجل . التطبيق بهذه الحيثيات يلائم مجتمعا فى درجة دُنيا من التطور ، ولا تزال تلك المجتمعات موجودة، وستظل فى الأغلب موجودة . مقياس التطور هو فى مدى تفاعل المرأة فى الحياة وفى السوق وفى التعامل اليومى والتعليم . المرأة فى المجتمعات الأقل تطورا يلائمها هذا التشريع بحيثياته . ،. أما إذا بلغ المجتمع تطورا ينعكس تقدما على تفاعل المرأة فهذه الأوامر لا تصلح للتطبيق وتكون شهادتها كالرجل . وطالما نتكلم عن درجة وعى كبيرة فى المجتمع تؤهله للشورى أو الديمقراطية المباشرة فهذه الوامر التشريعية بخصوص شهادة المرأة التجارية غير معمول بها .
حادى عشر : المرأة فى الميراث :
1 ـ وقد يقال إن التشريع القرآنى يجعل نصيب المرأة فى الميراث نصف الرجل فكيف تتفق هذه النظرة مع توليها رئاسة الدولة؟ ولن نكرر ما قلناه سابقاعن طبيعة الحاكم فى الدولة الإسلامية القوية بشعبها ولكن نوضح حقيقة وضع المرأة فى موضوع الميراث .
2 ـ للمرأة نصف الذكر فى حالات محددة ؛ إذا كانت بنتا أو أختا ورثت الأب أو الأم أورثت الأخ أو الأخت . فالذكر الابن أو الأخ عليه أعباء ليست على أخته ، فهو الذى يقيم الأسرة ويدفع المهر وينفق على البيت . أما البنت أو الأخت فهى خالية المسئولية من هذا وذاك تجد من يدفع لها المهر ومن ينفق عليها، وليس من العدل أن يتساويا فى الميراث إلا إذا تساويا فى الأعباء .
وعندما يتساوى الذكر والأنثى فى الأعباء يتساويان فى الميراث ، وذلك ما يحدث عندما يرث الأب والأم تركة ولدهما بعد أن عانى كل منهما فى تربيته ، ثم مات وترك ثروة، حينئذ لكل منهما السدس إذا كان للمتوفى ذرية ، أولكل منهما الثلث إذا لم يكن للمتوفى ذرية.
إذن هو توزيع للأدوار وتوزيع للأعباء لا ينقص من قدر المرأة ولا يجعلها درحة ثانية بعد الرجل ، ويكفى أن الله سبحانه وتعالى لم يفرق بين الرجل والمرأة فى التكليف ولا فى الثواب ولا فى العقاب ( آل عمران 195، والنساء 124، غافر40 ) .
ثانى عشر : هل الشورى الإسلامية تشريعات خيالية ؟:
1 ـ قد يقول قائل إن نظام الشورى فى الإسلام وفقا لما جاء فى القرآن أقرب إلى اليوتوبيا الخيالية ، والتى تجعل تطبيقها العلمى يقع فى دائرة النتوءات والاستثناءات التاريخية . فالأغلبية فى التاريخ الواقعى هو مع تاريخ الاستبداد ، والغلبة فيه للرجل والظلم فيه يقع على عاتق المرأة ..
ونقول.. فعلا فإن دولة الإسلام التى طبقت الشورى ـ أو الديمقراطية المباشرة ـ بدأت تتآكل بمجرد وفاة النبى محمد عليه السلام ، ومنذ بيعة السقيفة التى عينت أبا بكر خليفة وحاكما . ثم تعاظم الابتعاد عن أسس الشورى الاسلامية الى ان تحولت الى حكم ملكى وراثى فى الدولة الأموية و ما تلاها الى الدولة او الخلافة العثمانية.ولكن العبرة هنا هى فى صلاحية النصوص للتطبيق ، وقد تم تطبيقها بنجاح مذهل فى عصر غير عصرها .
2 ــ ولكى نشرح هذه العبارة بإيجاز نقول إن عصر ظهور الإسلام كان عصر القرون الوسطى المظلمة، وعصرالإمبراطوريات المستبدة ، أى أن الشورى الإسلامية ظهرت فى عصر يرفضها ، ومع ذلك انتصرت على عصرها ، فأقامت دولة وأسست أمة ومارست الشورى أو الديمقراطية المباشرة وسط أوقات صعبة ، حيث حوصرت الدولة الوليدة بأعداء من كل الجبهات ، وكان هناك طابور خامس فى داخلها يتآمر عليها، وهم المنافقون. وكانت كل الظروف الاستثنائية السابقة تعطى مبررا لتركز السلطة فى يد حاكم قوى ، خصوصا إذا كان هو النبى محمد عليه السلام الذى يأتيه وحى السماء. ولكن حدث العكس ، وهو تطبيق الديمقراطية المباشرة فاستطاع بها المسلمون الحفاظ على دولتهم التى كانوا يملكونها ملكية حقيقية ، فحافظوا عليها من المخاطر التى كانت تتناوشها من الداخل والخارج. وأعطت الدولة الاسلامية فى عهد النبى محمد درسا عمليا لمن يريد التحجج بالأمن لكى يصادر الحرية ، وتأكد بهذا أن الحفاظ على الأمن لا يكون إلا بالمزيد من الحرية و المساءلة و المكاشفة و الشفافية.
والسبب فى ذلك يرجع إلى قوة الشعب الذى كان فيه ذلك الشعب يمارس بالشورى فن القوة ، وقد تساوى فى ممارسة فن القوة الرجال والنساء معا . فالنساء شاركن الرجال فى الهجرة وفى مبايعة النبى ، بل كانت لهن بيعة خاصة . وما معنى أن تهاجر المرأة من مكة إلى المدينة تاركة أهلها وربما زوجها فى سبيل دينها؟ المعنى قوة شخصيتها . لذلك كانت تبايع النبى بنفسها ، وهى تملك زمام المبادرة بنفسها دون زوج أو ولى أمر .
3 ــ ونتذكر الفارق بين وضع المرأة فى دولة النبى وبين وضعها فى عصر التخلف والفقه السلفى حين نردد الحكم الفقهى المشهور الذى يمنع المرأة من السفر إلا بصحبة محرم أو زوج ، وتلك هى الفتوى الشرعية التى لا تزال سارية المفعول فى بعض البلاد حتى الآن..
4 ــ إن النصوص التشريعية سواء كانت إلهية أو بشرية – إنما تستمد قابليتها للتطبيق من قدرة البشر على تطبيقها ، وآيات القرآن كلها تهدف إلى بناء شخصية إنسانية قوية ولكن فى حدود الممكن والمستطاع وليس المستحيل أو المتعذر .وقد نجحت الوصفة القرآنية فى تحويل عرب الصحراء إلى أمه ودولة قوية فرضت نفسها على التاريخ العالمى فى القرون الوسطى ، قرون الاستبداد السياسى ، فإذا أفلحت هناك فهى أصلح لعصرنا ، عصر حقوق الإنسان وثورة الاتصالات التى تتيح الديمقراطية المباشرة .
5 ــ ولكن لابد من الاعتراف بوجود مشكلة خطيرة ، وهى أن الاستبداد السياسى للخلفاء بعد موت النبى عليه السلام كان استجابة طبيعة لما تعارفت عليه العصور الوسطى ، وقد اعتادت العصور الوسطى أن تصوغ كل جرائمها بانتحال الدين ، ولذلك أسبغت على ممارستها السياسية والاجتماعية مسحة دينية زائفة عن طريق نسبتها لنبى الإسلام فى صورة أحاديث وأخبار وروايات ، وفى نفس الوقت تجاهلت مجالس الشورى التى كانت تعقد فى المدينة والتى تعلم فيها المسلمون أسلوب الحوار والنقاش فى حضور النبى ، تلك المجالس التى أشار اليها رب العزة فى القرآن الكريم وتشويش المنافقين عليها بالتناجى واتهام النبى عليه السلام بأنه ( أُذٌن ) :( النساء 114، المجادلة 7 ـ التوبة 61 ) كما تجاهلوا أكثر من 500 خطبة جمعة للنبى فى المدينة كانت مدرسة أسبوعية للمؤمنين . تجاهلوا كل ذلك واستبدلوها بأحاديث وروايات زائفة لتعطى مشروعية زائفة لفكر العصور الوسطى الاستبدادى والذى كان من أحد معالمه الأساسية اضطهاد المرأة.
6 ـ وتوارثنا هذا العفن على أنه دين وأنه ( سُنّة الرسول ) وأنه ( وحى ربانى ) بل يرتفع به بعضهم فوق القرآن الكريم . وصحيح إنها مشكلة خطيرة ، ذلك التراث المقدس. ولكن ما أسهل أن ننزع عنه صفة القداسة حين نتذكر أن أصحابه مجرد بشر يخطئون ويصيبون ، وقد اجتهدوا لعصرهم وعلينا أن نجتهد لعصرنا .وإن لم نفعل ذلك فقد خلعنا عليهم صفة الألوهية . هذا التأليه للبشر يناقض الإسلام الذى لا إله فيه إلا الله. ولا إله مع الله . وهكذا بالقرآن تنتهى المشكلة وخطورتها .ولكن المشاكل لم تنته بعد ، بدليل الاعتراض الأخير :
ثالث عشر : موقف التشريع القرآنى من النظم السياسية الديكتاتورية:
إن تشريع القرآن عن الشورى يظل توصيفا لحالة وحيدة حتى إن كانت قابلة للتكرار . ولكن ما موقف تشريع القرآن من الأغلبية ؟ أغلبية نظم الحكم المستبدة ؟ .. هل يعتبرها القرآن ويعترف بها أم يعتبرها نظم حكم كافرة يجب تغييرها ؟..وقضية المرأة تدخل فى هذا الإطار .
ونقول إن حقيقة الوجود الإنسانى فى هذه الدنيا إنما هو إختبار إلهى للبشر ، وأساس هذا الاختبار حرية الإنسان فى اختياره الهداية أم الضلال ، والإنسان هو الذى يختار الهداية أو يختار الضلالة ، وهذه هى البداية ، ثم تأتى إرادة الله لتؤكد اختيار الإنسان، فإذا اختار الإنسان الهداية زاده الله إيمانا وهدى . وإذا اختار الضلال زاده الله ضلالا . وهذا ما يؤكده الله تعالى فى القرآن (البقرة :10، محمد 17،مريم6 7، العنكبوت 69) ثم يأتى الحساب فى الآخرة على ما اختاره الإنسان بإرادته.
وكما ينطبق ذلك على اختيار العقائد فإنه ينطبق أيضا على أحوال السياسة. فالحاكم المستبد الظالم الذى اعترف له الناس بالسلطة وخشعوا له يعترف به رب العزة حاكما وملكا طالما رضى به الناس ملكا . ودليلنا على هذا أن الله تعالى تحدث عن ملوك ظلمة ادعوا الألوهية ووصفهم بالملك وذلك فى قصة إبراهيم مع الملك الذى جادل إبراهيم فى الله وادعى أنه يحى ويميت( البقرة 282 ) وفى قصة موسى والعبد الصالح مع الملك الظالم الذى يأخذ كل سفينة غصبا (الكهف 79) بالإضافةإلى فرعون وغيره.
وهكذا ، فطالما رضى الناس بالضيم واستبداد الحاكم يظل ذلك الحاكم ملكا عليهم يحظى باعترافهم به وباعتراف الله تعالى بملكه عليهم، ثم يأتى حسابه العسير على ما اقترفت يداه يوم القيامة . أما إذا ثار الناس على الظلم فالقرآن يعطيهم مشروعية الثورة ، التغيير بالحديد الذى أنزله بأسا شديدا ومنافع للناس (الحديد 25) ولكن هذا التغيير الثورى يبدأ بتغيير الأنفس التى تعودت على الخضوع والرضى بالذل ، وهذا التغيير النفسى عملية شاقة ، فإذا نجحت أمة فى تغيير نفسها من الهوان إلى القوة جاءت إرادة الله تعالى لتعززهذا التغيير ،( الرعد 11 ). وإذا حدث هذا الوعى أو ذلك التغيير فى شعب ما تحول الحاكم الهصور إلى نمر من ورق أو إلى جثة تذروها الرياح . وبعدها يحكم الشعب نفسه بحيث يصبح الحاكم مجرد رمز لإرادة الشعب ،سواء كان ذلك الرمز رجلا أم امرأة ..
ولكن هل نسينا موضوعنا عن المرأة . ؟
كلا .. بدليل حديث القرآن عن ملكة سبأ .. فقد تعرضنا لتشريع القرآن ، وآن لنا أن نتوقف مع قصص القرآن فيما يخص رئاسة المرأة للدولة الديكتاتورية .
رابع عشر : مقارنة بين إمرأة مستبدة ورجل مستبد .
1 ــ ونود أن نضع بعض الملاحظات على قصة ملكة سبأ فى القرآن الكريم :
1 / 1 : فالقرآن الكريم لم يعترض على وجود امرأة تملك وتحكم ، وقد أوتيت من كل شئ ولها عرش عظيم .ولكن انصب الاعتراض على أنها وقومها كانوا يسجدون للشمس من دون الله ، ولذلك أرسل سليمان لها رسالة يدعوها للإسلام ، ووجه رسالته إليها باعتبارها تمثل الشعب ، وهذا اعتراف آخر بشرعيتها فى الحكم .
1 / 2 : وحديث القرآن عنها يؤكد تمتعها بتأييد الحاشية أو الملأ ، وهى تستشيرهم فينتظرون رأيها ويعلنون تأييدها منذ البداية واثقين من رجاحة عقلها ، قائلين لها إن الأمر إليك انظرى ماذا تأمرين ، وهى برجاحة عقلها لا ترد على رسالة سليمان بإعلان الحرب أو أن تجعلها قضية كرامة شخصية ولكن تفكر فى عاقبة الحرب على الشعب الذى يدفع دائما فاتورة الحمق لدى الحكام المستبدين ، قالتها ملكة سبأ حكمة غالية :( إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) النمل) ، وهم حتى الآن " يفعلون" فما أفسد البلاد واهلك العباد إلا حكام مستبدون معتوهون لا زلنا حتى الآن نسعد بوجودهم ، تراهم أخصائيين فى الهزائم أمام الأقوياء وفى الجبروت على بنى قومهم . وبرجاحة عقل نرى "بلقيس" تبدأ باستطلاع الجانب الآخر لتعطى نفسها فرصة الدراسة والتفكير ، بأن ترسل إليهم بهدية وتنتظر الإجابة :( وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) النمل ) . وفى النهاية تبدو رجاحة عقلها حين تقتنع بالإسلام ، وتنجو بقومها فى الدنيا والآخرة ، وتقول( قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44) النمل).
2 ــ وفى القصص القرآنى نموذجان للحكام المستبدين ، أحدهما رجل وهو فرعون مصر ، والآخر امرأة وهى ملكة سبأ. وبينما تكررت قصة فرعون عدة مرات فى القرآن فإن القرآن تعرض لقصة سبأ مرة واحدة .
3 ــ ويجمع بين فرعون مصر وملكة سبأ عدة عوامل:
فكلاهما مارس الاستبداد بمفهوم القوة، وقد قلنا إن الشورى هى فن ممارسة القوة ، فإن كان الشعب هو القوى أصبح الحاكم مجرد أجير للشعب ينفذ رغباته ، أما إذا انفرد الحاكم دون الشعب بالقوة والثروة أصبح حاكما مستبدا يستشير نفسه أو يستشير حاشيته التى تفكر له فيما يحب وتتقرب إليه بالنفاق فيما يضخم ذاته ونزواته . وقد استمد فرعون استبداده من ملكيته لمصر وجيشها وشعبها . وقد أعلنها صريحة فى مؤتمر شعبى حكاه رب العزة جل وعلا فى القرآن :( وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) الزخرف ) والتاريخ الفرعونى يؤكد أن عصر الرعامسة شهد تمام التحكم للملوك فى الثروة وفى السلطة وفى قيادة الجيوش ، بعد أن سيطروا بالجيش على أمراء الإقطاع فى وادى النيل ، وأسسوا المستبد المركزى الذى لا يتحرك إلا بتوجيهات "السيد الرئيس.."!!
ونفس الحال فإن بلقيس استمدت سلطتها المستبدة من انفرادها بالثروة والسلطة : ( إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) النمل ) ، والحاشية أو الملأ يعترفون لها بهذا السلطان ويجعلون لها الأمر والنهى قائلين: (قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) )النمل )
والله تعالى يعتبر فرعون ممثلا للمصريين كما يعتبر بلقيس ممثلة لملكة سبأ، لذا فإن الله تعالى يرسل إلى فرعون مصر رسولين من لدنه جل وعلا ، هما موسى وهارون، ويوصيهما بحسن التخاطب معه :( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) طه ) ، ونفس الحال مع بلقيس ارتبط ذكرها بالنبى سليمان ، وبرسالته التى أرسلها إليها باعتبارها تملك سبأ.
ولكن مع كل هذا التشابه بين الفرعون وبلقيس فإن ردود الأفعال لديهما اختلفت ، وترتب عليه مصير كل منهما ومصير شعبه المسئول منه.
إن الوظيفة الأساسية لموسى وهارون هى استنقاذ بنى إسرائيل من الاضطهاد الفرعونى ، وأن يسمح الفرعون لهما بأن يخرجا من مصر ببنى إسرائيل " إنا رسولا ربك ، فأرسل معنا بنى إسرائيل ولا تعذبهم "(16) وكان التكليف الإلهى للرسول بأن يبلغا هذه الرسالة للفرعون باللين والسلام: ( فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) طه ) . وتزود موسى بالمعجزات لكى يقتنع فرعون بأنه رسول إليه من عند الله تعالى فيسمح له بأخذ بنى إسرائيل.وكان بإمكان فرعون أن يلبى الطلب وأن يسمح لهذه القبائل العبرية التى يكرهها بالرحيل عن بلاده خصوصا وأن قوته التى تحدث عنها القرآن تحميه من أى خطر محتمل يمكن أن يمثله أولئك الإسرائيليون فى المستقبل ، بل إن الاضطهادالفرعونى لهم جعلهم عاجزين عن دخول فلسطين وأوقع بهم محنة التيه أربعين عاما فى الصحراء بسبب ما تربوا عليه من ذل وجبن. لم يفعل فرعون ذلك ، بل أدى به غرور القوة لأن يطارد أولئك المستضعفين وهم يهربون من ظلمه وهم تحت قيادة اثنين من الأنبياء، وكانت النتيجة غرق فرعون وجنده وآله فى الدنيا ، وعذابهم بين البرزخ والقيامة . والسبب هو الاستبداد الذى يصل بصاحبه إلى الألوهية . وقد قال فرعون لقومه (مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) غافر ) . وبسب هذا الاستبداد بالرأى الى هلاك فرعون وقومه والى تدمير أثار فرعون موسى فمحاها (فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) الاعراف ) .
وأختلف الحال مع ملكة سبأ وموقفها من النبى سليمان :
لقد كان سليمان ملكا نبيا مؤيدا من السماء، وبهذه الصفة بعث رسالة إلى الملكة يدعوها للإسلام – والإسلام هو إخلاص القلب والجوارح لله تعالى والعيش فى سلام مع الناس، وبهذا المعنى نزلت كل رسالات السماء- وكانت رسالة سليمان للملكة تحمل الكثير من الاعتداد بالنفس، ومع ذلك فإن الملكة حين قرأت الرسالة خاطبت واستشارت الحاشية : (قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) النمل)، أى إنها مع تسليم الحاشية لها كامل نفوذها إلا أنها بادرت بعرض الأمر عليهم وقرأت الرسالة على مسامعهم، ووصفت الرسالة بأنها" كتاب كريم " فى إشارة واضحة للملأ حتى لا تأخذهم الأنفة العربية " المعروفة " فتنطلق منهم التصريحات الملتهبة "المعتادة" .وبنفس السياسية الهادئة تمكنت بلقيس من الوصول إلى النهاية السعيدة لها ولشعبها ،بينما استقر فرعون وآله فى قاع البحر بسياسته الخرفاء .
وهذا هو الفارق بين استبداد رجل غاشم هو فرعون واستبداد امرأة هى بلقيس، والذى لا شك فيه أن المرأة الحاكمة المستبدة أقل عدوانية وشراسة من الرجل المستبد.
الفهرس
مقدمة
التمهيد : المرأة بين الاسلام وأديان المسلمين الأرضية
الفصل الأول : القرآن وحق المرأة فى رئاسة الدولة الإسلا
الفصل الثانى : تراث المسلمين: وحق المرأة فى رئاسة الدول
الخاتمة
دعوة للتبرع
عقاب الشواذ: يتعرض الشوا ذ لعقوب ة السجن واحيا نا القتل...
العفو والمقدرة : هل العاج ز حين يعفو وهو ليست لديه مقدرة مثل...
الرفيق الأعلى ؟!!: تتردد عبارة ( الرفي ق الأعل ى ) وصفا لله جل...
سؤالان : السؤا ل الأول : لى أسئلة عن قول الله تعالى فى...
نكتة ابن باز : هل يجب ذكر بسم الله الرحم ن الرحي م عند صب...
more