بسم الله الرحمن الرحيم
كيف نفهم القرآن-3
هناك سلبيات ينبغي التخلص منها قبل الشروع في تدبر القرآن:
(1)أن تحمل الفرد آراؤه الشخصية على تفسير معاني آيات القرآن بأحد الأشكال التالية:
أ- صرف اللفظ عن ظاهره دون وجود قرينة توجب صرفه إلى معنى آخر.فمثلا يجب صرف (الاستواء) على العرش إلى معنى (الاستيلاء أوالسيطرة) لقرينة أن الله سبحانه ليس بجسم:(( ليس كمثله شيء)).
ب- حمل اللفظ القرآني على أحد احتماليه دون دليل. مثلا: يحمل "القرء" في قوله تعالى: ((وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْن بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ)) على الحيض دون الطهر (باعتبار أن القرء لفظة مشتركة بين الطهر والحيض) من دون أي دليل.
ج- التعسف في تأويل الآيات القرآنية، وسوف نضرب على ذلك بعض الأمثلة فيما بعد - إن شاء الله تعالى.
أما الأسباب الكامنة وراء هذا "التحريف المعنوي" الذي يأتي تلبية لآراء الفرد فهي:
أولا: الأهواء الشخصية للفرد
إن بعض من لم يدخل نور الإيمان قلوبهم يحاولون أن يخضعوا آيات القرآن لأهوائهم وشهواتهم، لذلك فهم يحاولون فهم الآيات القرآنية "بآرائهم الشخصية"- أي حسب أهوائهم وشهواتهم.
فقد كان هناك أحد الشواذ يقتطع جملة من القرآن لتبرير الشذوذ، وهي:
((... أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا)) ، فكان يستفيد من ذلك إباحة الزواج، وإباحة الشذوذ كذلك!
إن الآيات تقول: ((لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء، يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُور* أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا*)) وهي تعني أن الناس - تجاه إنجاب الذرية - على أربعة أقسام، فقسم لا يولد له إلا الإناث، وقسم لا يولد له إلا الذكور، وثالثٌ يولد له الاثنان معا، ورابعٌ لا يولد له أي واحد منهما، بل يظل عقيما.
ولكن هذا الشاذ اقتطع هذه الجملة من القرآن، وفصلها عن سياقها العام لكي يرضي أهواءه وشهواته.
والآن لنستمع إلى حوار بين هذا الشاذ والعالم في هذا الصدد، فقد سأل العالم عن قوله تعالى:
((أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا))، فأجاب العالم: "أي يولد له الذكور، ويولد له إناث. يقال لكل اثنين مقرنين: زوجان، كل واحد منهما زوج." وأضاف وهو يضرب على الوتر الحساس: "ومعاذ الله أن يكون الجليل /أي الله تعالى/ ما لبست به على نفسك، تطلب الرخص لارتكاب المآثم، ((وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْق أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيه مُهَانًا))،" واستدرك العالم قائلا: "إن لم يتب."
وهذا الشكل من التحريف لا تزال قطاعات من الأمة تعاني من آثاره السلبية حتى الآن، مثلا يفسرون قوله تعالى: ((وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة)) بأن على الفرد أن لا يعمل، ولا يجاهد، ولا يتحرك، لأن ذلك يعني "التهلكة" التي قد نهانا الله عنها. وقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُم لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُم)) بأن مسؤولية الفرد محصورة في إطار ذاته، ولا شأن له بالآخرين، فليذهب العالم كله إلى الجحيم! ليس ذلك مهما، المهم أن يحافظ الفرد على صومه وصلاته وبعض آخر من الواجبات الفردية وليس أكثر من ذلك، ويقول شاعرهم في ذلك:
وما بالي إذا نفسي تطاوعني على النجاة بمن قد ضل أم هلكا
ويفسرون "الصبر" الذي ورد الأمر به كثيراً في القرآن الكريم بأنه يعني: الخضوع للطواغيت، والاستسلام لهم، و"التقية" تعني الجمود والتوقف، و"التوكل" بأنه يعني: إيكال المسؤوليات إلى الله، والجلوس في زوايا البيوت دون أي عمل، و"الزهد" بأنه يعني: اعتزال الدنيا، وترك الفاسقين والكفار يمرحون فيها ويلعبون، وانتظار ثواب الله في الآخرة بدلا من ذلك، وهكذا... وهلم جرا.
إن القضية تبدأ بهوى يسعى خلفه الإنسان، وعلى مر الزمن يتحول هذا الهوى إلى رأي ونظرية، ثم يحاول الإنسان تطويع الدين ليأتي مؤيداً بل ومشجعاً على هذا الرأي.
ثانيا: المسبقات الفكرية المترسبة في عقلية الفرد
فهنالك كثيرون يقرأون القرآن وأدمغتهم مشحونة بالأفكار والرؤى والمفاهيم المسبقة والموروثات التي لا برهان عليها أو دليل، لذلك فهم لا يرون القرآن إلا من خلال أفكارهم، ولا يجدون في القرآن إلا ما يؤيد هذه الأفكار. تماماً كالذي يضع على عينيه نظارة سوداء، إنه يرى الأشياء بلون نظارته. وكذلك هؤلاء، فهم يرون آيات القرآن بلون المفاهيم القابعة في عقولهم. إنهم يحاولون فهم القرآن كما تقتضي اتجاهاتهم وأفكارهم، بديلا عن أن يكونوا تلامذة متواضعين بين يديه، إنهم يحاولون توجيه القرآن على حسب ما تقتضيه أفكارهم، بدلا من أن يحاولوا تهذيب أفكارهم على حسب ما تقتضيه مفاهيم القرآن الرفيعة.وهذا عين الخطأ.
ونجد في التاريخ الغابر، كما في التاريخ المعاصر: أمثلة كثيرة على ذلك، وأول ما نجده في هذا المجال هو: تفسير القرآن الكريم على حسب الأفكار العقائدية المسبقة، كما نلمس في أصحاب مذاهب من أمثال "الأشاعرة" أو "الباطنية" أو "الكرامية" أو غيرهم.
هذه الطوائف كانت تحمل آراء خاصة في الله و"صفاته الثبوتية" و"صفاته السلبية" وغير ذلك، وعندما اصطدمت عقائدها بالقرآن أخذت تفسر الآيات القرآنية على حسب آرائها السابقة..
ونجد كذلك تفسير آيات القرآن حسب "الفكر الصوفي" و"الذوق العرفاني" - بشكله المنحرف - والذي جاء من أجل تدعيم أفكار هذين الاتجاهين، وإعطائهما صبغة شرعية. فمثلا، باعتبار أن مذهب بعض (العرفاء) هو "وحدة الوجود" لذلك فهم يفسرون قول هارون (عليه السلام) لأخيه موسى (عليه السلام): ((يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي))، يفسرونه بأن موسى (عليه السلام) بعد أن عاد من الطور، ورأى قومه قد عبدوا العجل، عاتب أخاه هارون (عليه السلام) قائلا له: "لماذا لا تدع الناس يعبدون العجل؟ ألا تعلم أن الله سبحانه يحب أن يعبد في أية صورة كان المعبود؟"!!
وكذلك - أيضا - يفسر بعض العرفاء قوله تعالى: ((اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى)) بأن المقصود من "فرعون" ليس شخصاً معيناً، بل المقصود به "القلب القاسي"، وهذه الآية تشير إلى مجاهدة هذا القلب.
وهنالك - أيضاً - تفسير القرآن الكريم حسب "الفكر المادي"، والذي حدث متأثراً بالفترة التي أخذت الحضارة الغربية تخطو فيها خطوات واسعة في المجالات العلمية والتكنولوجية، مما أبهر بريقها عيون بعض المسلمين. هؤلاء أخذوا يفسرون القرآن بطريقة خاصة، ترك الاتجاه المادي بصماته واضحة عليها.
فالملائكة والجن والشياطين فسروها بـ" القوى الطبيعية" التي تسيّر الإنسان والكون، ومعاجز الأنبياء أخذت تُعطى مدلولات جديدة، وتفسر بشكل جديد، وهكذا...
إن كل هذه الأنواع من التلاعب بمعاني القرآن الكريم، وتوجيه الآيات القرآنية على حسب الأفكار العقائدية المسبقة أو الأفكار الصوفية والعرفانية أو الاتجاهات المادية، كل هذه تعتبر من أنواع "التفسير بالرأي الشخصي" المرفوض ..
أما السلبية الثانية فهي:
(2)التسرع في تفسير الآيات القرآنية على حسب ما يظهر للفرد في بادئ الرأي، ووفق ما توحي إليه ظنونه الأولية من دون الاستيقان والتأكد ومن دون الرجوع إلى سائر الآيات الواردة في ذلك الموضوع.
فهو يفسر القرآن ببعض الظنون النيئة التي لم تنضج بعد، رغم قوله تعالى: ((إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا)) - كما يؤكده القرآن الكريم.
ومما يجدر ذكره في هذا المجال أن امرأة على عهد عمر بن الخطاب كانت تمارس الجنس مع مملوكها، وهذا بالطبع أمر محرم في نظر الإسلام، فذُكر ذلك لعمر، فأمر أن يُؤتى بها، ولما جاءت، سألها: "ما حملك على ذلك؟" فقالت: "تأولت آية من كتاب الله، وهي: ((وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُون إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُم))." وفي بعض الروايات: "كنت أراه يحل لي بملك يميني كما تحل للرجل المرأة بملك اليمين."
ومن هذا القبيل أن يقرأ الإنسان قوله تعالى: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)) فيتصور الله جسما قد تربع على عرشه العظيم.
إن هذا الشكل من الفهم المتسرع للآيات القرآنية - على حسب ما يقتضيه الظن والتخمين، وبعض الاستحسانات العقلية - هو ما ننهى عنه..
السلبية الثالثة هي:
(3) محاولة فهم آيات القرآن الكريم المرتبطة بالأحكام والآيات المتشابهة وما شابه بعيداً عن تفسيرات علماء معتبرين ومشهود لهم بالنزاهة، وبدون توفير قاعدة علمية رصينة تؤهل الإنسان للاستنباط. ولا يعني ذلك وصاية أحد من العلماء علينا،فلدينا العقل الذي يحول دون ذلك.ولا يعني ذلك أن أقضي قرنا في توفير أدوات علمية للتفسير:مثل اللغة و النحو والبلاغة والمقاصد التشريعية...إلخ.
[[إذاًً هناك سلبيات يجب طرحها جانبا عند محاولة فهم القرآن]]:
*** تفسير القرآن بالآراء الشخصية، وذلك بقسْمَيْه: تفسير القرآن بالهوى، وتفسير القرآن بالمسبقات الفكرية،والموروثات العقائدية.
*** تفسير القرآن بالظن، أي دون الوصول إلى اليقين.
*** تفسير القرآن بفهم مستغنٍ عن عقول يعتد بها، أو بدون امتلاك الأدوات العلمية الكافية للاستنباط.ونكرر: أن ذلك في حالة آيات الأحكام والآيات المتشابهة.
اجمالي القراءات
14992