رقم ( 5 ) : يتكون من فصلين
الباب الثانى : وعظ السلاطين فى عصر الخلفاء الفاسقين ( من أبى بكر الى معاوية )

الباب الثانى  : وعظ السلاطين  فى عصر الخلفاء الفاسقين ( من أبى بكر الى معاوية )

  الفصل الأول : وعظ الخلفاء الفاسقين ( الراشدين )

الفصل الثانى : فى عهد معاوية والتوريث ليزيد

مقالات متعلقة :

أولا : زياد ابن أبيه الواعظ السفاح.

ثانيا :   ( زياد يعظ ) : خطبة زياد فى إعلان الأحكام العرفية لأول مرة فى تاريخ المسلمين

ثالثا :    زياد بن أبيه وقتل حجر بن عدى. ( فى سبيل التوريث )

 

 

 

الفصل الأول : وعظ الخلفاء الفاسقين ( الراشدين )

 

تاريخ النشر: 2010-02-18

 

مقدمة

1 ـ تم غرس بذور الخروج عن الاسلام فى عصر الخلفاء الراشدين ، / لذا نسميهم بالخلفاء الفاسقين . هذه البذور انواع ، أهمها : الفتوحات الظالمة ، وما نشأ عنها من حروب اهلية ( الفتنة الكبرى ) وتغيير نظام الحكم الذى كانت عليه دولة النبى المدنية ( الشورية / نسبة للشورى أو الديمقراطية المباشرة ) الى حاكم فرد ومعه الملأ . الفارق الوحيد هو أن عصر ( الراشدين الفاسقين ) لم يكن فيه توارث للحكم ، ثم جاء معاوية فأسس أول توارث للحكم بالعهد والبيعة لابنه يزيد ، وما ترتب على ذلك من مأساة كربلاء وانتهاك حرمة المدينة وحصار الحرم فى مكة وضرب الكعبة بالمجانيق خلال السنوات الثلاث التى حكم فيها يزيد بن معاوية . وهذا يذكرنا بمبارك فى مصر بعد نصف قرن من حكم العسكر بلا توريث ، وهو يحاول توريث السلطة لابنه جمال مبارك . وهذا هو موضوع هذا الكتاب فى المقارنة ـ فى موضوع وعظ السلاطين ـ بين الخلفاء الفاسقين ومبارك اللعين .

 2 ـ فى عصر ( الراشدين ) بدأت معالم الخروج عن الاسلام ونظامه الديمقراطى وشريعته السلمية بتعيين خليفة حاكما خلافا لنظام الديمقراطية المباشرة التى كانت فى عهد النبى محمد عليه السلام،  ثم تطور الخروج عن الاسلام بالفتوحات التى أضاعت فى النهاية شريعة الاسلام ودين الاسلام ، وأشعلت الحروب الأهلية بين المسلمين ، والتى بدأت مبكرا فى عهد عثمان ، ولا تزال حتى الآن ، والتى أسفرت عن انقسام لا سبيل لعلاجه بين المسلمين ، لأنه ترتب عليه إقامة أديان أرضية متنازعة من السنة و التشيع والخوارج ..وأخير التصوف فى القرن الثالث الهجرى.

3 ـ هذا التدرج فى الخروج عن الاسلام بدأ مع (خروج ) المسلمين للاعتداء على امم ودول لم تعتد عليهم ، وكل خطوة فى هذا الطريق الضال كانت تبعد بهم عن الاسلام الى أن تم اختراع أديان أرضية تؤله الصحابة وتصنع شخصية إلاهية للنبى محمد تخالف شخصيته الحقيقية فى القرآن الكريم ، كما قامت الأديان الأرضية بتسويغ وتحليل وتشريع هذا الاعتداء . وبهذه الشريعة السنية حدث تناغم بين جرائم الصحابة ومن جاء بعدهم وبين الدين الأرضى ، ولم تعد شريعة القرآن مشكلة إذ تم تحييدها وتعطيلها بمزاعم (النسخ )التراثى ، والتفسير و التأويل وسبك الأحاديث. وقام الدين السنى بالذات بتمجيد الفتوحات وربطها بالاسلام ، مما نتج عنه غسيل مخ لأحفاد الأمم المفتوحة الذين اعتنقوا ذلك الدين السنى على أنه الاسلام ، وتتالى الأجيال منهم وتترى تمجد الفتوحات التى أذلت أسلافهم واحتلت أوطانهم وقتلت الملايين من أجدادهم . وهذا هو الفارق بين الغزو العلمانى غير المرتبط بالدين ،او المرتبط بدين مرفوض والغزو المرتبط بدين اعتنقه أبناء ضحايا الغزو والاحتلال . فالمصريون ـ مثلا ـ يكرهون الاستعمار الغربى من الرومان والصليبيين والفرنسيين والانجليز ،مع أن ضحايا كل تلك الغزوات والاحتلالات لا تقارن بضحايا العرب فى مصر خلال قرون طويلة ممتدة من الاحتلال العربى ومن جاء بعدهم من معتنقى الدين السُّنّى ، بل أصبح المصريون ( عربا ) فى مفارقة هائلة لحقائق التاريخ والجغرافيا .

هذا يستلزم التوقف مع ( قريش ) وما فعلته بالاسلام وبالعالم .

( قريش : أم المصائب  )

أولا : قريش أشهر قبيلة فى التاريخ العالمى .

1 ـ فهى التى حكمت معظم العالم فى عصر الخلفاء ( الراشدين والخلفاء الأمويين والخلفاء العباسيين )، هم جميعا من قريش ، وينتسب الى قريش أيضا الخلفاء الأمويون فى الاندلس . وحتى عصرنا هذا ينتسب لقريش ( أو الهاشميين القرشيين ) اسرات مالكة فى المغرب والاردن .

2 ــ  وقريش هى التى أسّست أشهر طريق للتجارة العالمية بين آسيا ( الهند والصين ) عبر اليمن ،وأوربا ( أمبراطوية البيزنطية ) عبر سوريا . الطريق البرى الطويل ( طريق الحرير ) من الصين الى شرق أوربا عبر الاستبس الآسيوى كان محفوفا بالمخاطر لأنه تحتله وتسيطر عليه  القبائل الآسيوية المتحاربة فى الشرق ( المغول والتتار ) ، والذى كانت تستعمله القبائل الأخرى هربا من تلك الحروب ( الأتراك العثمانيون مثالا ) وهجرة نحو الغرب الى آسيا الصغرى وأوربا .

3 ـ ( قصى بن كلاب ) ( 400 : 480 م ) هو الجد الرابع للنبى محمد عليه السلام . (قصى بن كلاب ) هو الذى أسّس مجد قريش ، فقد سيطر على مكة ، وعلى الحرم ، وهو الذى بدأ فى عهده إستعمال الابل ( الجمال ) فى نقل التجارة بين الشام واليمن . كان قصى قد عاش طفولته فى الشام مع أمه وزوجها ربيعة بن حرام القضاعى ، وعاد الى أهله فى مكة مدركا أهمية البيت الحرام فى تدعيم مكانة قومه قريش ، فأخرج من مكة من كان يعيش فيها من القبائل الأخرى من كنانة وخزاعة وبقايا جُرهم . واسس طريق التجارة العالمية برحلتى الشتاء والصيف . 

وبعد ( قصى بن كلاب )  تسيدت قريش العرب بقيامها على البيت الحرام وتحكمها فى شعيرة الحج ، وإستغلت هذا إقتصاديا فى الايلاف ، الذى كان يعنى إلتزام القبائل العربية بحماية القوافل القرشية فى رحلتى الشتاء والصيف العالمية  ( وكانت تنقل تجارة الهند القادمة الى اليمن ـ الى سوريا ـ والدولة البييزنطية ـ وتنقل التجارة الأوربية من سوريا الى اليمن لتجد طريقها الى الهند )  وهذا فى مقابل السماح للقبائل العربية أن تقيم أصنامها حول الكعبة ، ثم كان الايلاف يعنى تجميع رأس مال رحلتى الشتاء والصيف من ابناء قريش بتقسيم رأس المال الى أسهم ، وفى نهاية كل رحلة يتم توزيع الأرباح على كل سهم . بالايلاف أصبحت قريش أثرى وأقوى قبيلة.

والى (عبد مناف بن قصى  ) تنتمى أقوى عائلتين من قريش ، وهما بنوهاشم بن عبد مناف ، وبنو أمية بن عبد شمس بن عبد مناف . ومن ذريتهما جاء الخلفاء الأمويون والعباسيون الذين حكموا معظم العالم المعروف فى العصور الوسطى . وبنو ( عبد مناف بن قصى ) هم الذين تزعموا قريش عندما ظهر الاسلام . 

ثانيا : الانقلاب القرشى بعد موت النبى محمد عليه السلام :

1 ـ قريش عارضت الاسلام حرصا على مصالحها الاقتصادية والسياسية ( القصص 57 ) ( الواقعة 81 : 82 ). واضطهدت المسلمين، وانتهى الأمر بإخراج  النبى والمؤمنين من ديارهم وأموالهم الى المدينة. وتابعت قريش المؤمنين فى المدينة بالاغارات الحربية وقت أن كان المؤمنون ممنوعين من القتال الدفاعى ، ثم نزل لهم الإذن بالقتال الدفاعى ( الحج 39 : 40) ، وكانت موقعة بدر للإستيلاء على القافلة القرشية ، والتى تتجر بأموال المسلمين بعد أن طردتهم قريش وصادرت ممتلكاتهم وأموالهم ونصيبهم فى الايلاف . 

2 ــ وبانتصار المسلمين فى بدر بدأ تحول جديد ضد قريش ، فقدت فيه مكانتها وفقدت هيبتها حتى لم ينفعها إنتصارها فى غزوة أحد ، إذ اصبح المسلمون فى المدينة ندأ لقريش . ثم وحاولت قريش الانتقام بإستئصال المؤمنين فى غزوة الأحزاب مستعينة بحلفائها العرب ففشلت ، وكان هذا الفشل إيذانا بصعود المسلمين ودولتهم على حساب قريش ومكانتها ، خصوصا وأن القرآن الكريم بعد إنتشاره بين القبائل العربية وإنتشار الايمان به قد أحدث حركة  من الجدل ويقظة عقلية بين العرب عرفوا بها أن قريش كانت تستغلهم فى الايلاف ، وانه ليس من حق قريش التحكم فى البيت الحرام الذى جعله الله جل وعلا للناس كافة فجاءت قريش تستغله لمصلحتها وتصد الناس عنه وفقا لمصالحها .

3 ــ بدخول الكثيرين فى الاسلام من القبائل العربية فى طريق رحلتى الشتاء والصيف انتهت حصانة القوافل القرشية وإنتشرت الاغارات عليها وتهاوت بنفس القدر مكانة قريش السياسية والاقتصادية ، لذا رأى زعماء قريش الدخول فى الاسلام لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من جاههم وإقتصادهم. أى إن قريش حاربت الاسلام حرصا على مكانتها ثم دخلت فيه حرصا أيضا على مكانتها .

4 ــ ومع ذلك فلم يكن الأمر سهلا على المتطرفين القرشيين ، فقاموا بحرب مسكوت عنها فى السيرة ولكن أشار اليها رب العزة فى سورة التوبة ، ومفهوم منها أن بعض أهل مكة نقضوا العهد وهاجموا المؤمنين فى الحرم وهموا بإخراج الرسول من مكة ، وجاء فى سورة التوبة إعطاؤهم مهلة اربعة أشهر ليتوبوا ، وبعدها إعلان الحرب عليهم ، وفى كل الأحوال فممنوع على المعتدين دخول البيت الحرام . وإن تابوا فهم ( أُخوة فى الدين ) القائم على السلام . وأدركت قريش بعد إخماد تلك الحرب المسلحة أن الأفضل لها أن تنتظر الى موت النبى لتستولى على السلطة بعده عن طريق حلفائها من ذوى المكانة من المهاجرين القرشيين .

5 ـ بعد موته  عليه السلام أسفر تحالف المهاجرون مع أهاليهم القرشيين قيامهم معا بحركة إنقلاب على الدولة الاسلامية التى أرساها النبى عليه السلام بالشورى أو الديمقراطية المباشرة ، والتى تعنى أن لا يكون هناك حاكم كالمتعارف عليه ، بل أن يحكم الناس أنفسهم من خلال أصحاب الاختصاص أو الشأن أو الأمر ، ولهذا مات النبى دون أن يعين حاكما .

بدأ الانقلاب بفرض أبى بكر خليفة ، وثارت الأعراب على التسلط القرشى خصوصا حين طالبهم الخليفة الجديد أبو بكر بدفع الزكاة كرها ، وكانت كل قبيلة من قبل تجمعها وتفرقها على المستحقين من داخل القبيلة . كان دفع الزكاة تطوعا حتى إن رب العزة منع قبول الصدقات من المنافقين لأنهم لا يستحقون هذا الشرف : ( قُلْ أَنفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ (54)  التوبة ) . ولكن أبا بكر جعلها إلزاما وأقرب الى الاتاوة والجزية وجعلها رمزا للتسلط والتحكم وتبعية القبائل لدولته القرشية . رفضت القبائل هذا فحاربهم أبو بكر ، وإتسع نطاق حرب الردة بظهور متنبئين قادوا قومهم بُغضا فى قريش وزعامتها .  

6 ــ وبعد إخماد حركة الردة كان لا بد من توجيه القوة العسكرية للأعراب الى الخارج ، حتى لا يُعاودوا الثورة على السيادة القرشية وتهديد طريق التجارة لرحلتى الشتاء والصيف ، ثم ما سينجم عن هذا الغزو سيكون لصالح قريش وإن تم بسيوف ودماء الأعراب . اقنعت قريش وقادتها الجُدّد الأعراب أن قتال الفرس والروم وغير العرب هو جهاد فى سبيل الله جل وعلا ، وهو جهاد ينالون به الثروة فى الدنيا والجنة فى الآخرة . وبذلك التأويل الفاسد تم إسباغ المشروعية الدينية على رغبتهم الدنيوية فى الثروة والسلطة تحت شعار النصر والشهادة . وأصبح التفانى فى القتال فى الفتوحات والاستماتة فى معارك الغزو مظهرا يعبر عن قوة الايمان ، وفى نفس الوقت يتماشى ويتماهى مع نزعة العرب العسكرية وثقافتهم فى السلب والنهب.  وبهذا تحولت الحروب والغارات المحلية بين القبائل العربية الى حروب عالمية يقاتل فيها العرب بكل حماسة وفدائية أكبر إمبراطوريتين فى العالم وقتها ـ الفرس والروم. وكان سهلا للعرب ـ تحت زعامة قريش ـ أن ينتصروا على إمبراطوريتين دخلتا فى مرحلة الهرم والشيخوخة ، وجنودهما مرتزقة ، ليس لديهم الدافع الحماسى بمثل ما كان للعرب. وهذا إنتصار إستثنائى فى التاريخ ، إذ إستطاع العرب الذين كان لا يُؤبه بهم من ربع قرن ـ وخلال فترة قياسية ــ  تدمير الامبراطورية الكسروية وتجاوزها شرقا الى شمال الهند وحدود الصين ، وفى نفس التوسع غربا بالقضاء على معظم أملاك الدولة البينزنطية وحصار عاصمتها القسطنطينية والسيطرة على البحر المتوسط والاستيلاء على اسبانيا وحدودها مع فرنسا . ومقابل هذا الانجاز الحربى غير المسبوق للإنقلاب القرشى تم الانفصال التام مبكرا بين الاسلام ( دين الحرية والعدل والرحمة والسلام ) وبين العرب ، وكانت تلك الفتوحات اساس الشقاق السياسى والحربى والذى تحول الى شقاق دينى وتأسيس أديان أرضية ، لا تزال تتحكم فى العرب والمحمديين حتى يومنا هذا .

7 ــ  بإيجاز : بدأ الانقلاب القرشى بإجهاض الشورى الاسلامية وتحويل الدولة الاسلامية الى نظام مستبد يتحكم فيه الملأ القرشى ، وتحويل القتال الدفاعى فى الاسلام وطبيعة الاسلام السلمية الى دولة عسكرية فاتحة غازية محتلة وتكوين إمبراطورية قرشية .

وفى الخطوة التالية تم تحويل النظام المستبد فى عهد ما يسمى بالخلفاء الراشدين الى حكم وراثى وإكثر إستبدادا . كان نظاما عسكريا قبليا ( نسبة للقبيلة ) فى الدولة الأموية ، ثم أصبح دولة دينية فى الدولة الأموية . كان الخلفاء (الراشدون ) مرحلة إنتقالية سرعان ما وصلت فيه القوة الى ذرية قادة قريش الذين ناصبوا الاسلام العداء ، ، وهم الأمويون والعباسيون . كان العباس هو المسئول عن رعاية البيت ، وكان أبوسفيان الأموى هو قائد رحلة الشتاء والصيف ، وكانا معا ضد الاسلام ، ودخلا معا دين الاسلام ، وانتهى الأمر بوصول بنى أمية للحكم ، ثم إنتزعه منهم بنو العباس .

ضحايا الانقلاب القرشى :

1 ـ هذا الانقلاب القرشى كان ضحيته دين الاسلام نفسه ، إذ أن الفتوحات ترتب عليها التنازع بين قريش والأعراب ( الذين كانوا مرتدين من قبل ) وتطور النزاع الى حرب أهلية كبرى أسموها الفتنة الكبرى ، وكانت السلم الذى صعد عليه الأمويون للوصول الى السلطة .

2 ـ كما أدى هذا الانقلاب القرشى مبكرا الى تهميش الأنصار بدءا من بيعة السقيفة التى تم فيها تنصيب أبى بكر . و قتل عمر بن الخطاب زعيم الأنصار سعد بن عبادة ليرهب الأنصار . كان سعد بن عبادة قد إعتزل الناس بعد بيعة السقيفة ولزم بيته مغاضبا رافضا بيعة أبى بكر . تقول الروايات : ( ثم تحول سعد بن عبادة إلى داره فبقي أياماً، وأرسل إليه ليبايع فإن الناس قد بايعوا، فقال: لا والله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبلي، وأخضب سنان رمحي، وأضرب بسيفي، وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني، ولو اجتمع معكم الجن والإنس ما بايعتكم حتى أعرض على ربي.)  وصمّم عُمر على أن يجعل أبا بكر يرغمه على البيعة : ( فقال عمر: لا تدعه حتى يبايع. ) وتدخل ابن سعد بن عبادة : ( فقال بشير بن سعد: إنه قد لجّ وأبى ، ولا يبايعكم حتى يقتل، وليس بمقتول حتى يقتل معه أهله وطائفة من عشيرته، فاتركوه ولا يضركم تركه، وإنما هو رجل واحد. فتركوه.) . وآثر سعد بن عبادة السلامة ، ونفى نفسه الى الشام . وتولى عمر الخلافة فبعث الى الشام رجلا قتله . تقول الرواية : ( وأما سعدُ بن عبادة فإنه رحل إلى الشام‏.‏) ( أبو المنذر هشام بن محمد الكلبيّ قال‏:‏ بعث عمرُ رجلاً إلى الشام فقال‏:‏ ادْعه إلى البَيعة واحمل له بكل ما قَدرت عليه فإن أبيَ فاستعن اللّهَ عليه‏.‏ فقَدم الرجل الشام فلقيه بحُوران في حائطٍ فدَعاه إلى البيعة فقال‏:‏ لا أبايع قُرشياً أبداً‏.‏ قال‏:‏ فإني أقاتلك‏.‏ قال‏:‏ وإن قاتلتَني‏!‏ قال‏:‏ أفخارج أنت مما دخلتْ فيه الأمة ؟ قال‏:‏ أمّا من البَيعة فأنا خارج‏.‏ فرَماه بسَهم فقتله‏.‏ ) ، ( ميمون بن مِهران عن أبيه قال‏:‏ رُمي سعد بنُ عبادة في حمّام بالشام فقُتل‏.‏) ( ‏ رُمي سعد بن عُبادة بسهم فوُجد دفينا في جسده‏.‏ ) . وزعموا أن الجنّ هى التى قتلت سعد بن أبى عبادة ، وأنها قالت فى ذلك شعرا : ( فمات ، فبكته الجنّ ، فقالت‏:‏  وقَتلنا سيّد الخَزْ رج سعدَ بن عُبادة  ورَميناه بسهمي  فلم نُخْطِىء فُؤاده ).

أخيرا :

1 ـ التاريخ ينام دائما فى أحضان الطغاة وأعوانهم .

 يوجد اليوم مئات الملايين من الناس الشرفاء النبلاء الطيبين الذين يكدحون بشرف فى إعالة أبنائهم .. هل تسمع بهم ؟ هل يظهرون فى القنوات الفضائية وفى عناوين الأخبار المحلية أو العالمية ؟ من الذى يحتل عناوين الأنباء وشاشات التليفزيون ؟ بالتالى : من الذى سيسجلهم التاريخ ويخلد ذكراهم ؟ هل هم أولئك النبلاء الشرفاء الكادحون الصامتون أم الطغاة البُغاة المجرمون ؟

2 ـ لهذا فقد سجل تاريخ المسلمين أسماء  طغاة مجرمى حرب ( أبى بكر وعمر وعثمان وعلى ومعاوية وعمرو بن العاص والزبير وعائشة ..الخ ) بينما لا نعرف أسماء من وصفهم رب العزة بالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار .. العلم بهم عند رب العزة وحده . عاشوا حياتهم لا يريدون عُلوا فى الأرض ولا فسادا ، بينما الذين علوا فى الأرض وعاثوا فيها فسادا وظلما وغزوا وفتحا وإحتلالا ينام التاريخ فى أحضانهم وتحت أقدامهم . 

3 ـ فى النهاية فالعبرة بالتاريخ الحقيقى المسجل الذى سيظهر يوم القيامة فى كتاب الأعمال الجماعى والفردى . عندما يقف المجرمون الطغاة يرون بأنفسهم كتاب أعمالهم وقد سجل مخازيهم وجرائمهم ولم يترك منها شيئا ، يقول جل وعلا : (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49)  الكهف ). أما النبلاء الشرفاء البسطاء ( ملح الأرض ) الذين لا يريدون علوا فى الأرض والذين يسعون فيها بالحلال والخير فيقول رب العزة جل وعلا عنهم : (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) القصص  )

 

عن وعظ الخلفاء ( الراشدين / الفاسقين )

أخطاء أبى بكر التى لم يجد من يعظه بشأنها :

 1 ـ بدأ فى عصره القصير إختطاف الحكم وتعيينه خليفة ، ومواجهة المرتدين حربيا ، والفتوحات  . قاتل أبو بكر قوما مسالمين له ، لم يبدأوه بعدوان ، ولم يبعثوا بجيوشهم الى المدينة ، بل هو الذى أرسل جيوشه من المدينة لقتالهم ، وأسرف خالد فى قتل الأسرى من المقاتلين الأبطال الذين يدافعون عن أنفسهم وأهاليهم وأرضهم واموالهم ونسائهم . وسبى خالد ذراريهم ونساءهم ، وفرّقهم على جنده ، وبعث بخُمس السلب والسبى الى أبى بكر فى المدينة ، واستمتع الصحابة فى خريف العمر وعلى رأسهم ( على بن أبى طالب ) بهؤلاء النساء . وانجبوا منهن الذرية .

  

2 ـ العادة أن الخطبة الأولى للخليفة كانت تشير الى ما نعرفه اليوم بالبرنامج السياسى، فكيف كان برنامج أبى بكر السياسى؟ فى خطبته الأولى لما ولي أبو بكر قال :(أما بعد، أيها الناس، قد وليت أمركم ولست بخيركم. اعلموا أن أكيس الكيس التقوى وأن أحمق الحمق الفجور. وأن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له بحقه وأن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه الحق . أيها الناس إنما أنا متبع ولست بمبتدع ، فإن أحسنت فأعينوني وإن زغت فقوموني).

2 ـ السلطان هنا يعظ الآخرين بالتقوى : (اعلموا أن أكيس الكيس التقوى وأن أحمق الحمق الفجور)، ولكنه يعطى الآخرين نفس الحق، بل أكثر، وهو الوعظ العملى وليس مجرد الوعظ القولى، أى قدرتهم على تقويمه لو زاغ و لم يعدل . ويؤكد على المساواة بينه وبينهم، فحتى لو كان سلطانا حاكما فليس أفضلهم : (قد وليت أمركم ولست بخيركم)، ومقياس الأفضلية هى فى السلوك، وهم مصدر السلطة، وهم مقياس الحكم على صلاحيته إن أحسن أعانوه وإن زاغ أصلحوه.وبالسلطة المخولة له منهم يقوم عنهم بتطبق العدل وإنصاف المظلوم، ولا يأبه بمكانة ونفوذ الظالم (وأن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له بحقه وأن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه الحق).هذا البرنامج السياسى يتشابه الآن مع نظام الديمقراطية التمثيلية النيابية، ولكنه يفترق عنها فى كلمة واحدة فى قوله(فإن أحسنت فأعينوني وإن زغت فقوموني)، فلم يقل (... وإن زغت فاعزلونى). أى جعل نفسه حاكما مدى الحياة.

3 ـ  لقد أعلن أنه متبع لما كان فى عهد خاتم المرسلين وليس بمبتدع (متبع ولست بمبتدع)، ولكنه ما لبث أن خالف وخرج عن الاتباع للحق بالوقوع فى أفظع جريمة، وهى الفتوحات.

4 ـ ولم نجد عاقلا واحدا من الصحابة ينبه أبا بكر ويعظه ويخوفه من أن يكون مكروها من رب العالمين حين قال جل وعلا (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) ( البقرة 190 )

ثانيا : عمر :

1 ـ أول خطبة خطبها عمر حمد الله أثنى عليه ثم قال : (أما بعد ، فقد ابتليت بكم وابتليتم بي ، وخلفت فيكم بعد صاحبي ، فمن كان بحضرتنا باشرناه بأنفسنا ومهما غاب عنا، ولينا أهل القوة والأمانة، فمن يحسن نزده حسنا ،ومن يسىء نعاقبه ويغفر الله لنا ولكم .). هنا تبدة شدة عمر  ، ولقد اشتهر عمر بالعدل بين العرب فقط ، وفى المقابل عامل الأمم المفتوحة بأبشع أنواع الظلم . وإذاكان ابوبكر فى خلافته القصيرة يتحمل وزر اتخاذ القرار بالغزو والاعتداء بالهجوم على من لم يعتد على المسلمين فى الفتوحات الظالمة فإن عمر هو الذى أكمل المهمة ، وهو الذى أطعم نفسه وآله والصحابة والأعراب المال الحرام المنهوب من الشعوب المفتوحة ، وهو الذى امتص عرق وثروات تلك الشعوب بالجزية و الخراج ، وهو الذى استرق أبناء تلك الشعوب وسبى أطفالهم ونساءهم . وكل المزية فى الموضوع أنه حرص على العدل فى توزيع هذا المال السحت بين الصحابة والعرب والأعراب الفاتحين الموصوفين فى القرآن الكريم بأنهم أشد الناس كفرا ونفاقا...

2 ـ وأيضا لم يجد عمر واعظا يعظه ينبهه الى أن الفتوحات التى قام بها هى تطبيق لشرع الشيطان المخالف لشرع الرحمن ،وأن أفظع الجرم أن ترتكب جرما ثم تنسبه لتشريع الله جل وعلا ،وأن ترتكب المذابح والسبى و النهب لأناس ابرياء كل جريمتهم أنهم يدافعون عن بلادهم وأبنائهم وأعراضهم وحياتهم وكرامتهم ـ وهذا الدفاع هو حقهم المشروع وفق التشريع الاسلامى.

حسب علمنا، لم يرد فى التراث ـ على الاطلاق ـ أن أحدا من الصحابة وعظ عمر بهذا، بل العكس هو الذى حدث، فمن لم يشارك من الصحابة فى الغزو تمتع بثمار من المال والسبايا، وأنجب منهن، لا فارق هنا بين (على بن ابى طالب ) الذى ظل مستشار عمر فى المدينة، مثل رئيس الاركان له، أو (سعد بن أبى وقاص) قائد معركة القادسية، أو (أبى عبيدة بن الجراح) فى اليرموك .

كل الوعظ الذى ووجه به عمر جاء من عرب يصعب ارضاؤهم ، وهم مثل بقية الصحابة لا يرون غير أنفسهم ، ولا يشعرون بأى حقوق لتلك الشعوب المسكينة التى انتهكوا حقوقها ، كما لو أن الله تعالى سخّر لهم تلك الشعوب حيوانات للصيد والقنص والتملك .!

طغت عليهم جميعا طبيعة الجاهلية ، سريعا عادوا اليها وسريعا عادت لهم ، من تسويغ الغارات و السلب والنهب والسبى . الفارق الوحيد أنهم اتحدوا معا كعرب ـ تحت اسم الاسلام ـ يغزون و ينهبون و يسترقون جيرانهم خارج الجزيرة العربية.

ولأن الوعظ انعدم فى هذه الناحية ، ولأنه لم يوجد بين الصحابة رجل واحد يقول كلمة حق فى وجه عمر ولأن المال الحرام أعمى عيونهم جميعا لا فارق بين (على ) أو ( معاوية ) فقد دفعوا الثمن فى ( الفتنة الكبرى ) ، إختلفوا على المال السحت فتقاتلوا بسببه ، كما قاتلوا الأمم المفتوحة من أجله .

3 ـ وبهذا أنهوا حياتهم فى تكذيب عملى للقرآن الكريم ، وتحقق فيهم قوله جل وعلا فى نبوءة صادقة نزلت فى مكة قبل الهجرة تتحدث عن قريش:( وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ ) ثم جاء توكيد النبوءة باسلوب التحدى : (لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ( الأنعام 66 : 67).

4 ـ وعلى أى حال فهذا منطقى وطبيعى فى تاريخ الشعوب ومسيرة المجتمعات ، فمن المستحيل بعد أن تعود العرب قرونا وأجيالا على ثقافة السلب والنهب والسبى أن يستأصلوها تماما من أنفسهم بسبب 23 عاما فقط من معايشتهم للقرآن الكريم . أى إن قريش ـ والأمويون فى مقدمتهم ـ كانوا يعبرون عن تلك الثقافة السائدة ليس فقط فى الجزيرة العربية بل فى العالم كله فى تلك العصور الوسطى.

5 ـ المصالحة التى قامت بها قريش ـ بعد أن دخل الأمويون فى الاسلام بعد طول عداء ـ هى أن تتوجه ثقافتهم فى الغزو والسلب والنهب والاعتداء الى غير العرب باسم الجهاد الاسلامى.

ثالثا :عثمان ( الخليفة الواعظ ): الشيطان يعظ

1 ـ فى أول خطبة له ارتج عليه ، فقال معتذرا :( أيها الناس إن أول مركب صعب، وإن بعد اليوم أيامًا، وإن أعش تأتكم الخطبة على وجهها، وما كنا خطباء وسُيعَلّمنا اللَّه‏)‏ . هذا ما جاء فى الطبقات الكبرى لابن سعد.

فى خطبته التالية أعلن فيها سياسته فقال‏:‏ ‏[‏ص 43‏]‏‏.‏ فقال :(‏"‏إنكم في دار قلعة وفي بقية أعمار فبادروا آجالكم بخير ما تقدرون عليه فلقد أتيتم صُبّحتهم أو مُسيّتم‏.‏ ألا وإن الدنيا طويت على الغرور فلا تغرنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنكم باللَّه الغرور‏.‏ اعتبروا بمن مضى‏.‏ ثم جدوا ولا تغفلوا، فإنه لا يغفل عنكم‏.‏ أين أبناء الدنيا وإخوانها الذين أثاروها وعمروها ومتعوا بها طويلًا‏؟‏ ألم تلفظهم‏؟‏ ارموا بالدنيا حيث رمى اللَّه بها، واطلبوا الآخرة فإن اللَّه قد ضرب لها مثلًا والذي هو خير فقال‏:‏ ‏( وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 45‏]‏ ‏[‏الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 589‏]‏ ‏

 

ونلاحظ هنا أن الخليفة الجديد هو الذى يعظ الناس دون أن يشير الى منهج حكمه كما فعل سابقاه ،أى أننا بصدد حاكم مختلف ، إذ يعظ المسلمين فى أول خطبة له يدعوهم الى الزهد واحتقار الدنيا وعدم الركون إليها‏.‏

فهل يا ترى كان يطبق ما يقوله على نفسه أم يأمر الناس بالبر وينسى نفسه ؟ مع ملاحظة أن عثمان فى ذلك الوقت كان قد بلغ أرذل العمر ، وتعين عليه أن يتأهب للموت وأن يعمل للآخرة .

2 ـ الاجابة معروفة سلفا . فقد كان يتصرف فى أموال المسلمين (الأحرى أن نقول الأموال التى نهبها المسلمون)كأنها أمواله الخاصة ، يغترف منها يعطى أقاربه الأمويين .أى يأمر الناس بالبر فى الوعظ وينسى نفسه ، ويقول ما لا يفعل ويفعل ما لا يقول مناقضا لقوله جل وعلا :(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ )(البقرة 44) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ)(الصف 2 : 3 )

وبعد أن توغّل فى الائم تحتم على كبار أصحابه أن يعظوه ، فقد تبين لهم أن (الواعظ ) عثمان بحاجة الى أن يوعظ .!!. هنا دخل الواعظ عثمان فى دور جديد ، هو أنه يعلن توبته على المنبر ، ويستغفر الله ، ثم ينزل من المنبر ليعود الى سيرته الأولى فى الفساد .

وانقسم الناس حول عثمان فى المدينة الى قسمين ، قسم يقوم بوعظ عثمان ونصحه ، منهم على بن ابى طالب وغيره ، وحتى منهم زوجته نائلة الكلبية ، وقسم آخر مفسد سيطر على عثمان وهم أقاربه الأمويون ، وفى مقدمتهم مروان بن الحكم. وسيرة عثمان فى خلافته من بداية انحرافه الى مقتله سلسلة من الوعظ ( يلقيه هو مخالفا لما يفعله ،أو يلقيه الآخرون يعظونه به لينصلح حاله ) وسلسلة مقابلة من افعاله التى تخالف ذلك الوعظ .

3 ـ وقد تطور الوعظ له الى درجة الانكار ، وتطور الانكار الى درجة الاحتجاج الصارخ الذى ما لبث أن تحول الى ثورة وحصار لعثمان فى بيته ،ثم الى مقتله ، وظل حتى قبيل مقتله لا يكف عن التوبة ووعظ الناس ، بينما يسمع لمروان بن الحكم ويطيع ، ومن أجله ينقض وعوده ويتراجع عن توبته ، وظل هكذا الى أن قتله الثوار ونهبوا داره وكانوا على وشك سبى إمرأته .

4 ـ وفى التطور ( العثمانى ) فى التعامل مع بعض كبار الصحابة الذين وعظوا عثمان نرى عثمان قد استعمل معهم العنف والأذى . ومشهور أنه نفى أبا ذر الى الربذة بالصحراء عقابا له لأنه وعظ معاوية بقسوة، وتعرض‏ ‏عمار‏ ‏بن‏ ‏ياسر‏ ‏للضرب‏ ‏حتى ‏فتقت‏ ‏أمعاؤه‏، ‏وضربوا‏ ‏ابن‏ ‏مسعود‏ ‏حتى ‏كسروا‏ ‏أعضاءه‏ ‏ومنعوا‏ ‏عطاءه‏ ‏، ‏وطردوا‏ ‏أبا‏ ‏الدرداء‏ من الشام ليخلو الجو لمعاوية والامويين .

5 ـ وآخر خطبة خطبها قبل قتله كانت خطبة وعظية هائلة ، كان فيها يعظ الناس .!!.قال فيها : ‏"‏إن اللَّه عز وجل إنما أعطاكم الدنيا لتطلبوا بها الآخرة، ولم يعطكموها لتركنوا إليها‏.‏ إن الدنيا تفنى والآخرة تبقى‏.‏ فلا تُبطرنكم الفانية ولا تشغلنكم عن الباقية فآثروا ما يبقى على ‏ما يفنى‏.‏ فإن الدنيا منقطعة وإن المصير إلى اللَّه‏.‏ اتقوا اللَّه عز وجل فإن تقواه جُنة من بأسه ووسيلة عنده‏.‏ ")‏‏.‏ (‏الطبري: (تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 672‏]‏‏:‏خطب عثمان هذه الخطبة الوعظية الهائلة وهو يرقد فوق ثروة هائلة جمعها بالفساد وهو فى أرذل العمر يسعى اليه الموت بل يحاصره الموت فى (يوم الدار ).

بعد مقتله أحصوا ثروته فكانت بالبلايين بمعيار عصرنا . يروى ابن سعد فى الطبقات الكبرى:(كان لعثمان بن عفان عند خازنه يوم قتل ثلاثون ألف ألف درهم وخمسمائة ألف درهم وخمسون ومائة ألف دينار فانتهبت وذهبت. وترك ألف بعير بالربذة).

أخيرا: لا تعليق.. فقد نشف الريق..

ــــــــــــــــــــــــــــــ

 

 

 

 

 

 

الفصل الثانى : فى عهد معاوية والتوريث ليزيد

أولا : زياد ابن أبيه الواعظ السفاح.

ثانيا :   ( زياد يعظ ) :

خطبة زياد فى إعلان الأحكام العرفية لأول مرة فى تاريخ المسلمين

ثالثا :    زياد بن أبيه وقتل حجر بن عدى. ( فى سبيل التوريث )

 

أولا : زياد ابن أبيه الواعظ السفاح

 

تاريخ النشر: 2010-02-27

 

مقدمة

1 ـ هناك محطات رئيسة فى تاريخ المسلمين تشكل علامات فى الهبوط والانحدار والتباعد التدريجى عن الاسلام وما كانت عليه دولة خاتم المرسلين عليهم السلام. بدأت قريش الانحدار ببيعة السقيفة وتعيين أبى بكر حاكما، وهبط أبوبكر خطوة جديدة بالفتوحات، وتأكدت فى عهد عمر، ثم هبط عثمان درجة أسفل بالفساد المالى، فأتاح للآخرين الهبوط الى الوقوع فى حضيض الفتنة الكبرى، والتى أدت بدورها الى السقوط فى مستنقع الديكتاتورية وتوارث الحكم وتكوين النظام الملكى الفج بالدولة الأموية.

2 ـ ولأن معاوية هو أول ملك ، فقد استحدث أشياء كثيرة فى تاريخ المسلمين، ذكرها المؤرخون المسلمون تحت عنوان (أوليات معاوية) يعنى هو (أول) من فعل كذا وكذا . وأهمها على الاطلاق أنه أول من استحدث توريث الحكم لابنه، وهى سبة وسنة سيئة يتحمل معاوية وزرها من وقته وحتى الآن. وبالتوريث يختلف عصر الخلفاء الراشدين عن عصر الخلفاء غير الراشدين. وهذا (التوريث) للحكم ينفى الشورى الاسلامية وديمقراطيتها المباشرة.

ومعظم أوليات معاوية ترجع لتخطيطه للتوريث واعداده له حتى يكون الملك حكرا على اسرته .

3 ـ وبعض أوليات معاوية كان يشاركه فيها بطل حلقتنا اليوم، وهو (زياد بن أبيه).  فمعاوية هو أول من استلحق (إبن زنا مجهول الأب) الى نسب أبيه، أى هو الذى ألحق بنسب أبيه ( زياد ابن أبيه) المجهول النسب، الحقه معاوية بأبيه أبى سفيان بعد موت أبى سفيان، فأصبح اسمه رسميا زياد بن أبى سفيان. وتلك (سابقة) لم تحدث فى تاريخ المسلمين.

 

4 ـ ولأن معاوية من (أصحاب السوابق) فهو أول من فرض (الأحكام العرفية) فى العراق ـ موطن المعارضة للأمويين. وكان زياد بن أبيه هو شريك معاوية فى هذه السابقة. فزياد ابن أبيه هو الذى أعلن (قانون الطوارىء) فى خطبته الشهيرة (البتراء)، وهو الذى تولى تنفيذه بكل حزم.

5 ـ ومن سوابق معاوية قتل صاحب الرأى المعارض الذى لا يخرج فى معارضته عن حدود القول ، فكان قتل حجر بن عدى الكندى لمجرد اعتراضه القولى على ( زياد بن أبيه )، وكان حجر بن عدى أول قتيل بسبب معارضته القولية العلنية ، أو بتعبير عصرنا (أول شهيد لحرية الرأى) فى تاريخ المسلمين ، والبطل فى هذه الكارثة هو زياد بن أبيه .

6 ـ والجريمة السابقة ( قتل حجر بن عدى ) تضمنت خطوة جديدة فى الانحدار، وهى تلفيق التهم ، فكان زياد بن أبيه أول مسئول فى دولة للمسلمين يقوم بتلفيق تهمة سياسية تستوجب القتل، ويستطيع أن يحصل بها على موافقة السلطان الأكبر معاوية على تنفيذ الاعدام بحق المتهم البرىء.

7 ـ واستلزم هذا التلفيق والتزوير الاستعانة بالقضاء الاستثنائى فى الاحكام العرفية ،أى قانون الطوارىء ، ووجد زياد ابن أبيه بغيته فى القاضى (أبو بردة بن موسى الأشعرى) الذى شارك فى التلفيق وجمع الشهود الزور ، ليبعث بالمسكين حجر بن عدى الى معاوية فيأمر معاوية بقطع رأسه مع أصحابه .

8 ـ كل ذلك يجعل زياد ابن أبيه محطة لا يجوز إغفالها فى التأريخ لوعظ السلاطين ،لأن زياد بن أبيه هو نفسه محطة هامة فى مشوار الهبوط والابتعاد عن منهاج الاسلام . وهذا الابتعاد عن منهاج الاسلام استدعى وجود ( وعظ السلاطين ) ، وترتب عليه تصنيع بعض الروايات التاريخية التى تخدم الهدف من وعظ السلاطين .

9 ـ ونتوقف فى مقالات مع بعض التفصيل .

أولا : موجز تاريخ زياد بن ابيه :

1 ـ كانت امه (سمية ) جارية مملوكة للحارث بن كلدة الثقفي ، فزوجها الحارث غلاما روميا له اسمه عبيد ، وكان عبيد يعمل في حانة ، فعملت معه سمية بغيا .

2 ـ وجاء ابو سفيان الي الطائف في الجاهلية فنام معها ، فولدت زيادا وهي لا تزال زوجة عبيد . واقر ابو سفيان أنه ابنه في خلافة عمر ، وذلك عندما اشتهر زياد بالفصاحة والنبوغ . فقد بعث به عمر بن عبد الخطاب لصلاح فساد في اليمن ، فنجح في مسعاه ، وخطب خطبة لم يسمع الناس مثلها ، فقال عمرو بن العاص ، لو كان هذا الغلام قرشيا لساق العرب بعصاه ، فقال ابو سفيان : والله اني لأعرف الذي وضعه في رحم امه ، فقال علي ابن ابي طالب : ومن هو يا ابا سفيان ؟ قال : انا ، قال : مهلا يا ابا سفيان ، فقال ابو سفيان شعرا يعبر به عن خوفه من عمر ابن الخطاب لو اقر بان زياد ابنه .

3 ـ وقد ولد زياد في السنة الاولي من الهجرة واسلم في عهد ابي بكر ، وكان قريبا من عمر بن الخطاب في خلافته ، وعمل كاتبا للولاه مثل عبد الله بن عامر و عبد الله بن عباس والمغيرة بن شعبة ، ثم جعله علي ابن ابي طالب في خلافته واليا علي فارس ، فحفظ له ذلك الاقليم ، مما اقلق معاوية في صراعه مع علي.

4 ـ ولاية زياد بن أبيه بلاد فارس عام 39:

كانت فارس وما يليها شرقا ( كرمان ) تتبع ولاية العراق ، وكان واليها حينئذ هو عبد الله بن عباس ـ قبل أن يخون عليا ابن عمه ويهرب ببيت المال ـ وأدت الحروب الأهلية بين على ومعارضيه الى حدوث اضطرابات فى فارس وكرمان بسبب بعدهما عن مركز خلافة (على ) فطمع أهلها فى الاستقلال ، فامتنعوا عن دفع الخراج وأخرجوا الولاة العرب المعينين من قبل (على ) .

واحتاج ( على ) الى رجل شديد البأس يعيد الأمور الى نصابها ، فاستشار أصحابه ، فقال له جارية بن قدامة‏:‏ ألا أدلك يا أمير المؤمنين على رجل صلب الرأي عالم بالسياسة كافٍ لما ولي ؟ قال‏:‏ من هو ؟ قال‏:‏ زياد‏.‏ فأمر ( علي ) والى العراق (عبد الله بن عباس) أن يولي زيادًا ، فسيره إليها في جمع كثير فوطىء بهم أهل فارس ، وكانت قد اضطرمت ، فلم يزل يبعث إلى رؤوسهم يعد من ينصره ويمنيه ويخوف من امتنع عليه ، وضرب بعضهم ببعض ، فدل بعضهم على عورة بعضٍ ،وهربت طائفة وأقامت طائفة، فقتل بعضهم بعضًا ،وصفت له فارس ، ولم يلق منهم جمعًا ولا حربًا، وفعل مثل ذلك بكرمان‏.‏ وسكن الناس واستقامت له ، ونزل مدينة إصطخر، واتخذها عاصمة له ، وبنى له بها قلعة تسمى قلعة زياد ‏.‏

5 ـ وبعد مقتل (علي) ظل زياد معتصما بفارس التي تدين له بالولاء ، رافضا البيعة لمعاوية . فاستدعي معاوية الداهية المغيرة بن شعبة وقال له عن زياد (داهية العرب معه اموال فارس يدير الحيل ، ما يؤمنني ان يبايع لرجل من اهل هذا البيت (بيت علي) فاذا هو اعاد الحرب جذعة) فذهب المغيرة الي زياد ، وبعد مباحثات انضم زياد الي معاوية مقابل ان يلحق معاوية زيادا بنسب ابيه ، ويصير أخا لمعاوية يكون اسمه الرسمي زياد بن ابي سفيان .

6 ـ من أجله عزل معاوية عبد الله بن عامر عن البصرة وولاها زيادًا، ثم ‏جعله معاوية أمير المصرين (الكوفة والبصرة) أى العراق وما يتبعه شرقا، وكانت ولايته خمس سنين، وتوفي فى عصر معاوية بالكوفة في شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين. ونتوقف مع المحطات الهامة فى تاريخ زياد:

ثانيا : استلحاق زياد بنسب أبى سفيان:

• الظروف السياسية للاستلحاق :

1 ـ كان (على ) فى العراق يواجه غريمه معاوية فى دمشق ، ومصر كانت تابعة لعلى ، أى حوصر معاوية فى الشام بين العراق شرقا ومصر وشمال أفريقيا غربا .

وعمل معاوية كل الحيل ليفسد الأمر على ( على ) فى مصر ، فاستطاع بالحيلة أن يوقع بين (على ) وواليه القوى على (مصر ) وهو قيس بن سعد بن عبادة ، ونجحت مكيدة معاوية فعزل (على ) الوالى القوى فى مصر ( قيس بن سعد بن عبادة ) عن مصر ، وولى مكانه شابا متهورا هو محمد ابن أبى بكر . وظهر ضعف محمد بن أبى بكر فى مصر وعجزه وسوء تصرفه فعزله (على ) وأرسل واليا عليها ، أحد قواده الكبار وهو الأشتر النخعى بطل معركة صفين .

وعلم معاوية بتعيين الأشتر عن طريق جواسيسه، فأحسّ بالخطر ،فكان لا بد من الحيلولة بين الأشتر والوصول لمصر ، ولذا تمكن معاوية من استمالة صاحب الخراج على مصر التابع لعلى ، واستطاع هذا الرجل ـ وهو فى (القلزم ـ السويس ) أن يستضيف الأشتر ، ويقتله بشرب عسل مسموم . وجاءت الأخبار لمعاوية ، ومعه عمرو بن العاص ، فقالا فى التندر على اغتيال الأشتر (أن لله جنودا من العسل) .اضطر على الى الابقاء على واليه ( محمد بن أبى بكر)، واليا على مصر .

2 ـ وكان محمد هذا ابنا لأبى بكر الصديق ولكن نشأ فى كنف (على ) بعد أن تزوج (على) أمه بعد وفاة أبى بكر . وتعصب محمد بن أبى بكر لزوج أمه (على ) فكان من قادة الثوار على (عثمان ). وهناك روايات تؤكد أنه شارك فى قتل عثمان، وروايات تقول إنه تراجع عن طعنه عندما استرحمه عثمان . ولكن المؤكد فى كل الروايات أن محمدا بن أبى بكر كان من قادة المحاصرين لعثمان فى بيته ومن أوائل من اقتحم بيته ، مما جعله على قائمة المطلوبين للأمويين .وجاء الابقاء على تعيين محمد بن أبى بكر على مصر فرصة نادرة لمعاوية ، ليس فقط لرعونة محمد بن أبى بكر وطيشه وخفته بما يسهل لمعاوية الاستيلاء على مصر وما يتبعها من شمال أفريقيا ، ولكن أيضا لأنها فرصة يشفى غليله من محمد بن أبى بكر بسبب موقفه من عثمان .

وكان معاوية قد عقد اتفاقا مع عمرو بن العاص على أن يستخلص مصر له من قبضة (على ) مقابل أن تكون مصر (طعمة ) خالصة لعمرو ،أى أن يستحوذ عمرو على ايرادات مصر لصالحه ولا يدفع منها شيئا لمعاوية ،لأن كل ما يريده معاوية هو تأمين ظهره باسترداد مصر ليواجه عليا بن أبى طالب فى العراق وفارس. وبهذا أعاد عمرو بن العاص فتح مصر لصالح معاوية ، وانهزم محمد بن أبى بكر وهرب الى خرابة يعانى الجوع و العطش ، فقبضوا عليه ، وبعد قتله وضعوا جثته فى جيفة حمار وأحرقوها.وكان ذلك عام 38 هجرية.

3 ـ بضياع مصر من (على ) لم يعد له إلا العراق وفارس وكرمان ، ولكن كانت الاضطرابات مشتعلة فى فارس وكرمان تهدد مركز (على )،ولم تكن أصابع معاوية بعيدة عن تلك الاضطرابات ، لذا أسرع (على ) بتعيين زياد ابن أبيه ليضبط له فارس وكرمان ، وليحمى ظهره فى العراق .

وبعد مقتل على والتصالح بين معاوية و الحسن بن على ، واعتراف الحسن بخلافة معاوية فيما يسمى بعام الجماعة ،عام 41 ، ظل زياد على موقفه معاندا لمعاوية رافضا الدخول فى طاعته ، وقد تحصن بفارس ومعه العتاد والجنود يسمعون له ويطيعون ، ويستطيع أن يبايع لأى فرد من آل البيت ليكيد لمعاوية. لذلك كان لا بد لمعاوية أن يسترضيه بكل ما يستطيع .

كان مع زياد كل ما يريده اى انسان من الملك والجاه والمال ، ولكن كان يفتقر الى شىء واحد هو النسب ،إذ كان مجهول الأب ، وهذه نقيصة لا شأن له بها . ومن هنا كان الطلب الوحيد الذى يريده هو أن يكون له نسب شرعى رسمى عريق . وبهذا اتفق على استلحاق زياد بأبى سفيان بعد موت أبى سفيان .

مفاوضات الاستلحاق :

1 ـ والروايات متضاربة ومتداخلة فى موضوع المفاوضات بين زياد ومعاوية والتى أنتهت الى استلحاق زياد بأبى سفيان .

والذى يتسق منها مع الأحداث أن معاوية هو الذى بدأ الاتصال السرى بزياد فى حياة وخلافة (على ) حيث كان يرسل اليه الرسائل لافساده على (على ) ، فلما فشل ارسل اليه يعرض عليه أن يلحقه بنسب أبى سفيان ، فأرسل زياد بالرسالة الى على ، فكتب إليه علي‏:‏ ‏"‏ إنما وليتك ما وليتك‏.‏ وأنت أهل لذلك عندي ولن تدرك ما تريد مما أنت فيه إلا بالصبر واليقين . وإنما كانت من أبي سفيان فلتة زمن عمر لا تستحق بها نسباً ولا ميراثاً‏.‏ وإن معاوية يأتي المرء من بين يديه ومن خلفه فاحذره ثم احذره‏.‏ والسلام ‏"‏‏.‏ وفى هذا الخطاب اعتراف من (على ) بأنه سمع من أبى سفيان أنه والد زياد ، لذا تقول الرواية : ( فلما قرأ زياد الكتاب قال‏:‏ شهد لي أبو الحسن ورب الكعبة‏.‏) ومن وقتها صار الأمل لدى زياد فى الاستلحاق . لهذا بعد مقتل على تمهد الطريق للمفاوضات والتى قادها المغيرة بن أبى شعبة ممثلا لمعاوية .

2 ـ وسبقت المفاوضات حركات عدائية من جانب معاوية لجس النبض ولحث زياد المتحصن فى فارس لكى يلتفت لمعاوية ويتحاور معه . اتخذ معاوية من أقارب زياد فى العراق رهينة يعتقلهم ويعذبهم، وتتبع أموال زياد التى استودعها أصحابه فى العراق ليضغط على زياد .وكان المغيرة بن أبى شعبة هو مخلب معاوية فى هذه السياسة لأنه كان والى العراق وقتها . وأتت تلك السياسة أكلها فمهدت الظروف لمفاوضات الاستلحاق ..

3 ـ جاء المغيرة الى قلعة زياد فى فارس ليفاوضه فى الانضمام الى معاوية . تقول الرواية : (فأتاه المغيرة وقال له‏:‏ إن معاوية استخفه الوجل حتى بعثني إليك، ولم يكن أحد يمد يده إلى هذا الأمر غير الحسن وقد بايع، فخذ لنفسك قبل التوطين فيستغني معاوية عنك‏) أى بدأ المغيرة بالاشادة بزياد بأن معاوية قد بلغ به الخوف من زياد الى درجة أنه بعث بالمغيرة اليه لينضم اليه ، ثم يدخل فى النصيحة لزياد بأنه طالما بايع الحسن بن على لمعاوية فلم يبق لزياد سوى أن يبايع هو الآخر . وبعد النصح يأتى التهديد المبطن لزياد بأن يسرع فى الخضوع لمعاوية قبل ان يوطد معاوية ملكه ولا يصير فى حاجة لزياد ، وبالتالى يكون خصما له بلا مستقبل . ورد عليه زياد : ( أشر علي وارم الغرض الأقصى فإن المستشار مؤتمن‏.‏) هنا نرى زيادا يجعل المغيرة مستشارا له ، ويطلب منه الدخول مباشرة فى الموضوع (بلا لف ولا دوران ) يعنى (هات م الآخر )، (فقال له المغيرة‏:‏ أرى أن تصل حبلك بحبله وتشخص إليه ويقضي الله‏.‏). (وصل الحبل بالحبل ) جملة مجازية تحتمل الكثير من المعانى ، من بينها الاستلحاق . أى توالت المحادثات لتحدد المطلوب ولتضع النقاط فوق الحروف . وانتهت المفاوضات بالاتفاق ، تقول الرواية :(وكتب إليه معاوية بأمانه بعد عود المغيرة عنه‏) (واستأذنه في نزول الكوفة فأذن له فكان المغيرة يكرمه ويعظمه‏).

تنفيذ الاستلحاق :

وفى عام 42 تم الاستلحاق .

وعقد معاوية مجلسا أحضر اليه وجوه الناس ، وأحضر من يشهد لزياد ، وكان فيمن حضر أبو مريم السلولي. ..(.. فقال له معاوية‏:‏ بم تشهد يا أبا مريم ؟ فقال‏:‏ أنا أشهد أن أبا سفيان حضر عندي وطلب مني بغيًا ، فقلت له‏:‏ ليس عندي إلا سمية، فقال‏:‏ إيتني بها على قذرها ووضرها ، فأتيته بها ، فخلا معها ، ثم خرجت من عنده ، وإن إسكتيها لتقطران منيًا‏ . فقال له زياد‏:‏ مهلًا أبا مريم‏!‏ إنما بعثت شاهدًا ولم تبعث شاتمًا‏.‏ ). وهناك روايات تتفق مع هذا المضمون ولكنها أكثر بذاءة فأعرضنا عنها .

ردود فعل للاستلحاق :

1 ـ احتجاج بنى أمية :

1 / 1 وكان من الطبيعى أن يحتج بنو أمية على معاوية أن يدخل فى نسبهم العريق زيادا . تقول الرواية : (ولما ادعى معاوية زياداً دخل عليه بنو أمية ، وفيهم عبد الرحمن بن الحكم ، فقال له‏:‏ يا معاوية لو لم تجد إلا الزنج لاستكثرت بهم علينا قلة وذلة ؟!، فأقبل معاوية على مروان وقال‏:‏ أخرج عنا هذا الخليع ‏.‏)

ونسبوا شعرا لعبد الرحمن بن الحكم فى الهجوم على معاوية بسبب ذلك الاستلحاق ، وسنتعرض لهذا فى حينه .

1 / 2 ـ وحين وفد زياد الى معاوية ، أرسل زياد أحد أتباعه ليتحسس رد فعل ابن عامر أحد كبار الأمويين ، ومن ولاة معاوية . وكان رسول زياد صديقا قديما لابن عامر ، لذا انطلق ابن عامر فى سب زياد أمامه فقال : ( هيه هيه‏!‏ ..ابن سمية يقبح آثاري ويعرض بعمالي‏!‏ لقد هممت أن آتي بقسامةٍ من قريش يحلفون بالله أن أبا سفيان لم ير سمية‏.‏) ونقل زياد هذا الحديث لمعاوية ، فقال معاوية لحاجبه‏ :‏ إذا جاء ابن عامر فاضرب وجه دابته عن أقصى الأبواب‏.‏ ففعل ذلك به‏.‏ فأتى ابن عامر يزيد بن معاوية فشكا ذلك إليه ، فركب معه حتى أدخله الى مجلس أبيه معاوية ، فلما رآه معاوية قام غاضبا تاركا المجلس ، فاضطرب ابن عامر فهدأه يزيد ، فلما أطالا فى الجلوس خرج عليهما معاوية وهو يتمثل بقول الشاعر ‏:‏

لنا سباقٌ ولكم سباق قد علمت ذلكم الرفاق

ثم قعد فقال‏:‏ يا ابن عامر أنت القائل في زياد ما قلت ؟ أما والله لقد علمت العرب أني كنت أعزها في الجاهلية وأن الإسلام لم يزدني إلا عزًا، وأني لم أتكثر بزياد من قلة، ولم أتعزز به من ذلة ، ولكن عرفت حقًا له فوضعته موضعه‏.‏ فقال‏ ابن عامر :‏ يا أمير المؤمنين نرجع إلى ما يحب زياد‏.‏قال‏:‏ إذًا نرجع إلى ما تحب‏.‏ فخرج ابن عامر إلى زياد فترضاه‏.‏ ). وهكذا اشتد معاوية على قومه ليرتضوا زيادا فى نسبهم ، دون أن يصرح لهم بالغرض السياسى من هذا الاستلحاق .

وكى يجعل معاويه أهله بنى أميه يعترفون بالأمر الواقع وكى يؤكد استلحاق زياد بالنسب الأموى فقد قام معاوية بتزوج ابنته لابن زياد ، وهو محمد بن زياد .

2 ـ الهجوم بالهجاء الشعرى على الاستلحاق:

2 / 1 ـ أشهر الأبيات التى هاجمت معاوية بسبب الاستلحاق هى :

ألا أبلغ معاوية بن صخر فقد ضاقت بما تأتي اليدان

أتغضب أن يقال أبوك عف وترضي أن يقال أبوك زان

فأشهد أن رحمك من زياد كرحم الفيل من ولد الأتان

وأشهد أنها حملت زياداً وصخر من سمية غير دان .

2 / 2 ـ وهناك اختلاف فى قائل هذا الشعر ، منهم من ينسبه لعبد الرحمن ابن الحكم ، ولكن الأشهر هو نسبته ليزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري الشاعر ، وكان مشهورا بالعداء لزياد وأسرته .

وهناك اختلاف آخر فى رواية القصيدة نفسها ، فالأبيات المنسوبة لابن مفرغ الحميرى يقول أولها‏:‏

ألا بلغ معاوية بن حرب ** مغلغلة من الرجل اليماني

وذكر الأبيات كما ذكرناها سواء‏.‏

3 ـ إختراع الشعر فى هجاء الاستلحاق

3 / 1 ـ وهذا الاختلاف فى قصيدة وحيدة مشهورة يعنى أن قصة الاستلحاق استحوذت على اهتمام القصاص فى العصرين الأموى والعباسى فى فترتى الرواية الشفهية و التدوين . ومعروف أن القصاصين ما دخلوا فى حكاية تاريخية إلا أفسدوها وجعلوا الصادق فيها محل شك ، وكذلك يفعلون .

3 / 2 ـ فهناك اشعار أخرى أقل شهرة قيلت فى هجاء الاستلحاق وأصحابه

ومنها :

شهدت بأن أمك لم تباشر أبا سفيان واضعة القناع

ولكن أمراً فيه لبس على وجل شديد وارتياع

ومنها :

إن زياداً ونافعاً وأبا بكرة عندي من أعجب العجب

هم رجال ثلاثة خلقوا في رحم أنثى وكلهم لأب

ذا قرشي كما يقول وذا مولى وهذا بزعمه عربي

ومنها :

أزياد ما للؤم عنك محول ولا لك أم في قريش ولا أب

وقل لعبيد الله مالك والد بحق ولا يدري امرؤ كنت تنسب

ومنها :

فكر ففي ذاك إن فكرت معتبر              هل نلت مكرمة إلا بتأمير

عاشت سمية ماعاشت وما علمت إن ابنها من قريش في الجماهير

واضح أن هذه الأشعار تم صنعها بعد عصر زياد وابنه عبيد الله بن زياد (قاتل الحسين )، فليس لها قائل محدد ، علاوة على ما فيها من ركاكة بما يدل على أن قائلها ليس شاعرا محترفا بل من اصحاب القصص وأصحاب الأخبار الذين عاشوا بعد زوال سلطان زياد وبنيه، يكيدون لهم بالروايات والأشعار . والعادة أن القصص الجيد وقتها كانت تعززه وترصعه روايات الشعر ، فإن لم يوجد فيه شعر اخترعوا له شعرا . والعادة الأسوأ أن يصبح القصص المخترع المختلق المصنوع روايات تاريخية و( احاديث نبوية ) و ( أحاديث قدسية ) . (وكله عند العرب صابون )..واختراع الشعر هو ( أخ شقيق ) لاختراع الأحاديث ، و( أبوهما ) شيخ كبير شهير هو الافتراء .!. ووجد هذا ( الشيخ ) ( وولداه ) سوقا نافقة فى عصر التدوين الذى قام بتدوين كل الروايات الصحيح منها و المصنوع ، وهنا ندخل على جزئية خطيرة تخص موضوع الاستلحاق .

4 ـ صناعة الأحاديث

4 / 1 : تقول احدى الروايات : ( شهد لزياد رجل من البصرة ، وكان الحسن البصري يذم هذا من فعله ويقول‏:‏ استلحق زيادًا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏‏"‏ الولد للفراش وللعاهر الحجر‏"‏‏.‏ ). الرواية ركيكة ، والحديث المذكور فيها (الولد للفراش وللعاهر الحجر) أكثر ركاكة وسماجة ، وهو يعنى أن ينسب الولد لصاحب الفراش ،أى الزوج . أما الزانى العاهر فله الحجر. بمعنى أن الزوج المخدوع يتم تكريمه بنسبة الطفل له حتى لو كان معروفا والده فى الحرام ، أما هذا الوالد العاهر الزانى فليس له إلا أن يلتقم حجرا .

ومع ركاكة ذلك الحديث وسماجته فهو يخالف القرآن الكريم ، وذلك ما سنعرض له فيما بعد .

ولكن المهم الآن أن حديث ( الولد للفراش وللعاهر الحجر ) تمت صناعته بسبب قصة الاستلحاق ، وتأسست شهرته فى كتب الفقه السنى بعدها ضمن شريعة الدين السّنى. هذا مع أنه فى هذه الرواية منسوب للحسن البصرى ، وهو أحد شيوخ التابعين فى العصر الأموى ، يعنى لم يعش ولم ير النبى محمدا عليه السلام فكيف يروى عنه مباشرة ؟ هذا على فرض أن الحسن البصرى قال ذلك فعلا ، ولم يختلقوا تلك الرواية عنه بعد موته .. وهذا هو الأقرب للتصديق .

ومع ذلك فلم يكن الحديث الوحيد المصنوع فى هذا السياق.

4 / 2 : تقول رواية أخرى : (... وأخبرنا ابن الحصين قال‏:‏ أخبرنا ابن المذهب قال‏:‏ أخبرنا أحمد ابن جعفر قال‏:‏ أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال‏:‏ حدثني أبي قال‏:‏ حدثنا هشيم قال‏:‏ حدَّثنا خالد الحذاء عن أبي عثمان قال‏:‏ لما ادعى زياد لقيت أبا بكرة فقلت‏:‏ ما هذا الذي صنعتم إني سمعت سعد بن أبي وقاص يقول‏:‏ سمع أذني من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول‏:‏ ‏"‏من ادعى أبًا في الإسلام غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام"‏ فقال أبو بكرة‏:‏ وأنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم). هذه الرواية تمت كتابتها فى العصر العباسى الثانى حسب ترتيب رواتها من ابن جعفر الى ابن احمد بن حنبل ، أى بينها وبين زياد واستلحاق زياد أكثر من مائتى عام. أى ظلت قضية الاستلحاق مشتعلة حتى عصر الحنابلة . لا رضى الله تعالى عنهم .

5 : جدل فقهى فى الاستلحاق

5 / 1 ـ ويقول المؤرخ ابن الأثير صاحب (الكامل ) فى التاريخ بعد تلك الرواية : ( وكان استلحاقه أول ما ردت أحكام الشريعة علانيةً فإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قضى بالولد للفراش وللعاهر الحجر‏.‏وكتب زياد إلى عائشة‏:‏ من زياد بن أبي سفيان وهو يريد أن تكتب له‏:‏ إلى زياد بن أبي سفيان فيحتج بذلك ، فكتبت‏:‏ من عائشة أم المؤمنين إلى ابنها زياد‏.‏ وعظم ذلك على المسلمين عامة وعلى بني أمية خاصة وجرى أقاصيص يطول بذكرها الكتاب فأضربنا عنها‏.‏ )

وابن الأثير امتاز بأسبقيته كمؤرخ فى نقد الروايات واختيار ما يراه صحيحا منها ، ولذلك قام باختيار ما يراه صحيحا من روايات الطبرى المتعددة فى الحدث التاريخى الواحد .ومع ذلك لم تخل روايات ابن الأثير من التناقض ، علاوة على التقديم والتأخير والاختلاف فى سنوات الأحداث .

وكالطبرى كان ابن الأثير كان من أئمة الحديث والتاريخ معا ، وهو فى روايته السابقة يؤكد على حديث (الولد للفراش وللعاهر الحجر )، ولكنه يعترف بالتأثير الكبير لموضوع الاستلحاق ، وكيف تجلى هذا التأثير فى صناعة أقاصيص كثيرة يطول بذكرها الكتاب فأضرب عن ذكرها .

5 / 2 ـ وطبقا لمنهجه فى الانتقاء فقد ذكر بعض تلك الأقاصيص ورآها صحيحة ، ومنها عدم اعتراف السيدة عائشة بالاستلحاق : (‏.‏وكتب زياد إلى عائشة‏:‏ من زياد بن أبي سفيان وهو يريد أن تكتب له‏:‏ إلى زياد بن أبي سفيان فيحتج بذلك فكتبت‏:‏ من عائشة أم المؤمنين إلى ابنها زياد ) .

وعززها برواية أخرى : (قيل‏:‏ أراد زياد أن يحج بعد أن استلحقه معاوية، فسمع أخوه أبو بكرة ، وكان مهاجرًا له ( أى مخاصما لزياد ) من حين خالفه في الشهادة بالزنا على المغيرة بن شعبة ، فلما سمع بحجه (أى بمجيئه )  جاء إلى بيته وأخذ ابنًا له، وقال له‏:‏ يا بني قل لأبيك إنني سمعت أنك تريد الحج ولابد من قدومك إلى المدينة ولاشك أن تطلب الاجتماع بأم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن أذنت لك فأعظم به خزيًا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإن منعتك فأعظم به فضيحة في الدنيا وتكذيبًا لأعدائك‏.‏ فترك زياد الحج وقال‏:‏ جزاك الله خيرًا فقد أبلغت في النصح‏.‏ ).

وهذه الرواية يغلب في وضعها إفتراض فقهى على عادة الفقهاء فى تصور وافتراض صور فقهية يصدرون بشأنها حكما فقهيا .فإن كان معاوية قد الحق زيادا بنسبه فأصبح أخاه من أبى سفيان ،فبالتالى يكون زياد أخا لأم المؤمنين أم حبيبة زوج النبى محمد عليه السلام لأنها بنت أبى سفيان، فهل يصح لزياد بناء على هذا الاستلحاق أن يقابل السيدة أم حبيبة (أخته )؟. وتأتى الاجابة فى قصة تقول إن أخاه من أمه ( أبا بكرة ) قد نصحه ألا يحج حتى لا يتعرض لمأزق مقابلته لها . وهناك صيغ مختلفة لتلك الرواية، وروايات أخرى تزعم أنه قام بالحج وطلب مقابلتها فرفضت.

5 / 3 ـ ولا أعتقد أن أيا منها كان صحيحا . هو فقط تعبير عن جدل فقهى لاحق فى العصر العباسى تم التعبير فيه ــ  ليس بالحجة الفقهية  ــ ولكن بتأليف الروايات ، لذا تناقضت الروايات تبعا لاختلاف المتجادلين.

فالسياق التاريخى لا يرحج صدق هذه الروايات .

فسرعان ما تولى زياد الحكم وانشغل به ، ولم يكن يهمه أحد فى الحجاز ، كل ما يهمه هو موقف أهله الجدد من الأمويين ، وقد أغلظ لهم معاوية على غير عادته فى الحلم والنفاق حت رضوا بالوافد الجديد، وبذلك لم يكن هناك متسع أمام زياد إلا أن ينفذ سياسة معاوية فى حكم العراق وفارس وكرمان بالحديد والنار. وفى مشاكل العراق ومتاعب المعارضة فيه ما يشغل زياد ، وفعلا فقد انشغل به زياد الى آخر لحظة من حياته. .

5 / 4 ـ على أن الجدل فى موضوع الاستلحاق قد تطور وتطرف الى أن أوجد مدافعين عن معاوية والاستلحاق . يقول مؤرخنا ابن الأثير ينقل وجهة نظرأولئك المدافعين : ( ومن اعتذر لمعاوية قال‏:‏ إنما استلحق معاوية زيادًا لأن أنكحة الجاهلية كانت أنواعًا لا حاجة إلى ذكر جميعها ، وكان منها أن الجماعة يجامعون البغي فإذا حملت وولدت ألحقت الولد لمن شاءت منهم فيلحقه، فلما جاء الإسلام حرم هذا النكاح، إلا أنه أقر كل ولد كان ينسب إلى أب من أي نكاح كان من أنكحتهم على نسبه، ولم يفرق بين شيء منها ، فتوهم معاوية أن ذلك جائز له ولم يفرق بين استلحاق في الجاهلية والإسلام).

ويرد ابن الأثير عليهم فيقول : (وهذا مردود لاتفاق المسلمين على إنكاره ولأنه لم يستلحق أحد في الإسلام مثله ليكون به حجة‏.‏ ).

وقول ابن الأثير يستحق القهقهة بصوت عال ، فهو يقول (وهذا مردود لاتفاق المسلمين على إنكاره ) فلو كان المسلمون متفقين على إنكاره فهل أولئك المدافعون عن معاوية من أستراليا أم من نفس المسلمين ؟ ويقول : (ولأنه لم يستلحق أحد في الإسلام مثله ليكون به حجة ) فهل يكون كل حكم جديد باطلا لمجرد أنه جديد لم يعرفه ولم يطبقه السابقون ؟ .

6 ـ ونأتى لرأينا فى الاستلحاق :

6 / 1 . لو استلحقه ابوسفيان فى حياته ما كانت هناك مشكلة . المشكلة فى أن الاستلحاق حدث بعد موت مرتكب الجريمة أبى سفيان، والقائم بهذا الاستلحاق هو معاوية ابنه ، وقد استشهد فيه بالشهود . وبشهادتهم تم العلم بأن أبا سفيان هو الأب المجهول لزياد ابن ابيه. بعدها اصبح من حق زياد أن ينتسب (لأبيه ) أبى سفيان ، طالما تم العلم بالأب وفق ظروف العصر . وهذا جائز شرعا فى رأينا .

6 / 2 : وهنا نستعير بعضا مما كتبناه فى قضية استلحاق بنت هند الحناوى بابيها احمد الفيشاوى حين رفض الاعتراف بها : قلت :

(الفيصل هنا هو كتاب الله تعالى، يقول تعالى (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله. فان لم تعلموا آباءهم فاخوانكم فى الدين ومواليكم) ألأحزاب 5"

ونستخلص من الآية الكريمة الأحكام التالية:

ِأ ـ ان المجتمع هو المخاطب فى هذه الآية التى تخاطب جموع المسلمين قائلة ( ادعوهم ) ، وينصب الخطاب بالطبع على المختصين بالتشريع والتقنين والقضاء ، أى أولو ألأمر الذين يمثلون المجتمع. عليهم الحاق الأطفال بنسب الأب اذا كان الأب معروفا . الأب ليس مخاطبا هنا وانما المجتمع.

ب ـ ان لم يكن الأب معروفا فيكون المولود أخا فى الدين وجزءا من المجتمع.

ج ـ اثبات نسب المولود لأبيه هو الأقسط والأعدل عند الله تعالى ، لأن من حق المولود أن يرث والده وان يتمتع بكل حقوق البنوة وكل حنان الأبوة ورعاية الأسرة. وحرمانه من تلك الحقوق ظلم لا يرضاه الله تعالى، وأفظع الظلم أن يكون المظلوم طفلا بريئا لا ذنب له .

3ـ ولكن كيف للمجتمع أن " يعلم " أن هذا الطفل من هذا الرجل ؟

مفهوم الآية الكريمة أنها تخاطب المجتمع بأن ينسب الطفل الى أبيه اذا كان الأب معلوما للمجتمع فان لم يكن الأب معلوما فالطفل أخ فى الدين للجميع.

موضوع " العلم " يستحق وقفة . حين نزلت الآية كان علم المجتمع الصريح والضمنى هو المقياس. وكانت الجاهلية تعرف أنواعا مختلفة من الزواج مثل الجمع بين الأختين وزواج من سبق وتزوجها الأب، وزواج الأم من الرضاعة والأخت من الرضاعة. وهذه الزيجات حرمها الله تعالى، ولكن أقرّ القرآن ما نتج عن هذه الزيجات من أطفال طبقا لاعتراف المجتمع بهم.

أكثر من ذلك عرفت الجاهلية علاقات غير شرعية مثل السفاح وزواج الأخدان أى العشيقات ، وقد اعتبرهما القرآن زنا ، ولكن أقرّ القرآن الأنساب التى جاءت طبقا لتلك العلاقات غير الشرعية.

والمشهور فى تاريخ المسلمين أن الصحابى عمرو بن العاص جاء ولدا من الزنا ونسب لأحد المترددين على أمه وكانت احدى البغايا . وحمل عمرو نسب أبيه العاص الذى اختارته له أمه من بين عشاقها الكثيرين ، واعترف المجتمع بهذا النسب ، ونزل القرآن فأقرّ كل الأنساب كما هى ومنها نسب عمرو بن العاص.

أكثر من هذا نزل الذكر الحكيم من الله تعالى الذى يعلم الغيوب ليؤكد ان بعض أعداء النبى محمدا هو ولد زنا ، وقد أسلم ابن لهذا الرجل وصار من مشاهير الصحابة ، ولا يزال يحمل نسب والده المزعوم ، لقد قال تعالى عن ذلك العدو الأثيم "( عتل بعد ذلك زنيم ) ( القلم 13 ) جاء فى تفسير الجلالين شرحا لكلمتى (عتل ) ( زنيم ) أى : ّ" غَلِيظ جَافٍ "بَعْد ذَلِكَ زَنِيم" دُعِيَ فِي قُرَيْش وَهُوَ الْوَلِيد بْن الْمُغِيرَة ادَّعَاهُ أَبُوهُ بَعْد ثَمَانِي عَشْرَة سَنَة ) الوليد بن المغيرة هو والد خالد بن الوليد.

ويرى القرطبى انها نزلت فى الأخنس بن شريق ، يقول القرطبى : (وَقَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق : نَزَلَتْ فِي الْأَخْنَس بْن شَرِيق , لِأَنَّهُ حَلِيف مُلْحَق فِي بَنِي زُهْرَة , فَلِذَلِكَ سُمِّيَ زَنِيمًا . .. . وَقَالَ مُرَّة الْهَمْدَانِيّ : إِنَّمَا اِدَّعَاهُ أَبُوهُ بَعْد ثَمَانِي عَشْرَة سَنَة. ) وكل من خالد والأخنس يحمل سلسلة نسب أبيه الى النهاية.

المهم ان النسب لم يتغير فى تلك الحالة حتى مع وجود نص على ثبوت الزنا، فطالما اعترف المجتمع وعلم بالنسب وأقرّه فيكون النسب معترفا به.

الأهم ان علم المجتمع بصحة النسب لم تكن يقينية ، بل اقترن بعضها بحق الاهى يقينى يثبت أن الأب نفسه كان " زنيما " او كان الطفل ثمرة لعلاقة زنا من امرأة محترفة تنسب الابن لمن تشاء من عشاقها . ومع ذلك أقّرّ المجتمع ذلك النسب ، فأقرّه الاسلام ، والدليل ان جميع كتب التراث التى تتعرض لتاريخ الصحابة تذكر نسب كل صحابى الى أصل قبيلته وفق المتعارف عليه من نسبه الجاهلى . ونعلم عناية العرب بانسابهم ، وتفاخرهم به برغم انها كلها تدخل ضمن الحقائق النسبية التى تحتمل الصدق والكذب. فالحقيقة الأساسية هنا هى ثبوت النسب ضمن المتاح من علم المجتمع مهما لحقه الشك.

نقرأ الآية مرة أخرى ، يقول تعالى : ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله. فان لم تعلموا آباءهم فاخوانكم فى الدين ومواليكم. ) ألأحزاب 5 " تكملة الآية تقول : وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما. "

آخر سطر :

نعود الى بداية الموضوع .

لقد شهد هذا العصر ستة أشخاص من كبار دهاة العالم قل أن يجتمع أمثالهم معا ، وهم معاوية وعمرو بن العاص ومروان بن الحكم وزياد بن أبيه والمغيرة بن أبى شعبة . وهم معا أسس تشييد ملك معاوية . ويضاف اليهم داهية آخر هو عبد الله بن عباس . وقد أسهم بطريق غير مباشر فى تأسيس الاستبداد الأموى .

هؤلاء الستة هم بالفعل ( نصف دستة أشرار ) ، منهم واحد مشهور بالزنا مع زواجه بأربعة نساء وتملكه العديد من الجوارى ، إنه المغيرة بن أبى شعبة . ومنهم إثنان كل منهما أمه عاهرة ،هما زياد بن أبيه وعمرو بن العاص . ما قولكم ؟ دام فضلكم ؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

ثانيا : ( زياد يعظ ) :

خطبة زياد فى إعلان الأحكام العرفية لأول مرة فى تاريخ المسلمين

 

 تاريخ النشر: 2010-03-02

 

مقدمة :

1 ـ كان والى البصرة لمعاوية هو (ابن عامر) وكان لينًا لا يأخذ على أيدي السفهاء ولا يعاقب، فانتشر الفسق والانحلال فى البصرة مرتبطا بكونها مركز المعارضة السياسية لمعاوية، وزارأحد الصحابة معاوية، وهو ابن الكواء - واسمه عبد الله أبن أبي أوفى ـ فسأله عن الناس فقال‏: ‏"أما البصرة فقد غلب عليها سفهاؤها وعاملها ضعيف" فعزله معاوية، وبعث الحارث بن عبد الله الأزدي‏ واليا مكانه.‏ وكان ذلك فى أوائل عام 45. وبقى الحارث واليا على البصرة عدة أشهر الى أن عزله معاوية ليولى مكانه زياد بعد أن استلحقه ، وكان ذلك فى نفس العام 45.

2 ـ وقتها كان المغيرة بن أبى شعبة واليا على الكوفة. وكان زياد قد جاء من فارس وتوقف فى الكوفة ينتظر قرار معاوية. وتوجس المغيرة من قدوم زياد الى الكوفة بالذات ، وخشى أن يعزله معاوية من ولاية الكوفة ليعيّن زيادا مكانه فيها . فقال المغيرة لصديقه وائل بن حجر الحضرمي‏:‏ إعلم لي علمه، أى أرسله الى زياد ليستطلع منه سبب مجيئه الى الكوفة بالذات ، تقول الرواية (فأتاه فلم يقدر منه على شيء). أى تحوط زياد فى حديثه معه فلم يخبره بشىء. واشتعلت مخاوف المغيرة، فذهب إلى معاوية، وطلب إستعفاءه من ولاية الكوفة وأن يعيش فى منطقة قرقيسيا، فخاف معاوية منه لأنه سيكون هناك بين جماهير قومه من قبائل قيس، أى يصبح بهم خطرا على معاوية، فألزمه بالرجوع الى عمله واليا على الكوفة، وقال له‏:‏(لترجعن إلى عملك)‏.‏ (فأبى، فازداد معاوية تهمةً له،فرده على عمله، فعاد إلى الكوفة ليلًا ).

3 ـ وسرعان ما أرسل معاوية زيادا‏ واليا على البصرة، فقدمها في آخر شهر ربيع الآخر أو غرة جمادى الأولى من هذه السنة 45، وأضاف اليه خراسان وسجستان.

تقول الروايات إن زيادا قدم البصرة (والفسق ظاهر فاشٍ فخطبهم خطبته البتراء، التى لم يحمد الله فيها). وفى تلك الخطبة البتراء الشهيرة عام 45 أعلن زياد الأحكام العرفية ،أو قانون الطوارىء، ليسجل سبقا سيئا فى تاريخ المسلمين. وسميت (الخطبة البتراء) لأنها خلت من تحميد الله سبحانه وتعالى، على غير العادة فى الخطب.وقد جمعت تلك الخطبة بين الانذار والوعظ ، والتهديد والوعيد فى أروع أسلوب.

ونتوقف بالتحليل مع هذه الخطبة التى تعد أحدى عيون الأدب العربى، وأشهر الخطب فيه.

نصّ الخطبة :

(اما بعد فان الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء والغيّ الموفي بأهله علي النار ما فيه سفهاؤكم ويشتمل عليه حلماؤكم من الامور العظام، ينبت فيها الصغير ولا يتحاشي عنها الكبير، كأنكم لم تقرأوا كتاب الله ولم تسمعوا ما اعد من الثواب الكريم لأهل طاعته والعذاب الاليم لأهل معصيته في الزمن السرمدي الذي لا يزول؟ اتكونون كمن طرفت عينه الدنيا وسدت مسامعه الشهوات واختار الفانية علي الباقية؟ ولا تذكرون انكم احدثتم في الاسلام الحدث الذي لم تسبقوا اليه من ترككم الضعيف يقهر ويؤخذ ماله، وهذه المواخير المنصوبة ؟ والضعيفة المسلوبة(أى المرأة التى يغتصبونها) في النهار المبصر والعدد غير القليل؟ الم يكن منكم نُهاةٌّ يمنعون الغواة من دلج اليل وغارة النهار؟ قربتم القرابة وباعدتم الدين، تعتذرون بغير العذر وتغضون عن المختلس.! اليس كل امرئ منكم يذب عن سفيهه ؟ صنع من لا يخاف عاقبة ولا يرجو معادا ؟ ما انتم بالحلماء ، ولقد اتبعتم السفهاء، فلم يزل بكم ما ترون من قيامكم دونهم حتي انتهكوا حرمة الاسلام، ثم اطرقوا وراءكم كنوسا (اشخاص مشبوهين) في مكانس (اماكن) الريب (أي التهم) . حرام علي الطعام والشراب حتي اسويها بالارض هدما واحراقا.

اني رأيت اخر هذا الامر لا يصلح الا بما صلح به اوله، لين في غير ضعف، و شدة في غير عنف، واني أقسم بالله لأخذن الولي بالمولي والمقيم بالظاعن والمقبل بالمدبر والمطيع بالعاصي والصحيح منكم في نفسه بالسقيم، حتي يلقي الرجل منكم اخاه فيقول (انج سعد فقد هلك سعيد)، او تستقيم لي قناتكم. (أي تسيروا علي الطريق المستقيم). ان كذبة المنبر بلقاء مشهورة، فاذا تعلقتم علي بكذبه فقد حلت لكم معصيتي، واذا سمعتموها فاغتمزوها في، واعلموا ان عندي امثالها، من نقب منكم عليه فانا ضامن لما ذهب منه. فأياي ودلج الليل فاني لا اوتي بمدلج الا سفكت دمه، وقد اجلتكم في ذلك بمقدار ما يأتي الخبر الكوفة ويرجع اليكم، واياي ودعوي الجاهلية فأني لا اخذ داعيا بها الا قطعت لسانه. وقد احدثتم (اخترعتم) احداثا وقد احدثنا لكل ذنب عقوبة، من غرّق قوما غرّقناه ، ومن احرق قوما احرقناه ، ومن نقب بيتا نقبنا عن قلبه، ومن نبش قبرا دفناه حيا فيه، فكفوا عني ايديكم والسنتكم اكفف عنكم يدي ولساني، ولا تظهر علي احد منكم ريبة (شبهة) بخلاف ما عليه عامتكم الا ضربت عنقه، وقد كانت بيني وبين قوم إحنُّ (كراهية وخصومة) فجعلت ذلك دبر اذني وتحت قدمي ، فمن كان منكم محسنا فليزدد احسانا، ومن كان منكم مسيئا فليدع إساءته، اني والله لو علمت ان احدكم قد قتله السل من بغضي لم اكشف له قناعا ولم اهتك له سرا حتي يبدي لي صفحته، فاذا فعل ذلك لم اناظره، فاستأنفوا اموركم وارعوا علي انفسكم، فرب مسوء بقدومنا سنسره، ومسرور بقدومنا سنسوؤه.

ايها الناس : انا اصبحنا لكم سادة وعنكم ذادة ، نسوسكم بسلطان الله الذي اعطانا ونذود عليكم بفئ الله الذي خولنا ، فلنا عليكم السمع والطاعة فيما احببنا ، ولكم علينا العدل والانصاف فيما ولينا ، فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم لنا . واعلموا اني مهما قصرت فلن اقصر لثلاث : لست محتجبا عن طلب حاجة منكم ولو أتاني طارقا بليل، ولا حابسا عطاء ولا رزقا عن ابانه، ولا مجمرا لكم بعثا (أي لا يبقي الجيش في ارض العدو في غير زمن الغزو). فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم فانهم ساستكم المؤدبون لكم ، وكهفكم الذي اليه تأوون ،ومتي يصلحوا تصلحوا ، ولا تشربوا قلوبكم ببغضهم فيشتد لذلك غيظكم ويطول له حزنكم ولا تدركوا به حاجتكم ، مع انه لو استجيب لكم فيهم لكان شرا لكم .اسأل الله ان يعين كلا علي كل ، واذا رأيتموني انفذ فيكم الامر فانفذوه علي اذلاله ( أي علي حاله ) وايم الله ان لي فيكم لصرعى ( قتلى ) كثيرة فليحذر كل امرئ منكم ان يكون من صرعاي .) .

تحليل الخطبة

الهدف الاعلامي للخطبة :

في فترة الاضطراب السياسي عرفت البصرة التمرد السياسي اضافة الي التمرد الاخلاقي ، خصوصا مع ضعف الولاة عليها من قبل معاوية ، ومنهم ابن عامر والحارث بن عبد الله الازدي الذي ظل واليا اربعة اشهر، وبعد ان انضم زياد الي معاوية اصبح لمعاوية فارس وخراسان ، وهما اهم اقاليم البصرة ، وكان منوطا بزياد ان يتولي البصرة بكل الاقاليم التابعة لها .

وحيث ان مدينة البصرة نفسها كانت عاصمة للانحلال والتمرد وقتها فكان لابد من اصلاحها واخضاعها بالشدة والعنف ، وحيث ان شخصية الوالي تعرف من خلال لقائه الاول بالناس ، ومن خلال خطبته فيهم ، فقد حرص زياد علي ان يقدم نفسه ويعلن سياسته في تلك الخطبة البتراء التي خلت من الحمد والتسبيح ، وكل ذلك لخدمة الهدف الاعلامي للخطبة، وهي تبرير اعلانه الاحكام العرفية علي البصرة وولايتها لاخضاعها للسلطة الاموية سياسيا ، وتأكيد الأمن فيها اجتماعيا.

وسائل تحقيق الهدف الدعائي للخطبة :

تحليل الخطبة من حيث الفصاحة والسياسة :

عبقرية زياد تظهر في فصاحته ودهائه وحُسن سياسته ، وبهذه العبقرية تمكن وهو مجهول النسب من الوصول الي الصف الاول بين الساسة في عصره مع انه لم تكن له عشيرة ولا نسب ولا سابقة في الاسلام ولا تميز في الفتوحات او المعارك الاهلية ، وتتجلي في هذه الخطبة عبقرية زياد من حيث الشكل ومن حيث المضمون .

من حيث الشكل تظهر عبقريته في الفصاحة .

وقد شهد له بهذه الفصاحة في خطبته بعض السامعين من فصحاء العرب ، اذ قام عبد الله بن الاهتم فقال لزياد بعد ان اتم خطبته : اشهد ايها الامير انك اوتيت الحكمة وفصل الخطاب ) وقال له الاحنف ابن قيس ( قد قلت فأحسنت ايها الامير ..) .

ومن مظاهر الفصاحة في لغة الخطبة :

1 ـ بدؤها بدون بسملة او حمد لله ، لأن ذلك يوحي باللين والتسامح والعفو والمغفرة ، وليس هذا هو الهدف الاعلامي من تلك الخطبة البتراء ، وزياد استفاد هذه البلاغة من القرآن الكريم حيث نزلت سورة (براءة ) بدون بسملة وافتتحت بالبراءة من المشركين المعتدين ، وجعلت لهم اجلا مدته اربعة اشهر حتي يتوبوا عن اعتدائهم وعصيانهم ، وربما وجد زياد حال البصرة وسكانها اشبه بحال اولئك المشركين المعتدين ، فنسج خطبته علي منوال افتتاحية سورة براءة ( السورة رقم 9 في القرآن الكريم ).

وزياد هو اول من ابتدع هذه النوعية من الخطب ، أي الخطب البتراء ، ويقول الجاحظ في كتابه البيان والتبيين ( علي ان خطباء السلف الطيب واهل البيان والتابعين لهم باحسان مازالوا يسمون الخطبة التي لم تبدأ بالتحميد وتستفتح بالتمجيد : البتراء ، ويسمون الخطبة التي لم توشح بالقرآن وتزين بالصلاة علي النبي صلي الله عليه وسلم : الشوهاء ) .

2 ـ من حيث البلاغة فى الاسلوب ، فقد حفلت الخطبة (بالمحسنات اللفظية) من (الطباق) و(المقابلة) و(الجناس) .

2/ 1 : و(الطباق) هو ايراد لفظين متناقضين في المعني في سياق واحد ، مثل قوله ( ما فيه سفهاؤكم .. ويشتمل عليه حلماؤكم ")( الصغير .. الكبير ) ( اختار الفانية علي الباقية )( دلج الليل وغارة النهار ") ( قربتم القرابة وباعدتم الدين )(ما انتم بالحلماء ، وقد اتبعتم السفهاء )(آخر هذا الامر لا يصلح الا بما صلح به اوله )(لآخذن الولي بالمولي ، والمقيم بالظاعن ، والمقبل بالمدبر ، والصحيح منكم بالسقيم ) .

والأمثلة فى القرآن الكريم كثيرة ( للطباق)، ومنها (هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ )(الحديد 3)( وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاء وَلا الأَمْوَاتُ) ( فاطر 19 ـ ).

2 / 2 : وحين يقع التناقض بين اكثر من لفظ في جملتين متقابلتين يتحول (الطباق) الي (مقابلة)، وذلك كقوله تعالي (فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا) (التوبة / 82) فالضحك القليل في الجملة الاولي يقابله البكاء الكثير في الجملة الثانية. ونظير ذلك قوله جل وعلا (إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) (الانفطار 13 ـ )

وتكررت المقابلة في خطبة زياد ومنها قوله (ولم تقرءوا كتاب الله ولم تسمعوا ما اعد الله حق الثواب الكريم لأهل طاعته والعذاب الاليم لأهل معصيته) فالثواب الكريم لأهل الطاعة ، يقابله العذاب الاليم لأهل المعصية، ومنها قوله (فرب مسوء بقدومنا سيسر، ومسرور بقدومنا سنسوؤه) فالمقابلة هنا بين المبتئس الذي سيصبح مسرورا والمسرور الذي سيصبح مبتئسا عندما يأتي الامير. وأيضا (فلنا عليكم.. ولكم علينا) (لين في غير ضعف.. وشدة في غير عنف).

3 ـ اما الجناس فهو اشتراك الالفاظ المختلفة في المعني في بعض الحروف، أو كل الحروف.

ويكون الجناس ناقصا كقوله تعالي ( فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ ) (التكوير:15، 16). ويكون الجناس كاملا تاما اذا اشترك اللفظان المختلفان في المعني في كل الحروف كقوله تعالي (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ) (الروم 55) .

وتكرر الجناس في خطبة زياد مثل قوله (المواخير المنصوبة والضعيفة المسلوبة) ( لين في غير ضعف.. وشدة في غير عنف) (انج سعد فقد هلك سعيد) (من غرق قوما غرقناه) (ومن حرق قوما حرقناه.. ومن نقب بيت.. نقبت عن قلبه) (نهاة تمنع الغواة)

4 ـ وبالإضافة للمحسنات اللفظية هناك البلاغة المعنوية من الاستعارة والتشبيه والكناية.

فيقول عن المرأة التي تتعرض للاختطاف والاغتصاب (الضعيفة المسلوبة) وهي كناية شديدة الوقع.

ويأتي التشبيه بقوله ( أتكونون كمن طرفت عينه الدنيا). فتشبيههم في غيهم وعماهم بالذي دخل عينيه شئ اعاقها علي الابصار .

وهناك استعارة في قوله (طرفت عينه الدنيا) (وسدت مسامعه الشهوات).

ويأتى في غاية الفصاحة قوله عن الفساق المستترين في المنعطفات المظلمة والطرقات المهجورة (ثم اطرقوا وراءكم كنوسا في مكانس الريب) والكنوس او الكنس بمعني مستتر، ومنها قوله تعالي عن النجوم المستترة الجارية في الفضاء الكوني (الْجَوَارِ الْكُنَّسِ)، ويقول عن الحكام (كهفكم الذي اليه تأوون).

ومن المبالغة في الاستعارة قوله وقد اجاد فيه (اني لو علمت ان احدكم قد قتله السُّل من بغضي لم اكشف له قناعا).

4 ـ وتلك البلاغة المعنوية وتلك المحسنات اللفظية استخدمها زياد ليوقع التأثير العميق في المستمعين فى عصر الفصاحة العربية، وليقنعهم بهذه الفصاحة اللفظية والمعنوية بصدقه فيما يقول عن إجراءاته المتشددة وعزمه علي تنفيذها .

ويمكن مراجعة قراءة الخطبة ليتبين ان زياد احسن توظيف تلك المحسنات اللفظية والبلاغية خصوصا في الجزء الاول من خطبته الذي حفل بالهجاء لأهل البصرة وبوعظهم في نفس الوقت. ثم احسن ايضا في توظيف فصاحته في الجزء الثاني حين اخذ يهددهم في لغة شديد وفصيحة ، ثم جاء الجزء الثالث اكثر هدوءا فكان الاسلوب اقرب الي الاسلوب التقريري وابتعد عن الاسلوب الادبي والمجازي ليلائم الحال .

هذا عن عبقرية زياد في خطبته من حيث الفصاحة ، او الشكل العام .

ويوازي هذا عبقريتة في خطبته من حيث المضمون .

فالخطبة تنقسم الي ثلاثة اقسام : البداية ، والوسط ، والخاتمة ..

البداية :

1 ـ في البداية بادر بهجاء اهل البصرة والهجوم عليهم وقرن ذلك الهجوم بالوعظ الديني . وهذه النوعية من الوعظ المقترن بالتهديد والوعيد والقتل بسيف السلطان تناسب حال زياد.

2 ـ ويلاحظ انه لم يستخدم في الوعظ ايه قرآنية مع اشارته في معرض هجومه عليهم الي هجرهم كتاب الله ( كأن لم تسمعوا بآي الله ولم تقرأوا كتاب الله ولم تسمعوا ما اعد الله …الخ ).

3 ـ كما انه لم يستشهد بأي حديث منسوب للنبي عليه السلام ، اذ انه في تلك الفترة لم تكن للأحاديث دولة رائجة في الرواية الشفهية، وقد بدأت روايتها الشفهية علي اتساع فيما بعد ، ثم يدأت كتابتها بعد هذا الوقت بقرن من الزمان .

4 ـ كما أن مصطلح (السنة ) بمفهومه الدينى لم يكن بعد معروفا أو مستعملا .لذا لم يرد فى خطبة زياد. كل ما قاله هو الآيات القرآنية و الكتاب (كأن لم تسمعوا بآي الله ولم تقرأوا كتاب الله ).

ففى القرن الأول الهجرى لم يحدث أبدا ـ أقول أبدا ـ فى أى خطبة رسمية أن يقال (الكتاب والسّنة ) بل الكتاب فقط . وحتى بعد عصر (زياد ) بنصف قرن تقريبا خطب عمر بن عبد العزيز أول خطبة له بعد توليه الخلافة فذكر فيها الكتاب فقط ونفى وجود شىء معه ، إذ لم يكن فى ثقافة المسلمين وقتها شىء يسمى السنة . يروى ابن سعد فى الطبقات الكبرى فى ترجمة عمر بن عبد العزيز ، أنه عندما تولى الخلافة بعد موت ابن عمه سليمان بن عبد الملك : (خرج الى المسجد فصعد المنبر فحمد الله واثنى عليه ثم قال :أما بعد ، فانه ليس بعد نبيكم نبي ، ولا بعد الكتاب الذي انزل عليه كتاب ، الا ان ما احل الله حلال الى يوم القيامة وما حرم الله حرام الى يوم القيامة. الا اني لست بقاض ولكني منفذ. الا اني لست بمبتدع ولكني متبع الا انه ليس لاحد ان يطاع في معصية الهك .الا اني لست بخيركم ولكني رجل منكم غير ان الله جعلني اثقلكم حملا ).

5 ـ والمستفاد من هذا ان زياد في وعظه استخدم اسلوبه الشخصي ، وقرن الوعظ بتوضيح مثالب اهل البصرة من الصغار والسفهاء الي الكبار والزعماء ، حيث فشا فيهم الفسق والظلم في الليل والنهار .

وكان ممكنا ان يستشهد زياد بالقرآن الكريم وفيه اروع ما قيل بالعربية الفصحي في الوعظ والترغيب والترهيب ، الا ان ذلك لن يعطي لزياد فرصته في اظهار فصاحته الشخصية ، وهي احدي مظاهر عبقريته، وبها يستطيع بهذا الاسلوب الدعائي احكام سيطرته السياسية .

وهذه المبادرة الحادة بالهجوم كانت مقدمة لما جاء في وسط الخطبة من اعلانه لسياسته او احكامه العرفية التي لم تكن معروفة قبل زياد .

 

6ـ لقد قامت سياسة معاوية علي اساس الحلم والمداراة ، وهو القائل ( لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت ، قالوا كيف ؟ قال : اذا شدوها ارخيتها ، واذا ارخوها شددتها ). ولم تكن هذه السياسة لتجدي في البصرة وولاياتها في المشرق ، وهي احد اهم مراكز المعارضة السياسية للحكم الاموي الجديد ، وبسبب انفتاح البصرة علي الخليج والعالم واتساع الولايات التابعة لها ، وكونها مجتمعا متعدد الاعراق فان تمردها السياسي اقترن بانفلات اخلاقي مع ضعف الولاة وكثرة توليهم وعزلهم .وهذه الحالة في رأي زياد لا يجدي معها تطبيق الاحكام الشرعية العادية ، كما لا يجدي معها تطبيق سياسة معاوية في اللين والمداراة ، وانما تحتاج الي نوعية من الاحكام العرفية لا تأخذ المجرم فقط ، وانما تستهدف المحيطين به .

وهذه الاحكام العرفية التي بدأ بها زياد فى تاريخ المسلمين كان لابد من اسلوب خاص في إعلانها ، أي لا يصح ان يبدأ بها خطبته ، وانما يمهد لها بمقدمة هادرة يقرن فيها الهجوم والانتقاد الحاد بالوعظ الجاد، ثم بعدها يدخل في تفصيل احكامه العرفية . وبعد ان وزع هجاءه ووعظه علي الجميع من السفهاء والحلماء والرعاع والزعماء داعيا للاصلاح ومنحازا للفضيلة ، وبعد ان تيقن من إحساس المستمعين بالخجل والعار بدأ في الموضوع الاساسي للخطبة ، وهو وسطها ، او الاحكام العرفية التي فرضها علي اهل البصرة .

الوسط :

وفي هذا الجزء يبدأ بقوله عن اماكن الفجور ( حرام علي الطعام والشراب حتي اسويها بالارض هدما واحراقا ) فهذا ينذر نذرا ويقسم قسما انه لن يأكل ولن يشرب حتي يهدم ويحرق اماكن الفجور تلك .. وبالتالي يكون تنفيذ هذا القسم – وهو سهل ميسور – اصدق دليل علي عزمه في تنفيذ سياسته ..

ثم بعدها بدأ يوضح سياسة واحكامه العرفية :

اهم معالم هذه السياسة :

المظهر الأول :

1 ـ معاقبة المخطئ ومن حوله ، فهو يعاقب الولي بالمولي و المقيم بالظاعن .. الخ .. وهذا يناقض القرآن وتشريع الاسلام القائل (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (فاطر18) (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى )(الاسراء 15) (أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (النجم 38) فليس في الاسلام ان يعاقب البرئ بذنب المجرم، ولهذا فان احد الخوارج وهو ابو بلال مرداس بن ادية قال ليزيد معلقا علي خطبته (انبأنا الله غير ما قلت ، قال الله عز وجل: وابراهيم الذي وفى، الا تزر وازرة وزر اخري، وان ليس للانسان الا ما سعي) فأوعدنا الله خير مما اوعدتنا يا زياد، فقال له زياد: انا لا نبلغ ما نريد فيك وفي اصحابك حتي نخوض اليكم في الباطل خوضا).

اذن يعترف زياد ببطلان هذه الاجراءات التشريعية، الا انها ضرورة في نظره لمواجهة الانفلات الامني الذي اسهب في الهجوم عليه..

ويهمنا هنا أن زيادا قد أسس هذه القاعدة الظالمة ، وهى معاقبة البرىء بجرم المجرم ، وهى أهم إجراءات السياسة القمعية للنظم الاستبدادية العربية حتى الآن .ويستعملها نظام مبارك فى مصر سياسة ثابتة يتعامل بها مع الخصوم السياسيين، بل ويتعامل بها البوليس المصرى فى إرغام البرىء على الاعتراف بما لم يقترفه بتهديده بانتهاك حرمة بيته ، ومن العادات الهمجية للبوليس المصرى فى عهد العسكر اتخاذ الأقارب رهائن والقبض عليهم لارغام المطلوب على تسليم نفسه . هذا القمع وذاك الظلم قننه زياد فى تلك الخطبة (الوعظية )، وسار عليها المستبد الشرقى حتى الآن.

ولم ينفع مع زياد وعظ مرداس له حين ذكّره بالقاعدة القرآنية، بل اعترف بصراحة أنه يخوض فى الباطل خوضا ليواجه الخوارج.

وعلى أى حال فقد كان لزياد شجاعة الاعتراف بأنه على الباطل هنا، ولكن المستبدين من بعده ـ وحتى الآن ـ ليسوا فى مثل شجاعته وليسوا فى مثل فصاحته .

2 ـ وهناك تناقض اخر في خطبة زياد، ليس مع القرآن فقط، ولكن مع فقرات من الخطبة نفسها، اذ انه يقول (اني رأيت اخر هذا الامر لا يصلح الا بما صلح به اوله، لين في غير ضعف و شدة في غير عنف، واني اقسم بالله لأخذن الولي بالمولي والمقيم بالظاعن.. الخ..). وهنا يقع التناقض. فكيف يتأتي اللين مع معاقبة المظلوم البرئ؟ وكيف لا تكون معاقبة البرئ شدة وعنفا ؟

ثم ان زياد يخطئ حين يزعم ان سياسته هذه هي نفس السياسة التي صلح بها حال المسلمين الاوائل في عهد النبي عليه السلام، اذ يقول (اني رأيت اخر هذا الامر لا يصلح الا بما صلح به اوله) فالواقع التاريخي يؤكد ان تلك الاحكام العرفية كان زياد اول من طبقها في تاريخ المسلمين .وفي النهاية فان الباعث لزياد علي هذه السياسة هو ان اهل البصرة كانوا يتعاونون علي الاثم والعدوان، فلابد من اخافة الجميع.. وقد نجح في هذا.

المظهر الثانى من مظاهر سياسته:

1 ـ استحداث عقوبات جديدة لم تكن، والتعليل في قوله (وقد احدثتم احداثا لم تكن وقد احدثنا لكل ذنب عقوبة) أي فالجرائم الجديدة ابتدع لها زياد عقوبات جديدة من جنسها من الاغراق والحرق وشق القلب والدفن حيا وقطع لسان من يتكلم بدعوي الجاهلية.

2 ـ ويلاحظ ان زياد يقرن اعلانه لهذه السياسة بضمان اكيد في ان يقوم بتنفيذها ، وقد اوضح هذا الضمان في صورة علنية اشبه بالتحدي ، ليس فقط في انه اقسم بالله انه لن يأكل ولن يشرب الا بعد احراق اماكن الفساد، ولكن ايضا حين جعلهم شهودا علي انه سيفي بوعيده، واحل لهم العصيان ان لم ينفذ تصريحاته فيقول (ان كذبة المنبر بلقاء مشهورة، فاذا تعلقتم علي بكذبة فقد حلت لكم معصيتي)

3 ـ كما ان زياد يقرن تهديده ووعوده وتنفيذ احكامه العرفية بشئ من الرفق والعدل، فلا دخل للعواطف الشخصية في تطبيق تلك الاحكام، فالكارهون لزياد من اهل البصرة والذين يعلم زياد كراهيتهم له لن يبدأهم بسوء حتي يبدأوا هم، أي انه يعفو مقدما عما سلف ويبدأ معهم صفحة جديدة، فمن كان مسيئا فلينزع عن اساءته ومن كان محسنا فليزدد إحسانا.

4 ـ وقد يبدو في الخطبة التركيز علي الجرائم الجنائية دون السياسية التي تعني الخروج علي الدولة، ولو بمجرد الكلام دون الحركة والفعل. والواقع ان دهاء زياد جعله يركز في خطبته علي الجرائم الخلقية ليتخذ منها حجة علي اهل البصرة، ومسوغا لأعلان تلك الاحكام العرفية الاستثنائية..

5 ـ الا انه بين سطور خطيئته جعل عقوبة القتل للمشتبه فيه سياسيا، وصاغ ذلك بأسلوب مطاط يفوق صناعة القوانين الاستثنائية في الدول النامية، اذ يقول (لا يظهر من احد منكم خلاف ما علية عامتكم الا ضربت عنقه) فالعوام مع الدولة، ومن يخالف رأي العوام يكون خارجيا، والخوارج هم اهم اعداء الدولة الاموية في ذلك الوقت.. وليس تعبيرا محددا توصيفه لتلك الجريمة التى تستوجب عنده ضرب العنق، مجرد قوله (لا يظهر من احد منكم خلاف ما علية عامتكم الا ضربت عنقه)

وكانت ثورات الخوارج وغيرهم – ولا تزال – تبدأ بدعوة ومقال ودعاية، ونري زياد لها بالمرصاد فيقول محذرا (واياي ودعوي الجاهلية ، فأني لا أجد أحدا دعا بها الا قطعت لسانه) ودعوي الجاهلية عبارة مطاطة يفسرها الحاكم حسب هواه. أى إنه جعل عقوبة قطع اللسان لمن يتكلم ضد السلطان. وللسلطان وحده تحديد نوعية الكلام الذى يكون مناط العقوبة ،سواء كانت قطع اللسان أو ضرب العنق.

أى إن عبقرية زياد جعلته يستخدم اسلوب الوعظ فى تمرير أحكام استثنائية غاية فى القسوة، تصادر مقدما حرية التعبير التى كفلها معاوية نفسه حين قال قولته الشهيرة (إنا لا نحول بين الناس وألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين ملكنا). وقد فهم ابو بلال مرداس بن ادية خطورة تلك الخطبة وما تعلنه من سياسة فاعترض، فاعترف زياد بأنها الطريق الوحيد لمواجهة الخوارج، حتي ولو سار في طريق الباطل.

6 ـ ونجح زياد في تطبيق هذه السياسة في البصرة حتي اضاف له معاوية ولاية الكوفة ، وكان للشيعة في الكوفة تأثير في ولاية المغيرة بن شعبة عليها ، وكانوا يهاجمون المغيرة اذا بدأ في الخطبة في شتم علي ابن ابي طالب ، وكان قائد الشيعة في ذلك حجر بن عدي الكندي ، وراح حجر بن عدي ضحية لسياسة زياد في الكوفة هو واصحابه ، فكانوا اول قتلي المعارضة القولية في تاريخ المسلمين ، وهذا هو موضوعنا التالى .

في نهاية الخطبة :

يقرن تقعيد العلاقة بين الحاكم والمحكوم ببعض النصائح وبعض الود الحذر مع التحذير والتهديد ، ولكن في اسلوب اكثر هدوءا .

وتقعيد العلاقة بين الحاكم والمحكوم هنا ينبع من عقيدة الحق الالهي في الحكم الى سبق بها زياد الخليفة العباسى أبا جعفر المنصور. إذ كرر المنصور العباسى ـ بعد قرن تقريبا ـ ما قاله زياد فى هذه الخطبة من أن الحاكم يستمد سلطته ـ ليس من الناس ـ ولكن من رب الناس ، وأنه صاحب الحق الالهى فى السلطة و فى الثروة ، معتبرا أن مشيئة الله هي التي اعطت الحكم للحاكم ، وبهذا الحق الالهي المقدس يمارس الحاكم سلطاته . يقول زياد في ذلك ( نسوسكم بسلطان الله الذي اعطانا ، ونذود- أي ندافع – عنكم بفئ الله الذي خولنا ) أي ان الله هو الذي اعطاه السلطان والاموال ، ولذلك يطلب منهم الطاعة غير المشروطة ( فلنا عليكم السمع والطاعة فيما احببنا ) أي ليست الطاعة للحاكم مقيدة بطاعة الله ، بل طبقا لما يريده ويحبه السلطان .

ثم يجعل من حقهم علي الحاكم العدل طالما ينصحون للحاكم ، فالعدل هنا مشروط بالمناصحة أي يكونوا اعوانا ناصحين للحاكم ( ولكم علينا العدل فيما ولينا، فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم ) فالسلطان هو الذى يملك الولاية و السلطة ، وهو الذى يملك العدل ويملك الثروة أو الفىء .

وفي سياق فصاحته يؤكد قاعدة سياسية خطيرة ، وهي الطاعة المطلقة للحاكم في مقابل عدل مقيد بمدي نصحهم للحاكم ، ويربط صلاح الحاكم بصلاح الرعية ( ومتي تصلحوا يصلحوا ) وهى حجة وجيهة لتأجيل الاصلاح حتى تنصلح الأمة .وفى النهاية يمنعهم من بغض الحاكم ويأمرهم بالدعاء له بالصلاح ..

وفي اطار تقعيد هذه العلاقة لصالح الحاكم علي حساب المحكوم اعلن انه لن يقصر عنهم في تحقيق ثلاث : انه لن يجعل حجابا بينه وبين أي طالب لحاجة حتي ولو جاءه بالليل ، ولن يمنع عنهم حقوقهم المالية ، ولن يمنع جيشا في ارض العدو من العودة للوطن .وفي النهاية يذكرهم ويحذرهم من عقوبته فيهم ، فيقسم بالله انه له صرعي كثيرين فيهم فليحذر كل منهم ان يكون من صرعاه..

مدي نجاح الخطبة:

واتت الخطبة ثمارها سريعا، فقال الاحنف بن قيس احد زعماء القبائل واشهرهم علي الاطلاق ( قد قلت فأحسنت ايها الامير، والثناء بعد البلاء، والحمد بعد العطاء، وانا لن نثني حتي نبتلي ) أي يعول علي النتائج والافعال وليس علي الوعود والاقوال، او بمعني اخر يؤيد زياد في دعوته الشديدة للاصلاح ، لذلك قال له زياد: صدقت. بينما قال زياد لابن الاهتم: كذبت. ذلك ان ابن الأهثم قال : (اشهد انك ايها الامير قد اوتيت الحكمة وفصل الخطاب، فقال زياد له: ذاك بني الله داود عليه السلام، مشيرا الي ما جاء في القرآن بشأن داود (38 / 20) أي انه لم يتأثر بنفاق ومدح ابن الاهتم له، وبادر بتكذيبه.

النجاح الحقيقى للخطبة هو فى مدى تطبيقها.

علي ان النجاح الحقيقي للخطبة – كما اشار الاحنف – يتجلي في التطبيق، وهذا ما حرص عليه زياد اذ استعمل علي شرطته عبد الله بن حصن، فأمهل الناس – وفق ما جاء في الخطبة – حتي يبلغ الخبر الكوفة وعاد اليه وصول الخبر، واطمأن الي وصول التحذير والتهديد الي الجميع، وبعدها بدأ التنفيذ ، فكأن يؤخر صلاة العشاء حتي يصلي اخر من يصلي ثم يأمر رجلا فيقرأ القرآن ساعة او ساعتين ، ثم ينتظر الي ان يصل رجل الي اطراف البصرة وبعدها يخرج صاحب الشرطة فلا يري انسانا بالطريق الا قتله.

واستمر زياد في سياسته فاسرف في العقوبة وعاقب بالظن والتهمة، حتي خافه الناس خوفا شديدا، وتأكد الأمن بحيث كان الشئ يسقط من صاحبه فيظل في مكانه الي ان يأتي صاحبه ويأخذه، وتبيت المرأة دون ان تغلق عليها بابها، وهابه الناس هيبة لم يهابوها لأحد من قبله، وجمع الي هذه الشدة فصاحة في الخطب استطاع ان يجعلها خير دعاية لسياسته لذلك قال عنه الشعبي اشهر الرواة وكان يعيش في عهده ( ما سمعت متكلما قط تكلم فأحسن الا احببت ان يسكت خوفا من ان يسئ الا زيادا ، فانه كان كلما تكلم اكثر كان اجود كلاما . .)

آخر السطر

ماذا لو تشجع أحدهم وقام علنا بوعظ زياد، وهو صاحب هذه الخطبة الفصيحة فى الوعظ ؟

الاجابة فى الحلقة القادمة عن زياد ومقتل حجر بن عدى الكندى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

ثالثا :  زياد بن أبيه وقتل حجر بن عدى. ( فى سبيل التوريث )

تاريخ النشر: 2010-03-06

 

1 ـ المستغرب فى موضوع (قتل حجر بن عدى ) شيئان:

الأول: هو كل تلك الضجة المثارة حول مقتله، مع إن زياد بن أبيه قتل الألوف لأسباب أهون من قتله لحجر بن عدى، ثم بلغ عدد الأبرياء الذين قتلوا فى عهد الحجاج وحده أكثر من مائة ألف مسلم لمجرد الشبهة السياسية.

والتعليل هنا سهل.

• لأن حجر كان أول قتيل بسبب ممارسته السلمية لحرية الرأى ، وجاء قتله فتحا لهذا الباب من أبواب الشّر فى تاريخ المسلمين ، وهو إقدام المستبد على قتل المعارضين المسالمين . وهى عادة فاحشة لا تزال سائدة حتى عصرنا .

• ثم إن حجر بن عدى لم يكن شخصا عاديا. لقد كان صحابيا يتمتع بمستلزمات التكريم فى المعيار السّنى ، فهو من قواد الفتوحات ، شارك فى موقعة القادسية ، وفى فتوحات الشام ، وهوالذى قاد فتح منطقة مرج عذراء فى دمشق التى أصبحت عاصمة لمعاوية والتى تم قتل حجر فيها فيما بعد،(ولم ينتبه أحد الى هذا المغزى).

• ويتمتع حجر أيضا باحترام الشيعة فهو من كبار أنصار على ، وانحاز اليه ضد معاوية، وهو الذى تزعم شيعة الكوفة فى معارضتهم السلمية لمعاوية ، وجاء قتل حجر بسبب تلك المعارضة .

• من هنا اشتد الاستنكار على مقتل حجر ، وربما يكون الشخص الوحيد فى عصره الذى أجمعت الشيعة والسّنة والخوارج على استنكار مقتله ، وهذا لم يحدث مثلا فى إغتيال عمر وعثمان وعلى بن أبى طالب.

الثانى : تفسير موقف معاوية فى قتل حجر بن عدى .

فقتله يتنافى مع المشهور عن ( شعرة معاوية) ، وما اتصف به من حلم ومداراة وإيثار للمسالمة ، كما يتناقض مع سياسة معاوية التى أعلنها بقوله (إنا لا نحول بين الناس وألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين ملكنا). أى قرر حرية التعبير باللسان طالما تقتصر على المعارضة القولية . وفى هذا الاطار كانت معارضة حجر بن عدى الذى بايع لمعاوية و تمسك ببيعته له الى آخر لحظة. كل ما هنالك أنه مارس حقه فى الاعتراض على سياسة أموية معينة ، وفق المسموح به من المعارضة القولية .

المؤرخون فى العصرين العباسى و المملوكى الذين سجلوا أحداث هذا العصر لم يثيروا هذه القضية ، واكتفوا بالرواية . ونحاول هنا البحث عن الاجابة فى ضوء (وعظ السلاطين ).

2 ـ ففى قصة حجر بن عدى نجد حاكما قدم نفسه واعظا فى خطبته البتراء ، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ثم يفعل هو المنكر ، فلما تصدى له أحد الشجعان بالوعظ أخذت ذلك الحاكم العزة بالاثم فقتل الواعظ .

3 ـ نتوقف الآن مع قصة حياة حجر بن عدى والسبب المعلن لمقتله ، ثم أخير السبب الحقيقى للتخلص منه لنجيب على السؤال الثانى فى تعليل التناقض فى سياسة معاوية.

أولا: سيرة حياة حجر وفق ما جاء فى (الطبقات الكبرى) لابن سعد

1 ـ (هو حجر بن عدى بن جبلة بن عدي بن ربيعة الكندي ولقبه: حجر الخير. وكان حجر بن عدي جاهليا إسلاميا، يقال أنه وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع أخيه هانئ بن عدي. وشهد حجر القادسية ، وهو الذي افتتح مرج عذرى بدمشق .وكان في ألفين وخمسمائة من العطاء .وكان من أصحاب علي بن أبي طالب وشهد معه الجمل وصفين) أى كان صحابيا ومن قواد الفتوحات  ومن كبار أنصار على.

2 ـ (فلما قدم زياد واليا على الكوفة دعا بحجر بن عدي فقال : تعلم أني أعرفك وقد كنت أنا وإياك على ما قد علمت ـ يعني من حب علي بن أبي طالب ـ وإنه قد جاء غير ذلك ، وإني أنشدك الله أن تقطر لي من دمك قطرة فأستفرغه كله، املك عليك لسانك وليسعك منزلك ، وهذا سريري فهو مجلسك، وحوائجك مقضية لدي ، فاكفني نفسك فإني أعرف عجلتك ، فأنشدك الله يا أبا عبد الرحمن في نفسك. وإياك وهذه السفلة وهؤلاء السفهاء أن يستزلوك عن رأيك ، فإنك لو هنت علي أو استخففت بحقك لم أخصك بهذا من نفسي . فقال حجر قد فهمت)

أى حين تولى زياد ولاية الكوفة بعد موت واليها المغيرة بن أبى شعبة ـ بادر زياد بنصح حجر بن عدى ، مؤكدا له إنه كان مثله من شيعة (على) ولكن الوضع اختلف الآن ، ويرجوه أن يكف عن معارضته وعن تزعمه لشيعة الكوفة مقابل أن يعلى زياد من مكانته.وخلط زياد هذا الترغيب والرجاء بالتهديد بأنه سيضطر لقتله لو لم يكف عن المعارضة. ولم يعط حجر وعدا لزياد بالكف عن المعارضة .

3 ـ (ثم انصرف ــ أى حجر ــ إلى منزله فأتاه إخوانه من الشيعة، فقالوا: ما قال لك الأمير؟ قال: قال لي كذا وكذا، قالوا : ما نصح لك، فأقام وفيه بعض الإعتراض. وكانت الشيعة يختلفون إليه ( يأتون اليه ) ويقولون إنك شيخنا وأحق الناس بإنكار هذا الأمر. وكان إذا جاء إلى المسجد مشوا معه. فأرسل إليه عمرو بن حريث وهو يومئذ خليفة زياد على الكوفة وقال له: أبا عبد الرحمن ما هذه الجماعة؟ وقد أعطيت الأمير من نفسك ما قد علمت؟ فقال للرسول: تنكرون ما أنتم فيه؟ إليك وراءك أوسع لك. فكتب عمرو بن حريث بذلك إلى زياد، وكتب إليه إن كانت لك حاجة بالكوفة فالعجل).أى إن كنت تخاف على الكوفة فاقدم بسرعة .

أى بعودة حجر لبيته اجتمع به رفاقه من الشيعة وحرضوه على التمادى فى المعارضة، وكانوا يسيرون معه فيما يشبه المظاهرة تحديا لزياد وعصيانا لأوامره فى أحكامه العرفية. ولأن زياد كان يحكم البصرة والكوفة معا فقد كان يمضى نصف العام هنا ونصفه الآخر هناك. وفى غيبته كان يولى نائبا عنه. وتصادف أن نصح زياد حجرا وحذّره، ثم سافر الى البصرة تاركا فى الكوفة نائبه عمرو بن حريث. وشهد عمرو بن حريث هذا مظاهرة حجر وعصيانه لتحذيرات زياد، فأرسل يعظ حجر ويذكره بلقائه مع زياد، فأعرض حجر عن النصيحة. ولما كان الموضوع أكبر من طاقة نائب زياد على الكوفة فإنه بعث لزياد يستعجل مجيئه ليتصرف بنفسه.

4 ـ ( فأغذ زياد السير حتى قدم الكوفة ، فأرسل إلى رءوس الكوفة :عدي بن حاتم وجرير بن عبد الله البجلي وخالد بن عرفطة العذري حليف بني زهرة وإلى عدة من أشراف أهل الكوفة ، فأرسلهم إلى حجر بن عدي ليعذر إليه وينهاه عن هذه الجماعة وأن يكف لسانه عما يتكلم به ، فأتوه فلم يجبهم إلى شيء ولم يكلم أحدا منهم ، وجعل يقول : يا غلام اعلف البكر . فقال له عدي بن حاتم : أمجنون أنت ؟ أكلمك بما أكلمك به وأنت تقول يا غلام اعلف البكر؟ فقال عدي لأصحابه : ما كنت أظن هذا البائس بلغ فيه الضعف كل ما أرى .! فتركه القوم وأتوا زيادا فأخبروه ببعض وكتموا بعضا وحسنوا أمره وسألوا زيادا الرفق به، فقال لست إذا لأبي سفيان.! فأرسل إليه الشرط والجنود فقاتلهم حجر بمن معه من أنصاره ثم انفض عنه أنصاره، فقبض عليه الجند وعلى بعض أصحابه، وأتوا بهم الى زياد. فقال له زياد: ويلك ما لك؟ فقال: إني على بيعتي لمعاوية لا أقيلها ولا أستقيلها. فجمع زياد سبعين رجلا من وجوه أهل الكوفة فقال: اكتبوا شهادتكم على حجر وأصحابه، ففعلوا، ثم بعث بحجر وأصحابه بتلك الشهادات الى معاوية) .

رجع زياد مسرعا للكوفة، وبعث وفدا من زعماء القبائل لنصح حجر، ولكن حجرا لم يأبه بهم أيضا. فرجعوا الى زياد، يطلبون منه الرفق به، فرفض زياد، وأرسل فرقة من الجند قاتلت حجرا واتباعه، وقبضت عليه وعلى بعض أتباعه بينما فرّ الآخرون. وجىء بحجر لزياد موثقا فأقر بأنه على بيعته لمعاوية وليس خارجا (على النظام الحاكم). ولكن زيادا استشهد سبعين رجلا من كبار أهل الكوفة ضد حجر وأصحابه وبعث بهم وبالشهادات الى معاوية فى دمشق.

5 ـ (وبلغ عائشة الخبر فبعثت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي إلى معاوية تسأله أن يخلي سبيلهم. فقال عبد الرحمن بن عثمان الثقفي يا أمير المؤمنين جدادها جدادها لا تعن بعد العام أبرا، فقال معاوية لا أحب أن أراهم ولكن اعرضوا علي كتاب زياد ،فقرىء عليه الكتاب وجاء الشهود فشهدوا . فقال معاوية بن أبي سفيان أخرجوهم إلى عذرى فاقتلوهم هنالك. قال فحملوا إليها. فقال حجر : ما هذه القرية؟ قالوا :عذراء .قال: الحمد لله أما والله إني لأول مسلم نبح كلابها في سبيل الله ، ثم أتي بي اليوم إليها مصفودا .ودفع كل رجل منهم إلى رجل من أهل الشام ليقتله ، ودفع حجر إلى رجل من حمير فقدمه ليقتله. فقال: يا هؤلاء دعوني أصلي ركعتين، فتركوه، فتوضأ وصلى ركعتين فطول فيهما، فقيل له: طولت.. أجزعت؟ فقال: ما توضأت قط إلا صليت وما صليت صلاة قط أخف من هذه ، ولئن جزعت لقد رأيت سيفا مشهورا وكفنا منشورا وقبرا محفورا .وكانت عشائرهم جاؤوا بالأكفان وحفروا لهم القبور. ويقال بل معاوية الذي حفر لهم القبور وبعث إليهم بالأكفان. وقال حجر: اللهم إنا نستعديك على أمتنا، فإن أهل العراق شهدوا علينا وإن أهل الشام قتلونا. فقيل لحجر: مد عنقك. فقال إن ذاك لدم ما كنت لأعين عليه . فقدم فضربت عنقه . وكان معاوية قد بعث رجلا من بني سلامان بن سعد يقال له هدبة بن فياض فقتلهم ، وكان أعور ، فنظر إليه رجل منهم من خثعم فقال : إن صدقت الطير قتل نصفنا ونجا نصفنا .فلما قتل سبعة أردف معاوية برسول بعافيتهم جميعا فقتل سبعة ونجا ستة أو قتل ستة ونجا سبعة .قال وكانوا ثلاثة عشر رجلا .وقدم عبد الرحمن بن الحارث بن هشام على معاوية برسالة عائشة وقد قتلوا، فقال يا أمير المؤمنين أين عزب عنك حلم أبي سفيان؟ فقال غيبة مثلك عني من قومي... ولما أتي بحجر فأمر بقتله قال: (ادفنوني في ثيابي فإني أبعث مخاصما).

شاع الخبر حتى بلغ السيدة عائشة فأرسلت رسولا لمعاوية تسأله أن يطلق سراح حجر وأصحابه. ووصل رسول عائشة بعد مقتل حجر وبعض أصحابه، فعفا معاوية عنهم فأطلق سراح الباقين..

6 ـ منهج ابن سعد فى الطبقات أن يدور حول الشخصية التى يترجم لها من حيث النسب والنشأة والعلم، ومروياته ومظهره فى الزى واللحية وصلاته وسلوكياته الى وفاته. مقابل ذلك يهمل ابن سعد التفصيلات التاريخية السياسية ورواياتها. وقد قام الطبرى فى تاريخه فيما بعد بجمع تلك الروايات على اختلافها وتداخلها وربما تناقضها. ثم جاء ابن الأثير ففحص روايات الطبرى وانتقى منها ما يراه صحيحا ، وغالبا كان يكتفى برواية واحدة فى الحدث التاريخى الواحد ، وقلما يروى فيه روايتين مختلفتين.

لذا نستقى بعض التفصيلات المنسية فى تاريخ حجر من تاريخ ( الكامل ) لابن الأثير.

ثانيا: السبب المباشر لقتل حجر وفق ما جاء فى (الكامل) لابن الأثير:

1 ـ السؤال الهام هنا: ما هو فحوى المعارضة القولية لحجر والتى لم يتحملها زياد؟ وهل كان حجر على حق فى التمسك بها الى درجة التضحية بحياته ؟ وبالتالى يكون زياد متجنيا وقاتلا لانسان برىء سياسيا ووفق شرع الاسلام ؟

2 ـ نتعرف على الاجابة من تلك الأحداث التى رواها ابن الأثير نقلا عن الطبرى عن عام 42 هجرية .

يقول ابن الاثير: (فكتب معاوية إلى المغيرة ليلزم زيادًا وحجر بن عدي وسليمان بن صرد وشبث بن ربعي وابن الكوا بن الحمق بالصلاة في الجماعة فكانوا يحضرون معه الصلاة‏.‏وإنما ألزمهم بذلك لأنهم كانوا من شيعة علي‏.‏ ). أى إن معاوية يأمر والى الكوفة المغيرة بن أبى شعبة بأن يلزم شيعة على بحضور الصلاة فى المسجد ، وعلى رأسهم حجر بن عدى . فهل كان هذا حرصا من معاوية على أن يكونوا من الأبرار الذين تتعلق قلوبهم بالمساجد أم هو غرض آخر يريد إذلالهم واستفزازهم ؟

3 ـ كان معاوية يريد استفزازهم للتخلص منهم . كيف ؟ لأن حضورهم الصلاة مع الأمير تعنى إجبارهم على الاستماع للعن (على ) وهى سياسة الأمويين الثابتة فى الصلاة. وبذلك يكون محبو (على ) بين أمرين إما أن يتحملوا ويسكتوا ، وإما أن يثوروا ، ويعطوا حجة للتخلص منهم .وبهذه الطريقة تم قتل حجر وارهاب شيعة الكوفة.

يقول ابن الأثير عن سبب قتل حجر: (وسبب ذلك أن معاوية استعمل المغيرة بن شعبة على الكوفة سنة إحدى وأربعين، فلما أمّره عليها دعاه، وقال له‏:‏ .... ولست تاركًا إيصاءك بخصلة‏:‏ لا تترك شتم "علي" وذمه والترحم على عثمان والاستغفار له، والعيب لأصحاب "علي" والإقصاء لهم، والإطراء بشيعة عثمان والإدناء لهم..) أى بدأ معاوية العدوان بجعل لعن (على) على المنابر سياسة يلتزم بها الولاة ، بالاضافة الى تفضيل شيعة عثمان والأمويين واضطهاد شيعة (على). وفى العام التالى لتولية المغيرة تم ألزام حجر وأصحابه بأن يحضروا المسجد لاذلالهم بإسماعهم لعن إمامهم.

4 ـ وتمسك المغيرة فى ولايته على الكوفة بهذه السياسة ، مما استفز شيعة (على ) وزعيمهم حجر فكان يحتج عليه علنا فى المسجد حين يبدأ بلعن عليا . تقول الرواية : ( فأقام المغيرة عاملًا على الكوفة وهو أحسن شيء سيرة غير أنه لا يدع شتم "علي " والوقوع فيه والدعاء لعثمان والاستغفار له، فإذا سمع ذلك حجر بن عدي قال‏:‏ بل إياكم ذم الله ولعن‏!‏ ثم قام وقال‏:‏ أنا أشهد أن من تذمون أحق بالفضل ومن تزكون أولى بالذم‏.‏ فيقول له المغيرة‏:‏ يا حجر اتق هذا السلطان وغضبه وسطوته فإن غضب السلطان يهلك أمثالك. ثم يكف عنه ويصفح‏.‏) أى كان حجر يرد عليهم بلعنهم وبالشهادة بالفضل لعلى . وكان يستمر المغيرة فى اللعن ويستمر حجر فى الرد عليه، ويستمر المغيرة فى نصح أو وعظ أو تحذير حجر وتخويفه من السلطان معاوية، وحجر لا يسكت، والمغيرة يصفح عنه ويتحمل رده عليه.

5 ـ ولم يكن ممكنا أن يستمر هذا المسلسل. لا بد أن ينفجر أحدهما، إما المغيرة وإما حجر. وحدث الانفجار فى نهاية حكم المغيرة للكوفة، وكان قد بلغ عمره السبعين، وجاء الانفجار من حجر. تقول الرواية عن المغيرة: ( فلما كان آخر إمارته قال في علي وعثمان ما كان يقوله ، فقام حجر فصاح صيحةً بالمغيرة، سمعها كل من بالمسجد، وقال له‏:‏ مُر لنا أيها الإنسان بأرزاقنا فقد حبستها عنا وليس ذلك لك ، وقد أصبحت مولعًا بذم أمير المؤمنين‏.‏ فقام أكثر من ثلثي الناس يقولون‏:‏ صدق حجر وبرّ ، مر لنا بأرزاقنا فإن ما أنت عليه لا يجدي علينا نفعًا‏!‏ وأكثروا من هذا القول وأمثاله‏.‏ فنزل المغيرة). صرخ حجر محتجا ومطالبا بأرزاق الناس أو مرتباتهم، ليسانده من بالمسجد فى التشويش على الوالى ، وفعلا ساندوه فاضطر المغيرة للنزول من على المنبروتركهم .

6 ـ ومن الطبيعى أن يحتج قوم المغيرة وأصحابه على تهاونه مع حجر ، وفعلا وجهوا له اللوم ، ورد عليهم الداهية العريق بالجواب السديد ، تقول الرواية :(فاستأذن عليه قومه ، ودخلوا ، وقالوا‏:‏ علام نترك هذا الرجل يجترىء عليك في سلطانك ويقول لك هذه المقالة فيوهن سلطانك ويسخط عليك أمير المؤمنين معاوية ؟ فقال لهم المغيرة‏:‏ إني قد قتلته . سيأتي من بعدي أمير يحسبه مثلي فيصنع به ما ترونه يصنع بي فيأخذه ويقتله‏!‏ . إني قد قرب أجلي ولا أحب أن أقتل خيار أهل هذا المصر فيسعدوا وأشقى ، ويعز في الدنيا معاوية ويشقى في الآخرة المغيرة‏.‏ ). أى ان المغيرة بحلمه وسكوته شجع حجرا على التطاول على السلطة ، وسيأتى أمير بعد المغيرة فيتصرف حجر معه بنفس الطريقة حين يلعن عليا . وعندها سيقتله ذلك الأمير. والمغيرة يرى أنه قد قرب أجله ولا يريد أن يتحمل تبعة قتل حجر فى سبيل تثبيت ملك معاوية . وتحققت نبوءة المغيرة ، إذ مات المغيرة وتولى زياد الكوفة ، تقول الرواية (ثم توفي المغيرة وولي زياد فقام في الناس فخطبهم عند قدومه ثم ترحم على عثمان وأثنى على أصحابه ولعن قاتليه‏.‏فقام حجر ففعل كما كان يفعل بالمغيرة‏.‏ ). وانتهت القصة كما نعرف.

ثالثا: السبب الحقيقى: (يسألونك عن التوريث)

1 ـ لازلنا نحمل على كاهلنا نفس السؤال: لماذا؟

لماذا يخطط معاوية لقتل حجر بهذه الطريقة ؟ لماذا يرغمه هو وأصحابه على حضور الصلاة جماعة ويستفزهم بالاستماع الى لعن (على بن أبى طالب ) بينما يعلن أنه لا يحول بين الناس وألسنتهم ما لم يحولوا بينه وبين ملكه ؟ لماذ يعطيهم حرية الصراخ و يجعلهم يصرخون ـ وهم على حق ـ ثم يفاجئهم بالقتل ؟

وحتى نفهم أكثر سياسة معاوية نقرأ الرواية التالية . فقد أراد زياد قتل رجل فهرب منه الرجل ولجأ لمعاوية يستجير به ،فأجاره معاوية وأنقذه من زياد . فكتب زياد لمعاوية محتجا على أن فى ذلك تضييع لهيبة الملك والسلطان ، فكتب له معاوية أنه لا ينبغى أن نسوس الناس بسياسة واحدة ، ولكن تكون أنت للشدة وأكون أنا للرفق ، فيستريح بيننا الناس . أى اختار معاوية أن يخبىء مخالبه وأنيابه فى ولاته ، هم يقومون عنه بالقتل والقمع، وهو الذى يبتسم ويصفح ويحلم ويداوى الجراح . وفى النهاية هو الذى يكسب حب الناس ، ويتحمل الولاة عنه الكراهية بدلا منه .

بتطبيق هذه السياسة (المعوية) (نسبة لمعاوية لا للأمراض المعوية) على قتل حجر بن عدى نرى معاوية قد استغل واليه المغيرة ليقوم عنه بقتل حجر وارهاب الشيعة، ولكن المغيرة كان أكثر مكرا من أن يتحمل عن معاوية هذه الجريمة أمام الله تعالى وأمام التاريخ ، خصوصا وهو نهاية العمر. وجاء زياد فوقع فى الجريمة .

نعود للسؤال: لماذا؟ لماذا يخطط معاوية لقتل حجر بن عدى؟

السبب هو التوريث.

قتل حجر يقع ضمن مخطط التوريث، فلا بد من ارهاب الشيعة مقدما لكى يمر توريث معاوية ابنه يزيد الخلافة من بعده .

2 ـ سار معاوية فى خطة مزدوجة ذات خطين متوازيين فى نفس الوقت ، هما التخلص المادى أو المعنوى من أى شخص محتمل أن ينافس ابنه يزيد فى الخلافة ، وإرهاب الشيعة و التخلص من قادتهم تمهيدا للتوريث .

حمل عام 46 هجرية خبر إغتيال عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، تقول الرواية : ( وكان سبب موته أنه كان قد عظم شأنه عند أهل الشام ، ومالوا إليه ، لما عندهم من آثار أبيه ، ولغنائه في بلاد الروم ، ولشدة بأسه ، فخافه معاوية وخشي على نفسه منه ، وأمر ابن أثال النصراني أن يحتال في قتله ، وضمن له أن يضع عنه خراجه ما عاش ، وأن يوليه جباية خراج حمص‏.‏ فلما قدم عبد الرحمن من الروم دس إليه ابن أثال شربةً مسمومة مع بعض مماليكه ، فشربها فمات بحمص ، فوفى له معاوية بما ضمن له‏.‏ ).

عاش عبد الرحمن بن خالد بن الوليد يحمل شهرة أبيه خالد بن الوليد بطل الفتوحات . ولم يكتف بشهرة أبيه إذ أصبح من أبطال القواد فى الحرب المستمرة بين الروم والأمويين ، وكان يعود من غزواته بازدياد مستمر فى شهرته . وبهذه الشهرة يكون منافسا خطيرا ليزيد فى حالة التوريث . لذا كان لا بد من التخلص منه .

وكان السم أفضل وسائل معاوية فى الاغتيال . بالسم قتل الأشتر النخعى قائد (على) قبل أن يتولى حكم مصر من قبل على. وبعدها بالسم تم قتل (الحسن بن على) والذى كان مفروضا أن يلى الخلافة بعد معاوية تنفيذا للاتفاق بينهما فى عام الجماعة . وفى كل حالات الاغتيال يقوم طرف آخر بتلك المهمة القذرة .

3 ـ لم يستعمل معاوية وسيلة القتل ليتخلص من زعماء الأمويين منافسى ابنه يزيد ، والذين هم أحق منه (امويا) بالحكم بما لهم من سوابق سياسية فى وصول البيت الأموى للحكم من عهد عثمان الى عهد معاوية . الى جانب معاوية كان يوجد إثنان من كبار بنى أمية، ومن أعمدة ملك معاوية، وهما سعيد بن العاص ومروان بن الحكم. هما منافسان قويان ليزيد، و(يزيد) بالنسبة لهما لا شىء. ومعاوية لا يستطيع التخلص منهما بالقتل لحاجته لهما وللحفاظ على وحدة البيت الأموى . إذن لا بد من طريقة أخرى لتحييدهما مع الابقاء على حياتهما ، وهى زرع العداوة بينهما . كيف يزرع بينهما العداوة وهما ابناء عم وأقرب لبعضهما من قرابتهما لمعاوية ؟.

إعتاد معاوية بذر الشقاق بينهما بأن يعزل أحدهما ويولى الاخر مكانه، ويأمر أحدهما بالانتقام من الآخر . ففى عام 53: كان عزل سعيد عن المدينة واستعمال مروان مكانه . تقول الرواية ( وفيها عزل معاوية سعيد بن العاص عن المدينة واستعمل مروان‏.‏وكان سبب ذلك أن معاوية كتب إلى سعيد بن العاص أن يهدم دار مروان ويقبض أمواله كلها ليجعلها صافيةً ويقبض منه فدك وكان وهبها له ، فراجعه سعيد بن العاص في ذلك فأعاد معاوية الكتاب بذلك ، فلم يفعل سعيد ووضع الكتابين عنده ، فعزله معاوية وولى مروان ، وكتب إليه يأمره بقبض أموال سعيد بن العاص وهدم داره ، فأخذ الفعلة وسار إلى دار سعيد ليهدمها ، فقال له سعيد‏:‏ يا أبا عبد الملك أتهدم داري ؟ قال‏:‏ نعم ، كتب إلي أمير المؤمنين ولو كتب إليك في هدم داري لفعلت‏.‏ فقال‏:‏ ما كنت لأفعل‏.‏ قال‏:‏ بلى والله‏.‏ قال‏:‏ كلا‏.‏ وقال لغلامه‏:‏ ايتني بكتاب معاوية ، فجاءه بالكتابين ، فلما رآهما مروان قال‏:‏ كتب إليك فلم تفعل ولم تعلمني ؟ فقال سعيد‏:‏ ما كنت لأمن عليك وإنما أراد معاوية أن يحرض بيننا‏.‏ فقال مروان‏:‏ أنت والله خير مني‏.‏ وعاد ولم يهدم دار سعيد وكتب سعيد إلى معاوية‏:‏ العجب مما صنع أمير المؤمنين بنا في قرابتنا‏!‏ إنه يضغّن بعضنا على بعض فأمير المؤمنين في حلمه وصبره على ما يكره من الأخبثين وعفوه وإدخاله القطيعة بيننا والشحناء وتوارث الأولاد ذلك فوالله لو لم نكن أولاد أب واحد لما جمعنا الله عليه من نصرة أمير المؤمنين الخليفة المظلوم واجتماع كلمتنا لكان حقًا على أمير المؤمنين أن يرعى ذلك‏.‏ فكتب إليه معاوية يعتذر من ذلك ويتنصل وأنه عائد إلى أحسن ما يعهده).الذى حمل معاوية على هذا السقوط الأخلاقى مع ركنى دولته هو تخطيطه للتوريث . وربما لم يفطن مروان و سعيد بن العاص لما يعده معاوية على مهل .

4 ـ الذى فهم غرض معاوية ولعب به وعليه هو المغيرة بن أبى شعبة.

نحن الآن مع المغيرة قبيل عام 50 تقريبا، وهو العام الذى توفى فيه، على أصح الروايات . ويبدو أن معاوية قد برم بالمغيرة لأنه لم ينجح فى ولايته على الكوفة فى استثارة حجر بن عدى وأصحابه وقتلهم . لذا أراد عزل المغيرة وتولية سعيد بن العاص مكانه . كان المغيرة فى آخر أيامه يريد الاستقرار واليا على الكوفة لا يتركها إلا بالموت . فعلم نية معاوية فى عزله عن الكوفة .قال المغيرة لأصحابه: (الرأي أن أشخص إلى معاوية فأستعفيه ليظهر للناس كراهتي للولاية‏). لذا بادر المغيرة بالذهاب الى دمشق ليخدع معاوية بآخر سهم فى جعبته . قال المغيرة لأصحابه حين وصل إليه‏:‏ (إن لم أكسبكم الآن ولاية وإمارة لا أفعل ذلك أبدًا‏). قبل أن يقابل معاوية ذهب المغيرة رأسا ليزيد بن معاوية ، وقال له‏:‏ ( إنه قد ذهب أعيان أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وآله وكبراء قريش وذوو أسنانهم وإنما بقي أبناؤهم ، وأنت من أفضلهم وأحسنهم رأيًا، ولا أدري ما يمنع أمير المؤمنين أن يعقد لك البيعة‏.‏ قال‏:‏ أوترى ذلك يتم؟ قال‏:‏ نعم‏‏) فوجىء يزيد بأن ما يحلم به وما يخطط له أبوه سرا يأتى المغيرة له ويشجعه عليه : (فدخل يزيد على أبيه ، وأخبره بما قال المغيرة ، فأحضر المغيرة وقال له : ما يقول يزيد ؟ فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين قد رأيت ما كان من سفك الدماء والاختلاف بعد عثمان ، وفي يزيد منك خلف، فاعقد له ، فإن حدث بك حادثٌ كان كهفًا للناس وخلفًا منك . ولا تسفك دماء ولا تكون فتنة‏.‏ قال‏:‏ ومن لي بهذا ؟ قال‏:‏ أكفيك أهل الكوفة ويكفيك زيادٌ أهل البصرة وليس بعد هذين المصرين أحد يخالفك‏.‏) المغيرة هنا أدخل نفسه مع معاوية فى التخطيط لتحقيق الحلم ، وبالتالى لم يعد بوسع معاوية التخلى عنه ، لذا : ( قال‏:‏ فارجع إلى عملك وتحدث مع من تثق إليه في ذلك وترى ونرى‏.‏ فودعه ورجع إلى أصحابه‏.‏) رجع منتصرا وهم فى انتظاره فى قلق : ( فقالوا‏:‏ مه ؟ قال‏:‏ لقد وضعت رجل معاوية في غرز بعيد الغاية على أمه محمد وفتقت عليهم فتقًا لا يرتق أبدًا ). أى إنه فى سبيل أن يبقى واليا على الكوفة عاما أو أكثر شجع معاوية على اتخاذ خطوة يعلم أنها ستزلزل المسلمين . وكله يهون ..فى سبيل الكرسى الملعون ..!

5 ـ ونعود للمغيرة بعد رجوعه للكوفة، فقد جهز وفدا من بنى أمية واتباعهم، وأرسلهم وفدا الى دمشق تحت قيادة ابنه موسى بن المغيرة ليطالبوا معاوية بأن يعهد لابنه بولاية العهد وتوارث الحكم . تقول الرواية : ( وسار المغيرة حتى قدم الكوفة وذاكر من يثق إليه ومن يعلم أنه شيعة لبني أمية أمر يزيد ، فأجابوا إلى بيعته ، فأوفد منهم عشرة ويقال أكثر من عشرة وأعطاهم ثلاثين ألف درهم ، وجعل عليهم ابنه موسى بن المغيرة ، وقدموا على معاوية ، فزينوا له بيعة يزيد ودعوه إلى عقدها‏.‏ فقال معاوية‏:‏ لا تعجلوا بإظهار هذا وكونوا على رأيكم‏.‏ ) أى أدخلهم معاوية فى مخططه للتوريث ، يتحركون وقت أن يريد . ثم اختلى بموسى بن المغيرة قائد الوفد وسأله : (‏:‏ بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم ؟! .قال‏:‏ بثلاثين ألفًا‏.‏ قال‏:‏ لقد هان عليهم دينهم‏.‏ .!! ).وهناك روايات أخرى تختلف فى التفاصيل ولكن تتفق فى اساسيات الموضوع وهو دور المغيرة فى تشجيع معاوية على التحرك العلنى نحو تحقيق حلمه بتوارث السلطة فى عقبه .

وفى عام 56 هجرية أعلن معاوية البيعة لابنه يزيد ، وأصبح التوريث ممكنا بعد قتل حجر بن عدى وارهاب الشيعة وشراء زعماء القبائل ومن بقى من الصحابة بالمال.

وبالتوريث نفهم ضرورة مقتل حجر .ولكن حجر لم يكن الضحية الوحيدة لتوريث يزيد بن معاوية . اشتعلت معارك و مذابح من كربلاء الى عين الوردة الى موقعة الحرة الى انتهاك حرمة الكعبة ..ولا زلنا ندفع الثمن..

ختاما :

ليس هذا الموضوع منقطع الصلة بالحاضر، خصوصا فى مصر الآن فى عهد حسنى مبارك، حيث يعيش المصريون والمهتمون بمصر فى قضية أو محنة التوريث.

نتحدث عن هذا فى الباب الثالث

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

(وعظ السلاطين من الخلفاء الفاسقين الى ( حسنى مبارك ) اللعين)
مقالات تمت كتابتها ونشرها قبيل الثورة على مبارك . وتم تجميعها فى هذا الكتاب فى فبراير 2016 .
more

اخبار متعلقة