جلال أمين يكتب : أشكال وألوان من التدين
فى الدين الواحد، توجد أشكال وألوان من التدين. الإسلام واحد، ولكن التدين الإسلامى يختلف من عصر إلى عصر، ومن شخص لآخر. ونفس القول ينطبق على كل الأديان الأخرى.
دين محمد عبده هو نفسه دين تلميذه رشيد رضا، ونفس دين حسن البنا وسيد قطب.. إلخ، ولكن تدين كل واحد من هؤلاء يختلف عن تدين الآخرين.
وينطبق نفس الشىء أيضا على المعانى التى يفهمها الناس من التعبير الواحد، فالتعبير الذى يعبر به المرء عن إيمانه وتقواه، قد يقترن فى ذهنه بمعان تختلف عما يقترن به فى أذهان الآخرين. الجميع يقولون مثلا «إن شاء الله»، والنطق بهذه العبارة يعبر على نحو أو آخر عن تدين قائلها، ولكن لاحظت أن المقصود بها قد يختلف من شخص لآخر، فقد يريد قائلها أن يعبر عن اعتقاده بأن الأمر ليس فى يده بل فى يد الله تعالى، ولكن شخصا آخر قد يقصد به مجرد التسويف، أو التهرب من إعطاء إجابة محددة.. إلخ.
لهذا أصارح القارئ بأنى لم أسترح قط لعبارة مثل «تجديد الإسلام» أو «الإسلام المستنير» فالإسلام لا يتجدد وإنما الذى يتجدد تفسير الناس له وما يفهمونه منه، ومن ثم فالمقصود هو تجديد التدين، أى طريقة فهم الدين. أما الاستنارة أو عدمها فهى وصف لشخص معين أو لتفسيره للدين وليس للدين نفسه.
ليس هناك أى شىء غريب فى هذا، فالدين إلهى والتدين نشاط بشرى. الصلاة فرض إلهى، ولكن استخدام الميكروفون لإذاعتها أو عدم استخدامه قرار بشرى. ومن المؤسف أننا كثيرا ما نعامل القرارات البشرية فيما يتعلق بالدين وكأنها أوامر إلهية، فنسىء إلى الدين والدنيا فى نفس الوقت.
تواردت علىَّ هذه الأفكار وأنا أتلقى الأخبار عما طرأ على العلاقة بين المسلمين والأقباط من توتر، منذ حدوث جريمة الإسكندرية ليلة رأس السنة الحالية عندما قام شخص أو أشخاص بتفجير قنبلة قتلت وجرحت عددا كبيرا من الأقباط الخارجين من الكنيسة بعد أداة الصلاة فيها، ثم ما لوحظ من استقطاب غير مبرر بين المسلمين والأقباط حول قول نعم أو لا فى الاستفتاء الأخير، ثم ما حدث بعد الاستفتاء من حرق كنيسة فى أطفيح، ثم الاعتداء البشع على مدرس قبطى فى قنا.. إلخ، حيث جرى كل هذا باسم الدين.
استدعت هذه الأحداث إلى ذهنى ما كان يعنيه «التدين» فى نظر رجل عظيم هو الزعيم الهندى المهاتما غاندى، فى النصف الأول من القرن الماضى، وقد راح هذا الرجل العظيم ضحية مفهومه الرائع للتدين، إذ قتله رجل يدين بنفس دينه، ولكنه كان «متدينا» بشكل مختلف تماما.
خلال الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين، تفجر فى الهند صراع بين الغالبية التى تدين بالهندوسية، وبين الأقلية المسلمة، وكانت النسبة بينهما نحو ثلاثة إلى واحد، أى كان عدد المسلمين نحو ربع إجمالى الهنود. كانت القضية الأساسية للهند فى ذلك الوقت هى التحرر من الحكم البريطانى، ولكن المسلمين كانوا يطمحون أيضا إلى إنشاء دولة مستقلة لهم، عندما يتم جلاء الإنجليز عن الهند.
كانت مطالبة المسلمين بدولة مستقلة تقسم الحركة الوطنية الهندية قسمين، وتضعف جهود المناضلين ضد الإنجليز، وكان هناك ما يدل على أن الإنجليز كانوا يشجعون هذا الانقسام بين الهندوس والمسلمين طبقا للسياسة المعروفة «فرق تسد» ولكن المهاتما غاندى كانت لديه أسباب أخرى، أكثر أهمية فى نظره، لكراهية انفصال المسلمين عن الهندوس، ولمعارضة تقسيم الهند إلى دولتين.
كان غاندى ينظر إلى تقسيم الهند على أساس دينى، على أنه نوع من «الكفر»، وكانت الدعوة إلى هذا التقسيم تصيبه بالحيرة وكأنها شىء لا يمكن أن يقبله العقل.
كان يصف هذه الدعوة بأنها «قول باطل» (Untruth)، وقد كتب أحد الكتاب الهنود فى ترجمته لحياة غاندى أنك لا تجد فى قاموس غاندى اللغوى كلمة أقوى من هذه الكلمة: «باطل».
لقد ناقش غاندى ما تعنيه كلمة الوطنية أو الولاء للوطن، ولم يجد فى اختلاف الدين علاقة بهذا الولاء، كما أنه لم ير الاختلاف فى الدين متطابقا مع اختلاف الثقافة. كتب غاندى مرة:
«إن مسلما من البنغال يتكلم بنفس اللسان الذى يتكلم به بنغالى هندوسى، وهما يأكلان نفس الطعام، ويرتديان نفس الزى ويرفهان عن نفسيهما بنفس وسائل الترفيه.. إن اسم السيد جنه (Jennah) (زعيم الجامعة الإسلامية فى الهند) يمكن أن يكون اسم رجل هندوسى، وعندما قابلته لأول مرة، لم أكن أعلم أنه مسلم.. وحتى مع اختلاف الدين، وبفرض اختلاف الثقافة، أين هو التعارض فى المصالح فى أمور مثل الإنتاج والصناعة والصحة وإقامة العدل؟ إن الفوارق توجد فقط فى العادات الدينية وممارسة الشعائر، وهى أمور لا تتدخل فيها الدولة المدنية..».
فعل غاندى كل ما يستطيع لمنع الانقسام فى الحركة الوطنية على أساس دينى، فلما رأى استمرار هذا الانقسام، انحصر جهده فى منع استخدام العنف من أى جانب ضد الجانب الآخر. كان غاندى يتمتع باحترام غير معهود من كلا الجانبين، مما جعل مجرد تعبيره عن الاستياء من أن يتقاتل الهندوس والمسلمون، كافيا لتخفيف حدة التوتر.
فإذا اشتدت الفتنة أعلن أنه سوف يبدأ صياما حتى الموت ما لم تتوقف أعمال العنف من الجانبين. وكان هذا الإعلان عن صيام غاندى كافيا دائما لإيقاف هذه الأعمال. كان يحدث أثناء أعمال العنف أن يلقى المسلمون باللوم على الهندوس، ويلقى الهندوس باللوم على «البلطجية» (Hooligans) فإذا بغاندى يلقى بالسؤال: «ومن هم هؤلاء الذين تسمونهم بالبلطجية؟ إنكم أنتم أيها المتعلمون الذين تصنعونهم، بنشركم ثقافة الكراهية».
تفجرت الفتنة من جديد بين الهندوس والمسلمين، فى يوليو 1946، عندما قام الحاكم الإنجليزى بتكليف نهرو بتشكيل الحكومة. طلب نهرو من جنه (زعيم الجامعة الإسلامية) الاشتراك معه فى تأليف الحكومة فرفض، احتجاجا على ما سماه «محاولة الحزب الفاشى الهندوسى، بمعونة البريطانيين، إخضاع المسلمين والأقليات الهندية الأخرى».
فانفجرت أعمال العنف والقتل المتبادل، كان ضحيتها فى مدينة كالكتا وحدها، خلال أربعة أيام، خمسة آلاف من القتلى وأكثر من خمسة عشر ألف مصاب.
وتكررت المأساة فى مناطق أخرى من الهند، إذ أخذ المسلمون فى قرية بعد أخرى، ينتقمون من الهندوس لما فعلوه بالمسلمين فى قرى أخرى، أعلن غاندى أنه إذا لم يتوقف العنف فى الحال، وبدون تدخل الشرطة، بل باقتناع داخلى من كلا الطرفين بأن ما يفعلونه شر محض، سوف يبدأ صياما حتى الموت. قال غاندى إن على الأغلبية الهندوسية أن تشعر بالندم على ما فعلت وأن تكفر عن سيئاتها، وعلى الأقلية المسلمة أن تصفح وتبدى استعدادها لبدء صفحة جديدة. وكانت النتيجة المدهشة أنه بمجرد أن أعلن غاندى عن عزمه الصيام، توقفت أعمال العنف فى الحال.
عندما عاد العنف من جديد خلال السنة التالية، أصيب غاندى بحالة من الحزن الشديد والحيرة، استولى عليه الشعور بأنه فشل فى تحقيق أمله. لقد عمل طوال حياته من أجل أن تصبح الهند قدوة للعالم فى مناهضة العنف، فهل كان أسلوبه لتحقيق هذا الهدف أسلوبا خاطئا؟ هل كان الناس الذين يعلنون اقتناعهم بما يقول، يقولون شيئا مختلفا عما تجيش به صدورهم فى الحقيقة؟
عندما أعلنت الحكومة البريطانية استقلال الهند فى 15 أغسطس 1947، وكان المتوقع أن تعم الهند مظاهر الفرح والابتهاج، لم يخف غاندى أن شعوره أبعد ما يكون عن الفرح. ها هو اليوم الذى طالما اشتاق إليه وعمل من أجله، يحل دون أن يبعث فى نفسه أى بهجة، فالهند لم تكسب حريتها إلا بثمن باهظ هو فقدان وحدتها. وهو شعور يشبه بشدة شعورنا فى مصر عندما حل محل البهجة التى أثارها سقوط نظام مبارك، الوجوم والقلق الشديد لدى وقوع أحداث الفتنة الأخيرة.
سرعان ما عادت أعمال العنف والتقتيل فى الهند من جديد، إذ شرعت الأغلبية الدينية فى كل منطقة فى التنكيل بالأقلية المنتمية للدين الآخر، وأسرعت الأقليات الدينية بالهرب فى فزع شديد، من المنطقة التى تعرف أنها سوف تقع فى قبضة سلطة من دين آخر.
قرر غاندى أن يذهب إلى مدينة من أكثر مدن الهند تعرضا للعنف، واختار أن يقيم فى منزل عامل مسلم فى حى من المدينة كان يعتبر من أقل أحيائها أمانا لسكانه من المسلمين. وخطب غاندى فى سكان المدينة يدعوهم إلى نبذ الكراهية والعنف، فإذا بخطبته تحدث فى الناس ما يحدثه السحر، وإذا بالشباب الهندوسى والمسلم يتجمعون فى الشوارع فى وئام تام للاحتفال بالاستقلال، وكتبت جريدة التايمز البريطانية «إن الكلمات التى صدرت من غاندى كان لها من الأثر ما لا يمكن أن تحدثه عدة فرق من الشرطة أو الجيش».
ولكن هذه التطورات السعيدة كانت تخفى وراءها نهاية مأساوية. كان أول إنذار بهذه النهاية التعسة انفجار قنبلة فى مساء 20 يناير 1948 على بعد أمتار قليلة من المكان الذى كان يقف فيه غاندى لتأدية صلاة جماعية.
وبعد عشرة أيام (فى مساء 30 يناير 1948) خرج غاندى من بيته قاصدا مكان الصلاة وهو يستند بذراعيه على حفيدتى أخته واخترق غاندى جمعا من نحو خمسمائة شخص جاءوا للصلاة معه، فوسعوا له الطريق، وهبّ بعضهم واقفا وانحنى آخرون احتراما له، فاعتذر لهم عن تأخره بضع دقائق عن موعد الصلاة، وإذا برجل يتقدم من بين الصفوف، وينحنى لغاندى وكأنه يريد أن يلمس قدميه، ثم أخرج من جيبه مسدسا أطلق منه ثلاث رصاصات أودت بحياة غاندى فى الحال.
كان القاتل هندوسيا كارها لما كان يقوم به غاندى من حض الهندوس على حسن معاملة المسلمين.
اجمالي القراءات
4254
وها هو اليوم مصطلح الدين والتدين يجد طريقه إلى أقلام الكتاب ..
وهذا يعد قفزة نوعية في انتشار الفكر القرآني وإن لم يعترف ويعرف مرددوه بذلك ..