الست" أم كلثوم بعين مروان حامد... أم كلثوم التي اخترعها أحمد مراد
يبدو أن الجدل حول فيلم "الست" الذي يتناول سيرة أم كلثوم أبعد ما يكون عن الخمود السريع الذي اعتادته الترندات الفنية. فمنذ طرح المقطع الدعائي، انفجرت النقاشات واحتدت المواقف، بعدما رأى كثيرون في الإعلان حاجزاً ينفّر الجمهور من الذهاب إلى السينما، لا أداة جذب تدعو إلى المشاهدة والحكم بعد الاطلاع.
وبدا الرفض شبه إجماعي تجاه المقطع الدعائي، بخلاف الموقف من الفيلم نفسه. فالجمهور الذي قصد صالات العرض ومكث ساعتين وأربعين دقيقة لمتابعة العمل، انقسم إلى ثلاث فئات رئيسية. الأولى رفضت الفيلم رفضاً قاطعاً، واعتبرته إساءة إلى صورة "سيدة الغناء العربي"، بل ذهب بعضهم إلى اعتباره محاولة متعمدة لتشويه سيرة أحد أهم الرموز الفنية في مصر والعالم العربي. أصحاب هذا الرأي هم الأكثر عدداً، أو على الأقل الأكثر حضوراً وتأثيراً على منصات التواصل الاجتماعي. في المقابل، جاءت الفئة الثانية لتغدق المديح على الفيلم وصنّاعه، وخصوصاً كاتب السيناريو أحمد مراد والمخرج مروان حامد وبطلة العمل منى زكي. غير أن هذا الصوت بقي، في معظمه، محصوراً ضمن دائرة المقرّبين من فريق العمل، وأقل عدداً وأخفض نبرة. أما الفئة الثالثة، فاتخذت موقفاً وسطياً، واعتبرت "الست" عملاً ضخماً واستثنائياً من حيث الإمكانات الإنتاجية، لكنه لم يخلُ من مآخذ وثغرات كان يمكن تفاديها، ليغدو أقرب إلى الواقع وأكثر قدرة على إرضاء جمهور واسع ومتنوّع.
تتمثل الإشكالية الأساسية في فيلم "الست" في السيناريو الذي يعيد إنتاج المقاربة التقليدية للكتابة المصرية عن أم كلثوم، عبر الهروب من سيرتها الفنية إلى حياتها الشخصية، مع رفع لافتة تبريرية جاهزة عنوانها "الإنساني". وكأن الإضاءة على هذا البعد تغني عن بذل أي جهد حقيقي في مقاربة تجربتها الفنية التي شكّلت جوهر حضورها التاريخي والثقافي.
في أعمال سابقة، كانت السيرة الفنية، وإن جاءت مقتضبة، تشغل ثلث العمل أو ربعه على الأقل. أما في "الست"، فيذهب كاتب السيناريو إلى تجاهل شبه كامل لأم كلثوم المطربة، لمصلحة كل ما هو غير فني وغير غنائي. هكذا، يصبح ممكناً تقديم فيلم عن أم كلثوم من دون ذكر أسماء مفصلية في مسيرتها، مثل زكريا أحمد ومحمد عبد الوهاب، أو التوقف عند أحمد صبري النجريدي، والشيخ أبو العلا محمد، وداود حسني، وبليغ حمدي. والأكثر إثارة للاستغراب هو تغييب رياض السنباطي، شريكها الأهم في محطاتها الفنية الكبرى، والملحن الذي احتكر صوتها لأكثر من عقد كامل.
تمرّ هذه "المدهشات" جميعها تحت مظلة "السيرة الإنسانية"، فيما يُلقى بغناء أم كلثوم إلى هامش الدراما، بوصفه تفصيلاً ثانوياً. وبهذا المنطق، يبحث السيناريو عن مجموعة من النقائص ليلصقها بالشخصية، وفق معادلة مريحة ومستهلكة: أم كلثوم إنسانة، أي ليست ملاكاً، وبالتالي لا بد من إبراز لحظات ضعفها، أو حرصها على المال، أو حدّتها في التعامل مع بعض أعضاء فرقتها، أو انشغالها عن أقاربها، أو لجوئها إلى التدخين، بغض النظر عن مدى دقة هذه الصورة أو سندها التاريخي.
يتذكّر المهتمون نقاشات نقدية مشابهة رافقت عرض مسلسل "أم كلثوم" الشهير عام 1999، من كتابة محفوظ عبد الرحمن وإخراج إنعام محمد علي. آنذاك، اعترض بعض النقّاد على تصوير المسلسل لمنيرة المهدية كفنانة تدبّر المكائد لأم كلثوم، مقابل تقديم الأخيرة في صورة متعالية تماماً عن أي رد فعل "شرير". غير أن الثابت تاريخياً أن المهدية حرّضت بالفعل صحافيين مقرّبين منها على مهاجمة أم كلثوم بكتابات طاولت سمعتها الشخصية، في حين لا يوجد أي دليل موثوق أو مصدر شبه معتبر يثبت أن أم كلثوم دبرت مكائد مضادة ضد "سلطانة الطرب".
مع ذلك، لم يمانع المعترضون آنذاك في أن يختلق كاتب السيناريو مكائد من خياله، بذريعة تحقيق "التوازن" وترسيخ البعد "الإنساني"، حتى لو استدعى الأمر اختراع وقائع لا سند لها. وفي فيلم "الست"، يقع أحمد مراد في الفخ نفسه أكثر من مرة، من بينها، على سبيل المثال لا الحصر، مشهد تهديد أم كلثوم لأحد أعضاء فرقتها بحرمانه وزملائه من العزف معها في حال خسارتها انتخابات نقابة الموسيقيين، وهي واقعة لا تستند إلى ما هو معروف تاريخياً عن شخصيتها أو مسيرتها.ويعرف دارسو سنوات أم كلثوم الأولى في القاهرة قصة تحوّل مظهرها من الزي البدوي، بالمعطف والعقال، إلى الملابس الحديثة، وهو تحوّل ارتبط بقرارها الغناء مع تخت موسيقي، بعد فترة طويلة اكتفت خلالها باستخدامه في تسجيلات الأسطوانات فقط. كما يدرك المهتمون أن سجالاً طويلاً دار حول هذا القرار بينها وبين والدها المحافظ، وأن للشيخ مصطفى عبد الرازق دوراً حاسماً في هذا التحول. غير أن كاتب السيناريو تجاهل هذا المسار الواقعي، الغني بالصراع الدرامي، لصالح واقعة متخيّلة يصعب تصديقها منطقياً واجتماعياً: وصول أم كلثوم مع والدها وأخيها إلى قصر أحد الأعيان، وسخرية الحضور من ملابسها ورفضهم الاستماع إليها، ثم تدخل سيدة من سيدات القصر لتقنعها، خلال لحظات، بتبديل ملابسها وارتداء فستان "مودرن"، قبل أن تعود إلى الحفل بهيئة جديدة تغني بها وتنال الإعجاب، من دون أي اعتراض من الأب أو الأخ.
تتّسع الفجوة، على نحو لافت، بين أم كلثوم كما عرفها الناس تاريخياً، وأم كلثوم التي ابتدعها أحمد مراد في فيلم "الست". فالأولى، منذ وصولها من الريف إلى العاصمة، خاضت مسار تطور مذهلاً، أحاطت خلاله نفسها بالمثقفين، وتحوّل خطابها تدريجياً، فتخلّت عن لهجتها الريفية، وارتقى أسلوبها في الكلام والمحاورة ليعكس وعياً لغوياً وثقافياً متنامياً. أما أم كلثوم "المخترعة"، فقد بقيت طوال الفيلم أسيرة لغة خشنة وأسلوب فجّ، أقرب إلى امرأة تاجرة تمضي معظم وقتها في الأسواق، تحكم يومياتها منطق البيع والشراء والمساومة. ولا يُعرف على أي أساس استند كاتب السيناريو ومخرج الفيلم في تكريس هذه الصورة المشوّهة، البعيدة عن كل ما تثبته التسجيلات الصوتية والحوارات الصحافية واللقاءات الإذاعية والتلفزيونية، فضلاً عن شهادات المحيطين بها، والتي تُجمع، بلا استثناء تقريباً، على صورة مغايرة تماماً لشخصية أم كلثوم وطريقة خطابها وسلوكها العام.
سار الفيلم على منحنى بياني هابط؛ إذ جاءت مشاهده الافتتاحية ــ حفل أم كلثوم على مسرح أولمبيا في باريس ــ شديدة القوة من حيث الصورة والإخراج والمونتاج، ما رفع سقف توقعات المشاهد إلى أقصاه، وأوحى بعمل متماسك يحافظ على هذا المستوى. غير أنّ الانتقال، عبر تقنية "فلاش باك"، إلى طفولة أم كلثوم في أرياف السنبلاوين دشّن مسار تدهور تدريجياً أخذ يتكشّف ويتعمّق مع مرور الوقت. وبحلول الثلث الأخير، غدا السرد فاقعاً ومباشراً، قبل أن تعود مشاهد الجنازة المؤثرة، وبجودة بصرية غير مسبوقة، لتجعل الفيلم محصوراً بين قوسين مهيبين، ينغلقان على كتلة كبيرة من الأخطاء والاختلاقات، والاقتباس الكسول من صفحات الشائعات وتدوينات الإثارة على منصات التواصل الاجتماعي.
لا أحد يطالب بمعالجة سينمائية حرفية أو تقريرية للتاريخ، لكن يصعب تبرير الفائدة الدرامية أو الجمالية من تحويل حادثة السقوط على مسرح أولمبيا إلى جزء من أغنية "أنت عمري"، فيما عرفها العالم جزءاً من قصيدة "الأطلال"، تحديداً عند مقطع "هل رأى الحب سكارى"، حين حاول شاب مغاربي تقبيل قدم أم كلثوم فسقطت أرضاً، قبل أن تنهض سريعاً وتستأنف الغناء وسط تشجيع جماهيري واسع. تاريخياً، أحيت أم كلثوم حفلين على مسرح أولمبيا في 13 و15 نوفمبر/تشرين الثاني 1967، وغنّت "الأطلال" في كلا الحفلين، ووقع حادث السقوط في الحفل الثاني، ما ينفي منطقياً إمكانية دعوة الشاب المتسبب بالحادث إلى ليلة أخرى، لأن المهرجان كان قد انتهى. قد لا تُحدث هذه التفاصيل فارقاً كبيراً لدى مشاهد غير مطّلع على وقائع الرحلة الباريسية، لكنها تُثير الضيق والحنق لدى من يعرفها، وتطرح سؤالاً مشروعاً عن الإصرار على اختلاق أحداث هي، في جوهرها، أضعف درامياً من الحقيقة نفسها.
يمكن للسينمائي أن يختلف حول زوايا التصوير، أو كثرة المشاهد المعتمة، أو إيقاع السرد وتسارعه أو بطئه، أو آليات الانتقال بين الأزمنة. لكن من الصعب على الموسيقي تقبّل طريقة الغناء في الفيلم، أو الاختيارات الغنائية المبتورة، ويصعب أكثر على من يعرف الخريطة الغنائية والتلحينية في مسيرة أم كلثوم أن يتقبّل اعتماد جملة "الليل وسماه ونجومه وقمره" كثيمة موسيقية متكررة ترافق الطفولة والشباب والشيخوخة، والرحلات الخارجية، وتقلبات السياسة. فالمقطع من أغنية "ألف ليلة وليلة" التي تعود إلى عام 1969، أي إلى السنوات الأخيرة من مسيرة أم كلثوم. ويتذكّر الجمهور كيف استخدم عمار الشريعي مقاطع من "رق الحبيب" كثيمات متكررة في المسلسل الشهير، ولم يلجأ إليها إلا مع وصول الأحداث إلى أوائل أربعينيات القرن الماضي، أي مع الميلاد الفعلي للأغنية نفسها، ما منح السرد الموسيقي إحساساً بالتراكم والاستمرارية وارتفاع البناء الكلثومي. أما هنا، فيبدو أن الكسل أو الاستسهال أو ارتباك التواريخ هو ما قاد إلى هذا الاختيار التجاري الرائج.
حاول أنصار فيلم "الست" نفي تهمة الاختلاق أو الإساءة عن فريق العمل. وفي مداخلة تلفزيونية، أكد الناقد طارق الشناوي أن مسألة "البخل" التي أشار إليها الفيلم ليست من اختراع المؤلف، مستشهداً بخلافات أم كلثوم المالية مع رياض السنباطي، وبنزاعها القضائي مع زكريا أحمد. غير أنّ هذه الأمثلة لا تمتّ إلى البخل أو الكرم بصلة، بل تندرج ببساطة ضمن "مفاوضات السوق" وتقدير أسعار الألحان. والأغرب أن الشناوي أعاد تكرار مقولة القطيعة بين أم كلثوم والسنباطي لمدة أربع سنوات، وهي مقولة ظل يرددها على مدار عقدين من دون تحديد أي تواريخ، لأن هذه القطيعة لا وجود لها أصلاً. لم يتوقف السنباطي عن التلحين لأم كلثوم أربع سنوات، ولا ثلاثاً، ولا عامين، ولا حتى عاماً واحداً، وهي حقيقة يدركها كل من ألقى نظرة واحدة على تواريخ أغانيها.يتضمن فيلم "الست" قدراً وافراً من الشائعات والوقائع المختلقة التي لا يمكن إسنادها إلى مصادر ذات وزن، ولا يمكن تبريرها أو تمريرها عبر إعادة تدوير شائعات قديمة يسهل تفنيدها بالرجوع إلى أي موسوعة أو جدول يوثق أغاني أم كلثوم وتواريخها وأسماء ملحنيها ومؤلفيها. ومع ذلك، يثبت الفيلم حقيقتين لا جدال فيهما: الأولى، أن أم كلثوم، بعد نصف قرن على رحيلها، ما تزال تتمتع بسطوة استثنائية على الوجدانين المصري والعربي، وتحظى باحترام يقترب من مرتبة القداسة الفنية، وهو ما ظهر في الرفض الشعبي الواسع الذي بدأ منذ الإعلان عن بطلة الفيلم، وتصاعد مع المقطع الدعائي، ثم تحوّل إلى سخط عام بعد عرض العمل. أما الأصوات المؤيدة، أو تلك التي قبلته مع ملاحظات جوهرية، فبقيت محدودة وخافتة.
الحقيقة الثانية هي استحالة الفصل بين المسيرة الفنية لأم كلثوم وسيرتها الشخصية؛ فإذا كان هذا الفصل ممكناً مع فنانين آخرين، فإنه غير ممكن معها، لأنها تماهت مع فنها ومنحته حياتها كاملة. ووفق هذه الحقيقة، تبقى السيرة الفنية لأم كلثوم في انتظار عمل سينمائي يليق بها، يحترم حقائق التاريخ، ويستغني بالمتواتر والمثبت عن المختلق والموضوع.
اجمالي القراءات
20