كيف تكون ليبرالياً مسلماً؟

د. شاكر النابلسي Ýí 2010-12-20


-1-

 نالت الليبرالية في العالم العربي ذماً وقدحاً أكثر مما ناله أي توجه سياسي، أو اجتماعي، أو ديني. والسبب أن الليبرالية متعددة ومختلفة، ومن الصعب على الأصوليين الدينيين والسياسيين على السواء، فهمها من زاوية حصرية واحدة. فكما سبق وقلنا في كُتبنا (الليبراليون الجُدد)، و (العرب بين الليبرالية والأصولية الدينية)، و (الليبرالية السعودية بين الوهم والحقيقة)، و (الحداثة والليبرالية معاً على الطريق)، وغيرها من ال&szlلكتب، إضافة إلى عشرات المقالات التي كتبناها عن الليبرالية في الشرق والغرب، فإن الليبرالية مفهومٌ مرنٌ ومتشعبُ المعاني والأهداف.

-2-

استهجن "القوم" قول المفكر السعودي إبراهيم البليهي عندما سُئل، فقال:

-      أنا ليبرالي مسلم.

فهاج "القوم"، وماجوا، وقالوا كيف يكون المسلم ليبرالياً؟! فالليبرالية هي الإباحية، وهي الكفر، وهي الزندقة، وهي (الفلتان) الأخلاقي..الخ.

فجاء ردنا:

لا تعريف عاماً لليبرالية، إلا إذا خصصنا السؤال، وقلنا ما هي الليبرالية الأمريكية، أو الفرنسية، أو الألمانية، أو المصرية، أو المغربية.. الخ. كما يجب تخصيص الفترة، لأن الليبرالية كأي مفهوم إنساني، تتغير وتتبدل من فترة زمنية لأخرى. فما نعتقد اليوم بأنه قيمة ليبرالية، ربما لن يصبح غداً كذلك، أو بعد قرن أو قرنين من الزمان.
إن كل ليبرالية تأخذ مواد تكوينها الأولية من الوطن الذي تنبت فيه. لذا، فإن من يهاجم الليبرالية، ويرميها بأقذع الأوصاف، هو كمن يحارب طواحين الهواء، أو يحارب أشباحاً لا وجود لها، وهو لا شك مخطئ علمياً. فليست هناك ليبرالية سيئة وليبرالية جيدة، أو ليبرالية مؤمنة بدين، وليبرالية كافرة بدين آخر. ونحن –الأصوليين - في الشرق العربي، ننظر إلى ليبرالية الغرب نظرة توجس، وحذر، وخوف.

 فلماذا كل هذا؟

إن الليبرالية الغربية للغرب، وليست لنا. والليبرالية المسلمة لنا وليست لهم. والغرب لم ولن يُجيّش الجيوش لكي يفرض علينا ليبراليته، كما فعلنا نحن زمن الفتوحات!

-3-

وأكبر الظن، أن الأصوليين الدينيين والسياسيين، استقوا أفكارهم حول الليبرالية، مما كتبه الغربيون، وخاصة ما كتبه الفيلسوف الفرنسي جان بودريار في كتابه (المصطنَع والاصطناع (Simulacres et Simulation . ولكنهم لم يدركوا أن بودريار كان يتحدث عن الليبرالية الغربية الجديدة، وليس عن الليبرالية العربية أو الإسلامية. وأن أهمية نقد بودريار لليبرالية الغربية الجديدة، يتأتى من كون بودريار ينتقد هذه الليبرالية من داخلها وليس من خارجها، كما نفعل نحن حين ننتقد الليبرالية الغربية الجديدة، ونتحدث عنها من خارجها.

إذن، فهم يتحدثون عن الليبرالية عن غير علم، وعن غير معرفة. وحديثهم عنها بهذا الشكل، لا يتعدى أن يكون حديثاً سياسياً كيدياً، أو خطاباً دينياً متعصباً.

 -4-

في الأسبوع الماضي، أكد بعض المعاني السابقة، الليبرالي السعودي عبد الرحمن الراشد مقالاً (ذموا الليبرالية كما تحبون) ("الشرق الأوسط"، 17/12/2010) قال فيه:

"الليبرالية مفهوم إنساني بسيط، يؤمن بحرية الاختيار فقط، وهذه الحرية تضيق وتتسع وفق رؤية كل فرد.. فإن اختارت الأغلبية أن تكون محافظة، فهذا حقها وخيارها، وإن فضلت العكس، فالأمر لها. لهذا تسمح هولندا بتدخين الحشيش، في حين تسجن الشرطة البريطانية من يتعاطاه. فحرية الفرد مقيدة في النهاية باختيار الجماعة، فإذا كانت أغلبية المجتمع محافظة، فخيارها هو الذي يسود. لهذا فالليبراليون، من الناحية النظرية، أقرب الناس إلى الجميع، حيث يفترض أنهم يؤمنون بحق الإسلاميين، والشيوعيين، والقوميين، والمحافظين الاجتماعيين."

ونحن نزيد على هذا بالقول إن الليبرالية – بكل بساطة – هي الحرية في إطار العقد الاجتماعي، والسياسي، والديني، للفضاء الذي نعيش فيه.

-4-

الليبرالي الإسلامي السعودي، يوسف أبا الخيل، كان جزاؤه على ليبراليته الإسلامية، إهدار دمه بفتوى دينية، صدرت في 14/3/2008  من الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك. وطلب البراك محاكمته مع زميله الليبرالي الآخر عبد الله بن بجاد العتيبي. فإذا لم يرجع أبا الخيل عن أقواله "وجب قتله مرتداً، فلا يُغسل، ولا يُكفَّن، ولا يصلى عليه، ولا يرثه المسلمون." وقد أيّد فتوى الشيخ البراك، عشرون من المشايخ والأكاديميين منهم: عبد الله بن الجبرين ، وعبد العزيز بن عبد الله الراجحي، وفهد بن سليمان القاضي وغيرهم. بينما أصدرت مجموعة من الليبراليين السعوديين بياناً تضامنياًًً،  (لا للتكفير.. نعم لحرية التعبير، 31/3/2008). ورفضاً للفتوى، التي قالوا إنها تهدد السلم الاجتماعي السعودي.

ولم يرجع أبا الخيل عن أقواله. وكان أبا الخيل، قد كتب مقالا قال فيه: "إن الإسلام لا يُكفِّر مَن لا يَدِين به، إلا إذا حال بين الناس وبين مُمارسة حرية العقيدة التي يَدينون بها."

وأبا الخيل، من الذين يرفضون مقارنة الليبرالية بأية أصول مذهبية، لأنها لا تلتقي والتمذهب من وجهة نظره أبداً. ويقول "أن الليبرالية نشأت في أساسها ضد التمحور حول المذاهب."

-5-

ولكن الجمال والحق في ليبرالية يوسف أبا الخيل الإسلامية، يتجلّيان في فهمه للنصوص المقدسة، وكيفية التعامل مع هذه النصوص تاريخياً وليس من فوق التاريخ. ففي مناقشته لآراء جمال البنا الفقهية، بخصوص الحجاب والمرأة، والتي أثارت زوابع كثيرة في العالمين العربي والإسلامي، أخذ أبا الخيل بتاريخية النصوص الفقهية، ومحدودية واقعها التاريخي، وقال بشجاعة الفقهاء العقلانيين، الذين لا يفسرون النصوص المقدسة من فوق التاريخ، ولكن من خلاله، ومن داخله، وعلّق على هذه الآراء بقوله في مقاله ("الإحيائية الفقهية الجديدة"، جريدة "الرياض"، 8/4/2006):

" إن هذه النصوص - كما هو مقطوع به لدى كافة طوائف المسلمين - محدودة ومحصورة بواقع تاريخي محدد بنوازله ووقائعه. وهي حقيقة مُعبَّرٌ عنها لدى كافة تلك الطوائف بشعار: ندرة النصوص، ولانهائية الحاجات والوقائع الجديدة. ولم تكن ثمة وسيلة للتعامل مع الوقائع، التي استجدت بعد انقطاع الوحي غير تفعيل المَلَكة العقلية، حيال استنباط ما يمكن أن تُكيّف به تلك الوقائع المستجدة. وهذه المَلَكة العقلية قُيِّدت على مرِّ تاريخ التشريع الإسلامي، بتحديد مجالات عمل العقل الإسلامي، وعلى رأسها تدشين "آلية القياس على أصل سابق"، من قبل الإمام محمد بن إدريس الشافعي (150 – 204هـ). وهي الآلية التي يتطلب تفعيلها البحث في أصل من أصول التشريع، لاستنتاج علَّة الحكم فيه، ليتمكن الفقيه المجتهد على ضوء ذلك، من إلحاق حكم الفرع بحكم ذلك الأصل بجامع العلِّة بينهما. وقد عرَّف المتكلمون من المسلمين (أصحاب مذاهب علم الكلام) القياس بأنه " قياس الغائب على الشاهد."

ويضيف أبا الخيل مفسراً، وشارحاً:

 "فالشاهد هنا، هو الوقائع الجديدة. أما الغائب فهي الأصول، التي حملت أحكام التشريع لوقائع معينة، مرتبطة تاريخياً بزمنها. والأحكام المُنتَجة بواسطة القياس ليست شيئاً غير الفقه. وبالتالي، فهذا الفقه، بصفته استنباطاً من الأدلة بقياس الفروع على الأصول، ليس هو الشريعة نفسها، بل هو اجتهاد بشري، داخل حدود الشريعة. والأحكام المستنبطة بواسطة الاجتهاد، اعتماداً على آلية القياس، لا تعتبر أحكاماً قطعية، بل هي أحكام ظنيّة فقط. إذ أن الحكم القطعي الذي لا يسوَّغ الخلاف فيه، هو الحكم الذي جاء به الأصل (المقيس عليه) ، خاصة إذا كان قطعي الدلالة والثبوت. أما المقيس، وهو الفرع، فلا يعدو حكمه أن يكون ظنيّاً، لان الفقيه عندما يستخدم القياس، لا يستطيع الجزم بعلة الحكم في الأصل المقيس عليه."

 -6-

نستخلص من هذا كله:

1-      أن هذه الآراء في الأحكام الشرعية، هي لبُّ الليبرالية الإسلامية، التي تتأسس الآن في السعودية بقواعد مكينة، ترتكز على العلم، والمعرفة، واستعمال العقل في طرح المسائل. وهي كما وصفها  -حقاً - أبا الخيل، هي "الاحيائية الفقهية الجديدة".

2-      أن النصوص المقدسة، يجب أن تُفسَّر ضمن سياقاتها التاريخية، وليس خارج هذه السياقات. وتفسير النصوص المقدسة ضمن سياقاتها التاريخية، يُظهر منها "المقاصدية"، التي نستطيع توظيفها في مختلف مظاهر وسلوكيات الحياة المعاصرة. وتلك ركن أساسي من أركان التأويل الليبرالي للنصوص المقدسة.

3-      تمَّ تقييد المَلَكة العقلية على مرِّ تاريخ التشريع الإسلامي، بتحديد مجالات عمل العقل الإسلامي. ويتطلب تفعيل هذه المَلَكة، البحث في أصل من أصول التشريع، لاستنتاج علَّة الحكم فيه، ليتمكن الفقيه المجتهد على ضوء ذلك، من إلحاق حكم الفرع بحكم ذلك الأصل، بجامع العلِّة بينهما.

4-      إن الفقه ليس هو الشريعة، ولكنه اجتهاد بشري. إنه استنباط من الشريعة. والأحكام الفقهية ليست قطعية، ولكنها ظنيّة فقط.

وهذه الإحيائيات الفقهية السعودية الجديدة، تأسيس على تأسيس للإحيائيات الفقهية التي قال بها محمد عبده، وعلي ومصطفى عبد الرازق، وأمين الخولي، وخالد محمد خالد، وغيرهم من المصلحين الليبراليين في مصر. كما قال بها الطاهر حداد، والطاهر بن عاشور، وابنه محمد الفاضل بن عاشور، وشدد عليها فيما بعد العفيف الأخضر، ومحمد وعبد المجيد الشرفي، ومحمد حداد، وهشام جعيط، في تونس. وهي كلها تصب في نهر الليبرالية الفكرية المتدفق، تحت صخور السلفية والأصولية الدينية.

السلام عليكم.

 

اجمالي القراءات 10483

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
التعليقات (2)
1   تعليق بواسطة   محمد عبدالرحمن محمد     في   الثلاثاء ٢١ - ديسمبر - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً
[54013]

وهل ننسى صاحب الاحيائية في أواخر القرن الماضي واوئل القرن الحالي ؟؟


 الدكتور شاكر النابلسي . ليبرالي عربي مخلص وعنيد . يصارع الأوصوليات العربية دينية وسياسية عتيدة .
 عرض بايجاز وانجاز مفهوم الليبرالية  كفكرانساني ورط هذا العرض بفهوم المفكرين السعوديين  يوسف أبو الخيل  وعبدالرحمن الراشد في هذا العصر من أوائل القرن الحادي والعشرين .
 وأنا أٌول أن القريشيي الجدد في مأزق شديد بعد أن كاناجدادهم في حكومة قريش السالفو  قبل بعثة الرسول محمد بين ظهرانييهم فقد فاجأهم الليبرالي القديم ( زيد بن عمرو) وزمرته ورقة بن نوفل وعثمان بن الحويرث أمية بن أبي الصلت وغيرهم ممن اعتنقوا الفكر الليبرالي الذي قادهم الى ترك الوثنية واعتناق النصرانية .. !
إلا ( زيد بن عمرو) فلم يعتنق النصرانية وظل يبحث عن ملة ابراهيم وهو قريشي حجازي وليبرالي عتيد قديم  ظل يشاكس حكومة قريش وقتها ويواجههم بأخطائهم الاجتماعية والعقائدية  والظلم الاجتماعي البين . الخ .
 وهذا سوف أبو الخيل الليبرالي القرشي الجديد خير سلف لخير خلف زيد ابن عمرو ..  وكذلك عبدالرحمن الراشد..
 دكتور شارك لقد ذكرت . الشيخ محمد عبد كمفكر ليبرالي ديني مصري في أوئال القرن العشرين . ولماذا لم تذكر الدكتور صبحي منصور كمفكر ليبرالي ومجدد في الفكر الديني والفقه الاسلامي المعاصر في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الواحد والعشرين وإن كان سهوا منك فنحن نرد الحق والفضل لأهله ونذكرهم بكل تقدير واعزاز.   

2   تعليق بواسطة   لطفية سعيد     في   الثلاثاء ٢١ - ديسمبر - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً
[54028]

عصر الفتوى والمفتي الكشكول

.صدقت يا أستاذ شاكرفي " إن الفقيه ليس هو الشريعة ولكنه اجتهاد بشري وهو استنباط من الشريعة ، والأحكام ليست قطعية ولكنها ظنية .." فإذا كان لكل عصر ما يميزه فإن هذا العصر قد تميز بكثرة الفتوى ولا أدري  هل يعيش هؤلاء في فراغ ولا يجدون ما يملأ فراغهم إلا الفتاوى !!  أم هي سياسة الإلهاء متبعة ؟ أم هو المفتي الكشكول  الذي يفتي في كل الأمور وهو لا يدري معظمها ! ولا يقول كما يقول القدامىالفقهاء  :  من قال لا أدري فقد أفتى ..


أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2007-01-16
مقالات منشورة : 334
اجمالي القراءات : 3,453,654
تعليقات له : 0
تعليقات عليه : 361
بلد الميلاد : الاردن
بلد الاقامة : الولايات المتحدة