بين الشورى والإستبداد في تاريخ المسلمين : قراءة سريعة

آحمد صبحي منصور Ýí 2015-09-26


 

( ق 2 ف 2 ) بين الشورى والإستبداد في تاريخ المسلمين : قراءة سريعة

كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

  القسم الثاني : قراءة في مقدمة إبن خلدون   

المزيد مثل هذا المقال :

الفصل الثاني :  مدى تأثر إبن خلدون بعصره في المقدمة منهجيا وموضوعيا

ملاحظة : سبق نشره بالانجليزية فى الموقع


The Islamic History between Democracy and Despotism

http://www.ahl-alquran.com/English/show_article.php?main_id=2930

 

 

       بين الشورى والإستبداد في تاريخ المسلمين : قراءة سريعة

     من الصعب إيجاز تاريخ المسلمين السياسي في صفحات معدودة ، وهو يدور حول قضية الخلافة الرشيدة وغير الرشيدة ، ومن الأصعب أن يغطي هذا التاريخ الموجز قضايا عميقة التأثير دينيا وسياسيا.

    ولأنها قراءة سريعة فقد آثرنا أن نتوقف عند محطات تاريخية فاصلة ، نعطي كلا منها عنوانا يدل عليها . ونبدأ هذه المحطات بدولةالنبي عليه السلام .

أ- دولة النبيفي المدينة : الشورى = الديمقراطية المباشرة

   والملمح الأساسي هنا أن الشورى كانت فريضة إسلامية ، منبعها الأساسي عقيدة (لا إله إلا الله) ، وكان المسلمون يمارسون هذه الفريضة في المسجد . ويتفرع عن هذا الملمح الرئيسي المعاني القرآنية الآتية :

  1- الشورى جزء من عقيدة الإسلام ، فالله تعالى وحده هو الذي لا يسأل عما يفعل، وما عداه من المخلوقات يتعرض للمساءلة (الأنبياء 23) والنبي محمد عليه السلام كان مأمورا بالشورى ( آل عمران 159) ومعناه أن الذي يستنكف عن الشورى إنما يرفع نفسه فوق النبي أي يكون مدعيا للألوهية . ويرتبط بذلك التكرار القرآني لقصةفرعون وإستبداده الذي أدى به إلى إدعاء الألوهية وإهلاك نفسه وقومه . أي أن الإستبداد شرك وكفر ، وأن الشورى من ملامح عقيدة لا إله إلا الله .

   2- ولأنها جزء من عقيدة الإسلام فالمنتظر أن تكون فريضة إسلامية كالصلاة ، وهنا نلفت النظر إلى أن الأمر بالشورى كإحدى ملامح المجتمع الإسلامي جاء في سورة مكية قبل أن تقوم للمسلمين دولة ، وإسمها سورة الشورى ، وجاء الأمر بها بالجملة الإسمية التي تفيد تمام الثبوت وتمام التأكيد ، وجاءت الشورى ضمن عدة أوامر إسلامية أساسية ، بل جاءت فريضة بين فريضتي الصلاة والزكاة ( الشورى :38) أي أن الشورى فريضة كالصلاة ، فإذا كانت الصلاة تؤدى في المسجد وفي البيت وفي أي مكان فالشورى كذلك ، وإذا كانت الصلاة فرض عين لاتجوز فيها الإستنابة أو التمثيل النيابي ، فالشورى كذلك . فالمؤمن مأمور بالشورى في بيته وعمله ، كما هو مأمور بألا يتخلف عن الشورى في الأمور العامة في المسجد، حيث إعتاد المسلمون في دولة المدينة أن يرفعوا الآذان  بقول " الصلاة جامعة " فيجتمع المسلمون جميعا ، رجالا ونساء ويتكون مجلس عام – وليس مجلسا نيابيا – كل أعضائه أفراد المجتمع، ( أو جمعية عمومية )  ويتداولون في الأمر المعروض ، وهذا ما تردد في القرآن مجالس الشورى ، وهذا ما أهملته المصادر التاريخية للسيرة النبوية لأنها كتبت في عصور الإستبداد العباسي . بمثل ما أهملوا تدوين خطب الجمعة للنبي عليه السلام ، ومن مجالس الشورى وخطب الجمعة للنبي كل أسبوع تعلم المسلمون على يد النبي إقامة دولة مدنية في المدينة وسط المجتمع الصحراوي .

 3 ــ     ويكفينا من حديث القرآن عن مجالس الشورى تلك الآيات الأخيرة من سورة النور ، وهي أوائل ما نزل في المدينة ، والواضح من قراءتها أن بعض أهل المدينة لم يتعود حضور مجالس الشورى ، فكان يتخلف عنها بعذر أو بدون عذر ، أو كان يتسلل خارجا ، فجاءت الآيات بانذار شديد لهم تجعل حضور هذه المجالس فريضة إيمانية تعبدية ،حتى لا يتحول المجتمع إلى أغلبية صامته وأقلية متحركة تقبض على زمام الأمور وتمارس الحكم النيابي ، ثم بعده الإستبداد الفردي – وهذا فعلا ما حدث بالترتيب بعد

وفاة النبي . .

هذا عن الملمح الأساسي في الشورى الإسلامية كما عرفها وطبقها النبي عليه السلام في المدينة .  وهو كون الشوري جزءا من عقيدة الإسلام وفريضة تعبدية كالصلاة تماما.

   ونصل إلى الملمح الفرعي ، وهوالسياسي ، وتتفرع عنه المبادئ القرآنية  الآتية :

1- أن الأمة هي مصدر السلطات ، أي أن المجتمع هو صاحب الحق المطلق في الحكم.   والنبي محمد حين كان حاكما قال له ربه {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر: آل عمران 159}أي بسبب رحمة من الله جعلك لينا معهم ، ولو كنت فظا غليظ القلب  لانفضوا من حولك ، وإذا انفضوا من حولك فلن تكون لك دولة ولن تكون لك سلطة ،

  وستعود إليك سيرة الإضطهاد التي كانت في مكة ، إذن فاجتماعهم حولك هو الذي أقام  لك سلطة سياسية ، ودولة ، أي أنهم مصدر السلطات ، لذا فاعف عنهمم إذا أذنبوا في حقك واستغفر لهم إذا أساءوا إليك ، وشاورهم في الأمر لأنهم أصحاب الأمر والسلطة .

 2- ويترتب على هذا أن الدولة الإسلامية لا تعرف وجود الحاكم بالمفهوم الديمقراطي الغربي وفق نظرية العقد الاجتماعي الديمقراطية ، لأن المجتمع هو الذي يحكم نفسه بنفسه ، ولهذا تأتي الأوامر السياسية في القرآن لا تخاطب حاكما وإنما تخاطب مجتمع المسلمين تأمره بأداء الأمانة والحكم بالعدل ( النساء 58) ( النحل 90 ، الأنعام151).

 بل إن لفظ يحكم في القرآن جاء ليس بمعنى الحكم السياسي ولكن بمعنى التقاضي ، باعتبار أن إقرار العدل هو أهم واجبات الدولة الإسلامية. ولفظ ( الحكام ) بمعنى الحكم السياسى جاء فى القرآن الكريم مرتبطا بالفساد وأكل أموال الناس بالباطل (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) البقرة  )

3- أما آلية حكم المجتمع نفسه بنفسه فعلى أساس الشورى التي تعني الحكم الجماعي ومساءلة أولي الأمر بعد طاعتهم في إطار طاعة الله ورسوله . وأولوا الأمر في مصطلح القرآن تعني أصحاب الشأن والإختصاص في الموضوع المطروح ، وبهذا جاء المعنى في آيتين في  القرآن (النساء 59، 83 ) .

وليس هذا نظاما يوتوبيا خياليا ، بل نجح في إقامة دولة النبي وتأسيس أمة وكوادر ، وأقرب النظم  الحديثة له في عصرنا هو دول الإتحاد السويسري وبعض مناطق النمسا ، حيث يتناوب أفراد خبراء الحكم كموظفين يعينهم المجتمع ويسائلهم ويعزلهم ، وإذا أخرج من الحكم أصبح فردا عاديا يأكل الطعام ويمشي في الأسواق .

4- ويرتبط بهذا النظام السياسي للشورى نظام إقتصادي يقوم على أساس حق المجتمع في ملكية الثروة ، وحق الأفراد النسبي في الثروة في ظل قواعد قرآنية تمنع الإنفاق الترفي والإستغلالي وتقطع الطريق أمام نشأة طبقة مترفة تتداول فيما بينها الثروة وتحتكرها وتسبب إهلاك المجتمع وتدميره .

ب – دولة قريش في عصر الخلافة الرشيدة :

1 ـ   طبقا للديمقراطية المباشرة في عهد النبي نستطيع أن نعثر على الإجابة الحقيقية للسؤال الذي احتار فيه المؤرخون ، لماذا مات النبي دون أن يعين خليفة من بعده ، والجواب ببساطة لأنه لا يوجد حاكم بالمعنى المفهوم ، ولأن المجتمع قادر على أن يحكم نفسه بنفسه وفق الآليات السائدة . ولكن حدث تطور خارجي هو حركة الردة التى قام بها الأعراب الكارهون لعودة الملأ القرشى للصدارة بعد موت النبى محمد عليه السلام .   وفى مواجهة حركة الردة إتحدت القوة الحربية لقريش في مكة مع القوة الحربية لقريش في المدينة ، أي إتحاد القرشيين بكل مجدهم السالف واللاحق قبل النبي وبعده ، وجاء هذا التحالف في وقت حرج ، وكان لابد أن تكون له ضحايا ، وأول الضحايا هم الأنصار ، وأبرز الضحايا هي دولة النبي " الديمقراطية المباشرة ". وبعد إخماد حركة الردة وخشية أن يعود الأعراب الى الثورة دفعت بهم قريش الى الفتوحات ، فأحدثت تغييرا هائلا فى التاريخ العالمى وقتها ، واشرف فيه العرب على العالم لأول مرة .

2 ـ      وقبل أن تأتي التفصيلات نشير إلى حقيقة أخرى ، وهي أن الحكم السياسي في العالم وقتها كان يتنفس الإستبداد الديني والسياسي على كل المستويات ، أي كانت دولة النبي جملة إعتراضية في هذا العصر ، ومن المنتظر أن يهزمها العصر بأدواته من الخارج ( حركة الردة ) ومن الداخل القرشيون في مكة والمدينة وخصوصا (الأمويين) . ولكن من المنتظر أيضا أن يتم التحول تدريجيا من الديمقراطية المباشرة في عهد النبي إلى الإستبداد السياسي المقيد ( فى عهد الراشدين ) ثم الاستبداد الوراثى المطلق ( في العصر الأموي ) ، وأخيرا الإستبداد السياسي الكهنوتي ( في  العصر العباسي ) ، وهذا التحول التدريجي دفع المسلمون ثمنه غاليا من حروب أهلية وإغتيالات  سياسية وإنشقاقات مذهبية بدأت بالسياسة وانتهت بالتفرق في  الفكر والدين ،من أقصى اليسار ( الخوارج ) إلى أقصى اليمين ( الشيعة ). ولا زلنا على نفس الدرب نسير .  

    والمحطة الأولى في درب الآلام هذا ، هو ماسميناه دولة قريش في عصر الخلافة  الرشيدة ،وهذه المحطة الرئيسية تتفرع عنها محطات فرعية نتوقف معها سريعا كالآتي:

   1- في بيعة السقيفة : وبها أمكن تهميش الأنصار ، وتم نفي زعيمهم سعد بن عبادة إلى الشام حيث تم إغتياله هناك ، وفي المقابل سلم الأنصار بأن العرب لا تخضع إلا لهذا الحي من قريش ، أي تحول الأمر إلى حكم وسيطرة . وفي بيعة السقيفة كاد عمر أن يقتل سعد بن عبادة والحباب بن المنذر .

   2- وبعد بيعة السقيفة البيعة الخاصة كان لابد من تنظيم البيت القرشي من الداخل ليرضى الهاشميون والأمويون – وهما معا أبناء عبد مناف – بحكم أبي بكر ، وتم استرضاء أبي سفيان حين إحتج على أن يحكم الدولة رجل من أقل بيوت قريش شأنا. إسترضاه أبوبكر بتعيين إبنه يزيدا قائدا في حروب الردة ، واستعمل عمر الشدة مع أنصار " علي " وكاد يقتل الزبير بن العوام وانتهى الأمر بأن بايع " علي " " أبا بكر ".

    3- واستطاعت قريش إخماد حركة الردة ، وحتى لا يعود الأعراب إلى الردة ثانيا، وحياتهم تقوم على السلب والنهب فقد قامت قريش بتصدير الشوكة الحربية  للأعراب إلى خارج الجزيرة العربية فكان القادة في الفتوحات من قريش ، وكان الجند من الأعراب ، وبالفتوحات العربية دخل المسلمون في وضع جديد فقدوا فيه ملمحين آخرين من ملامح الدولة الإسلامية ، وهو أن يكون القتال في الإسلام لرد الإعتداء بمثله فقط ،ودون إعتداء على أحد ، وأن يعاقب المعتدي عند الإنتصار عليه بإرغامه على دفع الجزية دون إحتلال أرضه ، ولكن الفتوحات كانت إعتداءا على دول وشعوب في عقر دارها وتخييرها – أو بمعنى أصح – إرغامها على واحد من ثلاث : الإسلام أو الجزية،أو الحرب ، وهكذا تمثلت في خلافة أبي بكر إقامة حاكم يستشير حلقة ضيقة من أعوانه،والباقون أصبحوا مهمشين وهم الأنصار ، ثم يقوم بعمل توازنات سياسية داخل قبيلته ،ثم يدخل حربا ضد أمم وشعوب ويحتل أرضها ويفرض على أهلها الجزية ، وبذلك أصبحت الفجوة هائلة بين دولة النبي الإسلامية ، ودولة أبي بكر القرشية العربية .

  4- ثم ازدادت الفجوة اتساعا في عهد عمر ، حيث أضيف إلى المهمشين أبناء الأمم المفتوحة ، والذين لم يقترفوا ذنبا في حق العرب المسلمين ، ومع ذلك فقد تعرضوا للسلب والنهب أثناء المعارك ، ودفع الجزية بعدها ، وأصبحوا مواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة ، بالإضافة  إلى سبي نسائهم وتحول أبنائهم إلى رقيق . وفي نفس الوقت كان قواد الفتوحات من قريش هم أمراء الولايات المفتوحة . واتبع عمر سياسة

الحزم والعدل مع العرب ، ونعُمَ العرب بعدله دون أبناء الأمم المفتوحة . وحرم دخول المدينة على غير العرب خوفا على حياته منهم .وفعلا كان إغتياله على يديأبي لؤلؤة المجوسي أحد سبايا نهاوند في صغره ، والذي كان يبكي حين يجد صبيان السبي في معسكرات الأسر بالمدينة فيمسح رءوسهم متوعدا عمر .

   5-  وتولى عثمان الأموي فخالف سياسة عمر في عدله وحزمه ، إذ سيطر الأمويون في خلافته على الثروة والسلطة ، وتكونت في قريش إحتكارات هائلة ، واكتنز كبار الصحابة أرادب الذهب ، وهذه الأموال تم جمعها بغير طريق شرعي من البلاد المحتلة بالجزية والسلب والنهب ، فكان من الطبيعي حين يكتنزها القرشيون دون الأعراب جند الفتح – أن يحدث النزاع . وهذا هو السبب الحقيقي في الفتنة الكبرى ، وقد بدأت بالثورة على عثمان وحصاره في داره وقتله ، وانتهت بتفرق المسلمين إلى أحزاب سياسية

متقاتلة  ، وإقامة حكم إستبدادي بين الأمويين ، يقوم على أساس التوارث والقوة المسلحة ، ويستخدم الصراع القبلي وسيلة للوصول للسلطة أو الإحتفاظ  بها . . وهذه هي سمات المحطة التالية .

ج – دولة قريش في الخلافة الأموية

1 ـ    والسمة الأساسية في هذه الدولة هي الإستبعاد والإستبداد والإستعباد .

2 ـ   فقد تعاظم إستبعاد القرشيين من خارج البيت الأموي ، واتخذ الإستبعاد شكل التعصب على كل مستوياته.

3 ـ  فالأمويون تعصبوا للجنس العربي ضد غير العرب من الموالي في العراق وإيران والأنباط في الشام والأقباط في مصر والبربر في شمال أفريقيا . وحولوا الأجناس غير العربية إلى رقيق أو ما يشبه الرقيق ، وذلك مفهوم الموالي في اللغة العربية ، وحتى من أسلم منهم كان  مرغما على دفع الجزية . وإن إحتج على الظلم واجهته الدولة بترسانتها العسكرية .

4 ــ والأمويون في لعبة السياسة أثاروا العصبية القبلية بين العرب ، فكانوا في الأغلب ينحازون إلى قبائل اليمن ضد قبائل مُضر ، وأحيانا ينحاز الخليفة الأموي إلى قبائلمُضر وربيعة إذا علا نفوذ القبائل اليمنية ، وقد استفاد الخلفاء من هذا التعصب القبلي وسخروه في تدعيم نفوذهم السياسي حيث كانت القبائل  هي عماد الدولة عسكريا ، ولكن عندما ضعف الخلفاء الأمويون أصبحوا ضحايا لهذه اللعبة القبلية .

5 ــ  وفي داخل قريش تعصب الأمويون لبني عمهم الهاشميين إجتماعيا فقط ، وذلك  ضد البطون القرشية الأخرى ، ولكن عاملوا الهاشميين بكل قسوة إذ ثاروا على الدولة ، وذلك تعصبا للأسرة الأموية ضد الهاشمية .

6 ــ وداخل الأسرة الأموية تعصب الخليفة لإبن عمه القريب ضد إبن عمه البعيد ، ثم على مستوى البيت نفسه كان الخليفة يتعصب لإبنه ضد أخيه ، إذ يولي إبنيه الخلافة بالعهد لهما من بعده ، ويخلع أخاه . فإذا تولى الإبن الأكبر بعد أبيه بادر بعزل أخيه والعهد لإبنه بدلا منه . وهكذا يفعل الإبن فيما بعد .

7 ــ    وبالتالي فإن المستبعدين من المشاركة السياسية لم يكونوا فقط الأنصار ( في عهد أبي بكر ) أو الأمم المفتوحة ( في عهد عمر ) أو بقية العرب ( في عهد عثمان ) أوبقية قرش ( في عهد معاوية ) بل إنضم إليهم أخوة الخليفة وأبناء عمومته فى ذرية مروان بن الجكم .  ولم يكن للقبائل العربية إلا إسترضاء الخليفة الذي كان يحكم مستبدا بالحديد والنار ، وذلك طمعا في بيت المال الذي إحتكره الخليفة لنفسه.

 وضاقت حلقة المستشارين ( أهل الحل والعقد) وخف وزنهم ، فأصبحوا بعض شيوخ القبائل من قادة الجيش وبعض الولاة والخدم والكتبة . وكانت وظيفة هذا الملأ هي المسارعة لإرضاء الخليفة ونزواته إذا كان ماجنا .

8 ــ     ويرتبط بالإستبداد والإستعباد والإستبعاد قسوة الدولة في معاملة رعاياها من غير العرب ، وقسوتها في معاملة العرب الثائرين عليها ، إذ كانوا من الخوارج أو من الهاشميين . وهذه القسوة لم تعرف القيود ولا الحدود ، ويكفي أنه في خلافة يزيد بن معاوية إرتكبت الدولة فظائع ثلاث في سنوات ثلاث هي حكم يزيد ؛ في السنة الأولى قتل الحسين وآله في كربلاء ، وفي السنة الثانية إقتحام المدينة وقتل أهلها وسبي نسائها، وفي السنة الثالثة حصار الحرم المكي وضرب الكعبة بالمجانيق أثناء ثورة إبن الزبير .فإذا كان الأمويون يفعلون هذا ببني عمومتهم الهاشميين وبمكة والمدينة وأهلها من قريش والأنصار فكيف بالموالي وبالخوارج ؟ ولهذا نفهم سطوة الولاة الأمويين كالحجاج بن يوسف وخالد القسرى وقرة بن شريك .  ولذلك لا تتعجب من خطبة عبدالملك بن مروان سنة 75هـ في  المدينة ، إذ قال لأهلها " أما بعد ، فلست بالخليفة المستضعف ( يعنيعثمان ) ولست بالخليفة المداهن (يعني معاوية ) .. والله لا يأمرني أحد بعد مقامي هذا بتقوى الله إلا ضربت عنقه ".

9 ــ إذن هو حكم عسكري إستبدادي يقوم على القوة الصريحة ، ويستخدم كل الوسائل في سبيل البقاء في الحكم ، ومن ضمنها الدين والفتوحات بإسم الدين ، والعروبة ، والعصبيات القبلية ، ثم سلاح السيف ، وسلاح المال . . وتكالبت كل هذه الأسلحة ضد الدولة الأموية  في النهاية ، فأسقطتها الدعوة العباسية في عز شبابها سنة 132 هـ .

د – دولة قريش في الخلافة العباسية

1 ـ    تخصص الأمويون في التجارة ورحلة الشتاء والصيف ، وأحرزوا مكانتهم بالتجارة، وفي سبيلها عارضوا الإسلام في مكة ، ثم دخلوا فيه بعد فتح مكة ، وكان العباس بن عبدالمطلب عم النبي (ص) في مكة باقيا على دين آبائه قائما على رعاية حقوق بني هاشم في رعاية المسجد الحرام ورعاية الحجيج ، وفي سبيل هذه التجارة بالدين حارب العباس  مع قومه المسلمين في بدر ، وكان من الأسرى وافتدى نفسه ، وعاد إلى مكة يمارس التجارة بالدين بينما يقود صديقه أبو سفيان التجارة ( العلمانية ) ،  وعند فتح مكة توسط العباس لصديقه أبي سفيان لدى النبي لأن أبا سفيان رجل يحب الفخر ، لذلك أعلن أن من دخل دارأبي سفيان فهو آمن . وظل العباس في مكة ومعه إبنه عبدالله بن عباس الذي لم ير النبي إلا مرتين أو ثلاث ، حيث مات النبي في المدينة وهو لا يزال صبيا في مكة .

2 ــ وانضم إبن عباس لإبن عمه علي بن ابي طالب في خلافته القصيرة الحزينة ، وحين إنهارت دولة علي بادر إبن عباس – وكان واليا لعلي على البصرة – بالهروب منها حاملا معه بيت  المال ورفض كل توسلات " علي " له بأن يرجع هو أو يعيد بيت مال المسلمين، وهذا في نفس العام الذي شهد مقتل علي .

3 ــ     إذن فأصحاب الحكم الإستبدادي ينتمون إلى الأمويين ( أبوسفيان ، الحكم بن العاص) وهم تجار إهتمامهم الأصلي الجاه والمال بأي طريق ، وكان ذلك مدار الحكم الأموي العسكري ( العلماني بمفهوم عصرنا) أو ينتمون إلى العباسيين ( عبدالله بن العباس )، وهم تجار دين يستخدمون الدين السائد طريقا للمال والجاه .

4 ــ  وهذا هو الفارق الأساسي بين الخلافتين الأموية والعباسية، تراه نفس الخلاف بين معاوية وأبيه أبي سفيان من ناحية ، وعبدالله وأبيه العباس من ناحية أخرى، وفي علاقة الفريقين بالنبي محمد  وإبن عمه علي بن أبي طالب .  وترى نفس الخلاف في سياسة الدولتين . . فالخلافة الأموية كانت سلطة عربية مستبدة تتعصب للعرب وتحتقر غير العرب ، أما الخلافة العباسية فكانت سلطة كهنوتية سياسية مستبدة تتعصب لمفهومها الديني عن الإسلام وتحتقر المذاهب  والأديان الأخرى ، من الشيعة وأهل الكتاب ، بغض النظر عن العرق والجنسية . ومن الطريف أن الأخطل الشاعر النصراني كان يدخل على الخلفاء الأمويين يحمل الصليب ويخرج مكرما لأنه عربي ، بينما يدفع المصري الجزية حتى لو أسلم لأنه غير عربي . وفي الدولة العباسية تقطع الدولة دابر من يخالفها في السياسة والفكر بدعوى الزندقة ، بينما يعيش زنادقة حقيقيون في داخل البلاط العباسي وفي معاهد الدولة العلمية وينالون التكريم لأنهم يؤيدون الدولة سياسيا ضد التشيع .

5 ــ     ولم تقم الدولة الأموية عن طريق دعوة فكرية أو مذهبية ، ولكن على أساس القوة  وحدها ، أي بقانون القوة ، ولذلك لم تلجأ إلى تبرير قسوتها بأى فتوى دينية حين ارتكبت المجازر أو الفظائع ضد آلالنبي والمدينة ومكة . ولكن الدولة العباسية قامت عن طريق دعوة دينية مذهبية هي الدعوة للرضي من آل محمد ، وسرقت جهد الشيعة الكيسانية ، وأقامت الدولة العباسية عبر طريق مشوار طويل من العذاب قطعه من كان يعتقد أن الخليفة سيكون من ذرية "علي " . وبعد أن قامت الدولة العباسية إرتكبت نفس المجازر ضد أبناء عمومتهم من ذرية علي ، وضد الآخرين ، ولكن مع تغيير طفيف ، هو أن الخليفة كان يستصدر فتوى من علماء الدين الذين يعملون لديه ،أي أنها دولة قوةالقانون، ولكنه القانون الذي تستصدره عن طريق جهازها الفقهي والرسمي .

 6 ــ   باختصار كانت الدولة العباسية هي النموذج الكلاسيكي للدولة الدينية المذهبية الكهنوتية ، وعلى منوالها جاءت الدولة الفاطمية أكثر تطرفا في الكهنوت السياسي ، ثم كانت الدولة العثمانية وسطا بين هؤلاء وهؤلاء .

7 ــ     ولقد خطب الخليفة أبوجعفر المنصور يوم عرفة فقال : أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه ، أسوسكم بتوفيقه ورشده ، وخازنه على فيئه أقسمه بإرادته وأعطيه بإذنه ، وقد جعلني الله عليكم قفلا ، إذا شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم وإذا شاء أن يقفلني عليه قفلني . . " .   أي أن المنصور العباسي كان يحكم بمنطق العصور الوسطى ، أي بالحق الملكي  المقدس حسبما  كان سائدا في أوربا ، يستوي في ذلك الخليفة وإمبراطور الدولة الرومانية المقدسة أو هنري الثامن ، وتلك هي المحطة الأخيرة في طريق الإستبداد والإستبعاد والإستعباد .

هـ - وأخيرا

1 ــ    يبقى أن نقول أن ثقافة الإستبداد إتخذت موقفا من تشريعات القرآن التي أسست دولة النبي ، خصوصا وأن تدوين الفكر في الحضارة الإسلامية تم في تلك الدول الدينية الإستبدادية ، ويمكن القول بأن الإستبعاد السياسي إقترن بإستبعاد تشريعي للآيات القرآنية التي تناهض الإستبداد والظلم والإسترقاق ، وأقيم بدلا منها منهج آخر يقوم على أحاديث موضوعة لم يقلهاالنبي عليه السلام ، وتغيير مفاهيم القرآن ومصطلحاته ، تحت دعوى النسخ ، مع أن مصطلح النسخ يعني في القرآن الكتابة والإثبات وليس الحذف والإلغاء . ومن المصطلحات التي غيروها مصطلح البيعة ، وهي في القرآن تعني المبايعة على التمسك بالحق والدفاع عنه ، فأصبحت في التراث تعني إعلان الخضوع للسلطان الجديد والتسليم له سياسيا ودينيا واقتصاديا . وفي نفس الوقت تم تجاهل مصطلح " الملأ "  في القرآن ،  ويعني الحاشية المفسدة التي تتبع

الحاكم المستبد ، وقد قام التراث بعملية تجميل لهذا المفهوم بوضع مصطلح جديد إسمه " أهل الحل والعقد " وهو مصطلح نراه يفتقر للواقعية السياسية ، لأن مراكز القوى في الخلافة العباسية كانت في أغلب الفترات مركزة في  الحريم ، وكانوا جميعا من الجواري السابقات من محظيات الخلافة وكانت أمهات الخلفاء من الجواري (ما عدا زبيدة زوجة الرشيد وأم الأمين ) وأولئك الجواري كن يحكمن الدولة من وراء ستار. وعلى نفس المنوال كانت الخلافة الفاطمية ، ثم العثمانية ، لا فارق بين  الخيزران

وقبيحة وشغب في الخلافة العباسية ، وست الملك في الخلافة الفاطمية وروكسلانة العثمانية .

2 ــ    لقد تبين لنا من قراءة نقدية للتراث وقراءة عقلية للقرآن أن دولة الإسلام دولة مدنية تقوم على الحق المطلق للفرد في حرية الرأي والفكر والإعتقاد ، والحق المطلق للفرد في العدل ، وعلى حق المجتمع المطلق في الحكم والسلطة وفي الثروة  وفي الأمن .وينشأ عن ذلك أن الدولة الإسلامية تقوم على الشورى التي تعني الديمقراطية المباشرة. وإذا كانت تلك المفاهيم تعارض العصور الوسطى فإنها تتفق مع عصرنا .

غير أن الأمر يستلزم إجتهادا ، والإجتهاد هو الفريضة الغائبة في مجتمعنا الراهن.

3 ــ    ونعود إلى إبن خلدون لنؤكد أنه أخضع عقله لمنطق العصور الوسطي وأبعده عن منطق القرآن وما كان عليه رسول الإسلام عليه السلام . وقد حدد هذا إنطلاق عقله في موضوع العمران ، فالروشته الإصلاحية التي قدمها إبن خلدون لإصلاح العمران ينقصها الإصلاح السياسي الديمقراطي ، وتتفق مع وجود مستبد عادل إذا صح وجود هذا الصنف من البشر ، وهذا لا يوجد في الواقع . ولقد حاول أحمد بن طولون أن يكون مستبدا عادلا فما أفلح ، لأن الاستبداد والعدل لا يجتمعان .

اجمالي القراءات 7542

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2006-07-05
مقالات منشورة : 4981
اجمالي القراءات : 53,365,558
تعليقات له : 5,324
تعليقات عليه : 14,623
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : United State

مشروع نشر مؤلفات احمد صبحي منصور

محاضرات صوتية

قاعة البحث القراني

باب دراسات تاريخية

باب القاموس القرآنى

باب علوم القرآن

باب تصحيح كتب

باب مقالات بالفارسي