ولايـة الفقيـه: أزمـة الشرعيـة المزدوجـة

محمد البارودى   في الثلاثاء ٢٦ - يناير - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً


 

رفعت رستم الضيقة
المقالة التالية جزء من دراسة أطول حول الفقه السياسي الشيعيبعنوان «الغيبة والوعي التاريخي الشيعي» لم تنشر بعد. فهي ليست تعليقاً مباشراً علىما يجري في إيران اليوم على أثر الانتخابات الرئاسية. أنشرها اليوم كمساهمة نظريةلربط ما يحدث في الجمهورية الإسلامية اليوم بسياق تاريخي أوسع. المقالة منشورة هنافي صيغتها الأصلية مع بعض التعديلات الطفيفة المتعلقة بترقيم المراجع.
تواجه مؤسسة ولاية الفقيه اليوم أزمة شرعية مزدوجة كامنة في البنية الدينية ـ التاريخية لموقع نظرية ولاية الفقيه المطلقة في التراث الشيعي التقليدي من جهة، وموقعها منالجذور التاريخية والسياسية للثورة الإيرانية كحدث تاريخي جماعي من جهة أخرى. إنهذين العنصرين يشكلان معاً كابحاً جدياً يعيق ويقيد استمرارية ممارسة سياسة التماهيالشفاف بين مؤسسة ولاية الفقيه والتراث التقليدي الشيعي من جهة وبينها وبين الثورةالإيرانية كحدث جماعي مؤسس من جهة ثانية. ولكن قبل مناقشة هاتين النقطتين لعله من المفيد إلقاء نظرة تاريخية سريعة مقارنة بين مفهوم ديكتاتورية البروليتاريا فيالتجربة التاريخية الماركسية وبين نظرية ولاية الفقيه في التجربة التاريخيةالشيعية. فعلى الرغم من تشابه المنطق الداخلي لكلتا النظريتين ـ من حيث تماهيديكتاتورية البروليتاريا مع المجتمع الاشتراكي وتماهي ولاية الفقيه مع المجتمعالإسلامي كتعبير شفاف عن هذا المجتمع ـ إلا أن هذا المنطق الداخلي لا يتحرك في فضاء تاريخي متشابه. إن شرعية ديكتاتورية البروليتاريا مستمدة تاريخياً من الثورةالاشتراكية كفعل ثوري يستمد شرعيته من ذاته كانقطاع تاريخي مع ما قبله، فشرعيةالثورة البروليتارية مستمدة من ذاتها كحدث تاريخي مؤسس لشرعيته. فعندما قامت الثورةالبروليتارية البولشفية في روسيا عام 1917 لم يكن عمر التجربة الماركسية التاريخيةيزيد على حوالى نصف قرن من الزمن، وهي تجربة تاريخية قصيرة كانت لا تزال في طورالاختبار التاريخي الأولي. فهي لم تكن تشكل تراثاً جماعياً تاريخياً متراكماً منالتقاليد الأخلاقية والسياسية الضابطة لمنطق السلطة وحدودها.
انطلاقاً من عدموجود تراث تاريخي ماركسي كهذا بتقاليده ومؤسساته التاريخية الجماعية كان من الممكنتاريخياً أن تؤسس الثورة الاشتراكية الأولى في التاريخ شرعيتها على قاعدة رؤيتهاالثورية اليوتوبية القائمة على التحويل الجذري للمجتمع القائم من أجل إقامة مجتمعالمستقبل الاشتراكي على أنقاض المجتمع القائم. إن ديكتاتورية البروليتاريا تستمدشرعيتها من التماهي الكامل والشفاف مع هذا المجتمع المستقبلي المثالي دون الحاجةإلى الارتكاز إلى أية مرجعية شرعية تاريخية من الماضي.
إن عدم وجود مرجعية تاريخية كهذه ضابطة لحدود سلطة الدولة الاشتراكية كان معناه انعدام أية ضماناتجماعية من شأنها كبح جماح العنف الكامن في منطق ديكتاتورية البروليتاريا المندفعإلى إلغاء التمايز بين السلطة والمجتمع باسم التماهي الشفاف مع المجتمع المثاليالقادم. لذلك فإن شرعية سلطة ديكتاتورية البروليتاريا لا تنبع من تمثيلها للمجتمعالتاريخي القائم بحاضره وتراثه بل من تماهيها مع تصور مجتمع مثالي قادم تصنعه علىصورتها ومثالها دون الرجوع إلى أي نموذج شرعي تاريخي سابق. لشرعية ولاية الفقيهسياق تاريخي مختلف، فهي تبني شرعيتها على أساس التواصل مع إرث ديني تاريخي جماعيليس من السهل تجاوزه واختزاله إلى مجرد أيديولوجيا للسلطة. فإذا كان من السهلنسبياً على الماركسية اللينينية المتفلتة من أي تراث جماعي ـ تاريخي أن تحول مبدأ ديكتاتورية البروليتاريا إلى أيديولوجية للقيمومة المطلقة على المجتمع. فشرعيةولاية الفقيه تبقى مشروطة بالانتماء إلى التراث الإسلامي الشيعي وما يفرضه هذاالانتماء من حدود إزاء اختزال الإرث الجماعي الشيعي إلى مجرد أيديولوجيا للسلطة باسم التماهي بين هذه السلطة والإسلام.
لقد واجهت شرعية ولاية الفقيه تحدي هذاالتراث منذ البداية. فهي لم تنجح في الحصول على إجماع مراجع التقليد الكبار فيإضفاء الشرعية الدينية الكاملة على مبدأ ولاية الفقيه. فقد تراوحت مواقف هؤلاءالمراجع، من ولاية الفقيه بين المعارضة العلنية من آية الله شريعتمداري والمعارضةالصامتة. كما كانت الحال مع آيات الله الخوئي والكلبيكاني وميلاني ومراشي(1) علىسبيل المثال لا الحصر. وإذا كان السيد الخميني قد نجح في تأمين غطاء شرعي لحكومةولاية الفقيه لكن كان ذلك بفضل زخم الثورة الإيرانية في سنواتها الأولى ومكانتهكقائد سياسي ـ ديني للثورة. فإن هذا الغطاء الشرعي لم يرق أبداً إلى مرتبة الشرعيةالدينية الكاملة لولاية الفقيه، حيث بقيت هذه الشرعية شرعية عملية براغماتية أكثرما هي شرعية دينية مستتبة. وقد بدا هذا واضحاً بعد وفاة السيد الخميني في حزيران منعام 1989 وتعيين السيد علي خامنئي خلفاً له حيث تم إسقاط شرط المرجعية الدينية عنمنصب قائد الثورة حسب التعديل الدستوري لسنة 1989. وهكذا فقد تم الفصل رسمياً بينالمرجعية الدينية والمرجعية السياسية في مؤسسة ولاية الفقيه تحت ضغط مقاومة مؤسسةمرجعية التقليد الأصولية التقليدية. فعلى عكس ما توقعه البعض من أن هذه المؤسسة فيطريقها إلى الزوال بعد إقامة الجمهورية الإسلامية وصعود نجم ولاية الفقيه فقد أكدتهذه المؤسسة مقاومتها للتحول من مؤسسة دينية مستقلة إلى مجرد جهاز أيديولوجي ملحقبالدولة.
إن حجب الشرعية الدينية الشاملة عن ولاية الفقيه يؤدي بلا شك إلىإضعاف مبدأ القيمومة الكاملة لهذه المؤسسة على المجتمع السياسي والمدني الإيراني كما صاغه السيد الخميني في محاضراته وكتاباته ومارسه عملياً كقائد أعلى للجمهوريةالإسلامية.
إن الإصرار على المضي في ممارسة هذه السياسة من قبل مؤسسة ولايةالفقيه الحالية على الرغم من عدم توافر الإجماع حول شرعيتها الدينية سوف يؤدي إلى إضعاف مصداقيتها الدينية والسياسية معاً. لذلك فإن الدفع بمبدأ القيمومة المطلقة لولاية الفقيه على المجتمع إلى نهاياته المنطقية في الممارسة التاريخية للسلطة منشأنه أن يزعزع شرعية هذه السلطة ليس من الناحية الدينية فقط بل من الناحية السياسيةالتاريخية أيضاً. إذ انه على الرغم من محاولة السيد الخميني إرساء الشرعية الدينيةلحكومة ولاية الفقيه في الوراثة المباشرة لسلطة الرسول والأئمة في إقامة الحكومةالإسلامية، إلا أنه ربط تاريخياً نجاح هذه الحكومة باستمرارية التأييد الشعبي لها.
ولقد جاء الدستور الإيراني ليكرس رؤية الخميني هذه في الربط بين شرعية الحكومةالإسلامية والدعم الشعبي لهذه الحكومة. فالمادة الخامسة من دستور عام 1989 تنص علىأن من شروط تنصيب قائد الأمة اعتراف وقبول غالبية الشعب به. كما تنص المادة السادسةفي الدستور نفسه على أن إدارة شؤون الجمهورية الإسلامية في إيران ترتكز على مبدأالاقتراع العام بما في ذلك انتخاب رئيس الجمهورية ومجلس الشورى(2). وهكذا فإنالشرعية الدستورية للجمهورية الإسلامية في إيران ترتكز على شرعية مزدوجة يتمثلمصدرها الأول في ولاية الفقيه بينما يتمثل مصدرها الثاني في الإرادة السياسية للغالبية الشعبية.
إن هذه الهيكلية الدستورية لشرعية الجمهورية الإسلامية تشكلفي الواقع تكريساً تاريخياً لميزان القوى الاجتماعية التي صنعت الثورة الإيرانية كحدث تاريخي مؤسس. فإذا كان من المسلم به أن السيد الخميني لعب دوراً حاسماً في أخذالمبادرة السياسية في تنظيم وقيادة الثورة ضد الشاه فمن المسلم به أيضاً أن استجابةغالبية الشعب الإيراني لتلك المبادرة وهبته الجماعية شبه الأسطورية في مواجهة ذلكالنظام هي ما جعلت في نهاية المطاف قيام الثورة كحدث تاريخي أمراً ممكناً. فالأمرالذي لا يمكن لأحد تجاهله هنا هو أن الاعتراف بالإرادة الشعبية كمصدر أساسي منمصادر شرعية الجمهورية الإسلامية ليس منحة معطاة للشعب الإيراني بل هو حق اكتسبههذا الشعب من خلالشراكته الكاملة في صنع الثورة وإقامة الجمهورية الإسلامية. لذلكفإن استمرارية واستقرار شرعية الجمهورية الإسلامية يتوقف في النهاية على حفظالتوازن بين مصدري هذه الشرعية: مؤسسة ولاية الفقيه من جهة والإرادة الشعبية من جهةأخرى. إن ما يهدد نجاح هذه المعادلة التاريخية هو مبدأ القيمومة المطلقة لمؤسسة ولاية الفقيه في عدم اعترافها بالشراكة الكاملة للمؤسسات السياسية والمدنية المعبرةعن الإرادة الشعبية لغالبية المجتمع الإيراني. فعلى الرغم من حرية الحركة النسبيةالمعطاة لهذه المؤسسات في الممارسة السياسية الإيرانية إلا أنها تبقى مؤسسات مقننةالحريات وموضوعة تحت الوصاية المباشرة لمؤسسة ولاية الفقيه.
إن هذه الوضعية لاتربك المؤسسات المنتخبة مباشرةً من الشعب فقط بل إنها تصيب مؤسسة ولاية الفقيهبالارتباك بوضع شرعيتها الشعبية على المحك، إذا ما تمادت في سياستها التعسفية تجاه المؤسسات السياسية والمدنية والدينية. إن ارتباك شرعية مؤسسة ولاية الفقيه هنا يعودإلى التركيبة المتناقضة أو غير المتسقة لشرعيتها الدينية من جهة ولشرعيتها السياسيةالتاريخية من جهة أخرى. إن شرعيتها الدينية تأتي من كونها حكومة إلهية مستمدةمباشرة من الله بحكم وراثتها المباشرة لسلطة النبي والأئمة في إقامة الحكومة الإسلامية كما رأينا سابقاً. إن هذه الشرعية الإلهية تحرر حكومة ولاية الفقيهنظرياً على الأقل من شرط التقيد بالإرادة الشعبية كمصدر أساسي لها:
«
فالفقهاءاليوم هم الحجة على الناس، كما كان الرسول (ص) حجة الله عليهم، وكل ما كان أناطهب النبي (ص) فقد أناطه الأئمة بالفقهاء من بعدهم، فهم المرجع في جميع الأموروالمشكلات والمعضلات، وإليهم قد فوضت الحكومة وولاية الناس وسياستهم والجباية والإنفاق، وكل من يتخلف عن طاعتهم، فإن الله يؤاخذه ويحاسبه على ذلك».3
منالواضح حسب كلام السيد الخميني هنا أن شرعية حكومة ولاية الفقيه كحكومة إلهية ليستمشروطة بموافقة الناس عليها الذين لا سبيل لهم سوى الطاعة والولاء لهذه الحكومة. فلا مجال هنا للكلام عن الإرادة الشعبية كمكون أساسي من مكونات الشرعية الدينيةلحكومة ولاية الفقيه. بل إن طاعة الناس لهذه الحكومة أمر أوجبه الشرع ولا خيار لهمفيه. إن هذه الحكومة تحكم بموجب تفويض إلهي، وما التفويض الشعبي سوى تفويض مكملولازم للتفويض الإلهي. إن هذا التفويض الإلهي لولاية الفقيه هو ما يكفل لها حقالقيمومة المطلقة على المجتمع بأسره كما شرحنا سابقاً. هذه القيمومة القائمة علىالتماهي الكامل والشفاف بين حكومة ولاية الفقيه والإسلام كشريعة إلهية مطلقة. أمامهذه القيمومة المطلقة لولاية الفقيه على المجتمع تبقى الإرادة الشعبية إرادة قاصرةعن بلوغ سن الرشد مسلوبة الحق في أن تكون شريكا كاملا في بناء الجمهورية الإسلامية. بغض النظر عن المنهجية الفقهية / التيولوجية التي استخدمها السيد الخميني لإرساءنظرية التفويض الإلهي لولاية الفقيه وهي أشبه ما تكون بمعادلة رياضية مجردة لاتاريخية، فإنها لا تتفق تماماً مع المصدر الثاني لشرعية ولاية الفقيه ألا وهيالشرعية السياسية التاريخية لهذه الحكومة القائمة على المشاركة الكاملة للشعب فيصناعة الثورة الإسلامية كحدث تاريخي سياسي جماعي. إن شرعية حكومة ولاية الفقيهالسياسية التاريخية إنما تقوم على القبول الشعبي بها كقيادة تاريخية سياسية ذات لغةإسلامية وقفت مع غالبية الشعب الإيراني للتحرر من نظام الشاه والهيمنة الخارجيةالأميركية.
إن هذه الإرادة الجماعية التي صنعت الثورة إنما قبلت بالسيد الخمينيقائداً روحياً سياسياً لهذه الثورة ليس من منطلق القبول بنظريته في التفويض الإلهيبل من موقفه التاريخي السياسي في الوقوف مع الشعب ضد نظام الشاه وليس من منطلق كونهقيماً مطلقاً على هذا الشعب. لذلك يمكن القول إن الشرعية التاريخية الحقيقية لولاية الفقيه تكمن في وقوفها مع الجماعة ضد الدولة المتعسفة. فولاء الجماعة لهذا الموقفيبقى ولاءً اختياريا مشروطا باستمرارية هذا الموقف حتى بعد قيام الجمهورية الإسلامية. تشكل هذه العلاقة استمرارية تاريخية لعلاقة الجماعة الشيعية بعلمائهاومراجعها كدروع واقية من تسلط الدولة على الجماعة في زمن الغيبة. فالذي يتم تعطيلهفي زمن الغيبة ليس «أحكام الإسلام» وتدبير أمور المسلمين كما يقول السيد الخميني في «الحكومة الإسلامية» (4)، بل تعطيل التسليم بالشرعية الدينية الكاملة للدولة علىهذه الجماعة. إن شرعية هؤلاء المراجع قامت دائما على أساس الالتحام مع الجماعةواستقلاليتهم عن الدولة بما في ذلك الدولة الشيعية الصفوية في إيران. المراجعالشيعية كانوا قادرين على القيام بهذا الدور بفضل أمانتهم على غيبة الإمام التي ضمنت لهم عدم التماهي مع الدولة بما هي دولة غاصبة من حيث التكوين، والبقاء خارجدورتها الداخلية كي يتسنى لهم مراقبتها ومحاسبتها من موقع الأمانة على الغيبة. فإذا تسنم هؤلاء المراجع ناصية الدولة الغاصبة مباشرة أو غير مباشر فهم ينقضون بذلك أمانتهم على الغيبة ويتحولون أنفسهم إلى غاصبين لحق الإمام الغائب من خلال ادعاء تمثيله في إقامة دولة إسلامية قسرية وكاملة الشرعية في زمن الغيبة.
للبحث تتمة
مراجع
Heinz Halm, Shi’a Islam, Markus Wiener Publishers, Princeton, 1997, pp: 121-122
2)
إن التعديل الدستوري لعام 1989 ألغى المادة الخامسة مندستور 1979 التي نصت على الانتخاب الشعبي المباشر
لقائد الثورة وأناط حق انتخابهذا الأخير بمجلس الخبراء المنتخب مباشرة بالاقتراع الشعبي. أنظر المرجع السابق
ص 154
3)
آية الله الخميني، الحكومة الإسلامية، دار الطليعة، بيروت 1979 ص 80
4)
المرجع السابق، ص 48
 
ولاية الفقيه: أزمةالشرعية المزدوجة (2)
ليست مقاربتنا لمسألة علاقة الدولة بالغيبة مقاربة منطقية شكلية صورية مجردة. بل هي مقاربة تاريخية تستندإلى التجربة التاريخية للدولة الإسلامية والموقع التاريخي للجماعة الشيعية في هذهالتجربة. فالغيبة لم تأت من فراغ تاريخي، بل هي أتت كمحصلة لتجربة تاريخية شيعية معالدولة وضع الأئمة الشيعة خلالها أنفسهم وأتباعهم خارج منطق الدولة كأفق أسمىللسياسة. لقد أتت الغيبة لتكرس هذا الموقف التاريخي لأئمة الشيعة وتحوله إلى نقضدائم للدولة كمؤسسة قهرية من حيث التكوين، يمكن التعامل معها سلبا أم إيجابا كماتقتضي مصلحة الجماعة، ولكن لا يمكن التماهي معها كسلطة شرعية تمثل الجماعة.
بين خيار الانخراط في مشروع إقامة الدولة وخيار الوقوف على رأس الجماعة، اختار أئمةالشيعة البقاء مع الجماعة و الإنكار على الدولة شرعيتها الدينية الكاملة. في غيابهذه الشرعية الدينية الكاملة للدولة تصبح شرعيتها مشروطة بسلوكها العملي الإجرائيفي ممارسة سلطتها الإدارية على الجماعة. وليس في الغيبة ما يمنع الجماعة منالاعتراض والثورة على السلطة القائمة دفاعا عن حقوقها كما حصل مرارا و تكرارا فيالتاريخ الشيعي. فالغيبة لم تلغ كربلاء، بل كرستها كلحظة ثورية كامنة في الضميرالجماعي الشيعي كابحة لتطاول الدولة على الجماعة من خلال تجريد هذه الدولة من أيصفة تمثيلية متعالية على الجماعة. أي ان الغيبة أحالت نهائياً كل دولة، أكانتإسلامية أم غير إسلامية، إلى كيان سياسي زمني غير متعال. فإذا حدث وتسلم أحدالعلماء مقاليد الدولة فإن شرعيته لا تعدو كونها شرعية زمنية خاضعة كغيرها منالسلطات الزمنية لمحاسبة الناس بمن فيهم العلماء الآخرين. إن أية محاولة من هذهالدولة لاختراق سقف الغيبة والتخفف من ثقل الأمانة التي تركتها، وهي أمانة شديدةالوقع على أية دولة، من شأنه أن يضع هذه الدولة في مواجهة مباشرة مع الإمام الغائبلأنها تحكم باسمه ولكن بدون تفويض مباشر منه.
كان هذا موقف كبار مراجع الشيعةمن دولة ولاية الفقيه منذ بدايتها من أمثال شريعتمداري والخوئي وغيرهما في إيرانوالعراق ولبنان. يمكن القول إن نقطة الخلاف الأساسية بين هؤلاء المراجع والسيدالخميني لم تكن الإنكار عليه حقه في إقامة الجمهورية الإسلامية بقدر ما كانتمعارضته في خرقه إرث الغيبة من خلال إسباغه على الجمهورية الإسلامية شرعية الدولةالإسلامية المكتملة النصاب تماما كدولة الرسول (ص) ودولة الإمام علي(ع).
لاينبغي علينا هنا الوقوف عند هذه المعارضة كشكل من أشكال المنافسة التقليدية بينالعلماء حتى ولو صح ذلك، وهو أمر وارد. ولا يتعلق الأمر هنا بشخصية متسلطة وغيرديموقراطية تميل إلى التحكم والاستئثار بالسلطة من جهة، وبشخصيات معتدلة وأكثرديموقراطية من جهة أخرى. فلم يكن معروفا عن السيد الخميني تسلطه وشهوته إلى التحكمبالآخرين من حوله، بدءا بعائلته وطلابه وانتهاءً بالعلماء والناس.
إن مبدأولاية الفقيه لم يتأصل في شخصانية نفسية وفكرية مسكونة بحب التسلط والتعصب الجامدالأعمى. بل هو على العكس من ذلك تماما تأصل في شخصية تاريخية عميقة التقوى شديدةالغيرة على انعتاق المسلمين من ربقة الاستتباع لتحكم الغرب وتسلطهم على مصيرهم ليسفي إيران فقط، بل في العالم الإسلامي قاطبة.
إن العدائية العمياء للقوىالغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، للجمهورية الإسلامية وللسيدالخميني خاصة، إنما هي عدائية متأصلة في القصور الذاتي الغربي للاعتراف بأي لغةسياسية جديدة مصطلحاتها غير مستمدة من القاموس الأيديولوجي الغربي ذاته. لقد أطلقالسيد الخميني لغة إسلامية ثورية جديدة ساهمت في إطلاق وتحريك قوى جماعية مهمشةتاريخيا، انطلقت من عقالها لتصنع حدثا تاريخيا فريدا في التاريخ الإسلامي الحديث. هذه هي «خطيئة الخميني الأصلية» من المنظور الغربي المهيمن.
إن إطلاق هذهالذاتية الإسلامية الجديدة كخطاب عالمي غير آت من «عالمية» الغرب هو ما أرعب الغربالمهيمن، كما يلحظ بوبي السيد(5).
الذي يزعج الغرب في هذا الخطاب ليس «ظلاميتهالقروسطية» وعدم ديموقراطيته، بل إسلاميته كخطاب مغاير. والذي يزعج الغرب ليس فقدانالديموقراطية في الجمهورية الإسلامية، بل إسلامية هذه الديموقراطية. فالديموقراطيةبمفهومها الشكلي الغربي لا تشكل تحديا حقيقيا لمؤسسة ولاية الفقيه، فهي قادرة، كماأثبتت تجربة الرئيس خاتمي والحركة الإصلاحية البرلمانية، على التعايش مع هذهالديموقراطية وتطويعها بشكل أو بآخر.
إن ما لا تستطيع مؤسسة ولاية الفقيهالتعايش معه هو تجذر الديموقراطية الإسلامية الثورية في الموروث الجماعي الشيعيذاته. هذا الموروث الجماعي الذي لا يطمئن إلى اختزال الإسلام إلى مجرد أيديولوجياللدولة، فكيف بك إذا كانت هذه الدولة تدعي لنفسها صفة القداسة وتمثيل الإمام؟ لذلكفإن أي تحد حقيقي لشرعية مؤسسة ولاية الفقيه لن يكون على أساس مرجعية الديموقراطيةبمفهومها الشكلي الغربي وحده، بل لا بد من التحام هذه الديموقراطية مع المرجعيةالفقهية التقليدية الشيعية ذاتها كمرجعية متلاحمة مع الجماعة ممانعة للتماهي معالدولة أمانة منها على غيبة الإمام التي تلزم هذا الالتحام بالجماعة في وجه الدولة. واليوم وبعد مرور ثلاثة عقود على التجربة السياسية الدستورية للجمهورية الإسلاميةفي ايران، التي تبقى بلا شك التجربة التاريخية الرائدة الأولى في العصر الحديثكحكومة إسلامية قائمة على المشاركة الشعبية الجماعية في الحياة السياسية الإيرانيةبرغم الوصاية والتقنين من أعلى، يمكن القول إن شرعية ولاية الفقيه ما زالت تبدوشرعية ملتبسة موزعة بين أمانتها لإرثها الجماعي الثوري كما مارسته في بدايات الثورةمن خلال قيادة الجماعة في صنع الحدث الثوري الجماعي ضد الدولة، وهو موقف لا يتناقضمع منطق الغيبة كما أسلفنا، هذا من جهة، وبين تماهيها الكامل مع الدولة كمؤسسةمتعالية على الجماعة ووصية عليها، من جهة أخرى. وهكذا فإن تغليب منطق الدولة علىمنطق الجماعة يضع ولاية الفقيه في مواجهة مباشرة مع الإمام الغائب ومع الجماعة. لأنالأمانة على الغيبة وضعت العلماء دائما في موقع التماهي مع الجماعة في وجه الدولةأمانة منهم على نهج الأئمة، هذا النهج الذي كرسته الغيبة تكريساً دائماً لا لبسفيه. بكلام آخر هناك استحالة شرعية لأي مشروع تاريخي إسلامي شيعي قائم على التماهيالكامل بين الجماعة والدولة في زمن الغيبة. إن التباس شرعية ولاية الفقيه اليوميتمثل في محاولة تجسيدها الجمع بين الجماعة والدولة في جسم واحد وهو أمر يستحيلاستمراره تاريخيا وشرعيا. لقد كان تعطيل مفعول غيبة الإمام في التاريخ أحدالمرتكزات الأساسية لتثبيت شرعية ولاية الفقيه. ويبدو الآن أن هذا التعطيل بالذاتهو الذي سوف يؤدي في النهاية إلى تعطيل شرعية هذه الولاية.
إن ما يمكن تسميتهبالأصولية الشيعية الجديدة (وهي غير الأصولية الإسلامية السلفية بالمعنى الشائعاليوم) المعبر عنها بولاية الفقيه المطلقة، باختراقها سقف الغيبة، أو ما يمكنتسميته باللحظة الإخبارية الكامنة في المدرسة الأصولية التقليدية، ساهمت من حيثتقصد أو لا تقصد في إعادة تظهير معنى الغيبة في سياق تاريخي معاصر وملموس كحدٍ شرعيضروري مقيد للسلطة الدينية السياسية المطلقة على المجتمع وبالتالي كضمانة تيولوجيةجذرية ضد الاستحضار الكلي للمقدس في التاريخ متمثلا بالدولة «الإلهية» المتعاليةعلى المجتمع السياسي والمتماهية مع ذاتها. وما ينطوي عليه هذا التماهي من خطر إلغاءدور الجماعة كمجتمع سياسي متحرك يشكل ضمانة شرعية ـ تاريخية حيوية للجمهوريةالإسلامية وتحويله إلى حقل سياسي محاصر وملحق بدولة غاصبة لحق الإمام وحق الجماعةمعاً

[
محاضر الدراسات العربية في جامعة ميشيغان ـديربورن ـ الولايات المتحدة الأميركية
 
اجمالي القراءات 12510
التعليقات (1)
1   تعليق بواسطة   لطفية سعيد     في   السبت ٢٧ - مارس - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً
[46706]

خطيئة الخميني من المنظور الغربي

 خطيئة الخميني من المنظور الغربي أنه استخف بالأيدلوجية الغربية وأنشأ هو أيدلوجييته التي تقوم بمرجعية  إسلامية ثورية جديدة ، ساهم في إطلاق وتحريك قوى جماعيية مهمشة تاريخيا، انطلقت لتأخذ لها مكانا ولتنتزع وجودا بالقوة . لكن هل تستطيع هذه الأيولوجية الجديدة فرض واقع ديمقراطي لها من داخل الفكر الشيعي نفسه هذا هو السؤال


 




 


أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق