لا يمكن مقارنة حريق مجلس الشوري بحريق القاهرة من حيث الحجم والخسائر، ولكن يمكن مقارنتهما من حيث الدلالات والنتائج، التي جعلت المقارنة بين حريق «نهايات عهد» في 26 يناير 1952، وبين نظيره الذي جري بعد ظهر الأربعاء 21 أغسطس 2008 أمراً وارداً.
وإذا عدنا بالمشهد إلي يناير1952، فسنجد أن حريق القاهرة الأول كان هائلاً والتهم في ساعات قلائل نحو 700 محل وسينما وكازينو وفندق ومكتب ونادٍ في شوارع وميادين وسط المدينة.
بينها أكبر وأشهر المحال التجارية في مصر، و30 مكتبًا لشركات كبري، و117 مكتب أعمال وشققا سكنية، و13 فندقًا كبيرًا منها: شبرد ومتروبوليتان وفيكتوريا، و40 دار سينما بينها ريفولي وراديو ومترو وديانا وميامي،
و8 محال ومعارض كبري للسيارات، و10 متاجر للسلاح، و73 مقهي ومطعمًا وصالة منها «جروبي» و«الأمريكيين»، و92 حانة، و16 ناديا. وقد أسفرت حوادث ذلك اليوم عن مقتل 26 شخصًا، وبلغ عدد المصابين بالحروق والكسور 552 شخصًا.
وأدي حريق القاهرة الأول إلي تشريد آلاف من العاملين في المنشآت، وأجمعت المصادر الرسمية وشهود العيان علي أن الحادث كان مدبرًا، وأن المجموعات التي قامت بتنفيذه كانت علي مستوي عالٍ من التدريب والمهارة،
فقد اتضح أنهم كانوا علي معرفة جيدة بأسرع الوسائل لإشعال الحرائق، وأنهم كانوا علي درجة عالية من الدقة والسرعة في تنفيذ العمليات التي كلفوا بها، كما كانوا يحملون معهم أدوات لفتح الأبواب المغلقة ومواقد لصهر الحواجز الصلبة علي النوافذ والأبواب،
واستخدموا نحو 30 سيارة لتنفيذ عملياتهم في وقت قياسي، كما أن اختيار التوقيت يعد دليلاً آخر علي مدي دقة التنظيم والتخطيط لتلك العمليات، فقد اختارت هذه العناصر بعد ظهر يوم السبت، حيث تكون المكاتب والمحال الكبري مغلقة بمناسبة عطلة نهاية الأسبوع، وتكون دور السينما مغلقة بعد الحفلة الصباحية.
هذه في الحقيقة واحدة من أهم التعليقات التي رصدت حريق القاهرة الأول، ونلحظ أنه كان مدبراً وقامت به عناصر مدربة، اختلف المؤرخون حول انتماءاتهم السياسية، وهوية من حركهم (القصر، الاحتلال البريطاني)، وأن نجاحهم في حرق كل هذه الأماكن دل علي قدرتهم التنظيمية المرتفعة وبداية نهاية النظام السياسي القائم.
ومن المؤكد أن أوزان التنظيمات السياسية والجماعات السرية كانت كبيرة مقارنة بالوضع الحالي الذي اختفت منه تقريبا هذه الجماعات، وبالتالي فإن الخطر قبل ثورة يوليو كان من جماعات وتنظيمات سياسية واجهت النظام القائم في السر والعلن، أما في العصر الحالي فإن «جماعات» الفوضي والعشوائية وسوء الأداء هي التي تهدد النظام القائم.
والحقيقة أن وصف الخسائر التي حدثت في يناير 1952، وشكل القوي والجماعات المنظمة التي وقفت وراء حريق القاهرة، يكشف كيف أن الأخطار التي واجهت المجتمع المصري كانت من جماعات شديدة التنظيم والكفاءة، أما ما جري في حرائق القاهرة الثانية، فكان من «جماعات الفوضي العشوائية» التي هيمنت علي الدولة والمجتمع والنظام السياسي، وأظهرت «قدرتها» العالية في التعامل مع حريق مجلس الشوري،
فلم نجد جهازاً واحداً قام بالحد الأدني من واجبه أثناء الحريق أو في التعامل معه، ولا توجد جهة واحدة حوسبت علي الإهمال الجسيم الذي أدي إلي احتراق واحد من أهم وأعرق المباني التاريخية في مصر، ولولا «ستر الله» (وليس كفاءة أجهزة الإطفاء) لكان هذا الحريق انتشر في منطقة قلب القاهرة بأكملها.
والمؤكد أن مصر واجهت تحديات كبيرة قبل ثورة يوليو تتمثل في عجز النظام السياسي القائم علي تلبية احتياجات وطموحات عموم المصريين، فكان تأثير القوي والجماعات غير الشرعية أكبر بكثير من تأثير القوي الشرعية، وكان حريق القاهرة التعبير الأخير عن انفلات قوي الاحتجاج والتمرد من عقال الشرعية القانونية والدستورية إلي عقال الحرق والتخريب.
والمفارقة أن مصر بعد 56 عاماً علي حريق القاهرة لم تعد فيها قوي سياسية شرعية أو غير شرعية قادرة علي تهديد النظام، وأن الخلل الأكبر جاء من داخل النظام الذي أصبح «عدو نفسه» في كثير من الأحيان، وصار ضعفه ناتجاً عن فشله الداخلي وخيبة أدائه.
لقد أدي البقاء الطويل في السلطة إلي الجمود والتكلس، والعجز عن محاسبة أي تقصير أو انحراف، وأصبح أداء الحكم العشوائي هو مصدر التهديد الرئيسي له، علي عكس ما كان عليه الحال قبل الثورة، حين كان ضعف النظام راجعاً لقوة معارضيه، أما الآن فصار بسبب ضعفه هو وليس قوة معارضيه.
فالأداء العام في السنوات الأخيرة عنوانه الفشل الكامل، فحوادث القطارات هي نتاج العشوائية والاستهانة بأهم خدمة عامة تقدم للمصريين، وحوادث الطرق تجاوزت المعدلات العالمية، ومواجهتها كانت بقانون فاشل للمرور، عكس تغلغل «جماعات الجباية» وهيمنتها علي عقل الحكم في مصر، وليس «جماعات» تطبيق القانون،
أما حوادث البحر، التي كان آخرها ضحايا العبارة وراح ضحيتها 1035 مواطناً مصرياً بسبب تأخر فرق الإنقاذ 14 ساعة، فلم تحاسب الدولة جهة واحدة عن هذه الكارثة، ولا يمكن أن ينصلح حال هذا البلد، إلا إذا جاء اليوم الذي يصحو فيه ضمير بعض المصريين ليفتحوا بجرأة وشفافية ملف جريمة العبارة.
بالتأكيد لم يكن وراء كل تلك «الحرائق» أي تنظيمات أو جماعات مدربة، كتلك التي قامت بحريق القاهرة الأول، فليس هناك تنظيم وراء أزمة الخبز، أو خلط مياه الشرب بمياه الصرف الصحي، ولا في انهيار العمارات علي رؤوس أصحابها كل صباح، ولا في تقدم السودان والبحرين علينا في أوليمبياد بكين، إنما بالتأكيد هناك جماعات الفشل داخل الحكم المتكلس بفعل البقاء الطويل في السلطة، بعد أن فشلت الجماعات المنظمة في التأثير في النظام العشوائي.
من المؤكد أن طريقة تعامل الدولة مع حريق مجلس الشوري ليست منفصلة عن طريقة تعاملها مع باقي الملفات والأزمات، فالفشل كان شعارها، وأن انهيار مستوي أدائها في بلد اقترب من الـ 80 مليون نسمة بات يهدد بكارثة حقيقية،
وأن حريق القاهرة الأول كانت وراءه قوي منظمة وأخري مدربة، أما حرائق القاهرة الجديدة فكان وراءها عشوائية النظام وكل «القوي» غير المدربة التي نجح الحكم، ببراعة نحسده عليها، في استقطابها لتقود مؤسسات الدولة، وتصبح هي المسؤولة عن الكوارث السابقة والقادمة.
elshobaki@ahram.org.e
اجمالي القراءات
4161