استنطاق الكتب غير تكديسها!

اضيف الخبر في يوم الجمعة ٢١ - يونيو - ٢٠٢٤ ١٢:٠٠ صباحاً. نقلا عن: الجزيرة


استنطاق الكتب غير تكديسها!

يبحث الإنسان عن المعنى، يغويه التحرر من براثن السياقات الرجعية التي ربما يكتنفها الغموض وتتسم بالترهل أو تعجز عن تفسير ما حوله؛ لاكتشاف سياقات جديدة تخدم آفاقه وتضعها في مساحات أوسع، أو ربما يستهويه التغريد خارج السرب.
مقالات متعلقة :

يعكف على مجالس التأمل والتبصر زاهدا في المطامع والمغانم، فارا من ضيق الواقع إلى رحابة الخيال، ومن رتابة الحياة إلى تغيّرات الأفكار والوجدان؛ فيجد في الكتب ضالته وأنسه، أين تتنوع المعاني وتتعدد الأفكار والتوجهات وتتسع المساحات، في حين يتحد الجذر والأصل في لغة الحرف بين ألف وياء.

ستستوقفنا أحيانا كثيرة قراءة "جملة" أو حتى "كلمة"، وسنسرح معها في ألف فكرة، سنعيد قراءة بعض الفصول مرات عديدة، وقد نضيف الكتاب إلى قائمة الكتب التي أثرت في تكوين عقولنا وأرواحنا ونعيد قراءتها من وقت لآخر

تفكرت كثيرا في كتبي في محاولة لإدراك الوثبة العلمية التي عشناها دون أن ندرك تفاصيلها، كيف ومتى صنعت الثورة العلمية هذا الفرق المعرفي؟ ففي وقتنا الحالي، هناك ملايين الكتب المتاحة للقراءة، مع توفر وسائل لا حصر لها لاقتناء الكتب؛ من مواقع ومنصات مهمة تتيح للقراء متابعة كل جديد من الكتب على اختلاف مجالاتها ولغاتها.

بالإضافة إلى وفرة المكتبات الرقمية وسبل البيع والتوزيع الميسرة والمتاحة للجميع للحصول على النسخ ورقية كانت أو إلكترونية أو حتى صوتية، بطريقة ما كان يمكن أن نحلم بها قبل سنوات خلت. وتلك واحدة من الحسنات الكثيرة التي لا يمكن تجاهلها أو إنكارها.

الذي جعل من الندم على عدم قراءة كتاب ما شيئا من الماضي. نحن، نختار الكتاب الذي نرغب في قراءته بناء على تفضيلاتنا الشخصية؛ سواء كنا نفضل الروايات أو كتب التقنية أو الفلسفية أو العلمية أو السياسية أو الاجتماع. في نهاية المطاف، نحن نختار الكتب التي تدخل المتعة إلى قلوبنا لأنها تتماشى مع ذائقتنا الشخصية، ولا أعتقد أن هناك ما يجبر أحدا على قراءة ما لا يريده إلا في حالات نادرة جدا يمكن تجاوزها لاحقا.

في عالم القراءة، لا يوجد كتاب صعب المنال طالما لدينا الاستعدادات اللازمة لقراءته. كيف يمكننا بفعل بسيط كالقراءة الاستمتاع بالتعرف على "القمم" الفكرية التي وصل إليها بعض البشر. ستستوقفنا أحيانا كثيرة قراءة "جملة" أو حتى "كلمة"، وسنسرح معها في ألف فكرة، سنعيد قراءة بعض الفصول مرات عديدة، وقد نضيف الكتاب إلى قائمة الكتب التي أثرت في تكوين عقولنا وأرواحنا ونعيد قراءتها من وقت لآخر، كما نفعل مع مسرحيات شكسبير أو بعض روائع عصر النهضة أو كتابات كبار الأدباء.

إعلان

AD
تكديس الكتب ينشر وهم المعرفة، والذي بدوره يرسخ دين النقاش الهمجي والاعتداء اللفظي والانقياد بغير وعي، في حين أن العلم الحقيقي أثمن وأنفس، يضفي على صاحبه مسحة من الأدب والتواضع والرصانة

القراءة هي في النهاية سعي نحو الكمال الذي نراه في الآخرين وليس في أنفسنا. إنها متعة بشرية هادفة تنطوي على التوق والطهر؛ التوق لاكتشاف عوالم جديدة لم نتمكن من تجربتها بشكل مباشر لأن الوصول إليها ماديا غير متاح، لذلك يكون البديل المعقول هو اكتشافها رمزيا من خلال القراءة. أما طهرها فيأتي من أنك لا تسعى وراء مكافأة فورية من خلالها.

غير أن هذا الفيض والرغد المتاح لا يخلو من منغصات في الوقت ذاته، ولعل أهم تلك المنغصات أنه خلق نوعا من التهافت على تكديس الكتب وصفها على الرفوف والتملق بها بدل قراءتها والانتفاع منها، مما كون جيلا فارغا معرفيا، لا هو يستبين وضاعة قلة ما عنده من علم، ولا هو يجد في كثرة ما يملك من كتب همة تدفعه لقراءتها.

فتكديس الكتب ينشر وهم المعرفة، والذي بدوره يرسخ دين النقاش الهمجي والاعتداء اللفظي والانقياد بغير وعي، في حين أن العلم الحقيقي أثمن وأنفس، يضفي على صاحبه مسحة من الأدب والتواضع والرصانة، بالإضافة إلى الحلم وانتقاء اللفظ المناسب الذين يخدم المعنى الحق، وليس مجرد ابتياع الكتب وصفها على رفوف المكتبات، ويبقى العالم بما حوى أعقد من فهمه من مجرد امتلاك مكتبة فخمة أو تجميع كتب أو قراءة عنوان أو تقديم أو فهرسة.

ثم إن المفهوم الرائج للقراءة كفعل يعتريه لبس كبير، فينبغي بدءا أن ينظر المرء إلى فعل القراءة كعملية منهجية لا كمهنة تدر عليك أجرا؛ فالقراءة فعالية تكافئ نفسها بنفسها تساميا وانتشاء، ومتعة روحية عميقة، ونقلا للروح البشرية إلى مرتقيات جديدة، وتحصيلا لخبرات أكبر من أن يحوزها فرد واحد في حياة واحدة. ولا كهواية أو تعداد ما يتم التهامه من كتب؛ فقراءة أي كتاب بداية توجب أن يعد كاتبه مرجعا معتمدا في طرح المادة التي حررها، وأن يتمحور الكتاب على مادة ذات قيمة معرفية مهمة، وذات إيقاع رصين منساب في المسار المطلوب لها.

ولعلي في هذا السياق أشير إلى مثال ممتاز عن الكتب العالمية ذات البصمة التحريرية المميزة والتي ساهم في إخراجها كتاب أعلام كل بارع في ميدانه: سلسلة "كتاب كامبردج المرجعي" في شتى الفروع المعرفية، وأرى السلسلة مثالا راقيا للأنموذج الذي يجب أن تكون عليها الكتب المحررة الرصينة.

إعلان

AD


إن الكتب ثروتنا البشرية التي لن تفنى إلا بفنائنا، ومشكاة يخرج من بين طياتها حروف تسري بين الناس كالأنوار يستضاء بها، تستحق شرف القراءة الجادة من القارئ المجيد

كما أن القراءة لا تقتصر على المعنى الضيق المتعارف عليه -قراءة كتب فحسب-، بل هي استنطاق لكل ما حولنا، فأمره عز وجل {اقرأ} نزل على رجل أمي، لكن قراءته -عليه الصلاة والسلام-كانت قراءة تأملية، في الخلق، في النفس والكون، قراءة معرفة بنفوس وسيكولوجيات الناس، قراءة تجارب وخبرات، انتصار وانكسار، قبول ورفض، حرب وسلم، قراءة في وجوه الفقراء وفي تسبيح الطير والشجر.

قراءة تغيير أوضاع مجتمع مختلة موازينه، قراءة صنع جيل كامل يسعى ليؤدي رسالته، ليكون خليفة الله على الأرض، قراءة لاستكمال أطوارنا، لحلقتنا المفقودة بين خلق الله. فإذا لم تجد هذه المعاني طريقها لسلوكنا مع فعل القراءة، وبقيت الأخلاق والتأملات حبيسة الكتب تُروى ولا تَروِي، فستتحول رسالتنا على الأرض شيئا فشيئا إلى آثار متحفية بدل أن تكون نورا نهتدي به ونستقيم عليه.

إن الكتب ثروتنا البشرية التي لن تفنى إلا بفنائنا، ومشكاة يخرج من بين طياتها حروف تسري بين الناس كالأنوار يستضاء بها، تستحق شرف القراءة الجادة من القارئ المجيد، أما القراءة فمسؤولية تترتب على عاتقها أقسى التبعات؛ "فكل زيادة في العلم هي زيادة في التكليف".

أما من ينتظر ادعاء العلم من خلال تجميع الكتب وتكديسها، وافتقر للصبر على القراءة وللرغبة الصادقة في الفهم وأخذ العلم الحقيقي وظن أن القشور المتناثر من خواطر المتأخرين ونفحات المعاصرين تغني عن جوهر ما تحتويه الكتب في مجالاتها المختلفة والمتشابكة، فمثله كمثل الذي ابتغى الوصول لغايته عابرا الصحراء بدون وسيلة تعينه ولا دليل يرشده، مفتقرا إلى المنهج وخرائط الطريق، ويخدع نفسه بقوله أنفقت فيما ينفع وأحسنت الانتقاء. لذا عليه ألا يتوقع نيل شيء من هذا الطريق المرتجى.
اجمالي القراءات 393
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق