بعض المنشور فى مجلة ( سطور) (3 ) قصص تاريخية من مصر الطولونية

آحمد صبحي منصور Ýí 2019-02-27


بعض المنشور فى مجلة ( سطور) (3 ) قصص تاريخية من مصر الطولونية

 )شريعة التجسس فى دولة أحمد بن طولون ( 254 : 270)

لمحة فى تطبيق الشريعة السنية فى الدولة الطولونية   

المزيد مثل هذا المقال :

مقدمة 
  1 ـ الدولة العباسية كانت دولة دينية سنية ، واليها انتمى معظم العالم الاسلامى وقتها ـ ما عدا فترة الحكم الشيعى فى الدولة الفاطمية وفترات أخرى متفرقة. واليها أيضا انتمت الدول التى استقلت ذاتيا وسياسيا عن السلطة العباسية فى بغداد مثل الدولة الطولونية فى مصر و الشام . كل أولئك الحكام من خلفاء وولاة طبقوا الشريعة السنية بمفهوم الاستبداد وحق الحاكم فى فعل أى شىء باسم الشرع ، حتى لو كان متغلبا على الحكم ـ بالمصطلح الفقهى ـ أى كان ثائرا نجح بالقوة والغلبة فى السيطرة على الحكم .  ومن أولئك الذين تغلبوا على الحكم كان الوالى احمد بن طولون. والواقع إنه أكثر حاكم تلمح فى تاريخه بعض ملامح الاستقامة والعدل ، بحيث يصلح أن يكون نموذجا فى العصور الوسطى لما يسمى بالمستبد العادل ،إذا صحّ وجود هذا الصنف من البشر حتى فى العصور الوسطى عصور الاستبداد والظلم والدولة الدينية والحروب الدينية والاضطهادات الدينية و المحاكمات الدينية .

2 ـ ونتوقف هنا مع لمحة من تطبيق أحمد بن طولون فى تطبيقه للشريعة السنية ، فى مجال تفرّد فيه وتفوق ، وهو فنّ التجسس أبان صراعه مع الموفق العباسى أخ الخليفة ( المغلوب على أمره ) المعتمد على الله العباسى ، ولقد سيطر الموفق على أخيه المعتمد ، ودارت حرب علنية وخفية بين الموفق العباسى وابن طولون ، كان التجسس أبرز ملامحها. ونعطى بعض التفصيلات :

أولا : الغلمان الأتراك يحكمون الخلافة العباسية

1 ـ  من الآثار السيئة للخليفة المتوكل العباسى ( 232 : 247 هجرية ) أنه استقدم الأتراك ليحلوا فى الجيش العباسى محل العرب والفرس ، وكانت النتيجة أن تحكم القواد الأتراك فى الخلافة العباسية ، يقتلون خلفاءها ، وكان المتوكل أول ضحاياهم. لم يقتصر الأمر على ذلك بل استطاع قواد من الأتراك حكم بعض الولايات ، وكان منهم أحمد بن طولون ( 254 : 270 ) الذى قام بتكوين الدولة الطولونية فى مصر و الشام ودخل فى حروب مع الخلافة العباسية.

2 ـ  على أن الدولة العباسية في فترة ضعفها وتراخي قبضتها على الولايات قد اهتمت أكثر بتوزيع السلطة في الولايات بين أكثر من شخص وجعلت كل واحد منهم عينا على الآخر ، وذلك حتى لا يستطيع أحدهم أن يستأثر وحده بالحكم ويستقل بالولاية، وتلك الطريقة أدت إلى تفوق الحرب السرية القائمة على التجسس والمكائد. وقد جربت الدولة العباسية خبرتها في حرب التجسس مع ابن طولون حين انفرد بحكم مصر، ولكن كان ابن طولون أكثر خبرة في حرب الذكاء والتجسس ، ونتتبع طرفا من مباراة التجسس بين ابن طولون في مصر والموفق العباسي في بغداد.   

ثانيا : المسرح السياسي بين بغداد والفسطاط 

1 ـ  في ذلك الوقت كانت مقاليد الحكم في الخلافة العباسية فى يد أبي أحمد الموفق طلحة الذي جعل أخاه الخليفة المعتمد علي الله لا يملك شيئا في الخلافة إلا مجرد الاسم
. وقد اضطر الخليفة المعتمد إلى تقسيم الإشراف على الدولة العباسية بين أخيه الموفق وابنه المفوض ، فتولى الموفق حكم القسم الشرقي في الدولة العباسية ، وكان المفوض مشرفا على القسم الغربي ومنه مصر . وبينما تمتع القسم الغربي بالهدوء والثروة كان الموفق يعاني من ثورة الزنج في القسم الشرقي ويدخل في حروب متتالية ولا يفي الدخل لتمويل تلك المعارك ، فأرسل الموفق رسالة إلي أحمد بن طولون الذي يحكم مصر – أهم ولايات القسم الغربى – لكي يرسل المدد من الأموال ، وبعث إليه ابن طولون بمليون ومائتي ألف دينار ، ولكن استقل الموفق ذلك المبلغ فأرسل إلي ابن طولون بخطاب شديد اللهجة ورد عليه ابن طولون بالتي هي أسوأ.

2 ـ  وبذلك بدأت الحرب العلنية بين ابن طولون والموفق المسيطر على الخلافة العباسية.. وقبل هذا الموقف العلني كانت الحرب السرية – حرب الذكاء والتجسس قد بدأت بين الفريقين واستمرت تغلف الحرب العلنية بينهما.   
ثالثا 
حرب التجسس بين الموفق العباسى وأحمد بن طولون 

1 ـ كان الموفق يطمع في السيطرة على كل الولايات وخصوصا مصر ، وكان أخوه الخليفة المعتمد المسلوب الإرادة يتمنى فشل أخيه الموفق ، لذلك كانت الصلة وثيقة بين المعتمد وابن طولون ، وكانت المراسلات السرية هي السبيل المتاح للطرفين من وراء الموفق الذي وضع العيون والجواسيس حول أخيه في البلاط العباسي ، كما زرع مصر بالجواسيس لتأليب القواد ضد ابن طولون .

2 ـ  وحكاية المعونة المالية التي طلبها الموفق من ابن طولون للمساعدة في حرب الدولة العباسية ضد حركة الزنج – هذه الحكاية ليست إلا ستارا للحرب السرية بين الموفق وابن طولون. والقصة الحقيقية هي رغبة الموفق في الاحاطة بأخبار ابن طولون في مصر بعد أن استطاع ابن طولون توطيد نفوذه فيها وطرد عامل الخراج وعامل البريد ، وبعد موافقة الخليفة المعتمد على أن يستأثر ابن طولون بحكمها . ورأي الموفق أن نجاح ابن طولون في مصر يعتبر نجاحا لأخيه الخليفة الذي ليس له من الخلافة إلا الاسم فقط ، لذلك أرسل (نحرير) خادم الخليفة المتوكل – الخليفة الأسبق ـ والهدف المعلن هو طلب معونة للدولة العباسية في حروبها ضد الثائر العلوي وحركة الزنج ، أما المهمة السرية فهي إيصال خطابات من الموفق إلي القادة الذين يحيطون بابن طولون ليقتلوه ، ومن قتله فله حكم مصر بدلا منه.

3 ـ  وكانت تلك المهمة السرية قد أحيطت بأعلى درجات الكتمان حتى أن "أصحاب الأخبار" أو الجبهة التجسسية التي زرعها ابن طولون في البلاط العباسي وفي بغداد لم تعلم عنها شيئا. والذي علم بها هو الخليفة المعتمد نفسه عن طريق ندمائه وغلمانه وجواريه ، فأسرع يرسل إلي صديقه ابن طولون سرا يخبره بحقيقة المهمة التي جاء من أجلها ( نحرير) ، فأسرع ابن طولون باتخاذ الإجراءات المناسبة . وفي وسط الاحتفالات الهائلة التي أقامها لتكريم مبعوث الخلافة العباسية استطاع عملاء ابن طولون نسخ الرسائل السرية التي كانت في حوزته ، ومن خلال الترحيب الهائل بالسيد (نحرير) تم منعه من مغادرة القصر أو الاتصال بأي أحد ماعدا أصحاب الأخبار(أو مباحث أمن الدولة ) التابعين لابن طولون
. وبعد أن جمع له ابن طولون الأموال بالتمام والكمال قام بتوصيله حتى العريش في موكب فخم وأشهد عليه باستلام الأموال ثم ودعه . وعاد إلى الفسطاط ووضع العيون حول القادة الذين كانت لهم رسائل في حوزة (نحرير) يرى رد الفعل لديهم، وقد تحققت الشكوك في بعضهم فاعتقله أو أعدمه ، وكان منهم بدر الخفيفي وابن عيسى الصفدي ،وكانا من كبار أصحابه المتمتعين بثقته.

4 ـ  ومع أن ابن طولون بعث للموفق بكل ما طلبه من الأموال إلا أن الموفق غضب لأن ابن طولون أفشل المهمة الحقيقية لمبعوثه ( نحرير)  . وهنا تحولت الخصومة السرية إلى حرب علنية ، وانعكست على حرب التجسس بينهما فأصبحت أكثر شراسة وإثارة.
رابعا
جهاز ابن طولون السري 

1 ـ وكان لابن طولون جهازه السري داخل مصر وخارجها.

2 ـ  وجهازه السري في مصر يستحق مقالا مطولا ، ولكن نكتفي بإشارة سريعة لنرى كيف أحكم قبضته على مصر وكيف أرسي سدا منيعا ضد محاولات الاختراق المستمرة لغريمه الموفق العباسي. كان ابن طولون يدرك أن جهاز الحكم الذي يحكم به مصر إنما هم في الأصل عملاء للدولة العباسية مثله تماما في البداية، وإنه إذا كان قد استطاع أن يستخلص مصر لنفسه فإن رفاقه من القادة يشعرون بأنه متمرد، وكل منهم يطمع في أن يتخلص منه لتعينه الدولة واليا شرعيا مكانه . وبالإضافة للقادة العسكريين فهناك الكتاب الذين يقومون بالأعمال الإدارية والحسابية، وأولئك أيضا وافدون من البلاط العباسي وولاؤهم للموفق قد يغلب ولاءهم لابن طولون ، لذلك كان حذر ابن طولون من المحيطين به شديدا ، وكانت مراقبته لهم طيلة الليل والنهار، فلم يكن أحد ليخرج من مصر إلا بإذن أو تصريح أو جواز سفر. وقد حدث أن أرسل وفدا منهم إلى البلاط العباسي ليمدحوا ابن طولون ويشكروا سيرته في الحكم ، فأرسل مع الوفد فريقا من " أصحاب الأخبار " من حيث لا يعلمون ، وكان أصحاب الأخبار يحصون على رجال الوفد أنفاسهم ، ثم عادوا بتقرير مفصل لابن طولون جعله يطمئن إلي حسن أداء الوفد لمهمته .

3 ـ إلا أنه لم يطمئن أبدا إلي أحد من أعوانه ، ولا يتسامح مع خطأ لأحدهم مهما بلغت مكانته عنده . فابن الواسطي الكاتب كان اقرب المقربين إليه ، حتى أنه كان يضربه بيده ليعلمه كما يفعل بأولاده ، وقد غضب عليه ابن طولون مرة فطرده من العمل فألقى الواسطي بنفسه أمام القصر يلازمه ليل نهار ولا يأكل ولا يشرب ولا يجرؤ أحد على الاقتراب منه خوفا من " أصحاب الأخبار" . وكانت أخباره تصل لابن طولون أولا بأول ، وفي النهاية استدعاه ابن طولون ورضي عنه .

4 ـ  وأحد المقربين إلي ابن طولون حكى أنه انصرف من عنده ليلا بعد عمل مرهق وأثناء خروجه من القصر غلبه النوم فألقى بنفسه في زقاق مظلم داخل القصر ونام ، واستيقظ ففوجيء بابن طولون يقف في ناحية من دهاليز القصر وهو يتكلم مع خادم ذلك الكاتب ، واكتشف أن ذلك الخادم الوفي إنما هو جاسوس عليه زرعه ابن طولون لينقل إليه أخباره .  5 ـ وأخبار ابن طولون في التجسس على كبار دولته من العجائب . ولكن الأعجب منها براعته في التجسس الخارجي على البلاط العباسي وخصمه الموفق . والأعجب من ذلك فراسته الشخصية في اكتشاف الجواسيس الذين كانوا يفلتون من مصفاة جهازه الإخباري   أصحاب الأخبار" أو مباحث أمن دولته.  "
خامسا
تجسس ابن طولون في البلاط العباسى : التمويل و التجنيد 

1 ـ  أسند ابن طولون مهمة التجسس على البلاط العباسي إلي " طيفور" الذي كان يدير العملية بأسرها ، وعن طريقه صنع ابن طولون في بغداد وسامرا ( سر من رأي) شبكات تجسس ذات كفاءة عالية .

2 ـ  والغريب أن ابن طولون وضع نظاما راقيا للتمويل يفي بكل الأعباء المالية لتلك الشبكة برغم قطع العلاقات الإقتصادية بين مصر وبغداد ، وقد إعتمد في توفير الأموال على شبكة معقدة من الأعمال التجارية يقوم عليها في مصر صديقه معمر الجوهري الذي كان صاحب نفوذ قوي في العراق ومصر، وكان له أخ من كبار التجار ووثيق الصلة بطوائف التجار وخصوصا تجار الجواهر ، وكانت مصالح التجار العراقيين مع مصر الغنية بمواردها في ذلك الوقت أكثر من مصلحتهم المباشرة مع العراق الذي تعرض للتخريب خصوصا في الجنوب بسبب ثورة الزنج . وفهم ابن طولون حقيقة الموقف فأدخل كبار التجار في مشروعه التجسسي ، منها تمويل العمليات التجسسية لطيفور ثم يدفع لهم ابن طولون ديونهم بضائع من مصر . وأكثر من هذا ، قام التجار بعنصر ضغط على القادة العسكريين الأتراك في بغداد ، فكانوا يقدمون قروضا لهم بشروط ميسرة ، ثم إذا عرفوا أن أحدهم على وشك أن يذهب في بعثة عسكرية ضد ابن طولون أخافوه وأطمعوه ومازالوا به حتى يعتذر. ومعمر الجوهري وأخوه في بغداد قاما على شبكة التمويل هذه ، كان أخو معمر الجوهري فى بغداد يجمع الأموال من التجار سرا ويعطيها لطيفور ، وكان معمر الجوهري في الفسطاط بمصر يقوم بالتسديد للتجار البغداديين بعقد الصفقات التجارية لهم فى مصر وكتابة الصكوك والسفاتج لهم ، (السفتجة مصطلح عباسى يعبر عن شكل من أشكال انتقال الأموال يشبه الشيكات السياحية في أيامنا ). وبذلك ضمن طيفور السيولة المالية التي تمكنه من أداء مهمته ، فلم يقتصر على تجنيد الجواسيس من علية القوم وبعث الأخبار إلي ابن طولون وإنما عمل على إجهاض كل مخططات الموفق ، فإذا أراد الموفق ترشيح أحد القادة ليذهب لحرب ابن طولون ، كان طيفور يسرع بالاتصال إليه ويسلمه رسالة ودية من ابن طولون يبثه فيه أشواقه ويعتذر له عن التقصير ويعطيه الأموال ويعده بإرسال المزيد منها، ويرجو أن يراسله إذا أراد أي معونة أو هدية ويلمح في وسط الرسالة إلى وعثاء السفر وإجهاد الطريق ومشقة الانتقال وكراهيته لأن تكون خصومه بينه وبينة . فإذا اقرأ القائد خطاب ابن طولون وأخذ أمواله أحس بالتحرج ويعتذر للموفق عن الخروج لحرب ابن طولون ويصبح من عملائه وينتظر هداياه وأمواله وينعم بالراحة.

3 ــ وكتب طيفور إلي سيده ابن طولون يخبره أن هناك قائدا اعتاد الهجوم على ابن طولون في مجلس الموفق ولا يمل من التحريض عليه، فبعث ابن طولون إلى طيفور برسالة سرية وأموال وأمره أن يعطى تلك الرسالة إلي ذلك القائد سرا ، وتسلم القائد رسالة ابن طولون ومعها ألفا دينار ، وفي الرسالة شكره ابن طولون وأخبره بأنه سعيد بما يسمع من هجوم ذلك القائد عليه وأنه قد عينه عينا على الموفق والبلاط العباسي فلا يمكن أن يشك فيه أحد ، ويطلب منه المزيد من الهجوم والتشنيع حتى تزداد مكانته لدى الموفق ، وأنه سيواصل إمداده بالمال كلما استمر في هجومه ، وأنه يطمع أيضا في تزويده بالأخبار عن طريق الوسيط الذي سيواصل إعطاءه بالمال . ووقع الرجل في مأزق حين قرأ رسالة ابن طولون وخاف إن رفض العرض أن يوقع به أتباع ابن طولون في قصر الخلافة العباسية فاضطر لقبول العرض وصار من جواسيس ابن طولون ينقل أخبار الموفق إلي طيفور عبر سلسلة من الوسائط . وظل ذلك الرجل يواصل مهمته إلي أن اكتشفه الموفق فضربه بالسوط وسجنه.   
سادسا
فراسة ابن طولون فى اكتشاف الجواسيس العباسيين

1 ـ كان لابن طولون صديق فى (سامرا )أو ( سر من رأى ) كاتبا بارعا فى الأدب، توثقت بينهما الصلة ايام الشباب ، ثم باعدت بينهما الأيام إذ ظل صديقه فى العراق بينما صار ابن طولون حاكما لمصر وغريما للموفق العباسى الرجل القوى الذى يسيطر على الخلافة وعلى اخيه الخليفة المعتمد . واشتاق ابن طولون لصديقه الكاتب فكتب له يطلب ان يأتى لزيارته فى مصر ليرى كيف أحكم أموره بها ، ويعده بمنصب جليل ، ولكن الصديق اعتذر بلطف
ثم فوجىء ابن طولون بعدها بصديقه يبعث له ان اشواقه زادت لرؤيته ، وإنه قرر أن يأتى لمصر ليزوره مهما كانت مشقة السفر . تشكك أحمد بن طولون فى هذا التحول الغريب ، ولكن رد موافقا ، بعد أن أمر (طيفور ) أن يستكشف له خبره ، فجاءت له رسالة طيفور بأن صديقه الكاتب قد توثقت علاقته بالموفق وصار من رجاله . ثم وصل الصديق الى حدود مصر فأعد ابن طولون له استقبالا ضخما فى مدينة العباسة ( وهى مدينة قرب بلبيس شرق الدلتا كانت وقتها محطة للقوافل بين مصر و الشام ) وأعد له مواكب ومآدب فخمة ، فكاد عقل الكاتب يطير من روعة ما رأى. ثم استقبله فى قصره وبالغ فى إكرامه ، وظل يؤاكله ويسامره ليتعرف على احواله واحوال الموفق ، فكان الصديق يبالغ فى سب وشتم الموفق مما أدى الى تأكد ابن طولون من شكوكه فيه ، ولكنه كان يريد دليلا ، فأمر باستحضار خادمين لصديقه ، وبالترغيب و الترهيب عرف حقيقة صديقه ، إذ أعطاه الخادمان سفطا فيه ثمانون كتابا من الموفق الى كبار قادة ابن طولون يعدهم فيه بأن من يقتل ابن طولون فله حكم مصر مكانه . بعد أن عرف ابن طولون حقيقة صديقه الكاتب أمر الطرسوسى صاحب الشرطة بالقبض عليه ومصادرة كل ما معه .

2 ـ  هذا الطرسوسى نفسه يحكى أن ابن طولون كان فى موكب جيشه فلمح رجلا بين الناس ، فتأمل فيه ابن طولون وامر بالقبض عليه ، وحقق معه بنفسه فمالبث الرجل أن اعترف بأنه جاسوس للموفق وأن معه رسائل للقادة فى مصر بأن يقتلوا ابن طولون . وأحضرت الرسائل لأبن طولون فأمر بسجن الجاسوس فى سجن المطبق . وسئل ابن طولون : كيف عرفت أن هذا الرجل جاسوس ؟ فقال : " رأيته فى وسط الناس وهو مشغول بالنظر لى والتأمل فىّ ، لا يطرف عنى بنظر الى جليس أو غيره فارتبت به . "

3 ـ  وكان ابن طولون يأكل فى بستانه ويطل من شرفة البستان على الطريق ، فرأى سائلا شحاذا فى ثوب خلق قديم ، فأرسل اليه مع الخدم صينية مليئة باللحم والدجاج والفواكه والحلوى . وظل يراقب الرجل السائل ، ثم بعدها أمر باعتقاله ، وحقق معه فأحسن الرجل السؤال ولم يضطرب ، فقال له ابن طولون فجأة : هات ما معك من الكتب الى بعثك بها الموفق . فاعترف الرجل بما لديه من الكتب وأحضرها. وسجنه ابن طولون ثم أطلقه بعد ثلاثة أيام. وسئل نفس السؤال : كيف عرفت أنه جاسوس ؟ فقال : " رأيته لم يهش للطعام مع أنه سائل فقير فشككت فى امره . "

4 ـ  وكان من عادة ابن طولون أن يركب مع أصحابه فى السحر يفتش فى الأماكن التى يعيث فيها اللصوص وقطاع الطرق ، فمن ظفر به منهم أمر بضرب عنقه . وفى إحدى جولاته صادف جنازة بها نساء تصرخ ، فأمر بأن يرافق الجنازة نفر من الجند لحماية أهلها. ثم مالبث أن رأى جنازة أخرى فاستمع الى صراخ النسوة ، ثم أمر بايقاف السائرين فيها وتفتيشهم . فاكتشفوا بين النسوة رجلين متنكرين فى ثوب النساء ، وكانا قد هربا من سجن المطبق ولم يعثر عليهما ، فأرسلهما الى نفس السجن. وسئل كيف عرفت ؟ فقال : أن النساء فى الجنازة الأولى كن يبكين بحرقة ، أما فى تلك الجنازة ( الصناعية ) فكانت نساؤها يتصنعن البكاء
سابعا
إبن طولون يحكم قبضته على مصر 
وواضح من الأمثلة السابقة أن ابن طولون قد أحكم قبضته على البلد بحيث أن من يفرّ منه يجد صعوبه فى الاختفاء وفى الخروج من مصر على حد سواء، ووردت فى هذا السياق روايات كثيرة ، منها :

1 ـ  شخص ممن يثق بهم ابن طولون قد استغل منصبه فى الاستزاق من الناس ، وكان يعلم بعض أسرار ابن طولون ، وعلم ابن طولون باستغلاله لمنصبه وعرف الرجل بالخبر فخاف من عقاب ابن طولون فهرب ، ولأنه يعرف بعض أسرار ابن طولون فقد حرص ابن طولون على ضبطه وإحضاره ، وأثناء سير ابن طولون فى منطقة المعافر رأى وقت الغروب جنازة وخلفها نحو عشرة انفس فقط فاستراب بها ، وسأل من يحمل النعش عن موضع حفر القبر للمتوفى فاضطرب هو وأصحابه ، وحط النعش ، فكشف ابن طولون الغطاء فإذا به الرجل الهارب ، وقد رام الخروج من البلد فما استطاع من كثرة الرصد ، وضاقت به الحيل فاهتدى الى فكرة أن يختفى داخل نعش ويصنع جنازة وهمية ليفر الى الصحراء هاربا من الفسطاط والقطائع ( عاصمة مصر وقتها قبل بناء القاهرة )، فأمر به ابن طولون الى سجن المطبق.

2 ـ وقد عيّن ابن طولون فى وظيفة التفتيش والبحث عن المطلوبين والمشتبه فيهم حماد ابن على الأزدى الذى يحكى بنفسه أن ابن طولون (تغيّر) أى ( غضب وانقلب )على أحد العاملين لديه واسمه نعيم ، فهرب منه نعيم فأمر حماد الأزدى بطلبه وقال له : " لا تطلبه فى داره بالفسطاط ولا فى ضيعته ولا عند أحد من إخوانه ، فإنه أضعف قلبا ودينا من أن يقيم فى هذه الأماكن ، ولكن أطلبه فى الأديرة وعند النصارى فانك تجده فى زى راهب ، وقد دخل فى جملتهم لأنه حاذق بالقبطية فصيح بها ". فعثر عليه هناك ، وجىء به الى ابن طولون فى زى الرهبان فلما رآه قال له : " أرتددت عن الاسلام ؟ السيف والنطع ؟ " ، فقال : " لا والله ما ارتددت عن الاسلام وانما تسترت بهذا الزى لأخفى ، ولكن أين يتهيأ لى استتار منك ؟ "!.

3 ـ نفهم مما سبق أن اللغة القبطية المصرية القديمة كانت لا تزال حيّة منطوقة قرب العاصمة المصرية فى عهد ابن طولون ، ولكن أخذت فى الانقشاع أمام العربية الى أن أصبحت بعد عصر ابن طولون بستة قرون معروفة فقط فى جنوب الصعيد ، وفقا لما نعرفه فى كتابات المقريزى فى القرن الثامن الهجرى . والآن اندثرت اللغة القبطية ، ويحاول بعض الأقباط حاليا بعثها من مرقدها من جديد

ونفهم أيضا وجود حد الردة وامكانية تطبيقه فوريا .وهناك روايات اخرى فى تاريخ ابن طولون تؤكده ، وهذا ملمح أساس من ملامح الشريعة السنية ، فمن حق الحاكم المستبد قتل من يشاء بلا مساءلة ،إما بحد الردة ،وإما بسيف الشرع السنى الذى يخوّل له قتل من يشاء ، وهو ( لا يسأل عما يفعل ) كأنه رب العزة ـ جلّ وعلا.

4 ـ  ولم يكن لأحد أن يسافر خارج مصر إلا بموافقة ابن طولون ،اى يعطيه (جواز سفر )، وتردد هذا بين ثنايا الروايات ، كأن يقال عن عفو ابن طولون عن أحدهم وسماحه له بالسفر الى طرسوس : ( ووصله بمال جزيل ، وكتب له جوازا ). وفى رواية أن رجلا اشترى خادما من تركة ابن المفضل (وإنه أخذ جوازا وخرج بالغلام الى الشام ،يؤمل فى بيعه هناك ربحا ، فلما بلغ العريش وكان بها وال يعرف بحبيب المعرفى قد نصبه أحمد بن طولون ليتامل ما يرد من الكتب ونفيس الأمتعة الى الفسطاط ، فقرأ الجواز ، وقال : كان يجب أن يحكى فى هذا الجواز حلية هذا الخادم) ، وأرجع الرجل الى أحمد بن طولون ، وأعاد ابن طولون التحقيق معه ، وكتب له جوازا آخر ، ودفع للرجل نفقة الرجوع .  
ثامنا
قطعة حية عن عصر ابن طولون

1 ـ وكل هذه المعلومات نستقيها من كتاب ( سيرة أحمد بن طولون ) الذى كتبه البلوى (محمد بن عبد الله)، والذى لم يكن بعيدا عن عصر ابن طولون . ومن كتب فى تاريخ ابن طولون أيضا ابن الداية (أحمد بن يوسف ) وكان والده معاصرا لأحمد بن طولون فى مصر ، وتعرض للسجن فى عهده ، وقد كتب ابن الداية (سيرة احمد بن طولون ) وكتب سيرة أخرى لخمارويه بن أحمد بن طولون،عدا بعض الأخبار عن عصر ابن طولون فى كتابه ( المكافأة ) وتوفى ابن الداية عام    330 . وابن الداية كان معاصرا للمؤرخ الكبير المسعودى المتوفى عام 346 ، وقد تعرض المسعودى فى تاريخه ( مروج الذهب ) لأخبار أحمد بن طولون وابنه خمارويه فى سياق تأريخه للخليفتين العباسيين المعتمد والمعتضد. أما مؤرخنا هنا :(البلوى) فقد كان أكثر تفصيلا ودقة من سابقيه ، وقد مات البلوى بعد ابن الداية ، بعد عام 330 . وقد عاش البلوى بعد موت احمد بن طولون ت 270 ، وبعد انقراض الدولة الطولونية عام 292 ، وفيها ساءت الأحوال فى مصر مما جعل عصر ابن طولون ماضيا جميلا يتناقل الناس أخباره ويكتب فيه المؤرخون.

   2 ـ وحتى نعايش عصر ابن طولون وثقافته ننقل عن كتاب البلوى ( سيرة أحمد بن طولون ) بالنصّ هذه الرواية ثم نتوقف معها بالتحليل ، يقول البلوى عن ابن طولون : (  : 
 وانصرف يوما من الصيد ، فاجتاز على شارع الحمراء فتأمل دارا تبنى هناك ، فوقعت عينه على بعض الرقّاصين ،فأمر بأخذه فقبض عليه ، ووافوه به الى الميدان ، فلما جلس أمر باحضاره ، فلما حضر أمر باحضار السياط والعقابين ، فلما شدّ صاح : أيها الأمير، لا تعجل على ّ من قبل أن تسألنى وتعلم ما عندى، فقال له : صدق. حلّوه. فلما حلّ قال له : أدن ، فلما دنا ، قال له : عرفنى خبرك ، واصدق تنج منى . قال : نعم أيها الأمير أنا جاسوس للموفق، وكانت معى كتب ففرقتها على أصحابها ،فوعدونى بكتب الجواب عنها ، فعملت رقاصا ليستتر أمرى ، وأسمع وأنا فى أوساط الناس من أحوال البلد وأخبار الأمير ما أحفظه ، حتى أذكره عند عودتى لمن أنفذنى ، كما يلزم من نصب لهذا المنصب. فقال له : صدقت، فعرفنى من اصحاب الكتب، فعرفه بهم واحدا واحدا. ووكل به من أخرجه عن البلد من وقته، وقال له: قل له (أى قل للموفق العباسى فى بغداد ): قد أطلعنا الله عز وجل على ما سترته، وأردت أذيتنا به ، وأظفرنا ونصرنا ، ولم يضرنا فعلك ، والحمد لله على ذلك. فلما كان فى الليل قبض على أولئك القوم أصحاب الكتب ، فمنهم من غرّقه ومنهم من طمّ عليه الحفر. فقال له موسى بن طونيق ، وكان خصيصا به :أيها الأمير ، كيف علمت أن هذا الرجل الرقاص جاسوس ؟ قال : لمحته على الاسقالة وعلى كتفه قصرية الطين ، ورأيت تكة ارمنى فانكرت ذلك وقلت : رقاص لا تكون تكته إلا خيطا أو كتانا ، فقبضت عليه وكان ما شاهدت منه. قال : أحسن الله توفيق الأمير.)( سيرة أحمد بن طولون 124 ، مكتبة الثقافة الدينية بالقاهرة )

تحليل النّص :  ) . 
رأيت نقل الرواية بالنصّ لنتعرف على لغة العصر وثقافته

1 ـ كما نقول فان اللغة العربية تعرضت طيلة تاريخها قبل نزول القرآن وبعده الى تغير المصطلحات ومعانى الألفاظ حسب الزمان والمكان وحسب الفرق والطوائف ، فلكل فرقة مصطلحاتها الخاصة من النحويين والفقهاء والصوفية و السنية والشيعية . وقد يتصادف أن يأتى لفظ فى نص تاريخى يكون مستعملا فى عصره ثم انتهى استعماله وبطل بعدها ، وربما يأتى عصر جديد بمصطلحات جديدة يتميز بها ولم تكن معروفة من قبل مثل عصر المماليك بنظمه الخاصة وبألفاظه التركية والتى سادت وقتها عدة قرون ثم دخلت الان حيز النسيان ، ولكن لا تزال حية فى بطون الكتب و الحوليات التاريخية المملوكية والعثمانية . ومن هنا نؤكد دائما على أن فهم المصطلحات القرآنية لا يكون إلا من داخل القرآن الكريم وليس بالقواميس أو بالتراث أو حتى بلغتنا العادية، وأنه لا بد للباحث التاريخى لعصر ما أن يعايش ذلك العصر بلغته ومصطلحاته وعقليته وثقافته حتى يترجم احوال ذلك العصر لعصرنا . نقول هذا تعليقا على هذا النص التاريخى الذى يرجع الى الثقافة المصرية فى القرنين الثالث والرابع الهجريين .
2 ـ لمن لا يعرف اللغة العربية وقتها لن يفهم حقيقة النص لاحتوائه على كلمة ( رقّاص ) لأن المعروف ان ( الرقّاص ) من ( الرقص ) ، ولكن المعنى وقتها كان يعنى الرجل الذى يعمل فى البناء يحمل الطوب والطين والحجارة يجرى بها فوق سقالات البناء، ولاهتزازه ليحفظ توازنه وهو يحمل الأثقال يجرى بها فوق السقالات أطلقوا عليه مصطلح ( الرقّاص ) . ساد هذا المصطلح ( الرقاص ) على هذا العامل فى البناء ، ثم دخل فى حيز النسيان.  
3 ـ وهنا نفهم النص كالاتى : رجع ابن طولون من رحلة صيد فاجتاز شارعا ( شارع الحمراء فى الفسطاط ) فرأى رجلا يعمل فى بناء بيت ويحمل قصرية طين فوق كتفه ، وتميز ابن طولون بدقة ملاحظته فراى تكة لباس هذا الرجل (موضة ) أرمنية لا يرتديها إلا المياسير من العراقيين ، وأن العادة فى المصريين أن تكون تكة لباسهم مجرد خيط أى حبل ،أو قماش من كتان ، فأمر باعتقاله وهدده بالعذاب فاعترف بأنه جاسوس جاء يحمل كتبا للقادة من الموفق بقتل ابن طولون ،وأنه قد سلمهم تلك الكتب ، ولم يصله منهم رد فاضطر للانتظار ، وحتى لا يكتشف أمره عمل أجيرا فى البناء، وفى نفس الوقت كان يختلط بالناس ويسجل أحوالهم وما يقولونه عن ابن طولون ليعطيه للموفق . وسرعان ما اعتقل ابن طولون أولئك القادة الذين تسلموا الرسائل من ذلك الجاسوس فكتموا أمرها ،وأمر بقتلهم تغريقا و دفنا وهم أحياء .

4 ـ  ويلاحظ ملامح الدين السنى فى النصّ ، نقصد التدين السطحى ، فيتردد كثيرا ذكر اسم الله جل وعلا فى الحديث بين ابن طولون وأعوانه : (قال : أحسن الله توفيق الأمير) وفى رسالة ابن طولون للموفق (قد أطلعنا الله عز وجل على ما سترته، وأردت أذيتنا به ، وأظفرنا ونصرنا ، ولم يضرنا فعلك ، والحمد لله على ذلك.).

ولكن الاكثار من ذكر اسم الله جل وعلا لم يمنعه من ادمان سفك الدماء بمجرد الشبهة ، وفى الرواية السابقة لم يرد فيها أنه تحقق من تحرك أولئك القادة ضده ، ولم يحقق معهم بل بادر بقتلهم تغريقا ودفنا وهم أحياء . فالعادة أن المستبد يعتمد أكثر على ارهاب الناس بالسرعة فى سفك الدماء والأخذ بالشبهة و استخدام أسوأ أنواع القتل ، مع أفظع أنواع التعذيب ، ولو (تغير خاطره )أو تتغير مشاعره نحو أحد من أتباعه فمصيره السجن ومصادرة الأموال و التعذيب وربما القتل. وكان سجن المطبق لأحمد بن طولون مزدحما بالمشتبه فيهم . وكل ذلك الاستبداد والظلم وكل تلك الجرائم كان يغلفها ابن طولون بكثرة ذكره اسم الله تعالى فى كلامه ورسائله،وتلك الطريقة فى التدين السطحى شريعة سنية لا تزال سائدة حتى الآن.  
أخيرا : هل نجح تفوقه فى التجسس فى حماية دولته ؟ 

1 ـ  أحكم ابن طولون قبضته على مصر وتفوق على غريمه الموفق فى التجسس ، وهزمه فى الحروب العلنية . ولكن كما يقول المثل العربى ( من مأمنه يؤتى الحذر ) فان الخطر والتآمر على ابن طولون جاءه من أقرب الناس اليه ، من إبنه العباس الذى ثار على أبيه واستولى على الأموال و تبعه رجال ذهب بهم الى برقة ، وانتهى أمره بالهزيمة والأسر ، وأمره أبوه أن يقتل بيده من تبقى من أصحابه ، فقتلهم عدا إثنين عفا عنهما ابن طولون ، وضرب ابن طولون ولده العباس مائة جلدة . بعدها تمرد على ابن طولون غلامه لؤلؤ أقرب الناس اليه ، فخرج عليه ولحق بالموفق . المستفاد أن شدة المستبد فى التحرز وعبقريته فى تحرى الأمن لنفسه ودولته لا يمكن أن تنجيه مهما فعل ، فالأمن لا يتحقق إلا بالعدل ، ولا يوجد عدل مع الاستبداد ، وعبارة المستبد العادل اسطورة لا يمكن أن تتحقق .

2 ـ وفى سيرة ابن طولون ـ بالذات ـ يتجلى ملمحان ، تعرضنا لأحدهما وهو براعته فى الشئون الأمنية ، ورأينا أنها لم تغن عنه شيئا ، والناحية الأخرى سنتوقف معها فيما بعد فى مقال مستقل ،إذ تميز ابن طولون بالحرص على العدل ، بحيث يمكن أن يطلق عليه بعض السطحيين أنه ( مستبد عادل ) ولقد حاول ابن طولون أن يكون عادلا فلم ينجح فى الجمع بين الاستبداد السياسى والعدل مع الناس
  3 ـ ولكن يكفيه شرف المحاولة ، فهناك مستبدون فى عصرنا ـ عصر حقوق الانسان والديمقراطية ـ لم يحاولوا ـ مجرد محاولة ـ إقامة العدل بين الناس العاديين الخانعين للمستبد والذين لا شأن لهم بالسياسة .  

 

( البوليس السرى والعدل فى عهد أحمد بن طولون  )

1 ـ أنشأ أحمد بن طولون لنفسه وذريته دولة في مصر هي الدولة الطولونية (254ـ 292هـ)، وواجه مكائد الدولة العباسية وأعوانها داخل مصر وخارجها، واستقامت له الأمور في مصر بوسائل كثيرة أهمها "أصحاب الأخبار" أو جواسيسه السريون الذين أحكم بهم قبضته على مقاليد الأمور. ومن العجيب أن أحمد بن كان مهتما بإقرار العدل ومعروفا بالبر والإصلاح، ولكنه كان حريصا على ألا يدع لأحد الفرصة في أن يمس سلطانه، خصوصاً وهو يواجه المكائد العباسية، ومن هنا كانت حاجته للبوليس السري، وكان أيضاً احتقاره القائمين على هذا الجهاز والعاملين فيه.

2 ـ والذين كتبوا تاريخ ابن طولون بعد موته وانتهاء دولته أظهروا ورعه وأشادوا بعدله، ولقد غضب على صديقه معمر الجوهري حين اشتكته امرأة عجوز ظلمها وكيل معمر الجوهري ، ولم يرض ابن طولون عنه إلا بعد أن أنصفها وزاد في إكرامها. وكان من مهام البوليس السري لابن طولون ، كتابة التقارير عن كبار الموظفين وصغارهم في الإدارات ، وكانت صرخة المظلوم تصل إلى آذانهم المرهفة، وكان مع ذلك صاحب طبيعة متشككة إذ لا يقبل تقاريرهم إلا بعد تمحيص، ولاسيما أنه صاحب رأي سيء في الجاسوسية والجواسيس.

التجسس على كبار الدولة

1 ـ ولقد عانى القادة وكبار الدولة من وجود ذلك النظام السري الذي يحصي عليهم أنفاسهم.. سواء كانوا في داخل القصر الرسمي أو في بيوتهم أو حتى في مهام سرية لصالح الدولة..أرسل ابن طولون وفداً إلى الخلافة العباسية ليشكر سيرته لدى الخليفة المعتمد، وأنفذ مع الوفد جواسيس من لدنه من حيث لا يعلمون بهم، يحصون ما يكون من كل واحد منهم، وأدى الوفد المهمة ونجح فيها وجاءت التقارير عنهم إلى ابن طولون مرضية فأكرم رجال الوفد.

2 ـ على أن ابن طولون لم يكن يتسامح أبداً إذا تأكد من عيونه أن بعضهم يمالئ عليه أو يقول فيه ما يكره، وهنا ينقلب ذلك الرجل الورع الناعم إلى جبار عنيد، فقد جاءه "أصحاب الأخبار" بأن أحمد ألمدائني صاحب موسى بن بغا يبسط لسانه في ابن طولون في مجالسه الخاصة، فاعتقله وعرضه على العذاب فقتله وصادر أمواله، وكان موسى بن بغا خصماً لابن طولون في بغداد. وكان ابن شعرة من أصحاب ابن المدبر خصم ابن طولون. وكان يتندر على ابن طولون في مجلس ابن المدبر،وتجيء أخباره إلى ابن طولون فيحذره، ولم يرتدع ابن شعرة، بل سخر من ابن طولون وقلده في هيئته وفي طريقة كلامه حين حذره، وضحك ابن المدبر مما يحكيه له ابن شعرة، ومع أنها في مجلس خاص، إلا أن الأخبار وصلت إلى ابن طولون، فاعتقل ابن شعرة وضربه خمسمائة سوط وهدم داره وأمر بأن يطاف به في البلد على جمل، وهي طريقة "التجريس" وكانت إحدى العقوبات في القرون الوسطى.

3 ـ وابن المدبر نفسه كان صاحب الخراج في مصر قبل ولاية ابن طولون عليها، ونجح ابن طولون في عزله عن الخراج، ولكن استمر ابن المدبر في الشام، واستمر يكيد لابن طولون ويكتب إلى بغداد يحذرها من أطماع ابن طولون، وكان ابن طولون قد استمال إليه مخلد صديق ابن المدبر، وجعله عيناً على ابن المدبر، فكان يكتب لابن طولون بكل تحركات ابن المدبر ضده، وأرسل بغداد يقول فيه: " إن ابن طولون قد عزم على أن يقيم بمصر خليفة " ، أي يستقل تماماً عن الخلافة العباسية، " ويرمى ابن طولون بكل قبيح"، فأسرع ابن طولون وأرسل قائده سعد الفرغاني فاعتقل ابن المدبر وجيء به إلى مصر، فحبسه ابن طولون في حجرة مفروشة وأكرمه، فظن ابن المدبر أنه لا يعلم بمكائده ضده فاستطال في كلامه مع ابن طولون فأطلعه ابن طولون على معرفته بكل شيء عنه ، وأهانه ، وظل حبسه حتى مات كفيفاً.

وتتبعت عيون ابن طولون كل أصحاب ابن المدبر السابقين ليعرف ابن طولون هل بقوا على ولائهم لابن المدبر أم أصبحوا مخلصين له، فوجدوا رسالة لابن المدبر بعثها له ابن شعيب يعترف له فيها بكراهيته للعمل مع ابن طولون، وكان ابن شعيب يتولى الخراج لابن طولون، فعزله ابن طولون وسجنه في المطبق إلى أن مات فيه.

4 ـ وكان ابن طولون يشتد في العقاب في أوقات الطوارئ بالذات، وكذلك فعل مع أتباع ابن المدبر أثناء صراعه مع ابن المدبر، وحين اشتد المرض على ابن طولون وخاف من تنـّمر الموفـّق العباسي به اشتد في تتبع المعارضة ضده حتى لا ينقلبوا عليه في ذلك الوقت العصيب، وقد جاء أصحاب الأخبار له بوشاية ضد هرثمة القائد يتهمونه بأنه قال: " توهمنا أنا نخدم إمارة ، ولم ندر أنها خلافة، إلا أنها خلافة ، وسخة مخوفة العاقبة " فاعتقله ابن طولون وصادر أمواله.

5 ـ وشملت عقوباته نفراً من أنصاره لم يوافقوه على عزل الموفق، مثل القاضي بكار بن قتيبة، واعتقل آخرين لأسباب أخرى مبعثها الوشايات، مثل زياد المعدني وابن رجاء. وأسرف في إيذاء الناس بالتهم وهو في مرضه الأخير فأضاع ما اشتهر به من العدل والإنصاف، وضاعت معه أسطورة المستبد العادل، لأنه لا يجتمع الاستبداد مع العدل أبداً ..!!.

6 ـ ونجا بعض المقربين إليه من عقوباته الشديدة، وكانت عيونه تحصي عليهم أنفاسهم.. وكان ابن طولون يرتب شخصاً خفياً كل يوم يكتب كل ما يجري في قصره من أحداث وأقاويل ،ثم يعرضها عليه في آخر النهار، وبذلك يعرف ما يدور حوله، ولا يعرف أحد من المقربين إليه من ذلك الشخص الذي يراقبهم..

7 ـ وكان الواسطي أقرب رجال القصر إلى قلب ابن طولون، وكان يعامله كأحد أولاده، ويضربه بيده كما يؤدب أولاده، وقد غضب منه مرة فضربه بيده ضرباً شديداً وطرده من مجلسه، فانصرف الواسطي بعد الضرب والإهانة إلى دهليز من دهاليز القصر ونام فيه على حصير صائماً، ولا يجرؤ أحد أن يقترب منه خوفاً من ابن طولون وعاتبه وأكرمه وأعاده إلى منزلته عنده. ومع هذه الحظوة التي تمتع بها الو اسطي إلا أن ابن طولون كان لا يثق به، وكان قد جعل عيناً عليه يأتيه بكل أخباره، وقد فوجئ الواسطي بأن غلامه الأثير عنده هو جاسوس عليه وعين لابن طولون فازداد فزعه من ابن طولون، يقول الو اسطي "كنت بين يدي الأمير واقفاً أعرض عليه الأعمال إلى أن جاء نصف الليل فرأيته قد تشاغل عني بشيء آثر الانفراد به فتركته وذهبت إلى طرف الزقاق اغتنم استراحة، وكان موضعا مظلما لا يراني فيه أحد، فرأيت غلامي فلانا وهو أوثقهم عندي قد ذهب مع الأمير، وهما يعلمان أنني قد ذهبت إلى بيتي فأخذ الأمير يتكلم معه سراً نحو ساعة، ثم خرج من عنده، فكيف يطيب العيش إذا كان أبرّ غلام عندي يتجسس علىّ..؟

8 ـ وكان ابن طولون إذا قلّد أحداً وظيفة جعل عليه جاسوساً يحصي عليه أنفاسه، وحين عين أحمد ابن إبراهيم الأطروش على الخراج جعل يتجسس عليه بعيونه فلم يأخذوا عليه مأخذاً. وكان الذي يتولى الخراج قبل الأطروش شخصين هما متولي الخراج أبو أيوب، ثم ابن جمعة الذي كان أميناً عليه، ولم يكتف بذلك بل جعل عليهما جاسوساً هو أبو الذؤيب. وأولئك الجواسيس كانوا ينقلون لابن طولون كل شيء عن أتباعه حتى ولو كان نقاشاً عادياً، وقد ذكروا أن حوارا جرى بين محبوب بن رجاء وحسن بن مهاجر، وقد قال محبوب لابن مهاجر : الصواب لك أن تخاف الأمير، فأسرع ابن مهاجر يقول : والله ما أخافه.. وسرعان ما وصلت الكلمة إلى ابن طولون فاستدعى ابن مهاجر وسأله عن تلك الكلمة، فقال له "هكذا قلت أيها الأمير، لأني قد استغرقت جهدي في نصيحتك وقد أمنت من جورك،فليس عندي خوف منك" فأعجب ابن طولون بإجابته وشكره..

9 ـ وبعض ما نقله الجواسيس لابن طولون كان يخدم العدل، وقد حدث أن أحد قواده سلب أموال راهب في الأرياف، وجاء الراهب يشكوه عند باب ابن طولون فقابله حاجب القصر وعرف شكواه، وكان الحاجب صديقاً لذلك القائد الذي يتظلم منه الراهب، وخاف على صديقه فدفع للراهب الأموال التي أخذها منه القائد وأرضاه وانصرف الراهب مسروراً، وسرعان ما وصلت الأخبار بذلك لابن طولون فأحضر الحاجب وسأله فاعترف، فاعتقل القائد ووبخ الحاجب، واستحضر الراهب وأمر بعقوبة القائد أمامه وسجنه..

10 ـ وكان ابن طولون شديداً في مراقبة قواد جيشه بالذات، وكان لا يستريح إذا كان أحدهم يبالغ في طاعته، ويعتقد أن خلفه ما يستوجب الريبة، وقد روى الفارسي ـ وهو من كبار جواسيس ابن طولون ـ أنه قال له عن بعض قواده : ابحث لي أمر فلان فمن العجب أن يضبط نفسه ولا يـُظهر شيئاً من أمره. وذهب ذلك الجاسوس إلى دار القائد فعرف أنه معتكف عن الناس يخرج من بيته إلى المعسكر ، ويعود ويغلق باب داره ولا يدخل إليه أحد، فاستأجر الجاسوس داراً بجواره وأصبح من خلالها يستطيع أن يرى ما يحدث في بيت القائد، وأخذ يتلصص عليه من السطح فرأى مجلسه مع جاريته وطعامه وشرابه، وما يفعله حين يأخذه السكر وتلعب برأسه الخمر فينطق بالحقد على ابن طولون ويتوعده بالقتل، ثم يظل يضرب الحائط بسيفه متوهما أنه ابن طولون، وجاريته تنصحه ألا يفعل وتلهيه بالخمر، وعاد الجاسوس إلى ابن طولون بما رأى ، فبعث للقائد وعاتبه وأنبه وأخبره بما يجري منه في عقر داره، فبهت الرجل وظن أن ابن طولون  يعلم الغيب، ونطق في دهشته بما أضحك ابن طولون فعفا عنه وأخرجه إلى طرسوس وبعث بمكافأة إلى جاريته لتداوم على نصحه.

11 ـ لذا لا تعجب إذا كان قواده وأتباعه على خوف عظيم منه. وقد كان والد المؤرخ ابن الداية من أتباع ابن طولون، واسمه يوسف بن إبراهيم ، وقد كان يتأهب لدخول داره،وإذا بمن يصيح به" أنا عائذ بالله وبك ومستجير من رجل في حاشيتك" فقال له : ومن هو .؟ قال : أذكره في سرِّك، فأدخله الدار واختلى به، فأعطاه الرجل رسالة من موسى بن بغا ـ عدو ابن طولون في العراق ـ وقال له : إنه بعثني إليك وحدك بهذا الكتاب، فصاح به يوسف ليسمع الناس : يا هذا إن جميع ما ادعيت به مائة دينار ونحن نعطيك إياها. وأعطاه مائة دينار ، وصرفه ولم يأخذ منه الكتاب، خوفاً وطلباً للسلامة، وسرعان ما أحضروه إلى ابن طولون، وقال له : ما الذي في كتاب موسى بن بغا اليك؟ فقال له يوسف بن إبراهيم : والله ما قرأت كتابا قط، والذي يجب علي من حق طاعتك فقد عملته، فقال له : فلماذا لم تقبض على الرجل وتجيئني به؟ فقال له : لم يخولني الأمير بذلك لأفعله، ومن أتى شيئاً بدون إذن فهو إلى توقع المكروه أقرب، فاعتقله ابن طولون أياماً ثم أطلقه.. وما فعله يوسف بن إبراهيم دليل على مناخ الرعب الذي ساد وقتها، وربما كان ذلك الرسول الذي جاء ليوسف بن إبراهيم من جواسيس ابن طولون ليختبر ابن طولون ولاءه الحقيقي.

التجسس على المعتقلين السياسيين في السـجـن

 1 ـ وضحايا ابن طولون وجهازه السري دخل بعضهم السجن المشهور باسم المطبق. وفي داخل السجن لم يرحمهم من جواسيسه.

2 ـ  يروي ابن أيمن أن ابن طولون طلب منه أن يحضر له شخصاً يصلح لمهمة خاصة، فاختار له شاباً ذكياً يصلح ودخل به على الأمير، فتأمله ثم استدناه منه وتكلما في خفوت، ثم دعا الأمير بالسياط وأمر بضرب الشاب عشرين سوطاً وبعدها أرسله مسجوناً للمطبق، ورجع ابن أيمن حزيناً ولم يجرؤ على الاستفهام ، وأخبر أسرة الشاب بأن الأمير أرسله في مهمة خاصة وأعطاهم خمسين ديناراً من ماله. ثم مر شهر وكان ابن أيمن قي مجلس ابن طولون فجيء بالشاب وقد اتسخت ثيابه وطال شعره ، فتكلم مع الأمير في السر ، ثم أمر ابن طولون بضربه عشرين سوطاً وإعادته للمطبق، فازداد ابن أيمن حيرة وحزناً، وبعدها بشهر قال له الأمير ابن طولون : إن الفتى قد رجع من مهمته فاذهب إلى لقائه، فسافر ابن أيمن وتلقى الشاب عند عين شمس فرآه في مركب هائل ونعمة ظاهرة فسأله عن أمره، فأخبره بأن ابن طولون أسر إليه حين قابله لأول مرة بأنه يريد التجسس على مساجين المطبق، وأنه عزم على إيذائه حتى يكون سبباً وجيهاً، ولذلك ضربه بالسياط ودخل المطبق في صورة ذليلة، وكان الأمير يرسل إليه كل يوم شيخاً على أنه من أقاربه فيتحدث معه ويعطيه تقريراً عن أحوال السجناء، ثم خرج من السجن بعد شهر، فقال له ابن طولون إنه اعتقل قوماً آخرين ويريد أن يعرف حالهم داخل السجن، فأعاده إلى المطبق بنفس الطريقة والهيئة ، ورأى في السجن عشرة من الوافدين كان منهم القائد والعامل والكاتب و الصاحب، فأتى بخبرهم لابن طولون ثم كانت مكافأته أن أعطاه عشرة آلاف درهم وألفي دينار وأحمالاً من الثياب والأفراس، وأمر بأن يسافر إلى عين شمس ويعود منها بهذه الهدايا كالمسافر العائد..

التجسس على المعارضة من الناس

1 ـ كان المصريون الأقباط بعيدين عن شئون السياسة والحكم منشغلين بأمور معاشهم، فانحصر الاهتمام بالسياسة بين العرب والفرس والترك، سواء منهم من استوطن مصر أو من قدم إليها في معية الولاة، وإذا كان بعض أولئك قد انخرط في سلك الوظائف مع ابن طولون وسايره أو خادعه، فإن البعض الآخر انصرف إلى أمور معاشه طلباً لراحة البال، ولكن كانت عيون ابن طولون تحصي عليه أنفاسه، فإذا صدر منه قول أو خيف منه كانت العقوبة من ابن طولون أسرع، وكانت أيضاً أعنف وأقسى..

2 ـ وقد كان بعضهم ممن يؤثر السلامة يعمل بالتجارة ، وقد اشترى أحدهم خادما من تركة ابن مفضل بعد مصادرة أمواله، وحصل التاجر على جواز سفر للخادم الذي اشتراه، وخرج به إلى الشام ليبيعه هناك ، فلما بلغ العريش لم يسمح الوالي فيها بمرور الخادم لأن الجواز الخاص به ليس فيه ما يدل على هيئته بصورة كاملة، فاعتقل التاجر والخادم وبعث الوالى إلى ابن طولون يستأمره فأمره ابن طولون بان يبعث بهما إليه في الفسطاط وجيء بهما إليه وحقق معهما ابن طولون فأمر بأن يكتبوا للخادم جواز سفر جديداً، وتبرم التاجر من أنه تكلف السفر عودة وذهاباً للعريش بدون جريرة، فأمر له ابن طولون بعشرة دنانير تعويضاً ، فأخذها دون أن يشكر ابن طولون ، وتمتم أثناء ذهابه ببعض الاحتجاج ، وسرعان ما وصلت إلى ابن طولون فاعتقله في المطبق، ثم أمر بعدها بإطلاق سراحه.

3 ـ وحين وافاه المرض الأخير أحجم الناس عن الكلام خوفا من شدة المراقبة السرية، وحدث أن سرت إشاعة بموته في السوق ، فقال أحد التجار "فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين" وسرعان ما قام رجل كان يجلس معه وغاب ثم عاد ومعه خمسة رجال أخذوا التاجر إلى القصر حيث تلقى الإهانات ثم عرضوه على ابن طولون، وكان في لحظة خشوع وخوف من الله ، فسأل التاجر : هل أسأت اليك .؟ فاعتذر له التاجر بأنها فلتة لسان، فعفا عنه.

4 ـ على أن تلك النهاية السعيدة لذلك التاجر تخالف ما حدث لجماعة من المعارضة السياسية كانوا يجتمعون على بغض ابن طولون وكراهيته، وعلم ابن طولون بخبرهم وأراد أن يستوثق منه، وأراد في نفس الوقت أن يستوثق من إخلاص أحمد بن محمد الكاتب فأرسله جاسوساً عليهم وهو يعرف أنه يكره هذه المهمة.

5 ـ ونترك ذلك الكاتب يحكي تجربته لنعايش معه جوّ الإرهاب في ذلك الوقت، يقول : " أتاني رسول أحمد ابن طولون وقد مضى من الليل أكثره وأنا نائم في فراشي فقرع بابي قرعاً عنيفاً، فأشرف عليهم عيالي فإذا جماعة من الغلمان بالشمع والمشاعل، فراعهم ذلك وعرفوني فأشرفت عليهم، فعلمت أنه لم يستدع حضوري في ذلك الوقت لخير، فأيست من الحياة فدخلت المستراح(المرحاض) وتطهرت وتطيبت كمن يفارق الدنيا ولبست ثياباً نظيفة، وقلت : تكون مشيئة الله ، وودعت أهلي وقد كثر بكاؤهم وضجيجهم، ونزلت إليهم فركبت معهم، فمضوا بي حتى دخلت إلى أحمد ابن طولون".. ثم يتحدث الكاتب عن المهمة التي كلفه بها  ابن طولون وقوله له " أنت غداً في  دعوة فلان، ومعك في الدعوة فلان وفلان" ويقول الكاتب " وأسمى لي جميع من كان قد وقع الاتفاق على حضوره وقال : امض واحذر أن يفوتك شيءٍ مما جرى حتى تبينه وتنصرف به إلى تـُعَرِّفْنِيه، فقلت السمع والطاعة لأمر الأمير أيده الله.." وخرج الكاتب متحيراً يقول لنفسه "أَبَعَد هذا السن أركب الآثام وأسعى بقوم بيني وبينهم مودة وعشرة وأخوة وأكون السبب في قتلهم وإتلاف نعمتهم، إنا لله وإنا إليه راجعون، وتأملت الحال فإذا بي إذا خالفت أمره قتلني وأيتمت ولدي وأرملت زوجتي وإني غير مختار، ثم فكرت في وقوفه على الدعوة وعلى حالها وعلى من يحضرها فازداد خوفي منه وحذرني ، وعدت إلى منزلي وقد يئسوا مني فلما رأوني تباشروا بي وحمدوا الله. ورأوني رجعت إليهم من الآخرة ووهبني لهم هبة جديدة، فلما أصبحت وتعالى النهار جاءني رقعة صديقي صاحب الدعوة يسألني أن أقدم إليه، ففعلت وأظهرت أن بي عسر البول، وحضرت الجماعة التي أسماهم لي ابن طولون، فكنت كلما سمعت شيئاً يجب أن أثبته أريهم أني أقوم إلى المستراح(المرحاض) فإذا حصلت فيه كتبت كل ما جرى ، ولم يكن للقوم منذ وقت حضورهم إلى وقت انصرافهم حديث إلا ذكر أحمد ابن طولون بكل قبيحة وعظيمة والابتهال إلى الله جل اسمه بالدعاء عليه وتمكين الموفق(العباسي) منه، كل ذلك لأمن بعضهم من بعض والثقة بهم، ولما في قلب كل واحد منهم منه، فلم أزل أكتب كل ما يقوله واحد واحد، ـ وفي قلبي من ذلك ما قد علمه الله عز وجل ـ إلى بعد العتمة، وانصرفت الجماعة وكنت آخر من انصرف، فجئت من توي إلى أحمد ابن طولون كما أمرني ، فأخذت إليه فأصبته على تلك الحال وهو كالمنتظر لي.. فقال : هات ما معك. فلما استوفى قراءتها، قال لي بارك الله عليك خذ ما تحت المصلى فمددت يدي وأنا أرتعد وأقدر أنها أفعى وقد أعدها لي تضرب يدي فتأتي على نفسي، فأصبت رقعة فقال لي : اقرأها، فقرأتها فإذا فيها جميع ما كتبته، ما غادرت منه حرفاً واحداً، وإذا به قد بعث معي واحداً من القوم الذين كانوا معنا في الدعوة لا أعرفه، فعرفت بعد ذلك أنه كان بعض أصحاب صديقي ، وأراد أحمد ابن طولون معرفة أينا أصدق وأنصح فيما يرويه له فكانت نسختانا واحدة، فحمدت الله جل اسمه إذ لم أدع شيئاً قلّ أو جلّ حتى كتبته، وتيقنت أني لو تركت شيئاً لاستحل قتلي، فلما قرأتها قال لي : دعها وامض، وأمر لي بألف دينار فأخذتها وانصرفت، وليس لي فكر ولا عقل إلا في أصدقائي وما أتخوفه عليهم، فلما كان من غد ركبت إلى دار صديقي صاحب الدعوة لأعرف خبره فلما صرت إلى السكة التي يسكن فيها لم أر للدار التي كان فيها أثراً، ورأيت موضعها رحبة مكنوسة مرشوشة واسعة نظيفة لا أعرفها ولا رأيتها قط،وأقبلت أطلب الدار فلا أراها بوجه ولا سبب، فتحيرت ووقفت أتأمل الرحبة والموضع فرآني بعض شيوخ الناحية ، فتقدم إلى وقال : أراك ـ أعزك الله ـ متحيراً ، فقلت له : نعم ، أعزك الله ـ أنا أطلب دار صديق وما أراها ، ولولا معرفتي بهذا الموضع لقلت غلطت موضعها، فأخذ بعنان لجامي وقدمني ناحية وخلا بي وقال لي : امض يا حبيبي في حفظ الله، فرحم الله صديقك.. فقلت له : عرفني ما وقفت عليه لأعمله،فقال : أما خبره فما أدري كيف جرى، سعوا به إلى أحمد ابن طولون وبجماعة كانوا عنده البارحة في دعوة فلما كان في أول الليل وافى إلى هنا أكثر من خمسمائة رجل وأكثر من ثلاثمائة بغل عليها المزابل، فأنزلت الدار إلى الأرض بأسرها ونقل جميعها إلى البحر فما أصبح الصباح حتى صارت رحبة كما ترى مكنوسة مرشوشة كأنه ما كانت ها هنا دار، وغُرِّقَ صاحبها والجماعة الذين كانوا عنده، وكانوا يخرجون كل واحد منهم من منزله فيغرقونه وتؤخذ نعمته كلها، فاذهب في حفظ الله..."!!.

كراهيته لعمل الجواسيس

1 ـ كانت أم عقبة الأعرابية تتمتع بحظوة عند احمد ابن طولون، وقد عرضت عليه أن يولي ابنها عملا فقلده القيام على البريد في إحدى النواحي، والبريد كان من وسائل التجسس وقتها، وبعد مدة جاءت الأعرابية إلى أحمد ابن طولون تحتج عليه أن أوكل لابنها هذا العمل، ووصفت الجاسوسية بأنها نميمة وهتك للأسرار ومقت وسب، فضحك ابن طولون، وأمر بأن يأخذ ابنها مرتبه دون أن يعمل.. ولو كان ابن طولون يرى رأياً آخر في تلك المهنة لما وافق الأعرابية على قولها وموقفها .

2 ـ وقد حدث أن احدهم وشى بأبيه واتهمه بان شقير الخادم ـ عدو ابن طولون ـ قد أودع عنده وديعة مالية، ومع خطورة الأمر فلم يتخذ ابن طولون إجراء ضد الأب، وسكت عنه حتى مات، فطالب الابن بالوديعة التي ادعاها على أبيه، فلم يجد عنده شيئاً، فأمر بضربه ومات تحت الضرب، وقصد بذلك أن يعاقبه على عقوقه بأبيه، ولو كان مستريحاً لفعلته لأخذ الأب بوشاية ابنه...

3 ـ وقد كان نسيم الخادم هو الذي تأتيه تقارير أصحاب الأخبار التي تتضمن الوشايات ونتج عنها القتل والمصادرة، وكان نسيم يكره أولئك الجواسيس ويلعنهم في وجوههم، وبعد أن يوصل التقرير إلى ابن طولون ويقرؤه يأمره ابن طولون بحرق التقرير بعد أن يأمر بقتل المشكو في حقه، وكان ابن طولون يثق في خادمه نسيم لذلك أوكل له مهمة حرق التقارير أولاً بأول ، وأراد أصحاب الأخبار الإيقاع به عند ابن طولون فأوهموه بأنه لم يحرق التقارير، إذ كانوا يرفعون له نسخة أخرى من التقرير على أنها الأصلية التي لم تحرق، فحقق معه ابن طولون فحلف له نسيم أنه حرق كل تقرير، فقال له ابن طولون : صدقت وقد علمت ذلك، وإنها حيلة منهم عليك في الرقاع التي أمرك بتحريقها ، لأن لي فيها علامة.. ثم قال له عن الجاسوسية وأصحاب الأخبار "وهذه يا بني صناعة رديئة ليس يصلح لها غير الشرار ومن ليس فيه خير..!!

أخيرا : الجهاز السري في دولة الاستبداد

1 ـ ومهما يكن فقد شدد ابن طولون قبضته على مصر بواسطة البوليس العلني والبوليس السري وأجهزته على الحدود وأطراف البلاد وأبواب المدن، بحيث لم يكن يستطيع أحد اجتياز الحدود بدون جواز سفر، وقد هرب منه واحد من جهازه السري ، وخاف ابن طولون أن يهرب خارج البلد فيفشي أسراره، فبعث خلفه العيون، فأخذوا عليه كل طريق، ولم يستطع الرجل الخروج من البلد إلا بحيلة نادرة، إذ خبأ نفسه في نعش على أنه امرأة ميتة وحمل النعش بعض أعوانه، وساروا به إلى الصحراء، ولكن بسبب سوء حظه صادف ابن طولون تلك الجنازة الوهمية فاستراب فيها، وكشف النعش فإذا بالهارب فيه..

2 ـ وهرب أبو الذؤيب، أحد أصحاب الأخبار، فأرسل ابن طولون خلفه الشرطة وقال لهم : لا تطلبوه في داره بالفسطاط ولا في ضيعته ولا عند أحد من إخوانه ولكن اطلبوه في الأديرة فستجدونه في زى راهب لأنه يعرب القبطية ـ لغة أهل مصر وقتها ـ ووجدوه كما وصف ابن طولون، ومعنى ذلك أن جواسيسه أنفسهم كانوا لا يستطيعون الهروب من قبضته، فكيف بالآخرين..

3 ـ صحيح أن ابن طولون قد برع في استخدام ذلك النظام السري واشتدت به قبضته، ولكن ليس بالبوليس السري وحده يعيش المستبد في راحة من المكائد حتى لو كان محباً للعدل، ذلك أن العادة أن الذي يرضى لنفسه بهذا العمل يكون من شرار الناس كما اعترف ابن طولون، ولأنهم أشرار فلن يتورعوا عن الفساد إذا أتيحت لهم الفرصة، والاستبداد قرين الفساد، والذين هربوا من شرطة ابن طولون السرية استغلوا نفوذهم في الإثراء الحرام فلما انكشف أمرهم هربوا، لأنهم يعرفون أن ابن طولون لا يسمح بالفساد وإن كان يرضى لنفسه بالاستبداد، ولذلك نجح الجهاز السري نفسه في الكيد لابن طولون، حين جعلوا ابنه العباس يثور على أبيه ويخرج إلى برقة ومعه الأموال والجنود حين كان أبوه يحارب خصومه في الشام،وأخمد ابن طولون ثورة ابنه بصعوبة هائلة وقتل أتباعه، ولكن الجهاز السري ما لبث أن جعل أحب غلمان ابن طولون ينقلب عليه، وهو لؤلؤ قائد جيشه بالشام..وإن كانت قوة ابن طولون جعلته يتمكن من القضاء على تلك النوازل ويتخطاها إلا أن أولاده كانوا أقل منه كفاءة فاندثرت دولتهم، وبقي لنا منها الدرس ، فالنظام السري للحاكم المستبد لابد أن يكون مركز قوة يشارك الحاكم المستبد في السلطة والثروة، والحل هو في الديمقراطية والعدل.  

اجمالي القراءات 4622

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2006-07-05
مقالات منشورة : 5117
اجمالي القراءات : 56,872,528
تعليقات له : 5,451
تعليقات عليه : 14,828
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : United State

مشروع نشر مؤلفات احمد صبحي منصور

محاضرات صوتية

قاعة البحث القراني

باب دراسات تاريخية

باب القاموس القرآنى

باب علوم القرآن

باب تصحيح كتب

باب مقالات بالفارسي