د.سمير غطاس يرصد موقف اليمين المصري والإسرائيلي من «أنابوليس»:
أثار اجتماع «أنابوليس» ردود فعل واسعة النطاق سبقت انعقاده ثم تواصلت بعده وهي مرشحة أيضاً للاستمرار في المستقبل المنظور، هو أمر منطقي له مبرارته المفهومة.
وتدعونا الأمانة الموضوعية إلي رؤية وتحليل ردود الفعل علي هذا الاجتماع المهم علي جانبي المتراس سواء في إسرائيل كما في مصر.
ليس فقط من أجل المزيد من المعرفة، ولكن أيضاً من أجل اكتشاف مسألتين علي قدر كبير من الخطورة والأهمية، المسألة الأولي منهما تتعلق باكتشاف مدي التماثل الواسع في حقوق معسكر اليمين الإسرائيلي الصهيوني والديني، ومعسكر اليمين في مصر بتياراته ورموزه أما المسألة الثانية فهي تتعلق بضرورة الكشف عن هذا المنهج الملتوي، الذي دأب بعض الكتاب «الكبار» علي اعتماده في الاستشهاد بفقرات مجتزئة من مقالات بعينها مما يصدر في الصحافة الإسرائيلية، وتسويقها للقارئ المصري علي أنها حجة أو برهان لا يأيته الباطل من يمينه أو يساره.
ومن المفارقات المدهشة التي كشف عنها الشأن الأنابوليسي، أن يتماثل إلي كل هذا الحد موقف اليمين الإسرائيلي مع مواقف اليمين الفلسطيني، والمصري.
فعلي الجانب الإسرائيلي، كانت شراذم المتدينين اليهود قد توجهت إلي حائط المبكي عشية اجتماع أنابوليس، يقودها عدد من الحاخامات المتعصبين، وهناك ابتهلوا إلي الله كيما يصب جام غضبه علي رئيس الوزراء أولمرت وحكومته، بدعوي أنه ذاهب إلي اجتماع أنابوليس ليقدم التنازلات للفلسطينيين.
ومن جهة أخري كان المستوطنون قد تظاهروا بدورهم أمام منزل أولمرت في القدس المحتلة وهتفوا ضده ونعتوه بالخائن.
وفي غزة، كان المشايخ من أئمة المساجد التابعة لحماس قد اقتفوا أثر الحاخامات، محفلت خطب الجمعة باستمطار اللعنات علي رؤوس جماعة أنابوليس، وسيرت حماس المظاهرات التي هتفت ضد أبومازن، بدعوي أنه ذاهب لأنابوليس للتوقيع علي صك تنازل لإسرائيل.
وكان أحد قادة حماس في غزة قد صرح بأن أنابوليس هي أخطر من وعد بلفور؟! ووجد هذا التصريح صداه في مصر فكتبت عدة صحف مقالات نارية بعنوان واحد تقريباً: «أنابوليس نكبة جديدة لفلسطين».
وقد يكون من الضرورة الإشارة هنا إلي بعض أوجه الخلاف والتمايز ما بين مواقف القوي السياسية في إسرائيل والقوي السياسية في مصر.
ففي إسرائيل تبدو مواقف المعسكرات السياسية أكثر تبلوراً ووضوحاً، وفيما عدا اتفاقها جميعاً علي عدد من المسائل الجوهرية: بقاء إسرائيل، والحفاظ علي الأمن، ورفض عودة اللاجئين الفلسطينيين إلي داخل إسرائيل، فإنه يمكن لأي مراقب فرز وتمييز مواقف اليمين في إسرائيل عن مواقف اليسار ومواقف المركز أو الوسط.
أما في مصر، فقد كان لنا، قبل إنشاء دولة إسرائيل نفسها، مثل هذا القدر من الوضوح والتمايز، لكن بعد تهشيم وتهميش النخب المصرية علي امتداد أكثر من خمسين عاماً، باتت المواقف السياسية أكثر سيولة والتباساً، وفي ظل تهافت الأحزاب والحياة الفكرية والثقافية، التحقت قوي التنوير المفترضة، كالذنب بمؤخرة الحركة الدينية والأصولية.
ولما كان الشعر أكثر بلاغة وقدرة علي الوصف وتكثيف المعني فقد استعرنا من قصيدة لمحمود درويش شطرة تشخص هذه الحالة: «لا يغيظني الأصوليون، فهم مؤمنون علي طريقتهم الخاصة، يغيظني أنصارهم العلمانيون وأنصارهم الملحدون الذين لا يؤمنون إلا بدين واحد: صورهم في التليفزيون».
(٢)
في شأن اليمين المصري، وقع اختيارنا علي نموذج الأستاذ فهمي هويدي، لماله من قدر وسعة انتشار ومريدين كثر في مصر وخارجها، ويعتبر الأستاذ هويدي في نظر البعض في غزة ناطقًا باسم حماس في مصر.
وللأستاذ هريدي مقال أسبوعي في الأهرام، دأب فيه بلا انقطاع علي الاستشهاد بقصاصات من مقالات بعينها تنشرها بعض الصحف الإسرائيلية، وهو مولع بشكل خاص بقص ولصق هذه المقاطع من صحيفة هاآرتس الإسرائيلية بالذات، ولا يعنينا هنا أبدًا مناقشة أفكار هويدي أو آرائه السياسية. لكن ما يعنينا حقًا هنا هو مراجعته علي مستوي الأمانة المهنية، خاصة بشأن دأبه هذا علي الاستشهاد الانتقائي لقصاصات من مقالات بعينها في الصحافة الإسرائيلية.
ويمكن إيجاز هذه المراجعة في النقاط التالية:
١ ـ أن الدأب الذي يظهره هويدي علي الاستشهاد بما يكتبه البعض في الصحافة الإسرائيلية يحمل في طياته خطرًا علي تربية القارئ المصري علي صدقية الصحافة الإسرائيلية كمصدر موثوق للمعلومات والرأي والتحليل.
ويمثل هذا النص عند هويدي خطأً منهجيا وتربويا، وليس معروفًا إن كان هويدي يدري أو لا يدري مدي خطورة إلحاحه شبه الأسبوعي علي تكريس مثل هذه المصداقية للصحافة الإسرائيلية في وعي وثقافة القارئ المصري.
ولا يوجد بالمقابل أي كاتب إسرائيلي يعتز كثيرًا بكتاباتهم الأستاذ هويدي، يسلك نفس فعلته هذه، والتي لا يمكن وصفها إلا بالسقطة المهنية المتكررة.
٢- إن الأستاذ فهمي هويدي يبدو مصابًا علي المستوي المهني أيضًا، بكل اعراض التحيز والانتقائية، فهو يقتطع فقط ما يروقه من عبارات بعينها، ومن مقال واحد، ومن صحيفة إسرائيلية واحدة في الغالب، ما يناسب موفقه وأرائه.
وهناك ملف جاهز موثق وكامل لمقالات الأستاذ هويدي المتخمة بمثل هذه الاستشهادات المتحيزة، التي تخل كثيرًا بالأمانة والموضوعية المهنية.
وكان الأستاذ هويدي، قد عاد في مقاله الأخير المنشور في الأهرام في ٤/١٢/٢٠٠٧ إلي ممارسة هذا التعاطي الخطير، واستشهد بفقرة من تقرير نشرته صحيفة هاآرتس الإسرائيلية يوم ٢٨/١١/٢٠٠٧، جاء فيه أن كونداليزايس وبخت أبو مازن علي مناوراته، فوقع صاغرًا علي بيان أنابوليس.
والأستاذ فهمي، كعادته، لم ينتق ويجتزأ فقط هذه الفقرة التي راقت له، وإنما دعانا جميعًا لتصديقها، بعد أن بصم هو علي صحة ما ورد بها.
ولا يعنيننا هنا كثيرًا أمر أبومازن، ولسنا هنا بصدد تقويم اجتماع أنابوليس، فكل ما يعنينا حقًا هو احترام عقل القارئ المصري، خاصة إذا ما استأثر كاتب مثل هويدي بالإلحاح علي تلقينه، أسبوعًا بعد الآخر، بأفكاره التي لا يجد ما يدعمها أفضل من الاستشهاد بهذه المقاطع الانتقائية المجتزأة من مقال واحد في الصحافة الإسرائيلية.
ولذا ندعو القارئ المصري لجولة أكثر أمانة وموضوعية للتعرف علي ما نشرته الصحافة الإسرائيلية، في نفس اليوم، الذي تعمد فيه هويدي انتقاء هذه الفقرة.
ففي يوم ٢٨/١١/٢٠٠٧ نشرت صحيفة يديعوت أحرونوت الأوسع انتشارًا في إسرائيل ما يلي: «وعبر خطاب أبو مازن عن تطلعات الحد الأقصي، ليس فقط بالنسبة للسلطة الفلسطينية بل للجامعة العربية بأسرها وهضبة الجولان أيضًا وحتي مزارع شبعا».
وفي نفس اليوم نشرت هاآرتس، ذات المسحة اليسارية ما يلي:
«اليمين في إسرائيل يعارض العملية السياسية مستعينًا بالعقيدة الدينية من دون أن يكون لديه بديل حقيقي لذلك، وسياسته تؤدي إلي تكريس الصراع للابد».
وفي نفس اليوم أيضاً نشرت صحيفة ثالثة هي «معاريف» الإسرائيلية ما يلي: «مرة أخري ثبت أن أبومازن وحكومته مستعدون فقط لأن يتلقوا ولكن لا يعطون شيئا بالمقابل».
وفقط من أجل المزيد من الإيضاح نستطرد في عرض بعض ما جاء في الصحافة الإسرائيلية في الأيام القليلة التي تلت يوم ٢٨/١١/٢٠٠٧ الذي انتقي فيه هويدي فقرة واحدة من الصحافة الإسرائيلية. ففي يوم ٢٩/١١ نشرت «هاآرتس»، المرجع المحبب إلي قلب هويدي، قسماً مطولاً من حديث خطير أجرته مع أولمرت عقب عودته من «أنابوليس» قال فيه بالنص: «إما قبول حل الدولتين وإلا إسرائيل منتهية».
وفي ٣٠/١١ قالت «معاريف»: «أولمرت سيخلي كل البؤر الاستيطانية غير القانونية ويجمد المستوطنات ويعيد الجيش إلي خطوط ما قبل ا لانتفاضة، وسيضطر لفعل أمور كثيرة أخري التزم بتنفيذها». وفي يوم ٢/١٢، كتبت «يديعوت آحرونوت» ما يلي: «أبومازن لن يقبل بإسرائيل كدولة يهودية، وأوضح أنه يرفض الخطوط الحمراء لإسرائيل».
ويمكننا أن نعرض بكل بسهولة، أمام القارئ المصري المزيد من مقتطفات الصحف الإسرائيلية التي تخالف الفقرة التي انتقاها هويدي في مقاله الأخير، وليس ذلك فقط وإنما ما يخالف ما دأب علي انتقائه من فقرات من الصحف الإسرائيلية في كل مقالاته السابقة.
والأمر يبدو واضحاً الآن، لأن الصحافة الإسرائيلية، شأن أي صحافة أخري، تحظي بهامش أوسع من حرية التعبير تحفل بالعديد من المقالات والآراء والتقارير المتعددة والمتباينة، ويمكن بالطبع بل يجوز، الاقتباس منها بغرض تحليل النص، وليس بقصد الاستشهاد بها كحجة أو كدليل كما دأب علي ذلك هويدي في أغلب مقالاته. حيث لا تقع عينه إلا علي ما يوافق هواه ولغوه.
ومن المهم هنا، أن نعود لنؤكد أنه لا يعنينا علي الأقل في هذا المقال، أن نراجع الاستاذ هويدي فيما يكتبه من آراء وأفكار، بل نحن هنا فقط نراجعه أمام القارئ فيما يعتبر بكل المعايير سقطة مهنية متكررة وإخلالاً بالأمانة والموضوعية، وهو ما قد يضيف المزيد من التشويه إلي حقل المعرفة والتشويش علي ما تبقي صامداً من وعي وعقل القارئ المصري المحشور دائماً ما بين شقي الرحا، حجب المعلومات من جهة، وتسويق رؤية مجتزأة وانتقائية من الصحافة الإسرائيلية من الجهة الثانية.
(٣)
خط واحد مشترك بين فهمي هويدي.. ويوسي بن أهارون:
ليست المصادفة وحدها هي من رتب مؤخراً نشر مقال فهمي هويدي في «الأهرام» يوم ٤/١٢/٢٠٠٧ ونشر مقال يوسي بن أهارون في «معاريف» في نفس اليوم، ثمة ما هو مشترك بينهما أكثر من هذه المصادفة. فكلاهما من أعمدة الفكر اليميني، ويشتركان في التعصب له إلي الحد الذي يخل بالأصول الموضوعية وبالأمانة المهنية للكاتب والصحفي.
ليست المصادفة وحدها هي من رتب نشر مقاليهما في نفس اليوم فقد توافق هويدي مع بن أهارون علي الكتابة في نفس الموضوع عن اجتماع «أنابوليس».
وتوافق هويدي وبن أهارون علي نفس العنوان تقريباً لمقال كل منهما، كان عنوان مقال هويدي: «هزمنا في أنابوليس». وكان عنوان مقال بن أهارون: «بيان خطير في أنابوليس».
والأهم من ذلك أيضاً أن يكشف لنا تحليل مضمون المقالين عن تشارك هويدي مع بن أهارون في منهج واحد يغلب عليه ليس التعصب فقط وإنما التعسف أيضاً في لي الحقائق وتزييفها.
وفيما يلي سنعقد مقارنة تحليلية لأهم ما جاء في مقال كل من هويدي وبن أهارون.
- هويدي رأي في مقاله: «أن أنابوليس يغلق الباب تماماً في وجه اللاجئين الفلسطينيين».
- وبالمقابل يري بن أهارون الإسرائيلي في مقاله: «أن أبومازن طرح علي جدول الأعمال مشكلة اللاجئين وحق العودة حتي قبل أن تبدأ المفاوضات».
- وقال هويدي: «إن حصيلة «أنابوليس» جاءت كارثية بالنسبة للفلسطينيين ومهينة للعرب أجمعين».
- بينما قال بن أهارون: «إن المضمون السياسي لبيان «أنابوليس» جاء بمثابة صفعة لدولة إسرائيل ومس بسيادتها».
- وقال هويدي في مقاله: «إن السلطة الفلسطينية تصبح ملزمة بإعلان حرب مفتوحة علي فصائل المقاومة».
- أما بن أهارون فقال في مقاله: «إن البيان يشير في فقرته الأولي إلي الرغبة الحازمة في مكافحة الإرهاب والتحريض سواء ما ينفذه الفلسطينيون أو الإسرائيليون. وإن لم تكن هذه صفعة لإسرائيل فما هي الصفعة إذن لدولة مثلنا».
- وقال الأستاذ هويدي لافض فوه: «إن القضية كلها ترتهن الآن للإرادة الأمريكية، وأن أي خلاف فلسطيني إسرائيلي صار أمريكياً أيضاً».
- أما قرينه الإسرائيلي بن أهارون فقال في مقال عن نفس النقطة: «إن التدخل الأمريكي سيوفر لهم - أي للفلسطينيين - المعاذير للتملص من المسؤولية».
ويضيف بن أهارون: «في سياق المسيرة التفاوضية سيطرح الأمريكيون مطالب لا ترغب إسرائيل ولا تستطيع الإيفاء بها، إن البند الذي ورد في بيان «أنابوليس» بأن تشكل آلية ثلاثية برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية وجه ضربة قاسية لمكانة إسرائيل كدولة سيادية».
هذا ما ورد بالنص في كل من مقالي هويدي في «الأهرام» وبن أهارون في معاريف في نفس اليوم ٤/١٢/٢٠٠٧، والسؤال المطروح علينا هنا، ليس من نصدق فيهما، وكل منهما يمثل نفس التيار اليميني، وكل منهما كتب عن نفس الموضوع وبنفس العنوان وفي نفس اليوم.. السؤال الذي نطرحه علي القارئ المصري اللبيب، هو: ماذا سيكون موقف الأستاذ فهمي هويدي ومريديه وبطانته، إذا ما نشر أي كاتب مصري آخر مقالاً اعتمد فيه، مثلما يفعل الأستاذ هويدي تماماً، علي الاستشهاد بما ورد في نص مقال بن أهارون هذا لدعم رأيه وأفكاره وموقفه.
هل يحق وقتها لهويدي، وهو المتعهد الأول لتسويق الروايات الإسرائيلية، أن يتهم مثل هذا الكاتب بأنه ينقل لنا ما يدسه الموساد في الصحافة الإسرائيلية، أم أنه يمكن، وقتها تجريس الأستاذ هويدي نفسه بهذه التهمة؟!
ما بين اليمين الإسرائيلي واليمين في مصر، وما بين هويدي وبن أهارون قواسم عديدة من المشتركات، خط واحد، ومنطلقات ذهنية واحدة، ومنهج متماثل ومشروع مجتمعي يؤبدنا في غياهب العصور الوسطي، ومقالات تزيف الوعي وتفتقد أصول الأمانة والموضوعية المهنية.
اجمالي القراءات
4807