ليت "أنابوليس" توقف مسلسل الفرص الضائعة
مع ظهور هذا المقال، ربما يكون مصير مؤتمر السلام في "أنابوليس"، قد حُسم فشلاً أو نجاحاً. وقد توقع له معظم المعلقين العرب، أو تمنوا له الفشل. ولكني من الأقلية التي تتمنى له النجاح. فالفشل مرة أخرى معناه عشر سنوات أخرى من الانتظار، تكون إسرائيل فيها قد ابتلعت معظم ما تبقى من الضفة الغربية.
إن الأغلبية التي توقعت الفشل للمؤتمر، تستند في توقعها إل سجل طويل من المحاولات الدولية السابقة، التي مُنيت بالفشل في تسوية هذا الصراع الممتد لأكثر من مائة عام. من ذلك ما حاولته سلطة الانتداب البريطاني نفسها، خلال ثلاثين عاماً (1917ـ 1948)، وهي نفسها التي بدأ الصراع مع إعلانها "وعد بلفور" (نوفمبر 1917) أثناء الحرب العالمية الأولى، لكي تحظى بتأييد الحركة الصهيونية الوليدة، ودعم يهود العالم لها في حربها ضد ألمانيا
وكان الوعد هو بالمساعدة في إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، حيث كانت لهم دولة قبل ألفي عام، وكانوا يتشوقون إلي بعثها من جديد! طبعاً أدرك البريطانيون بعد عدة سنوات أن وعد بلفور، بقدر ما لبي طموحات اليهود فإنه أغضب وأحبط الفلسطينيين، وأغضب العرب والمسلمين. فحاولوا التوفيق بين الأغلبية العربية الفلسطينية الأصلية (80%) والأقلية اليهودية الوافدة (20%)، وجاءت إلى فلسطين الانتداب عدة لجان بريطانية وأمريكية في سنوات الانتداب، واقترحت حلولاً، كان آخرها تقسيم أرض فلسطين، وإنشاء "دولة يهودية" على 51%، ودولة عربية فلسطينية على 49% من الأرض، وإبقاء القدس مدينة دولية، تحت إدارة دولية محايدة، وهو الاقتراح الذي أقرته منظمة الأمم المتحدة، وعُرف باسم "قرار التقسيم" في نوفمبر 1947، ورحب به اليهود، ورفضه الفلسطينيون، والدول العربية المتعاطفة معهم، ممثلة بجامعتهم العربية الوليدة (1945). ثم نفضت بريطانيا يدها من المشكلة ورحلت في 14 مايو 1948، فأعلن اليهود ميلاد دولتهم التي سموها "إسرائيل"، في نفس اليوم. وكانوا قد استعدوا لذلك خير استعداد.
واستغاثت الأغلبية الفلسطينية بالجامعة العربية، فلبّت هذه الأخيرة الاستغاثة بإعلان الحرب على إسرائيل في اليوم التالي، 15 مايو 1948 والتي استمرت سبعة شهور (إلى فبراير 1949)، خرجت منها إسرائيل منتصرة، حيث احتلت أجزاء إضافية إلى جانب ما كان قرار التقسيم قد قضي به.
وطردت إسرائيل الفلسطينيين من الأراضي التي احتلتها في تلك الحرب الأولى، ونشأت منذ ذلك الوقت "مشكلة اللاجئين الفلسطينيين"، الذين كانوا في البداية حوالي ثلاثمائة ألف. ومع استمرار الصراع والحروب، كانت إسرائيل تنتصر، وتحتل مزيداً من الأرض، وتطرد مزيداً من الفلسطينيين فيزيد عدد اللاجئين.
وتجلت المأساة في أن الفلسطينيين أصحاب الحق الأول، كانوا يرفضون التنازل عن هذا الحق أو المساومة فيه، دون أن تكون لديهم القوة التي تحميه، بينما كان الدخلاء اليهود الوافدون من شتى بقاع الأرض أكثر تنظيماً وثراء وقوة وطموحاً ومهارة.
فكانوا يرضون بالحلول التوفيقية إلى أن قامت دولتهم (1948)، ثم بعد ذلك بدأوا يتوسعون ويتشددون، حتى وصلوا الذروة، بعد انتصارهم الكاسح على الدول العربية المجاورة في حرب الأيام الستة، في يونيو 1967، حيث احتلت إسرائيل كل ما كان قد تبقى من أرض فلسطين، وأراض مصرية (سيناء)، وسورية (الجولان)، وأردنية (وادي عربة)، ولبنانية (مزارع شبعا). وكان ما كان بعدها من حروب لتحرير الأراضي الجديدة التي احتلتها إسرائيل. نجح بعضها في تحرير بعض الأرض... مثلاً في حرب أكتوبر 1973 ولبنان 2000، وفشل بعضها في تحرير أي شبر إضافي.
أيقن الرئيس المصري الراحل أنور السادات، الذي قاد مصر في حرب أكتوبر، والذي انتصر جزئياً، أن الحروب لن تحل هذا الصراع، الذي تحول بمرور الزمن إلى صراع "وجودي"، لن ينتصر فيه طرف على الآخر إلا بإبادته من الوجود.
ولما كان العالم، بمنظماته الدولية وقواه العظمى، لم يسمح بإبادة أي طرف لطرف أو أطراف أخرى، فلم يعد هناك من سبيل لإدارة الصراع أو تسويته إلا بالوسائل السلمية... أي على مائدة المفاوضات. ومن هنا كانت مبادرته السلمية، وزيارته التاريخية للقدس في نوفمبر 1977 ـ أي منذ ثلاثين عاماً، وبعد قرار التقسيم بثلاثين عاماً.
وارتضى السادات حلولاً توفيقية لما كان يخص مصر في هذا الصراع ـ وهو استعادة ما تبقى من أرض سيناء مقابل الاعتراف بإسرائيل، وتطبيع العلاقات معها. وغضب منه معظم الفلسطينيين والعرب في حينه، وقاطعوه، بل علقوا عضوية مصر في جامعة الدول العربية.
ولكن العقود الثلاثة التالية (1977-2007) شهدت ما يدل على أن الرئيس السادات كان أكثر حكمة وواقعية. وقد جادلت أنا نفسي الرئيس السادات على امتداد ثلاث ساعات، في حضور السيدة قرينته، جيهان، في استراحته بالمنتزه على شاطئ المتوسط بالإسكندرية، يوم 30 أغسطس عام 1981، أي قبل اغتياله بخمسة أسابيع.
وهو الذي لفت نظري إلى الفريق الآخر من الأنظمة العربية التي لا تريد حلاً توفيقياً للصراع العربي الإسرائيلي، حيث إن استمرار الصراع هو مبرر بقائهم في السلطة. وساق أدلة شتى على ذلك. ولم أصدق الرجل في حينه.
ولكن السنوات العشر التالية، أثبتت صواب رؤية السادات ـ أي أن الأنظمة الرافضة في ذلك الوقت كانت، لا تحارب ولا تسالم، وتفضل إبقاء الأوضاع على حالها، بما في ذلك استمرارها هي في السلطة، دون شريك، أو رقيب، أو حسيب، إلى أن تتحرر كل فلسطين، من البحر إلى "النهر"! أما متى يحدث ذلك، فإن الأنظمة الرافضة فليس لديها جواب، وعلم ذلك عند الله وحده.
إن آخر محاولة جادة لتسوية الصراع قبل أنابوليس الحالية، كانت منذ سبع سنوات، في "كامب دافيد"، والتي كان الرئيس الأمريكي السابق "بيل كلينتون" هو الوسيط فيها، بين الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، ورئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك.
ورغم أن تلك المفاوضات التي امتدت عدة أسابيع تزامنت مع فترة سجني الأول (صيف عام 2000)، إلا أنني كنت أتابعها من زنزانتي، من خلال راديو، سمحت لي به إدارة سجن طره. كنت أتابع، مفاوضات 2000 وفي ذهني حديثي مع الرئيس السادات في صيف 1981 وآخر كتبي عن تاريخ ذلك الصراع بعنوان "علم النكبات العربية"، الذي صدر قبل عدة شهور من دخولي السجن (في أواخر 1999)، واستعرضت فيه تتابع الخسائر أو الهزائم والنكبات العربية في فلسطين، وبسبب فلسطين. ومن متابعة التفاصيل، التي نقلتها إذاعتا لندن ومونت كارلو، عن مبادرة كلينتون وقتها كان من رأيي أن يقبلها الفلسطينيون على الفور، ثم يفاوضون فيها بعد على ما هو أفضل منها.
وكتبت سلسلة من الرسائل إلى ياسر عرفات، نجحت في تسريبها من السجن، ونشرتها بعد ذلك صحيفتا "الوطن" السعودية، و"وطني" المصرية، أرجو فيها ياسر عرفات أن يقبل تلك المبادرة، وإلا سيضيع على الفلسطينيين عشر سنوات أخرى، ومزيد من الأراضي الفلسطينية، على نحو ما حدث تباعاً طوال قرن من الزمان، من الرفض والخسائر والنكبات!
وكلنا يعرف بقية القصة بعد رفض مبادرة كلينتون. تجمدت جهود التسوية، وزاد انقسام الفلسطينيين مع صعود حركة "حماس" الأكثر رفضاً لكل شيء، وحارب الفلسطينيون في "حماس" الفلسطينيين في "فتح"، وطردوا أنصار هذه الأخيرة من قطاع غزة. وبادلهم أنصار فتح الإساءة بعشرة أمثالها، فحاصروا، ولاحقوا، وضيقوا على أنصار حماس في الضفة الغربية. وأصبحت هناك "سلطة فلسطينية"، مُعترف بها دولياً، في الضفة الغربية، يرأسها محمود عباس، وأخرى في غزة يرأسها إسماعيل هنية ولا يعترف بها إلا إيران وسوريا.
أي أن مسلسل النكبات الفلسطينية استمر بعد رفض مبادرة كلينتون عام 2000، هذا فضلاً عن نكبات عربية أخرى في العراق، والسودان (دارفور)، ولبنان، والصومال.
إن أحد جوانب المأساة الفلسطينية والعربية الأخرى، هو أننا في كل مرة نرفض عرضاً، نندم عليه بعد ذلك. ثم نرفض ما يليه من عروض، لأنها أقل مما كنا قد رفضناه قبل سنوات. لذلك فإنني أتمنى أن يكون الرئيس الفلسطيني محمود عباس، أكثر حكمة هذه المرة (2007) ولا يقع في نفس خطأ الرئيس عرفات (2000)، برفض مبادرة الرئيس بوش، والتي ربما تكون أقل مما كان معروضاً على الفلسطينيين في كامب دافيد.
إن الخبرة التاريخية تقتضي إعمال الحكمة السياسية، التي تقول "خُذ ما يعرض عليك، ثم طالب بعد ذلك بالمزيد".
إن بعض من يتوقعون فشل "أنابوليس"، يقولون إن ثلاثي جورج بوش، وإيهود أولمرت، ومحمود عباس، أضعف من ثلاثي بيل كلينتون وإيهود باراك وياسر عرفات قبل سبع سنوات. وهو بالقطع أضعف من ثلاثي كامب دافيد الأولى (1977)، جيمي كارتر ـ أنور السادات ـ مناحم بيجن. وبسبب هذا الضعف لن يتوصلوا إلى تسوية، وحتى إذا توصلوا، فلن يستطيعوا تنفيذها على أرض الواقع.
وقد يكون هذا كله صحيحاً. ولكن السؤال هو: ما البديل؟ فليس هناك بديل سلمي آخر. طبعاً هناك بديل الحرب عربياً، أو استئناف الكفاح المسلح فلسطينياً. ولا يبدو لي في الوقت الحاضر، أو المستقبل المنظور أن أيا من الدول العربية تفكر في شن حرب علي إسرائيل من أجل الفلسطينيين. كما لا يبدو لي أن الكفاح المسلح الفلسطيني وارد ضد إسرائيل بشكل يتجاوز "صواريخ القسّام"، المحدودة المدى والأذى، والتي لم تحرر أرضاً إلى تاريخه. وما رأيناه من عمل فلسطيني مسلح وجاد مؤخراً، كان موجهاً، لا ضد إسرائيل، ولكن ضد فلسطينيين آخرين ـ على نحو ما حدث في غزة في الصيف الماضي (2007).
لقد توجهت من السجن برجاء عام 2000 لياسر عرفات بأن يقبل مبادرة كلينتون في كامب دافيد ولم يفعل. وها أنا، أتوجه من المنفى عام 2007، إلى محمود عباس أن يقبل مبادرة جورج بوش في أنابوليس. فليفعل، لعل وعسى يكون في ذلك إيذان بوقف مسلسل الفرص الضائعة، ومسلسل النكبات العربية. لقد ضاع على العرب ستة عقود، قفزت فيها معظم دول العالم قفزات هائلة إلى الأمام، من الهند والصين، إلى أوروبا والأرجنتين غرباً.
لقد تخلفنا بسبب الرفض، وتقدم الآخرون بسبب "القبول". فلندع لثلاثي أنابوليس، رغم ضعفه، بالنجاح. وكما يذهب أحد الأقوال المأثورة "قد يضع الله سره في أضعف خلقه". أمين.
اجمالي القراءات
12652
أنا أكلمك من فلسطين .صدقني لن تحل هذه القضية إلا على قاعدة(win-win situation ) . أي الكل رابح.
وهذا لن يحدث إلا إذا تنازل كل طرف عن معتقدات ايديولوجية قديمة.
تحياتي