أضواء على السنة المحمدية4
دولة بني العباس:
وإذا كانت قد رويت أحاديث في فضل معاوية والشام، فإن دولة بني العباس قد ظفرت هي الأخرى بأحاديث تشد أزرها بعد أن أدبرت دولة بني أمية وقامت هي على أنقاضها، وهاك بعضا منها: روى البزار: عن أبي هريرة أن رسول الله قال للعباس: فيكم النبوة والمملكة. وأخرجه كذلك أبو نعيم في الدلائل وابن عدي في الكامل - وابن عساكر وروايته " فيكم النبوة وفيكم المملكة ". وروى الترمذي عن ابن عباس، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) دعا للعباس بدعاء قال فيه: واجعل الخلافة باقية في عقبه. وروى الطبراني، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): الخلافة في ولد عمي وصنو أبي حتى يسلموها إلى المسيح.
وقد امتد وضع الحديث إلى السفاح، فقد روى أحمد عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله قال: يخرج رجل من أهل بيتي عند انقطاع الزمان وظهور الفتن، يقال له السفاح!! وبمناسبة الكلام عن دولة بني العباس نذكر ما رواه السيوطي في كتابه " تاريخ الخلفاء " عن المتوكل: قال أظهر الميل إلى السنة ونصر أهلها واستقدم المحدثين إلى سامراء وأجزل عطاياهم وأكرمهم وأمرهم بأن يحدثوا بأحاديث الصفات والرؤية - وتوفر دعاء الخلق للمتوكل وبالغوا في الثناء عليه والتعظيم له - حتى قال قائلهم: الخلفاء ثلاثة: أبو بكر الصديق في قتل أهل الردة، وعمر بن عبد العزيز في رد المظالم والمتوكل في إحياء السنة وإماتة التجهم.
ودولة نبي العباس هذه التي رويت لها كل هذه الأحاديث، كان من آثارها - كما قال بعض كبار المؤرخين - أن افترقت كلمة الإسلام، وسقط اسم العرب من الديوان واستولت عليها الديلم ثم الأتراك، وصارت لهم دولة عظيمة، وانقسمت ممالك الأرض عدة أقسام! ذم الأتراك: ولمناسبة ذكر الأتراك نقول: إنه لما استكثر المعتصم من الأتراك حتى امتلأت بهم بغداد كانوا يؤذون الناس ويظلمونهم - فكره أهل بغداد مجيئهم إذ كانوا في حلهم وترحالهم شؤما عليهم، فأخذ المحدثون يروون في ذم الأتراك أحاديث رفعوها إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) ومنها، أن الترك أول من يسلب أمتي ما خولوا. وعن ابن عباس: ليكونن الملك - أو الخلافة - في ولدي، حتى يغلبهم على عزهم الحمر الوجوه، الذين كأن وجوههم المجان المطرقة. وعن أبي هريرة: لا تقوم الساعة حتى يجيئ قوم عراض الوجوه صغار الأعين، فطس الأنوف، حتى يربطوا خيولهم بشاطئ دجلة، وقد رواه أحمد في مسنده عن أبي هريرة بلفظ آخر نصه: قال رسول الله: لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الترك صغار العيون حمر الوجوه ذلف الأنوف كأن وجوههم المجان المطرقة.
وقد مر بك من قبل حديث " القسطنطينية ". وإذا أردت المزيد من ذلك فارجع إلى كتاب " تاريخ الخلفاء للسيوطي ". كيف استجازوا وضع الأحاديث لم يشأ وضاع الحديث أن يدعوا عملهم بغير أن يسندوه بأدلة تسوغ ما يضعون فقد أخرج الطحاوي في المشكل عن أبي هريرة مرفوعا: إذا حدثتم عني حديثا تعرفونه ولا تنكرونه فصدقوا به، قلته أم لم أقله! فإني أقول ما يعرف ولا ينكر، وإذا حدثتم عني حديثا تنكرونه ولا تعرفونه، فكذبوا به، فإني لا أقول ما ينكر ولا يعرف.
ويشبه هذا الحديث حديث آخر رواه أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم وتلين له أبشاركم، وترون أنه منكم قريب فأنا أولاكم به، وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم بعيد، فأنا أبعدكم منه. قال السيد رشيد إن إسناده جيد.
وقال خالد بن يزيد سمعت محمد بن سعيد الدمشقي يقول: إذا كان كلام حسن، لم أر بأسا من أن أجعل له إسنادا. وأخرج في الحلية عن ابن مهدي عن أبي لهيعة، أنه سمع شيخا من الخوارج يقول بعد أن تاب: إن هذه الأحاديث دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم، فإنا كنا إذا هوينا أمرا صيرنا له حديثا.
قال الحافظ ابن حجر: هذه والله قاصمة الظهر للمحتجين بالمرسل، إذ بدعة الخوارج كانت في مبدأ الإسلام والصحابة متوافرون، ثم في عصر التابعين فمن بعدهم، وهؤلاء إذا استحسنوا أمرا جعلوه حديثا وأشاعوه، فربما سمع الرجل الشيء فحدث به ولم يذكر من حدثه به تحسينا للظن، فيحمله عنه غيره ويجيئ الذي يحتج بالمنقطعات فيحتج به، مع كون أصله ما ذكرت!
الوضاع الصالحون
لم يكن وضع الحديث على رسول الله مقصورا على أعداء الدين وأصحاب الأهواء فحسب - كما بينا - وإنما كان الصالحون من المسلمين يضعون كذلك أحاديث على رسول الله، ويجعلون ذلك حسبة لله بزعمهم، ويحسبون أنهم بعملهم هذا يحسنون صنعا، وإذا سألهم سائل. كيف تكذبون على رسول الله، قالوا: نحن نكذب له لا عليه! وإن الكذب على من تعمده!
روى مسلم في كتابه عن يحيى بن سعيد القطان قال: لم نر الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث - وفي رواية - لم نر أهل الخير في شيء أكذب منهم في الحديث، يعني أنه - كما قال مسلم: يجري على لسانهم ولا يتعمدون الكذب.
وروى مسلم عن أبي الزناد قال: أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمون، ما يؤخذ عنهم الحديث.
قال الحافظ ابن حجر وقد اغتر قوم من الجهلة فوضعوا أحاديث الترغيب والترهيب وقالوا: نحن لم نكذب عليه، بل فعلنا ذلك لتأييد شريعته!! وما دروا أن تقويله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل يقتضي الكذب على الله لأنه إثبات حكم من الأحكام الشرعية، سواء كان في الإيجاب أو الندب، وكذا مقابلهما وهو الحرام والمكروه، ولا يعتد بمن خالف ذلك من الكرامية حيث جوزوا وضع الكذب في الترغيب والترهيب في تثبيت ما ورد في القرآن والسنة واحتج بأنه كذب له لا عليه وهو جهل باللغة العربية.
قال عبد الله النهاوندي: قلت لغلام أحمد، من أين لك هذه الأحاديث التي تحدث بها في الرقائق؟ فقال وضعناها لنرقق بها قلوب العامة، قال ابن الجوزي عن غلام أحمد هذا: إنه كان يتزهد ويهجر شهوات الدنيا، ويتقوت الباقلاء صرفا، وغلقت أسواق بغداد يوم موته. وكان أحمد بن محمد الفقيه المروزي - من أصلب أهل زمانه في السنة، وأكثرهم مدافعة عنها، ويحقر كل من خالفها، وكان مع ذلك يضع الحديث ويقلبه.
وأخرج البخاري في التاريخ الأوسط عن عمر بن صبيح بن عمران التميمي أنه قال: أنا وضعت خطبة النبي، وأخرج الحاكم في المدخل بسنده إلى أبي عمار المروزي، أنه قيل لأبي عصمة: من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة، وليس عند أصحاب عكرمة هذا؟ فقال إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة، ومغازي، ابن إسحاق فوضعت هذا الحديث حسبة لطيفة. وقد بلغ من أمرهم أنهم يضعون الحديث لأسباب تافهة، ومن أمثلة ذلك ما أسنده الحاكم عن سيف بن عمر التميمي قال: كنت عند سعد بن طريف فجاء ابنه من الكتاب يبكي! فقال له مالك؟ قال: ضربني المعلم. قال: لأخزينهم اليوم! حدثنا عكرمة عن ابن عباس مرفوعا: " معلمو صبيانكم شراركم، أقلهم رحمة لليتيم وأغلظهم على المساكين " والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى الوضع بالإدراج قد يأتي الوضع من الراوي للحديث غير مقصود له - وعدوا ذلك من باب " الإدراج "، والحديث " المدرج " ما كانت فيه زيادة ليست منه. وقال أهل الأثر إن الادراج نوعان. إدراج في الإسناد وإدراج في المتن.
وإدراج المتن يكون في أول الحديث، مثل حديث أبي هريرة الذي رواه الخطيب أن رسول الله قال: " أسبغوا الوضوء، ويل للإعقاب من النار " فقوله: " أسبغوا الوضوء " مدرج من قول أبي هريرة.
ويكون الادراج في أثناء الحديث مثل حديث فضالة عند النسائي " أنا زعيم - والزعيم الحميل - لمن آمن بي وأسلم وجاهد في سبيل الله، يبيت في ربض الجنة.
فقوله: والزعيم الحميل - مدرج في الحديث. أما الادراج الذي في آخر الحديث، فقد جاء في حديث الكسوف - وهو في الصحيح: أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته - فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله والصلاة.
قال الغزالي إن هذه الزيادة لم يصح نقلها فيجب تكذيب قائلها. هل يمكن معرفة الموضوع ذكر المحققون أمورا كلية يعرف بها أن الحديث موضوع، منها: مخالفته لظاهر القرآن، أو السنة المتواترة، أو الإجماع القطعي أو القواعد المقررة في الشريعة أو للبرهان العقلي أو للحس والعيان، وسائر اليقينات أو اشتمال الحديث على مجازفات في الوعد والوعيد، والثواب والعقاب، أو كان مناقضا لما جاءت به السنة الصريحة، أو كان باطلا في نفسه، أو ما تقوم الشواهد الصحيحة على بطلانه، أو لا يشبه كلام الأنبياء، أو كان بكلام الأطباء أشبه، أو يشتمل على تواريخ الأيام المستقبلة، أو يكون سمجا أو يسخر منه - وغير ذلك.
ومنها، أن تقوم الشواهد الصحيحة، أو تجارب العلم الثابتة، على بطلانه أو يكون ركيكا في معناه. وقال ابن حجر العسقلاني: المراد في الركة على " المعنى " فحيثما وجدت دلت على الوضع، لأن هذا الدين كله محاسن - أما ركاكة " اللفظ " فلا تدل على ذلك، لاحتمال أن يكون الراوي قد رواه بالمعنى فغير ألفاظه بغير فصيح. وقال ابن الجوزي: إن الحديث المنكر، يقشعر له جلد الطالب للعلم، وينفر منه قلبه، يعني الممارس لألفاظ الشارع الخبير بها، وبرونقها وبهجتها. وقال: إذا رأيت الحديث يباين المعقول أو يخالف المنقول أو يناقض الأصول فاعلم أنه موضوع. وقال الربيع بن خيثم: إن للحديث ضوءا كضوء النهار تعرفه، وظلمة كظلمة الليل تنكره. رواه الخطيب.
وأخرج أبي حاتم عن ابن مسعود: إذا حدثتكم بحديث أنبأتكم بتصديقه من كتاب الله. وعن ابن جبير، ما بلغني حديث على وجهه إلا وجدت مصداقه في كتاب الله.
وأخرج البيهقي بسنده عن ابن عباس قال: إذا حدثتكم بحديث عن رسول الله فلم تجدوا تصديقه في الكتاب، أو هو حسن في أخلاق الناس، فإنه كاذب.
والأحاديث الموضوعة لا يمكن حصرها، وقد جمع منها ابن الجوزي والسيوطي وغيرهما مجلدات كثيرة يمكن الرجوع إليها. وقد عقد العالم القاسمي في كتابه " قواعد التحديث " بابا عن الحديث الموضوع ختمه بفصلين نلخصهما فيما يأتي وقد جعل عنوانهما: هل يمكن معرفة الموضوع بضابط من غير نظر في سنده؟ سئل الإمام شمس الدين بن القيم: هل يمكن معرفة الحديث الموضوع بضابط من غير أن ينظر في سنده؟ فقال: هذا سؤال عظيم القدر، وإنما يعرف ذلك من تضلع في معرفة السنن الصحيحة، وخلطت بلحمه ودمه وصار له فيها ملكة واختصاص شديد بمعرفة السنن والآثار، ومعرفة سيرة رسول الله عليه الصلاة والسلام وهديه فيما يأمر به وينهى عنه، ويخبر عنه ويدعو إليه، ويحبه ويكرهه، ويشرعه للأمة كأنه مخالط له (صلى الله عليه وسلم).
فمثل هذا يعرف من أحواله وهديه وكلامه وأفعاله وأقواله، وما يجوز أن يخبر به، وما لا يجوز، ما لا يعرفه غيره - وهذا شأن كل متبوع مع تابعه فإن للأخص به الحريص على تتبع أقواله وأفعاله من العلم بها، والتمييز بين ما يصح أن ينسب إليه وما لا يصح، ليس كمن لا يكون كذلك... إلخ.
وقال ابن دقيق العيد: " كثيرا ما يحكمون بالوضع باعتبار أمور ترجع إلى المروي وألفاظ الحديث، وحاصله يرجع إلى أنه حصلت لهم، لكثرة محاولة ألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم، هيئة نفسانية، وملكة قوية عرفوا بها ما يجوز أن يكون من ألفاظ النبوة وما لا يجوز ". للقلب السليم إشراف على معرفة الموضوع وفي فصل لأبي الحسن علي بن عروة الحنبلي: " القلب إذا كان نقيا نظيفا زاكيا كان له تمييز بين الحق والباطل، والصدق والكذب، والهدى والضلال، ولا سيما إذا كان قد حصل له إضاءة وذوق من النور النبوي، فإنه حينئذ تظهر له خبايا الأمور ودسائس الأشياء والصحيح من السقيم، ولو ركب على متن ألفاظ موضوعة على الرسول إسناد صحيح أو على متن صحيح إسناد ضعيف، لميز ذلك وعرفه وذاق طعمه، وميز بين غثه وسمينه، وصحيحه وسقيمه، فإن ألفاظ الرسول لا تخفى على عاقل ذاقها، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله " رواه الترمذي من حديث أبي سعيد.
وقال جماعة من السلف في قوله تعالى: " إن في ذلك لآيات للمتوسمين " - أي للمتفرسين. وقال معاذ بن جبل: " إن للحق منارا كمنار الطريق ". هذا وإن القلب الصافي له شعور بالزيغ والانحراف في الأفعال والأعمال فإذا سمع الحديث عرف مخرجه من أين، وإن لم يتكلم فيه الحفاظ وأهل النقد. فمن كانت أعماله خالصة لله موافقة للسنة، ميز بين الأشياء كذبها وصدقها.. والله سبحانه وتعالى يلهم الصادق الذكي معرفة الصدق من الكذب، كما في الحديث: " الصدق طمأنينة والكذب ريبة " وقال لوابصة: " استفت قلبك "، وقد ترك النبي أمته على البيضاء ليلها كنهارها.. وكلام الرسول ولا ريب عليه جلالة وفيه فحولة ليست لغيره من الناس.. وقال ابن تيمية: القلب المعمور بالتقوى إذا رجح بمجرد رأيه فهو ترجيح شرعي... فمتى ما وقع عنده، وحصل في قلبه ما يظن معه أن هذا الأمر، أو هذا الكلام أرضى لله ورسوله، كان ترجيحا بدليل شرعي - والذين أنكروا كون الإلهام ليس طريقا إلى الحقائق مطلقا، أخطأوا. فإذا اجتهد العبد في طاعة الله وتقواه، كان ترجيحه لما رجح أقوى من أدلة كثيرة ضعيفة، فإلهام هذا دليل في حقه وهو أقوى من كثير من الأقيسة الضعيفة والموهومة، والظواهر والاستصحابات الكثيرة التي يحتج بها كثير من الخائضين في المذاهب والخلاف وأصول الفقه.
وقال عمر: " الحق أبلج لا يخفى عن فطن "، وقال حذيفة بن اليمان: " إن في قلب المؤمن سراجا يزهر "، وكلما قوي الإيمان في القلب قوي انكشاف الأمور له وعرف حقائقها من بواطلها، وكلما ضعف الإيمان ضعف الكشف، وذلك مثل السراج القوي والسراج الضعيف في البيت المظلم.. وفي الصحيح عن النبي " قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر " والمحدث هو الملهم المخاطب في سره، وقد كان أبو سليمان الداراني يسمى أحمد بن عاصم الأنطاكي " جاسوس القلب " لحدة فراسته.. ا ه ما قلناه ملخصا من هذين الفصلين.
ومما يجب أن يكون من موازين الحديث الصحيح ألا يمجه الذوق السليم مثل حديث " الذباب "، وألا يخالف أغراض الإسلام العليا التي ترمي إلى سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة.
الكاذبون وما جنوا من الافتراء على النبي صلوات الله عليه
قال حماد بن زيد: وضعت الزنادقة على رسول الله اثنى عشر ألف حديث. وقال المهدي: أقر عندي رجل من الزنادقة أنه وضع 400 حديث، فهي تجول في أيدي الناس. وأخرج ابن عساكر عن الرشيد أنه جيئ إليه بزنديق فأمر بقتله، فقال: يا أمير المؤمنين، أين أنت عن أربعة آلاف حديث وضعتها فيكم أحرم فيها الحلال وأحل فيها الحرام. ولما أخذ عبد الكريم بن أبي العوجاء بضرب عنقه قال: لقد وضعت فيكم أربعة آلاف حديث أحرم فيها الحلال، وأحلل الحرام. وقال إسحاق بن راهويه وهو شيخ البخاري أحفظ أربعة آلاف حديث مزورة.
وعن سهل بن السري الحافظ قال: وضع أحمد بن عبد الله الجوبياري، ومحمد بن عكاشة الكرماني، ومحمد بن تميم الفارابي على رسول الله أكثر من عشرة آلاف حديث. وقال البخاري: أحفظ مائة ألف حديث صحيح ومائتي ألف حديث غير صحيح. والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى، ومن أراد أن يستزيد منها فليرجع إلى مظانها، وبخاصة كتاب تحذير الخواص للسيوطي. ونقف من نقلنا عند ذلك وهو كفاية.
الاسرائيليات في الحديث
لما قويت شوكة الدعوة المحمدية واشتد ساعدها، وتحطمت أمامها كل قوة تنازعها، لم ير من كانوا يقفون أمامها ويصدون عن سبيلها، إلا أن يكيدوا لها من طريق الحيلة والخداع، بعد أن عجزوا عن النيل منها بعدد القوة والنزاع. ولما كان أشد الناس عداوة للذين آمنوا ليهود، لأنهم بزعمهم شعب الله المختار، فلا يعترفون لأحد غيرهم بفضل، ولا يقرون لنبي بعد موسى برسالة، فإن رهبانهم وأحبارهم لم يجدوا بدا - وبخاصة بعد أن غلبوا على أمرهم وأخرجوا من ديارهم - من أن يستعينوا بالمكر، ويتوسلوا بالدهاء، لكي يصلوا إلى ما يبتغون، فهداهم المكر اليهودي إلى أن يتظاهروا بالإسلام ويطووا نفوسهم على دينهم، حتى يخفى كيدهم، ويجوز على المسلمين مكرهم، وقد كان أقوى هؤلاء الكهان دهاء وأشدهم مكرا، كعب الأحبار ووهب بن منبه، وعبد الله بن سلام. ولما وجدوا أن حيلهم قد راجت بما أظهروه من كاذب الورع والتقوى، وأن المسلمين قد سكنوا إليهم، واغتروا بهم، جعلوا أول همهم أن يضربوا المسلمين في صميم دينهم، وذلك بأن يدسوا إلى أصوله التي قام عليها ما يريدون من أساطير وخرافات، وأوهام وترهات لكي تهيئ هذه الأصول وتضعف. ولما عجزوا عن أن ينالوا من القرآن الكريم لأنه قد حفظ بالتدوين، واستظهره آلاف من المسلمين، وأنه قد أصبح بذلك في منعة من أن يزاد فيه كلمة أو يتدسس إليه حرف - اتجهوا إلى التحدث عن النبي فافتروا - ما شاءوا أن يفتروا - عليه أحاديث لم تصدر عنه، وأعانهم على ذلك أن ما تحدث به النبي في حياته لم يكن محدود المعالم، ولا محفوظ الأصول، لأنه لم يكتب في عهده صلوات الله عليه كما كتب القرآن، ولا كتبه صحابته من بعده، وأن في استطاعة كل ذي هوى أو دخلة سيئة، أن يتدسس إليه بالافتراء، ويسطو عليه بالكذب، ويسر لهم كيدهم أن وجدوا الصحابة يرجعون إليهم في معرفة ما لا يعلمون من أمور العالم الماضية - واليهود بما لهم من كتاب، وما فيهم من علماء، كانوا يعتبرون أساتذة العرب فيما يجهلون من أمور الأديان السابقة، إن كانوا مخلصين صادقين. قال الحكيم بن خلدون عندما تكلم عن التفسير النقلي، وأنه كان يشتمل على الغث والسمين والمقبول والمردود: والسبب في ذلك أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم، وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية، وإذا تشوفوا إلى معرفة شيء مما تتشوف إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود، فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم، ويستفيدونه منهم، وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى، مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله ابن سلام وأمثالهم، فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم.. وتساهل المفسرون في مثل ذلك وملأوا كتب التفسير بهذه المنقولات وأصلها كلها كما قلنا من التوراة، أو مما كانوا يفترون. وقال في موضع آخر من مقدمته: " وكثيرا ما وقع للمؤرخين والمفسرين، وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع، لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثا أو سمينا، لم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة، والوقوف على طبائع الكائنات، وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار، فضلوا عن الحق، وتاهوا في بيداء الوهم والغلط.
وقال الدكتور أحمد أمين: اتصل بعض الصحابة بوهب بن منبه وكعب الأحبار وعبد الله بن سلام، واتصل التابعون بابن جريج - وهؤلاء كانت لهم معلومات يروونها عن التوراة والإنجيل وشروحها وحواشيها، فلم ير المسلمون بأسا من أن يقصوها بجانب آيات القرآن فكانت منبعا من منابع التضخم " ا ه.
من أجل ذلك كله أخذ أولئك الأحبار يبثون في الدين الإسلامي أكاذيب وترهات، يزعمون مرة أنها في كتابهم أو من مكنون علمهم، ويدعون أخرى أنها مما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم، وهي في الحقيقة من مفترياتهم، وأنى للصحابة أن يفطنوا لتمييز الصدق من الكذب من أقوالهم وهم من ناحية لا يعرفون العبرانية التي هي لغة كتبهم، ومن ناحية أخرى كانوا أقل منهم دهاء وأضعف مكرا، وبذلك راجت بينهم سوق هذه الأكاذيب،
وتلقى الصحابة ومن تبعهم كل ما يلقيه هؤلاء الدهاة بغير نقد أو تمحيص، مغتبرين أنه صحيح لا ريب فيه.
وقبل أن نعرض لبيان بعض الاسرائيليات التي امتلأت بها كتب التفسير والحديث والتاريخ، نؤرخ هنا بإيجاز لزعماء هؤلاء الأحبار: كعب ووهب، وعبد الله بن سلام. كعب الأحبار هو كعب بن ماتع الحميري من آل ذي رعين، وقيل من ذي الكلاع، ويكنى أبا إسحاق من كبار أحبار اليهود، وعرف بكعب الأحبار وأسلم في عهد عمر على التحقيق وسكن المدينة في خلافته، وكان معه في فتح القدس، ثم تحول إلى الشام في زمن عثمان فاستصفاه معاوية وجعله من مستشاريه لكثرة علمه، كما كانوا يفهمون، وهو الذي أمره أن يقص في بلاد الشام وبذلك " أصبح أقدم الأخباريين في موضوع الأحاديث اليهودية والاسلامية، وبواسطة كعب وابن منبه وسواهما من اليهود الذين أسلموا تسربت إلى الحديث طائفة من أقاصيص التلمود - الاسرائيليات - وما لبثت هذه الروايات أن أصبحت جزءا من الأخبار الدينية والتاريخية.
وقال عنه الذهبي في تذكرة الحفاظ إنه قدم من اليمن في دولة أمير المؤمنين عمر فأخذ عنه الصحابة وغيرهم وروى عن جماعة من التابعين مرسلا مات بحمص في سنة 32 أو 33 أو 38 بعد ما ملأ الشام وغيرها من البلاد الإسلامية اليهودية برواياته وقصصه المستمدة من الأخبار، كما فعل تميم الداري في الأخبار النصرانية.
سبب إسلامه: افتجر هذا الكاهن لإسلامه سببا عجيبا ليتسلل به إلى عقول المسلمين وقلوبهم! فقد أخرج ابن سعد بسند صحيح عن سعيد بن المسيب قال: قال العباس لكعب: ما منعك أن تسلم في عهد النبي وأبي بكر؟ فقال: إن أبي كتب لي كتابا من التوراة، فقال أعجل به! وختم على سائر كتبه، وأخذ علي بحق الوالد على الولد - ألا أفض الختم عنها. فلما رأيت ظهور الإسلام، قلت لعل أبي غيب عني علما! ففتحتها فإذا صفة محمد وأمته! فجئت الآن مسلما! وروى عبد الله بن عمر أن رجلا من أهل اليمن جاء إلى كعب الأحبار فقال له: إن فلانا الحبر اليهودي أرسلني إليك برسالة، فقال كعب: هاتها، فقال له الرجل: إنه يقول لك: ألم تكن سيدا شريفا مطاعا! فما الذي أخرجك من دينك إلى أمة محمد؟ فقال له كعب: أتراك راجعا إليه؟ قال: نعم، قال: فإن رجعت إليه فخذ بطرف ثوبه، لئلا يفر منك، وقل له: يقول لك: أسألك بالذي فلق البحر لموسى، وأسألك بالله الذي ألقى الألواح إلى موسى بن عمران فيها علم كل شيء! ألست تجد في كلمات الله تعالى: أن أمة محمد ثلاثة أثلاث، فثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يحاسبون حسابا يسيرا ثم يدخلون الجنة، وثلث يدخلون الجنة بشفاعة أحمد، فإنه سيقول لك: نعم، فقل له: يقول لك كعب: اجعلني في أي الأثلاث شئت! ا ه.
وقال ابن حجر في الإصابة: إنه روى عن النبي مرسلا و روى عنه في الصحابة ابن عمر وأبو هريرة وابن عباس وابن الزبير ومعاوية وغيرهم.
وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء: وحدث عنه عبد الله بن حنظلة وأسلم مولى عمر وتبيع الحميري وأبو سلام الأسود، وروى عنه عدة من التابعين كعطاء بن يسار وغيره مرسلا. وقع له رواية في سنن أبي داود والترمذي والنسائي.
وهب بن منبه ذكر المؤرخون أنه فارسي الأصل جاء جده إلى اليمن في جملة من بعثهم كسرى لنجدة اليمن على الحبشة، فأقاموا هناك وتناسلوا وصاروا يعرفون بين العرب " بالأبناء " أي أبناء الفرس، ومنهم طاوس بن كيسان التابعي المشهور.
وكان آباء وهب على دين الفرس (المجوسية أو الزردشتية)، فلما أقاموا بين اليهود باليمن، أخذوا عنهم آداب اليهود وتقاليدهم فتعلموا شيئا من النصرانية، وكان يعرف اليونانية وعنده من علم أهل الكتاب شيء كثير.
ولكن ضعفه الفلاس. أدرك عدة من الصحابة وروى عنهم، وكذلك روى عنه كثير من الصحابة منهم أبو هريرة وعبد الله بن عمرو وابن عباس وغيرهم، وكان للعرب ثقة بهم. وذكر الإمام أحمد أن والده منبها فارسي أخرجه كسرى إلى اليمن فأسلم، وأن ابنه وهبا كان يختلف من بعده إلى بلاده بعد فتحها. ومن أقواله: إني قرأت من كتب الله 72 كتابا... وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ: إنه عالم أهل اليمن ولد سنة 34 ه وتوفي بصنعاء سنة 110 ه. أو بعد ذلك بسنة أو أكثر، وقيل إنه توفي سنة 116 ه. عبد الله بن سلام هو أبو الحارث الاسرائيلي، أسلم بعد أن قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وهو من أحبار اليهود، حدث عنه أبو هريرة وأنس بن مالك وجماعة، وقال فيه وهب بن منبه الاسرائيلي: كان أعلم أهل زمانه، وكعب أعلم أهل زمانه، وقد مات سنة 40 ه.
كيف استحوذوا على عقول المسلمين اتبع هؤلاء الأحبار بدهائهم العجيب طرقا غريبة لكي يستحوذوا بها على عقول المسلمين، ويكونوا محل ثقتهم، وموضع احترامهم، وإليك طرفا من هذه الأساليب العجيبة:
أخرج الترمذي عن عبد الله بن سلام - وهو أحد كبار اليهود الذين أسلموا - أنه مكتوب في التوراة في السطر الأول: محمد رسول الله عبده المختار، مولده مكة ومهاجره طيبة، وأخرج كذلك، مكتوب في التوراة صفة النبي وعيسى بن مريم يدفن معه. وهذا الذي أخرجه الترمذي عن ابن سلام قد أحكمه الداهية كعب: فقد روي الدارمي عنه - في صفة النبي في التوراة قال: في السطر الأول محمد رسول الله عبده المختار، مولده مكة ومهاجره طيبة وملكه بالشام.
وقد بحثنا عن السطر الثاني من هذه الأسطورة حتى وجدناه في سنن الدارمي كذلك عن الداهية الأكبر كعب: فقد روى ذكوان عنه قال: في السطر الأول محمد رسول الله عبده المختار، لا فظ ولا غليظ ولا صخاب بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، مولده بمكة وهجرته بطيبة وملكه بالشام.
وفي السطر الثاني: محمد رسول الله أمته الحمادون، يحمدون الله في السراء والضراء، يحمدون الله في كل منزل، ويكبرون على كل شرف، رعاة الشمس يصلون الصلاة إذا جاء وقتها ولو كانوا على رأس كناسة، ويأتزرون على أوساطهم ويوضئون أطرافهم، وأصواتهم بالليل في جو السماء كأصوات النحل.
وهذا الكلام قد أورده ابن سعد في طبقاته عن ابن عباس في جواب لكعب، وقد امتدت هذه الخرافة إلى أحد تلاميذ كعب عبد الله بن عمرو بن العاص. فقد روى البخاري عن عبد الله بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله في التوراة، قال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشر ونذيرا وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، بل يعفو ويغفر، ولا يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: " لا إله إلا الله " ويفتح بها أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا.
وزاد ابن كثير، قال ابن يسار، ثم لقيت كعبا الحبر فسألته فما اختلفا في حرف. وكيف يختلفان وكعب هو الذي علمه! وروى السيوطي في الاتقان، أن كعب الأحبار قال: في التوراة: يا محمد، إني منزل عليك توراة حديثة، تفتح أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا. وروى الجواليقي في كتاب المغرب قال: قال ابن الأعرابي: ذكر عن كعب الأحبار أنه قال: أسماء النبي في الكتب السالفة: محمد وأحمد وحمياط - أي حامي الحرم! وروى القاضي عياض في الشفاء أن وهب بن منبه قال: قرأت في أحد وسبعين كتابا، فوجدت في جميعها أن النبي صلى الله عليه وسلم أرجح الناس عقلا، وأفضلهم رأيا، وفي رواية أخرى: فوجدت في جميعها أن الله تعالى لم يعط جميع الناس من بدء الدنيا إلى انقضائها من العقل في جنب عقله (صلى الله عليه وسلم) إلا كحبة رمل من رمال الدنيا.
كعب وعمر: لما قدم كعب إلى المدينة في عهد عمر وأظهر إسلامه، أخذ يعمل بدهاء ومكر لما أسلم من أجله، من إفساد الدين وافتراء الكذب على النبي (صلى الله عليه وسلم). ومما أغراه بالرواية أن عمر بن الخطاب كان في أول أمره يستمع إليه على اعتبار أنه قد أصبح مسلما صادق الإيمان، فتوسع في الرواية الكاذبة ما شاء أن يتوسع.
قال ابن كثير: " لما أسلم كعب في الدولة العمرية جعل يحدث عمر رضي الله عنه، فر بما استمع له عمر، فترخص الناس في استماع ما عنده، ونقلوا ما عنده من غث وسمين ". ولكن لم يلبث عمر أن فطن لكيده وتبين له سوء دخلته، فنهاه عن الحديث، وتوعده إن لم يترك الحديث عن الأول أو ليلحقنه بأرض القردة.
وعلى أن عمر قد ظل يترقب هذا الداهية بحزمه وحكمته، وينفذ إلى أغراضه الخبيثة بنور بصيرته، كما ترى في قصة الصخرة - فإن شدة دهاء هذا اليهودي قد تغلبت على فطنة عمر وسلامة نيته، فظل يعمل بكيده في السر والعلن، حتى انتهى الأمر بقتل عمر، وتدل القرائن كلها على أن هذا القتل كان بمؤامرة من جمعية سرية، وكان هذا الدهي من أكبر أعضائها وعلى رأسها الهرمزان ملك الخوزستان الذي كان قد جيئ به إلى المدينة أسيرا، وعهدوا بتنفيذها إلى أبي لؤلؤة الأعجمي.
قتل عمر ويد كعب فيه ذكر المسور بن مخرمة أن عمر لما انصرف إلى منزله بعد أن أوعده أبو لؤلؤة جاء كعب الأحبار فقال: يا أمير المؤمنين " أعهد " فإنك ميت في ثلاث ليال، " رواية " الطبري " ثلاثة أيام " قال: وما يدريك؟ قال: أجده في كتاب التوراة، قال عمر: أتجد عمر بن الخطاب في التوراة؟ قال: اللهم لا ولكن أجد حليتك وصفتك، وأنك قد فني أجلك، قال ذلك وعمر لا يحس وجعا فلما كان الغد، جاءه كعب فقال: " بقي يومان " فلما كان الغد جاءه كعب فقال: مضى يومان وبقي يوم - ورواية الطبري وبقي يوم وليلة - وهي لك إلى صبيحتها فلما أصبح خرج عمر إلى الصلاة، وكان يوكل بالصفوف رجالا، فإذا استوت كبر، ودخل أبو لؤلؤة في الناس وبيده خنجر له رأسان نصابه في وسطه فضرب عمر ست ضربات، إحداهن تحت سرته وهي التي قتلته. وكان أبو لؤلؤة من سبي نهاوند. ووقع في رواية أبي إسحاق عند ابن سعد: وأتى كعب عمر فقال: " ألم أقل لك إنك لا تموت إلا شهيدا " وإنك تقول: " من أين وأنا في جزيرة العرب "؟ وإليك خبرا عجيبا من أخبار هذا الكاهن لعله يمتلخ منك عرق الشك في اشتراكه في هذه المؤامرة، فقد أخرج الخطيب عن مالك، أن عمر دخل على أم كلثوم بنت علي وهي زوجته فوجدها تبكي: فقال: ما يبكيك؟ قالت هذا اليهودي أي كعب الأحبار - يقول: إنك على باب من أبواب جهنم، فقال عمر: ما شاء الله! ثم خرج فأرسل إلى كعب فجاءه فقال: يا أمير المؤمنين - لا تعجل علي والذي نفسي بيده، لا ينسلخ ذو الحجة حتى تدخل الجنة؟ فقال عمر: ما هذا؟ مرة في الجنة، ومرة في النار؟! قال كعب: يا أمير المؤمنين، والذي نفسي بيده إنا لنجدك في كتاب الله على باب من أبواب جهنم تمنع الناس أن يقتحموا فيها، فإذا مت لم يزالوا يقتحمون فيها إلى يوم القيامة! ولما طعن عمر جاء كعب فجعل يبكي بالباب ويقول: والله لو أن أمير المؤمنين يقسم على الله أن يؤخره لأخره.
وقد صدقت يمينه - لعنه الله - فقد قتل عمر يوم الأربعاء لأربع ليال بقين من ذي الحجة سنة 23 ه. ودفن يوم الأحد هلال المحرم 24 ه.
وهذه الأدلة كلها تثبت أن قتل عمر على يد أبي لؤلؤة لم يكن إلا نتيجة لتلك المؤامرة التي دبرها له الهرمزان لما كان يكنه من الحقد الموجدة للعرب، بعد أن ثلوا عرش الفرس، ومزقوا دولتهم، وممن اشترك فيها وكان له أثر كبير في تدبيرها كعب الأحبار وهذا أمر لا يمتري فيه أحد إلا الجهلاء.
حديث الاستسقاء روى التاريخ أن الأرض أجدبت إجدابا شديدا في خلافة عمر، وكان ذلك في عام الرمادة فلم يدع كعب هذه الفرصة تفلت من غير أن يتخذ منها وسيلة ليرمي الإسلام طعنة من طعناته - فقال لعمر: إن بني إسرائيل كانوا إذا أصابهم مثل هذا استسقوا بعصبة الأنبياء. وهنا جاءت روايات بأن عمر قال: هذا عم رسول الله وصنو أبيه وسيد بني هاشم - العباس، فمشى إليه ثم استسقوا. وقال أنس إن عمر قال في هذا استسقاء: إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فتسقينا. ومما لا مراء فيه أن هذا اليهودي قد أراد بقوله هذا أن يخدع عمر عن أول أساس قال عليه الدين الإسلامي - وهو التوحيد الخالص - ليزلقه إلى هوة التوسل الذي هو الشرك بعينه، حتى إذا هوى فيها عمر وأثرت عنه بالعمل اتخذت سنة من بعده وكان لها أثر بالغ لدى المسلمين جميعا في العقيدة الإسلامية على مد العصور، فينهدم بذلك الأساس المتين للدين، ولكن عمر وهو في الأفق من البصيرة بالدين والفقه فيه قد فطن لها ولم يقع في الفخ الذي نصبه له هذا الخدعة، فلم يستسق بأحد حتى بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم يزد على الاستغفار.
قال أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب المطر، وفي كتاب مجابى الدعوة عن خوات بن جبير قال: خرج عمر يستسقي بهم فصلى الركعتين فقال: اللهم"وفي المغني والشرح الكبير، أن عمر خرج يستسقي فلم يزد على الاستغفار وقال: لقد استسقيت بمجاديح السماء. وقال الجاحظ: ولما صعد " عمر " المنبر قابضا على يد العباس يوم الاستسقاء لم يزد على الدعاء. فقيل له إنك لم تستسق وإنما تستغفر، قال: قد استسقيت بمجاديح السماء - ذهب إلى قوله تعالى: " استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ".
وإذا كان الأمر قد وقع على هذه الصورة فلا بأس به ما داموا جميعا كانوا يدعون الله، وإنا نكاد نقطع بأن عمر لم يتوسل بأحد في الاستسقاء ولم يتخذ من وسيلة فيه إلى الله غير الدعاء والاستغفار، كما جاء في الأخبار الصحيحة المؤيدة بآيات من كتاب الله العزيز. من مكر وكيد كعب في موطأ مالك أنه بلغه أن عمر بن الخطاب أراد الخروج إلى العراق فقال له كعب الأحبار: لا تخرج إليها يا أمير المؤمنين! فإن بها تسعة أعشار السحر: فسقة الجن وبها الداء العضال.
ما بثه كعب ووهب من الاسرائيليات: ولكي تقف على بعض ما بثه هذان الكاهنان من الاسرائيليات، وكانت شبها على الإسلام يحتج بها عليه أعداؤه، ويضيق بها ذرعا أولياؤه، والتي أصبحت من المشكلات التي نعاني سيئاتها، ويعسر علينا التخلص منها - نمد لك بطرف صغير منها على سبيل المثال: قال معاوية لكعب: أنت تقول إن ذا القرنين كان يربط خيله بالثريا! فقال كعب: إن قلت ذلك فإن الله قال: وآتيناه من كل شيء سببا!! قال ابن كثير في تفسيره وهذا الذي أنكره معاوية على كعب هو الصواب، والحق مع معاوية في ذلك الإنكار، فإن معاوية كان يقول عن كعب: إنا كنا لنبلو عليه الكذب، وذكر القرطبي في تفسير سورة غافر عن خالد بن معدان عن كعب أنه قال: لما خلق الله تعالى العرش قال: لم يخلق الله تعالى خلقا أعظم مني، واهتز تعاظما، فطوقه الله بحية لها سبعون ألف جناح، في كل جناح سبعون ألف ريشة، في كل ريشة سبعون ألف وجه، في كل وجه سبعون ألف فم، في كل فم سبعون ألف لسان! يخرج من أفواهها كل يوم من التسبيح عدد قطر المطر، وعدد ورق الشجر، وعدد الحصى والثرى، وعدد أيام الدنيا، وعدد الملائكة أجمعين، والتوت الحية على العرش - فالعرش إلى نصف الحية وهي ملتوية عليه، فتواضع عند ذلك! وفي التفسير أن عبد الله بن قلابة خرج في طلب إبل له فوصل إلى جنة شداد فحمل ما قدر عليه مما كان هناك، وبلغ خبره معاوية فاستحضره وقص عليه، فبعث إلى كعب فسأله، فقال: هي إرم ذات العماد، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال. وعلى عنقه خال، يخرج في طلب إبل له، ثم التفت فأبصر ابن قلابة فقال: هذا والله هو ذلك الرجل ولا يدخل المدينة أحد بعده إلى يوم القيامة.
ولما فرغ كعب من كلامه قال له معاوية: يا أبا إسحاق، أخبرني عن كرسي سليمان بن داود وما كان عليه ومن أي هو. فأخذ ينشئ من خرافاته وأساطيره ما لا نستطيع إيراده، فيرجع إليه في كتب التفسير... وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن كعب قال: الأرضون السبع على صخرة، والصخرة في كف ملك، والملك على جناح الحوت، والحوت في الماء، والماء على الريح، والريح على الهواء، ريح عقيم لا تلقح، وإن قرونها معلقة في العرش.
وعن وهب بن منبه: أربعة أملاك يحملون العرش على أكتافهم، لكل واحد منهم أربعة وجوه! وجه ثور، ووجه أسد، ووجه نسر، ووجه إنسان، ولكل واحد منهم أربعة أجنحة، أما جناحان فعلى وجهه ليحفظاه من أن ينظر إلى العرش فيصعق فيهفو بهما، ليس له كلام إلا أن يقول: قدوس الملك القوي ملأت عظمته السماوات والأرض.
روى ابن الفقيه في تاريخه: سئل النبي (صلى الله عليه وسلم) عن الأرض، سبع هي؟ قال: نعم والسماوات سبع. وقرأ - " الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن ". فقال رجل: فنحن على وجه الأرض الأولى؟ قال: نعم، وفي الثانية خلق يطيعون، ولا يعصون. وفي الثالثة خلق، وفي الرابعة صخرة ملساء، والخامسة ضحضاح من الماء، والسادسة سجيل وعليها عرش إبليس، والسابعة ثور، والثور على سمكة، والسمكة على الماء، والماء على الهواء، والهواء على الثرى، والثرى منقطع فيه علم العلماء.
وقرأ معاوية آية " حتى بلغ مغرب الشمس " حتى إذا بلغ " عين حمئة " قال ابن عباس إنها عين حمئة، فجعلا كعبا بينهما فأرسلوا إليه فسألوه فقال: أما الشمس فإنها تغيب في " ثأط " والثأط الطين. وقال مرة أخرى: تغيب في طينة سوداء. ويروى أن ابن عباس وعمرو بن العاص اختلفا في قراءة هذه الآية " في عين حمئة " وارتعفا إلى كعب الأحبار في ذلك.
وأخرج ابن خيثمة عن قتادة قال: بلغ حذيفة أن كعبا يقول: إن السماء تدور على قطب كالرحى فقال: كذب كعب، إن الله يقول: " يمسك السماوات والأرض أن تزولا ". وذكر الحافظ ابن حجر أن كعب الأحبار روى، أن باب السماء الذي يقال له " مصعد الملائكة " يقابل بيت المقدس فأخذ منه بعض العلماء أن الحكمة في الأسراء إلى بيت المقدس قبل العروج، ليحصل العروج مستويا. من غير تعويج... وهكذا تنفذ الاسرائيليات إلى معتقداتنا، وقال ابن حجر بعد أن أورد تلك الخرافة: وفيه نظر لورود أن في كل سماء بيتا معمورا، وأن الذي في سماء الدنيا حيال الكعبة، وكان من المناسب أن يصعد من مكة ليصل إلى البيت المعمور بغير تعويج! لأنه صعد من سماء إلى سماء إلى البيت المعمور!! وروى كعب أن في الجنة ملكا لو شئت أن أسميه لسميته، يصوغ لأهل الجنة الحلي منذ خلقه الله إلى يوم القيامة، لو أبرز قلب منها (أي سوار) لرد شعاع الشمس، كما ترد الشمس شعاع القمر. ومما يدلك على أن الصحابة كانوا يرجعون إليه حتى فيما هو من علمهم وبخاصة عندما قال: " ما من شيء إلا وهو مكتوب في التوراة "، أن أبا عبد الرحمن محمد ابن الحسين النيسابوري ذكر أن عمر قال لكعب - وقد ذكر الشعر - يا كعب هل تجد للشعر ذكرا في التوراة؟ فقال كعب: أجد في التوراة قوما من ولد إسماعيل أناجيلهم في صدورهم، ينطقون بالحكمة، ويضربون الأمثال، لا نعلمهم إلا العرب.
وروى يزيد بن حبيب أن معاوية بن أبي سفيان سأل كعب الأحبار: هل تجد لهذا النيل في كتاب الله خبرا؟ قال: إي والذي فلق البحر لموسى عليه السلام، إني لأجد في كتاب الله عز وجل: أن الله يوحي إليه في كل عام مرتين. يوحي إليه عند جريه: أن الله يأمرك أن تجري فيجري كما كتب الله، ثم يوحي إليه بعد ذلك، عد حميدا.
وروى البيهقي في الأسماء والصفات بسند صحيح عن ابن عباس قال: في قوله تعالى " الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن " قال سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم، وآدم كآدمكم، ونوح كنوح، وإبراهيم كإبراهيم، وعيسى كعيسى - ولم يذكر لموسى مثيلا! قال البيهقي في الشعب: هو شاذ بالمرة، قال السيوطي - هذا من البيهقي في غاية الحسن، فإنه لا يلزم من صحة الإسناد صحة المتن، لاحتمال صحة الإسناد مع أن في المتن شذوذا أو علة تمنع صحته ". وقال ابن كثير بعد عزو هذا الحديث لابن جرير بلفظ " كل أرض في الخلق مثل ما في هذه من آدم كآدمكم وإبراهيم كإبراهيمكم " هو محمول - إن صح عن ابن عباس - على أنه أخذه من الإسرائيات. وعن مكحول، قال كعب: أربعة من الأنبياء أحياء أمان لأهل الأرض، اثنان في الأرض: الخضر وإلياس، واثنان في السماء: إدريس وعيسى.
وفي تفسير الطبري أن ابن عباس سأل كعبا عن " سدرة المنتهى " فقال: إنها على رؤوس حملة العرش وإليها ينتهي علم الخلائق، وليس لأحد وراءها علم، ولذلك سميت " سدرة المنتهى " لانتهاء العلم بها، هذا ما قاله لتلميذه الثاني. أما تلميذه الأول فهو أبو هريرة، ففي حديث له أنها شجرة يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن، وأنهار من خمر، وأنهار من عسل - وهي شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين عاما لا يقطعها، والورقة منها تغطي الأمة كلها - يا حفيظ! وفي حديث المعراج أنه لما فرض الله خمسين صلاة على العباد في النهار وفي الليل لم يستطع أحد من الرسل جميعا غير موسى - أن يفقه استحالة أدائها على البشر! فهو وحده الذي فطن لذلك وحمل محمدا صلى الله عليه وسلم على أن يراجع ربه عشر مرات في حديث، وخمس مرات في حديث ثان، وبضع مرات في حديث ثالث - وفيها كلها أنه صلوات الله عليه كلما نزل بعدد منها من عند الله، أعاده موسى إلى ربه لينقصها حتى رجعت إلى خمس صلوات. وكأن الله سبحانه وتعالى لما فرض الصلاة على المسلمين، كان لا يعلم مبلغ قوة احتمال عباده على أدائها - تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا - وكذلك لا يعلم محمد الذي اصطفاه للرسالة العامة إلى الناس كافة - والله أعلم حيث يجعل رسالته - لا يعلم إن كان من أرسل إليهم يستطيعون احتمال هذه العبادة أو لا يستطيعون. حتى بصره موسى! وهكذا ترى الاسرائيليات تنفذ إلى ديننا وتسري في معتقداتنا فتعمل عملها ولا تجد أحدا إلا قليلا يزيفها أو يردها، بل نرى - واأسفاه - من يصدقها ويعتقدها من حشوية آخر الزمان، الذين يتجرون بالدين ولا يهمهم أن ينسب الجهل الخاتم المرسلين، صلوات الله عليه، ولا يزالون يذكرون اسم كعب الأحبار مقرونا بالسيادة، ونكتفي بهذه الأمثلة فإنها مجزئة.
هل يجوز رواية الاسرائيليات:
جاءت الشريعة الإسلامية فنسخت ما قبلها من الشرائع. وإن كانت قد أبقت على أصول العقائد وما لا يتعارض معها من الأمور التي أرسل الله بها جميع الرسل إلى خلقه - وقد بين القرآن الكريم أن أهل الكتاب (اليهود والنصارى) قد كتبوا من عند أنفسهم كتبا ليشتروا بها ثمنا قليلا.
ومن أجل ذلك نهى رسول الله أن يأخذ المسلمون على أهل الكتاب أمرا يخالف أصول دين الله وأحكامه وآدابه، وكان يغضب أشد الغضب إذا رأى أحدا ينقل عنهم شيئا، فقد روى أحمد عن جابر بن عبد الله أن عمر بن خطاب أتى النبي: بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه على النبي فغضب وقال: أمهوكون فيها يا بن الخطاب؟ والذي نفسي بيده لو أن موسى حيا ما وسعه إلا أن يتبعني، وفي رواية: فغضب وقال: لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو باطل فتصدقوا به.
وروى البخاري عن أبي هريرة: لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون. وروى البخاري من حديث الزهري عن ابن عباس أنه قال: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء، وكتابكم الذي أنزل الله على رسول الله أحدث الكتب تقرؤونه محضا لم يشب، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله وغيروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا! ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم، لا والله ما رأينا منهم رجلا يسألكم عن الذي أنزل إليكم! وروى ابن جرير عن عبد الله بن مسعود أنه قال: لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل! هذه هي الروايات الصحيحة التي تتفق مع الدين والعقل، والتي كانت معروفة عند المحققين.
هذا بعض ما روي عن النبي صلوات الله عليه في النهي عن الأخذ عن أهل الكتاب، ولكن ما لبث الأمر أن انقلب بعد أن اغتر بعض المسلمين بمن أسلم من أحبار اليهود خدعة - فظهرت أحاديث رفعوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم تبيح الأخذ وتنسخ ما نهى عنه. فقد روى أبو هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهما أن رسول الله قال: حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، وأبو هريرة وعبد الله بن عمرو من تلاميذ كعب الأحبار، وقد جاءت الأخبار بأن الثاني - وهو عبد الله بن عمرو بن العاص - أصاب يوم اليرموك - زاملتين من علوم أهل الكتاب فكان يحدث منها. وزاد ابن حجر " فتجنب الأخذ عنه لذلك كثير من أئمة التابعين ".
رواية بعض الصحابة عن أحبار اليهود كان من أثر وثوق الصحابة بمسلمة أهل الكتاب واغترارهم بهم أن صدقوهم فيما يقولون، ويروون عنهم ما يفترون - وقد نص رجال الحديث في كتبهم أن العبادلة الثلاثة وأبا هريرة ومعاوية وأنس وغيرهم، قد رووا عن كعب الأحبار وإخوانه - وكان أبو هريرة أكثر الصحابة وثوقا به، وأخذا عنه، وانقيادا له، كما يتبين لك من تاريخه الذي نشرناه في كتاب خاص باسم (شيخ المضيرة فيرجع إليه.
وقد استطاع هذا اليهودي (كعب الأحبار) كما دعته السيدة الجليلة أم كلثوم - بوسائله الشيطانية أن يدس من الخرافات والأوهام والأكاذيب في الدين ما امتلأت به كتب التفسير والحديث والتاريخ فشوهتها وأدخلت الشك إليها، وما زالت تمدنا بأضرارها إلى ما شاء الله وقد حدثناك بشيء منها من قبل لأن استيعابها يحتاج إلى مصنفات مفردة.
تكذيب الصحابة لكعب:
كان الصحابة - كما علمت - يثقون بكعب أول الأمر، ولكن ما لبث بعضهم أن فطن له بعد ما تبين من كذبه وانكشف من أمره، فنزعوا عنه ثوب الثقة وشكوا في أخباره، بل كذبوه وإن كان بعضهم أمثال أبي هريرة والعبادلة وغيرهم قد ظلوا على تصديقه، والأخذ عنه حتى لقى ربه. وقد نهى عمر كعبا عن الحديث وأوعده بالنفي إلى بلاده، وقال له: لتتركن الحديث أو لألحقنك بأرض القردة - وكان علي يقول: إنه لكذاب. وروى البخاري عن الزهري أن حميد بن عبد الرحمن سمع معاوية يحدث رهطا من قريش وذكر كعبا فقال: إنه من أصدق هؤلاء المحدثين عن أهل الكتاب وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب.
وأخرج ابن أبي خيثمة بسند حسن عن قتادة قال: بلغ حذيفة أن كعبا يقول: إن السماء تدور على قطب كالرحى، فقال: كذب كعب، إن الله يقول: " إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا "، وقال ابن عباس لرجل مقبل من الشام: من لقيت؟ قال: كعبا، قال: وما سمعته يقول؟ قال: سمعته يقول إن السماوات تدور على منكب ملك. فقال: كذب كعب. أما ترك يهوديته بعد! ثم قرأ: " إن الله يمسك السماوات والأرض "... الآية. والأخبار في ذلك كثيرة فنجتزئ بما قدمناه.
قصة الصخرة بين عمر وكعب:
لما افتتحت إيليا وأرضها على يدي عمر في ربيع الآخر سنة 16 ه ودخل عمر بيت المقدس دعا كعب الأحبار وقال له: أين ترى أن نجعل المصلى؟ فقال كعب الأحبار: إلى الصخرة!! فقال له عمر: ضاهيت والله اليهودية يا كعب - وفي رواية - يا بن اليهودية خالطتك يهودية أبنيه في صدر المسجد؟ فإن لنا صدور المساجد - وقد رأيتك وخلعك نعليك! فقال: أحببت أن أباشره بقدمي! ولما أخذ في تنظيف بيت المقدس من الكناسة التي كانت الروم قد دفنتها به سمع التكبير من خلفه - وكان يكره سوء الرعة في كل شيء فقال: ما هذا؟ فقالوا: كبر كعب وكبر الناس بتكبيره فقال: علي به، فقال: يا أمير المؤمنين - إنه قد تنبأ على ما صنعت اليوم نبي منذ خمسمائة سنة!! قال: وكيف؟ قال: إن الروم أغاروا على بني إسرائيل فأديلوا عليهم فدفنوه - إلى أن وليت فبعث الله نبيا على الكناسة فقال أبشري أوري شلم، عليك الفاروق ينقيك مما فيك، وفي رواية أتاك الفاروق في جندي المطيع ويدركون لأهلك بثأرك من الروم إلخ هذه الخرافات التي افتجرها هذا الدجال الأفاك.. " وقد ظللت الصخرة مكشوفة في خلافة عمر وعثمان مع حكمهما على الشام، وكذلك في خلافة علي رضي الله عنه، وإن كان لم يحكم عليها، ثم كذلك في إمارة معاوية وابنه وابن ابنه، فلما كان في زمن عبد الملك وجرى بينه وبين ابن الزبير من الفتنة ما جرى كان هو الذي بنى القبة على الصخرة وعظم عبد الملك شأن الصخرة بما بناه عليها وجعل عليها من الكسوة في الشتاء والصيف، ليكثر قصد الناس للبيت المقدس فيشتغلوا بذلك عن قصد ابن الزبير - والناس على دين الملوك. وظهر من ذلك الوقت من تعظيم الصخرة ما لم يكن المسلمون يعرفونه، وصار بعض الناس ينقل الاسرائيليات في تعظيمها، حتى روى بعضهم عن كعب الأحبار عند عبد الملك بن مروان - وعروة بن الزبير حاضر - أن الله قال للصخرة: أنت عرشي الأدنى. وقد صنف طائفة من الناس مصنفات في فضائل بيت المقدس وغيره من البقاع التي بالشام، وذكروا من الآثار المنقولة عن أهل الكتاب وعمن أخذ عنهم ما لا يحل للمسلمين أن يبنوا عليه دينهم، وأمثل من ينقل عنه تلك الاسرائيليات كعب الأحبار - وكان الشاميون قد أخذوا عنه كثيرا من الاسرائيليات. وفي مرآة الزمان لسبط بن الجوزي: توقفهم فيما رواه كعب الأحبار عن الرسول عليه الصلاة والسلام، لأنه أسلم على يد الفاروق، وكان يضربه بالدرة ويقول له: دعنا من يهوديتك.
الاسرائيليات - في فضل بيت المقدس
قال كعب: إن الله نظر إلى الأرض فقال: إني واطئ على بعضك، فاستبقت له الجبال، وتضعضعت الصخرة، فشكر لها ذلك، فوضع عليها قدمه! وقال: إن العرض والحساب من بيت المقدس. وإن مقبور بيت المقدس لا يعذب. وقال: هي أقرب إلى السماء بثمانية عشر ميلا - وهي أرض المحشر والمنشر. وقال: لا تقوم الساعة حتى يزور البيت الحرام بيت المقدس فينقادان جميعا إلى الجنة وفيهما أهلوهما. وقال: إن في التوراة أنه يقول لصخرة بيت المقدس: أنت عرشي الأدنى، ومنك ارتفعت إلى السماء، ومن تحتك بسطت الأرض، وكل ما يسيل من ذروة الجبال من تحتك - من مات فيك فكأنما مات في السماء إلخ. وعن أبي هريرة - تلميذ كعب الأحبار - أن النبي قال: الأنهار كلها والسحاب والبحار والرياح تحت صخرة بيت المقدس. وقال كعب: قال الله عز وجل لبت المقدس: أنت جنتي وقدسي وصفوتي من بلادي، من سكنك فبرحمة مني، ومن خرج منك فبسخط مني عليه. وعن كعب: اليوم في بيت المقدس كألف يوم، والشهر كألف شهر، والسنة فيه كألف سنة، ومن مات فيه فكأنما مات في السماء، ومن مات حوله فكأنما مات فيه.
عن وهب بن منبه قال: أهل بيت المقدس جيران الله، وحق الله عز وجل ألا يعذب جيرانه، ومن دفن في بيت المقدس نجا من فتنة القبر وضيقه. وفي حديث أن الطائفة من أمته الظاهرين على الحق، والذين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله، أنهم في بيت المقدس وأكنافه. وقال العلامة الأستاذ نعمة الله السلجوقي رئيس فخر المدارس (بهرات) من بلاد أفغانستان وهو يقرظ كتابنا " أضواء على السنة المحمدية " في كتاب قيم بعث به إلينا. أما الأحاديث المروية في فضل الشام فنحن نعترف بأن أكثرها دسائس إسرائيلية. وفي ذلك ما روي في بعض الكتب أن من أهل من المسجد الأقصى للحج غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فهذه الرواية - مع ما تدل على أفضلية المسجد الأقصى - تؤدي إلى الإلحاد وعدم المبالاة بارتكاب المعاصي وتفتح أبواب الفسوق، ومن الخرافات التي دسها اليهود وأدرجت في كتب السير وبعض التفاسير: أن السماوات بعضها من الفضة وبعضها من الزبرجد، وأن السيارات مركوزة في السماوات على الترتيب المذكور في كتب اليونان، مثل إن القمر مركوز بسماء الدنيا، والعطارد بالثانية، وهكذا إلى السابعة. وهكذا أن السماوات موضوعة على رأس جبل محيط بالأرض يقال له قاف. وأن الأرض موضوعة على قرن ثور قائم فوق ظهر حوت يسبح في الماء. كل ذلك من غفلة العلماء، وعدم مبالاتهم بوخامة عاقبة ما دس أعداء الدين بين المسلمين. ما قيل في المسجد الأقصى كانت الأحاديث الصحيحة أول الأمر في فضل المسجد الحرام ومسجد رسول الله ولكن بعد بناء قبة الصخرة ظهرت أحاديث في فضلها وفضل المسجد الأقصى. وقد روى أبو هريرة: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، مسجدي هذا ومسجد الحرام، ومسجد الأقصى. وفي رواية: يسافر إلى ثلاثة مساجد، الكعبة ومسجدي ومسجد إيليا: وروى مالك في الموطأ ومسلم في كتابه عن أبي هريرة: صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة في غيره من المساجد إلا المسجد الحرام. وعنه أيضا: " صلاة في مسجد رسول الله أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام "، وفي رواية: كألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا أن يكون المسجد الحرام، وعن أبي عمر: صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام.
وعن ابن عباس: أن امرأة اشتكت شكوى، فقالت: إن شفاني الله لأخرجن فلأصلين في بيت المقدس، فبرئت ثم تجهزت تريد الخروج فجاءت ميمونة زوج النبي تسلم عليها فأخبرتها بذلك، فقالت: اجلسي، فكلي ما صنعت وصلي في مسجد رسول الله، فإني سمعت رسول الله يقول: صلاة فيه أفضل من ألف فيما سواه إلا مسجد الكعبة. ولو أن المسجد الأقصى كان قد ورد فيه تلك الأحاديث، لما منعت ميمونة هذه المرأة من أن توفي بنذرها.
اليد اليهودية في تفضيل الشام
ذكرنا لك من قبل أن إشادة كهان اليهود إلى أن ملك النبي سيكون بالشام إنما هو الأمر خبئ في أنفسهم، ونبين هنا أن الشام ما كان لينال من الإشادة بذكره، والثناء عليه، إلا لقيام دولة بني أمية فيه، تلك الدولة التي قلبت الحكم من خلافة عادلة إلى ملك عضوض، والتي تحت كنفها وفي أيامها نشأت الفرق الإسلامية التي فتت في عضد الدولة الإسلامية ومزقتها تمزيقا واستفاض فيها وضع الحديث، فكان جديرا بكهنة اليهود أن ينتهزوا هذه الفرصة وينفخوا في نار الفتنة، ويمدوها بجيوش الأكاذيب والكيد وكان من هذه الأكاذيب أن بالغوا في مدح الشام وأهله، وأن الخير كل الخير فيه، والشر كل الشر في غيره.
وعلى أنه قد مر بك ذرو مما قاله هؤلاء الكهنة في أن ملك النبي سيكون بالشام، وأن معاوية قد زعم أن رسول قد قال له إنه سيلي الخلافة من بعده. وطلب منه أن يختار الأرض المقدسة التي فيها الأبدال، فإنا نكشف هنا عن جانب آخر من كيد الدهاء اليهودي للمسلمين ودينهم وملكهم، ذلك أنهم لم يكتفوا بما قالوه في الشام مما أتينا على بعضه من قبل، بل زادوا على ذلك بأن جعلوا الطائفة الظاهرة على الحق تكون في الشام كذلك، وحتى نزول عيسى الذي قالوا عنه سيكون بأرضه... فقد جاء في الصحيحين: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك، روى البخاري هم بالشام.
وفي مسلم عن أبي هريرة أن النبي قال: لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة. قال أحمد وغيره: هم أهل الشام. ولما فتحت بلاد الأندلس جعلوها هذا الغرب المقصود، في الحديث وأطلقو الحديث على بلادهم، ففي المعجب في تلخيص أخبار المغرب عن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله قال: لا يزال أهل المغرب ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة.
وفي كشف الخفاء أن كعب الأحبار قال: أهل الشام سيف من سيوف الله ينتقم الله بهم من العصاة. ولعل العصاة هنا هم الذين لا ينضوون تحت لواء معاوية ويتبعون غيره وغيره، هو علي رضي الله عنه! قال عروة بن رويم: إن رجلا لقى كعب الأحبار فسلم عليه ودعا له، فسأله كعب: ممن هو؟ فقال: من أهل الشام، قال: لعلك من الجند الذين يدخل الجنة منهم سبعون ألفا بغير حساب، ولا عذاب، قال: ومن هم، قال: أهل دمشق! فقال: لست منهم؟ قال فلعلك من الجند الذين ينظر الله إليهم في كل يوم مرتين. قال: ومن هم؟ قال: أهل فلسطين. قال: أنا منهم! وفي لفظ قال: لعلك من الجند الذين يشفع شهيدهم بسبعين؟ قال: ومن هم؟ قال: أهل حمص. وقال كعب: أول حائط وضع على وجه الأرض بعد الطوفان: حائط حران ودمشق ثم بابل. وعن نافع عن ابن عمر عن كعب قال: تخرج نار تحشد الناس فإذا سمعتم بها فاخرجوا إلى الشام. وابن عمر هو أحد تلاميذ كعب.
ومن أحاديث الجامع الصغير للسيوطي التي أشر عليها بالصحة: الشام صفوة الله من بلاده، إليها يجتبي صفوته من عباده، فمن خرج من الشام إلى غيرها فبسخطة، ومن دخلها فبرحمة! طوبى للشام إن الرحمن لباسط رحمته عليه..
ليبعثن الله من مدينة بالشام يقال لها " حمص " سبعين ألفا يوم القيامة، لا حساب عليهم ولا عذاب، يبعثهم فيما بين الزيتون والحائط.. إلخ. ومدينة حمص هذه يجب أن يكون لها هذا الشأن العظيم حتى في الآخرة بحيث لا يدانيها في ذلك مدينة أخرى حتى مدينة النبي.. وذلك لأن الكاهن اليهودي - الذي يعده كثير من شيوخ المسلمين أنه من كبار التابعين - قد اتخذها مقاما له، ثم ضمت رفاته بعد موته. ولا نطيل بإيراد كل ما لدينا من هذه الأخبار لأن ما جئنا به فيه الكفاية.
قول المحققين في الاسرائيليات ورواتها وقبل أن نفرغ من الكلام عن الاسرائيليات التي مني بها الدين الإسلامي نسوق إليك بعض ما قاله المحققون من أئمة المسلمين في هؤلاء الكهنة الذين أظهروا الإسلام، وفي رواياتهم المدخولة. قال ابن تيمية عن الاسرائيليات التي قيلت في بيت المقدس وغيره من بقاع الشام ما يأتي: وقد صنف طائفة من الناس مصنفات في فضائل بيت المقدس وغيره من البقاع التي بالشام، وذكروا ما فيها من الآثار المنقولة عن أهل الكتاب وعمن أخذ عنهم، ما لا يحل للمسلمين أن يبنوا عليه دينهم - وأمثل من ينقل عنه تلك الاسرائيليات كعب الأحبار. وكان الشاميون قد أخذوا عنه كثيرا من الاسرائيليات، وقد قال معاوية: ما رأينا في هؤلاء المحدثين عن أهل الكتاب أمثل من كعب، وإن كنا لنبلو عليه الكذب أحيانا، قد ثبت في الصحيح عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، فإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه، وإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه.
ومن العجب أن هذه الشريعة المحفوظة المحروسة، مع هذه الأمة المعصومة التي لا تجتمع على ضلالة - إذا حدث بعض أعيان التابعين عن النبي (صلى الله عليه وسلم) كعطاء بن أبي رباح والحسن البصري وأبي العالية ونحوهم - وهم من خيار علماء المسلمين وأكابر أئمة الدين - توقف أهل العلم في مراسيلهم فمنهم من يرد المراسيل مطلقا، ومنهم من يتقبلها بشروط، إلى أن قال: وهؤلاء ليس بين أحدهم وبين النبي (صلى الله عليه وسلم) إلا رجل، أو رجلان، أو ثلاثة مثلا.
وأما ما يوجد في كتب المسلمين في هذه الأوقات من الأحاديث التي يذكرها صاحب الكتاب مرسلة، فلا يجوز الحكم بصحتها باتفاق العلماء - فكيف بما ينقله كعب الأحبار وأمثاله عن الأنبياء - وبين كعب وبين النبي الذي ينقل عنه ألف سنة وأكثر وأقل، وهو لم يسند ذلك عن ثقة بعد ثقة بل غايته أن ينقل عن بعض الكتب التي كتبها شيوخ اليهود، وقد أخبر الله عن تبديلهم وتحريفهم، فكيف يحل للمسلم أن يصدق شيئا من ذلك بمجرد هذا النقل، بل الواجب ألا يصدق ذلك ولا يكذبه أيضا، إلا بدليل على كذبه. وهكذا أمرنا النبي (صلى الله عليه وسلم). وفي هذه الاسرائيليات مما هو كذب على الأنبياء أو ما هو منسوخ في شريعتنا ما لا يعلمه إلا الله ا ه.
وقال ابن كثير في تفسير سورة النمل، بعد أن ذكر ما جاء في قصة ملكة سبأ مع سليمان من الاسرائيليات ما يلي: " والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب مما وجد في صحفهم كروايات كعب ووهب سامحهما الله تعالى فيما نقلاه إلى هذه الأمة من أخبار بني إسرائيل من الأوابد والغرائب والعجائب مما كان ومما لم يكن ومما حرف وبدل ونسخ، وقد أغنانا الله بما هو أصح منه وأنفع وأوضح وأبلغ ولله الحمد والمنة. وقد أشار الحكيم ابن خلدون في مواضيع كثيرة من مقدمته إلى كعب ووهب وما جاء عنهما فليرجع إليه من أراد زيادة في البيان.
ولم نجد في هذا العصر، بل في العصور الأخيرة من فطن لدهاء كعب ووهب وكيدهما، مثل الفقيه المحدث السيد محمد رشيد رضا رحمه الله. وإني أنقل هنا بعض ما قاله في كعب خاصة، وفيه وفي زميله وهب عامة. قال في كعب ردا على من وصفوه بأنه كان من أوعية العلم ما يلي: إن ثبوت العلم الكثير لا يقتضي نفي الكذب. وكان جل علمه عندهم، ما يرويه عن التوراة ليقبل وغيرها من كتب قومه وينسبه إليها ليقبل، ولا شك أنه كان من أذكى علماء اليهود قبل إسلامه وأقدرهم على غش المسلمين بروايته بعده. وقال عنه إنه كان من زنادقة اليهود الذين أظهروا الإسلام والعبادة لتقبل أقوالهم في الدين. وقد راجت دسيسته حتى انخدع به بعض الصحابة ورووا عنه، وصاروا يتناقلون قوله بدون إسناد إليه، حتى ظن بعض التابعين ومن بعدهم أنها مما سمعوه عن النبي، وأدخلها بعض المؤلفين في الموقوفات التي لها حكم المرفوع كما قال الحافظ ابن كثير في مواضع من تفسيره.
وقال عنه: إنه كان بركان الخرافات وأجزم بكذبه بل لا أثق بإيمانه. وقال فيهما معا - أي كعب ووهب. " إن شر رواة هذه الاسرائيليات، أو أشد تلبيسا وخداعا للمسلمين هذان الرجلان. فلا تجد خرافة دخلت في كتب التفسير والتاريخ الإسلامي في أمور الخلق والتكوين والأنبياء وأقوامهم، والفتن والساعة والآخرة، إلا وهي منهما مضرب المثل - في كل واد أثر من ثعلبة - ولا يهولن أحد انخداع بعض الصحابة والتابعين بما بثاه وغيرهما من هذه الأخبار - فإن تصديق الكاذب لا يسلم منه أحد من البشر ولا المعصومين من الرسل: فإن العصمة إنما تتعلق بتبليغ الرسالة والعمل بها، فالرسل معصومون من الكذب ومن الخطأ في التبليغ ومن العمل بما ينافي ما جاءوا به التشريع، لأن هذا ينافي القدوة ويخل بإقامة الحجة. ولكن الرسول إذا صدق الكاذب في أمر يتعلق به وبعمله، أو بمصلحة الأمة، فإن الله تعالى يبين له ذلك ومنه ما كان، من بعض أزواجه، الذي نزل فيه أول سورة التحريم، وعلم من قوله تعالى فيها " قالت من أنبأك هذا؟؟ قال نبأني العليم الخبير " أي أنه لم يعلم المكيدة بملكة العصمة، بل بوحي الله تعالى بعد وقوعها. ومنه قوله تعالى فيما كان كذب عليه بعض المنافقين الذين اعتذروا عن الخروج معه (صلى الله عليه وسلم) إلى تبوك، " عفا الله عنك، لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ". وما نقله الزرقاني من رأيه: أن ما روي عن الصحابي مما لا مجال للرأي فيه موقوفا عليه، فإن له حكم المرفوع، (وإن احتمل أخذ الصحابي له عن أهل الكتاب تحسينا للظن به) فهو رأي باطل مردود عليه، لا نتخذه قاعدة وأصلا في ديننا وما علله به ظاهر البطلان، إذ لا محل هنا لتحسين الظن، ولا لمقابله، فمن المعتاد المعهود من طباع البشر أن يصدقوا كل خبر لا يظهر لهم دليل على تهمة قائله فيه ولا على بطلانه في نفسه، فإذا صدق بعض الصحابة كعب الأحبار في بعض مفترياته التي كان يوهمهم أنه أخذها من التوراة أو غيرها من كتب أنبياء بني إسرائيل وهو من أحبارهم، أو في غير ذلك، فلا يستلزم هذا إساءة الظن فيهم، وإذا كانت هذه الخرافات الإسرائيلية مما يصد عن الإسلام ويجري الألسنة والأقلام بالطعن فيه، مع العلم بأنها مروية عمن لا تعد أقوالهم ولا آراؤهم نصوصا دينية، ولا أدلة شرعية، وإن كانوا من أفراد علماء السلف - كما هو واقع بالفعل - فكيف يكون موقفنا مع هؤلاء الطاعنين فيه من الملاحدة ودعاة الأديان المعادين للإسلام، والمسلمين من زنادقة المسلمين أيضا إذا قلنا إن كل تلك الترهات والخرافات الإسرائيلية إذا كان بعض رواتها من الصحابة فإنها تنتظم في سلك الأحاديث المرفوعة إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) ويجب الإيمان بها؟ ألا إن هذا باب واسع في الطعن في الإسلام والصد عنه، لو فتحه علينا من هو أكبر من الزرقاني من مقلدة القرون الوسطى المظلمة لأغلقناه في وجهه وقلنا له، إن علماء الأصول قد اتفقوا على أن طروء الاحتمال في المرفوع من وقائع الأحوال، يكسوها ثوب الإجمال فيسقط بها الاستدلال.
وهذا الاحتمال أولى من ذاك أن يمنع عد الموقوف مرفوعا، وجعله دليلا شرعيا. وقال رحمه الله: وإنا بعد اختبارنا ثلث قرن قضيناه في معالجة الشبهات ومناظرة الملاحدة وأمثالهم من خصوم الإسلام والرد عليهم قولا وكتابة، قد ثبت عندنا أن روايات كعب ووهب في كتب التفسير والقصص والتاريخ، كانت شبهات كثيرة للمؤمنين، لا للملاحدة والمارقين وحدهم. وإن المستقلين في الرأي لا يقبلون ما قالوه: إن كل من قال جمهور رجال الجرح والتعديل بعدالته فهو عدل، وإن ظهر لمن بعدهم فيه من أسباب الجرح ما لم يظهر لهم. وقال رحمه الله: رأينا الشيء الكثير في رواياتهما مما نقطع بكذبه، لمخالفة ما روياه مما كانا يعزوانه للتوراة وغيرها من كتب الأنبياء - فجزمنا بكذبهما وهو مما لم يكن يعلمه المتقدمون. لأنهم لم يطلعوا على كتب أهل الكتاب، والطعن في روايتهما يدفع شبهات كثيرة عن كتب الإسلام ولا سيما تفسير كتاب الله المحشو بالخرافات.
وقال كذلك عن روايتهما: إن أكثرها خرافات إسرائيلية شوهت كتب التفسير وغيرها من الكتب، وكانت شبها على الإسلام يحتج بها أعداؤه الملاحدة أنه كغيره دين خرافات وأوهام، وما كان فيها غير خرافة فقد تكون الشبهة فيه أكبر كالذي ذكره كعب من صفة النبي في التوراة. وعلى أن الأئمة المحققين قد طعنوا في رواية هذين الكاهنين، لا يزال يوجد بيننا - واأسفاه - من يثق بهما، ويصدق ما يرويانه، ولا يقبل أي كلام فيهما.
الكيد السياسي
ولكي نستوفي القول في بيان مدى الكيد اليهودي للإسلام والمسلمين - وإن كان ذلك يعد استطرادا ينحرف بنا عما نحن بسبيله - نكشف لك عن جانب آخر من عمل دهاة اليهود، ذلك هو الجانب السياسي، فلقد كان كيدهم في محاربة الإسلام يتجه إلى ضربه من ناحيتين: ناحية دينية، وأخرى سياسية، أما طعنهم في الناحية الدينية فقد حدثناك به من قبل، وهاك ذروا صغيرا من كيدهم السياسي. عبد الله بن سبأ قال رفيق العظم في أشهر مشاهير الإسلام: " إن بذار الفتنة بذرت في أنحاء المملكة (الإسلامية) وعواصمها الكبيرة كمصر والبصرة والكوفة بدعوة سرية قام ببثها عبد الله بن سبأ المعروف " بابن السوداء " وكان يهوديا من حمير أسلم على عهد عثمان بإيعاز جمعية سرية تريد بهذا أحد أمرين: إما تفريق المسلمين في الدين، أو تفريقهم في السياسة. وهذا الرجل لما أسلم نزل في البصرة على حكيم بن جبلة العبدي، واجتمع إليه نفر فأخذ يغريهم بالدعوة التي قام بها، فقبلوا منه، وبلغ ابن عامر أمره فطرده من البصرة، فأتى الكوفة فأخرج منها أيضا، فأتى مصر واستقر فيها، والتف عليه ناس من أهل مصر، منهم كنانة بن بشر، وسودان بن حمران، وخالد بن ملجم وأشباههم فقال لهم: العجب ممن يصدق أن عيسى يرجع، ويكذب أن محمدا يرجع، فوضع لهم الرجعة فقبلت منه ا ه.
ومن قول ابن سبأ هذا: إن لكل نبي وصيا، وعلي وصي محمد، والرجعة بعد محمد لعلي - وهذا هو معتقد الشيعة، وإن عثمان قد أخذ حق علي. وقال عنه الدكتور أحمد أمين في فجر الإسلام إنه " هو الذي حرك أبا ذر الغفاري للدعوة الاشتراكية ، وكان من أكبر من ألب الأمصار على عثمان وأله عليا، والذي يؤخذ من تاريخه أنه وضع تعاليم لهدم الإسلام، وألف جمعية سرية لبث تعاليمه، واتخذ الإسلام ستارا يستر به نياته - وأشهر تعاليمه الوصاية والرجعة، وقد بدأ قوله بأن محمدا يرجع، فكان مما قاله: " العجب ممن يصدق أن عيسى يرجع، ويكذب أن محمدا يرجع ".
ثم تحول إلى القول بأن عليا يرجع، وقال ابن حزم، لما قتل علي قال: " لو أتيتمونا بدماغه ألف مرة ما صدقنا موته، ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا. وفكرة الرجعة هذه أخذها ابن سبأ من اليهودية، فعندهم أن النبي " إلياس " صعد إلى السماء وسيعود فيعيد الدين والقانون، ووجدت الفكرة في النصرانية أيضا في عصورها الأولى. وصفوة القول في هؤلاء اليهود - كما قال بعض الباحثين - أن سلاحهم كان الافتراء والكذب، والمكر والدس، وتحريف الكلم، وإثارة الشكوك والشبهات بين المسلمين وإيقاع الضغينة بينهم. وقد تبين لك أن قتل عمر كان من تدبير جمعية سرية اشترك فيها كعب الأحبار اليهودي. وقتل عثمان كان بعضه بتأثير دسائس عبد الله بن سبأ اليهودي، وإلى جمعية السبئيين وجمعيات الفرس، ترجع جميع الفتن السياسية، وأكاذيب الرواية في الصدر الأول. كتبنا ذلك في الطبعة الأولى من كتابنا اعتمادا على ما كتبه كبار المؤرخين ومن جاء بعدهم عن ابن سبأ، وقد ظهر كتاب نفيس اسمه " عبد الله بن سبأ " من تأليف العالم العراقي الكبير الأستاذ مرتضى العسكري أثبت فيه بأدلة قوية مقنعة أن هذا الاسم لا حقيقة له، لأن المصدر الأول الذي اعتمد عليه كل المؤرخين من الطبري إلى الآن في إثبات وجوده هو سيف بن عمر التميمي المتوفى سنة 170 ه، وقد طعن أئمة السنة جميعا في روايته، وقال فيه الحاكم: اتهم بالزندقة وهو في الرواية ساقط. وإنا - إنصافا للعلم والحق نقول: إن الدكتور طه حسين قد شك قبل ذلك في وجود عبد الله بن سبأ هذا، وإليك بعض ما أثبته في كتابه العظيم " الفتنة الكبرى " الجزء الثاني " علي وبنوه " وهو يتحدث عن وقعة صفين: أقل ما يدل عليه إعراض المؤرخين عن السبئية وعن ابن السوداء في حرب صفين أن أمر السبئية وصاحبهم ابن السوداء إنما كان متكلفا منحولا وقد اخترع بأخرة حين كان الجدال بين الشيعة وغيرهم من الفرق الإسلامية.
أراد خصوم الشيعة أن يدخلوا في أصول هذا المذهب عنصرا يهوديا إمعانا في الكيد لهم، والنيل منهم، ولو قد كان أمر ابن السوداء مستندا إلى أساس من الحق والتاريخ الصحيح لكان من الطبيعي أن يظهر أثره وكيده في هذه الحرب المعقدة المعضلة التي كانت بصفين، ولكان من الطبيعي أن يظهر أثره حين اختلف أصحاب علي في أمر الحكومة، ولكان من الطبيعي بنوع خاص أن يظهر أثره في تكوين هذا الحزب الجديد، الذي كان يكره الصلح وينفر منه ويكفر من مال إليه، أو شارك فيه. ولكنا لا نرى لا بن السوداء ذكرا في أمر الخوارج، فكيف يمكن تعليل هذا الإهمال؟ أو كيف يمكن أن نعلل غياب ابن سبأ عن وقعة صفين وعن نشأة حزب المحكمة؟ أما أنا فلا أعلل الأمرين إلا بعلة واحدة. وهي أن ابن السوداء لم يكن إلا وهما وإن وجد بالفعل فلم يكن ذا خطر كالذي صوره المؤرخون وصوروا نشاطه أيام عثمان وفي العام الأول من خلافة علي! وإنما هو شخص ادخره خصوم الشيعة للشيعة وحدهم ولم يدخروه للخوارج... إلخ. وإليك مثلا من هذا الكيد في أمر خطير تحول به التاريخ الإسلامي عن مجراه:
كعب ومعاوية
قرأت فيما سبق وبيناه أن عمر بن الخطاب كان قد نهى كعب الأحبار عن الحديث وتوعده بالنفي إذا هو روى من إسرائيلياته أو ما يزعم أنه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) ذلك بعد أن فطن لكيده، وتبين له سوء دخلته، ولم يجد كعب تلقاء هذا التهديد الشديد مناصا من أن يذعن في غيظ وموجدة، ثم أخذ يسعى في الخفاء لكن يحقق أغراضه التي أسلم من أجلها، ورأى أن ذلك لا يتسنى إلا بعد التخلص من هذه الصخرة العاتية التي اعترضت طريقه، وحالت بينه وبين ما يريد، وما لبث أن أتيحت له فرصة المؤامرة التي دبرتها جمعية سرية لقتل عمر فاشترك فيها ونفخ في نارها! ولما خلا له الجو بقتله، وأمن من خوفه، أطلق العنان لنفسه لكي يبث ما شاء الكيد اليهودي أن يبث من الخرافات والإسرائيليات التي تشوه بهاء الدين يعاونه في ذلك تلاميذه الكبار أمثال: عبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر، وأبو هريرة.. ولم يكفه ذلك، ولا أقنعه أن يصبح ولا معارض له فيما يريد، وأن يجد من غفلة المسلمين، وعون الحاكمين إصغاء لكل ما يفتري وتقديرا، بل ظل على مكره يهتبل كل فرصة لكي يضرب الإسلام من ضرباته الخبيثة. ولنضرب لذلك هنا مثلا واحدا نجتزئ به، ذلك أنه لما اشتعلت نيران الفتنة في زمن عثمان واشتد زفيرها، حتى التهمت عثمان فقتلته وهو في بيته، لم يدع هذا الكاهن الماكر هذه الفرصة تمر دون أن يهتبلها بل أسرع ينفخ في نارها ويسهم بكيده اليهودي فيها ما استطاع على ذلك سبيلا، وقد كان من كيده في هذه الفتنة أن أرهص بيهوديته بأن الخلافة بعد عثمان ستكون لمعاوية! فقد روى وكيع عن الأعمش عن أبي صالح أن الحادي كان يحدو بعثمان (رضي الله عنه) يقول: إن الأمير بعده علي * وفي الزبير خلق رضي فقال كعب الأحبار: بل هو صاحب البغلة الشهباء! (يعني معاوية)، وكان يراه يركب بغلة. فبلغ ذلك معاوية فأتاه فقال: يا أبا إسحاق ما تقول هذا! وها هنا علي والزبير وأصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم)! قال: أنت صاحبها. ولعله أردف ذلك بقوله: إني وجدت ذلك في الكتاب الأول!! وقدر معاوية هذه اليد الجليلة لكعب، وأخذ يغمره بأفضاله، وقد عرف من تاريخ هذا الكاهن أنه تحول إلى الشام في عهد عثمان وعاش تحت كنف معاوية فاستصفاه لنفسه وجعله من خلصائه لكي يروي من أكاذيبه وإسرائيلياته ما شاء أن يروي في قصصه لتأييده، وتثبيت قوائم دولته. وقد ذكر ابن حجر العسقلاني في الإصابة بأن معاوية هو الذي أمر كعبا بأن يقص في الشام، وحسبك ما وقفت عليه من قبل، وما وصل إلينا مما رواه في تفضيل الشام وأهله.
ومن العجيب أن هذه الاسرائيليات لا تزال تجد إلى اليوم من يصدقها بل يقدسها، وإذا بصرناهم بتخفيفها هب في وجهنا أدعياء العلم في عصرنا وبخاصة من كانوا من حفدة الأمويين ورمونا بالسب والشتم تعصبا لهم وحماقة. هذا مثل واحد نسوقه هنا في مواقف كعب مع معاوية خاصة، وما أصاب الإسلام من كيده ومكره عامة، ولأن عليا هو ابن عم النبي صلى الله عليه وآله الذي أرصد له هؤلاء الكهان كل قواهم لمحاربة شريعته، ولو شئنا أن نستوفي كل ما أتاه هذا الكاهن من كيد للإسلام وأهله لاقتضى منا ذلك أن نعقد مؤلفا خاصا كما فعلنا لتلميذه الأكبر أبي هريرة.
ولا ننسى أن عليا رضي الله عنه كان يقول عن كعب إنه لكذاب.
المسيحيات في الحديث حديث الجساسة - حديث طعن الشيطان لكل بني آدم إلا عيسى وأمه - ابن جريح إذا كانت الاسرائيليات قد شوهت بهاء الدين الإسلامي بمفترياتها، فإن المسيحيات كان لها كذلك نصيب مما أصاب هذا الدين، وأول من تولى كبر هذه المسيحيات هو تميم بن أوس الداري وهو من نصارى اليمن، وكان مقامه مع قبيلته في الشام في ناحية فلسطين، وفد على النبي (صلى الله عليه وسلم) بعد غزوة تبوك سنة 9 ه وأسلم قال أبو نعيم: كان راهب أهل عصره، وعابد أهل فلسطين، وهو أول من أسرج السراج وأول من قص، وقد صحب النبي (صلى الله عليه وسلم) وغزا معه، ولم يزل بالمدينة حتى تحول إلى الشام بعد قتل عثمان، ومات في خلافة علي سنة 40. وكان يحدث بروايات وقصص عن الجساسة والدجال، وإبليس، وملك الموت، والجنة والنار فملأ الأرض بهذه الروايات، كما فعل زميلاه من قبل كعب الأحبار ووهب بن منبه، ولا يعجب القارئ من أن يدخل في الإسلام مسيحيات بعد أن دخل فيه إسرائيليات، فإنه قد شيب بأشياء من كل دين ومن كل نحلة. ولكن المجال لا يتسع لبيان كل ما دخل عليه من الملل والنحل الأخرى، لأن ذلك يحتاج إلى مؤلف برأسه. حديث الجساسة: مما بثه تميم الداري من مسيحياته، ما ذكره للنبي (صلى الله عليه وسلم) من قصة الجساسة والدجال ونزول عيسى وغير ذلك.
أما حديث الجساسة فقد رواه مسلم في كتابه من طرق يخالف بعضها بعضا. وها هو ذا من طريق فاطمة بنت قيس أخت الضحاك بن قيس وكانت من المهاجرات الأول. قال رسول الله بعد أن جمع الناس: إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة، ولكن جمعتكم لأن تميما الداري كان رجلا نصرانيا، فجاء فبايع وأسلم، وحدثني أنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلا من لخم وجذام، فلعب بهم الموج شهرا في البحر ثم أرفأوا إلى جزيرة في البحر حتى مغرب الشمس، وأنهم دخلوا الجزيرة فلقيتهم دابة أهلب كثير الشعر لا يدرون ما قبله من دبره، فقالوا: ويلك ما أنت؟ فقالت: أنا الحساسة، ثم أشارت عليهم أن يتطلعوا إلى رجل في الدير وأشارت إليه. فدخلوا الدير فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه خلقا، وأشده وثاقا مجموعة يداه إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد، ولما عرف أمرهم وأنهم من العرب سألهم جملة أسئلة، وهم يجيبون عنها إلى أن قال لهم: أخبروني عن نبي الأميين ما فعل؟ قالوا: قد خرج من مكة ونزل يثرب، قال: أقاتله العرب؟ قلنا: نعم. قال: كيف صنع بهم! فأخبروه بأنه قد ظهر على من يليه من العرب وأطاعوه، قال: وإني مخبركم عني: إني أنا المسيح وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج فأخرج فأسير في الأرض أربعين يوما فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة فإنهما محرمتان على كلتاهما. كلما أردت أن أدخل واحدة أو واحدا منهما استقبلني ملك بيده السيف مصلتا يصدني عنها، وبعد ما ذكر ذلك، طعن الرسول بمخصرته في المنبر وقال: هذه طيبة، هذه طيبة، هذه طيبة، يعني المدينة.
ولم يشأ أبو هريرة أن يدع هذا الخبر بغير أن يمسه بنفحة من غرائبه، فروى أن بين قرني الجساسة فرسخ للراكب! وقد رأينا تعليقا على هذا الحديث للعلامة السيد رشيد رضا رحمه الله نثبته هنا في محله. " حديث الجساسة الذي حدث به تميم الداري رسول الله وأخرجه مسلم في صحيحه مرفوعا من طرق يخالف بعضها بعضا في متنه - فهذا الخلاف في المتن علته من بعض رواة الصحيح، ولا يظهر حمله على تعدد القصة ثم إن رواية الرسول له من تميم الداري - إن سلم سندها من العلل - هل تجعل الحديث ملحقا بما حدث به النبي (صلى الله عليه وسلم) من تلقاء نفسه، فيجزم بصدق أصله قياسا على إجازته (صلى الله عليه وسلم) أو تقريره للعمل، إذ يدل حله وجوازه؟ الظاهر لنا أن هذا القياس لا محل له هنا - والنبي ما كان يعلم الغيب فهو كسائر البشر يحمل كلام الناس على الصدق، إذا لم تحف به شبهة، وكثيرا ما صدق المنافقين والكفار في أحاديثهم وحديث العرينيين وأصحاب بئر معونة مما يدل على ذلك، وإنما كان يعرف كذب بعض الكاذبين بالوحي، أو ببعض طرق الاختبار، أو إخبار الثقات ونحو ذلك، من طرق العلم البشري، وإنما يمتاز الأنبياء على غيرهم بالوحي والعصمة من الكذب - وما كان الوحي ينزل إلا في أمر الدين وما يتعلق بدعوته وحفظه وحفظ من جاء به، وتصديق الكاذب ليس كذبا، وحسبك أن تتأمل في هذا الباب عتاب الله لرسوله، إذ أذن لبعض المعتذرين من المنافقين في التخلف عن غزوة تبوك وما علله به وهو قوله " عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ". وإذا جاز على الأنبياء والمرسلين أن يصدقوا الكاذب فيما لا يخل بأمر الدين ولا يترتب عليه حكم شرعي، ولا شيء ينافي منصب الرسالة، أفلا يجوز على من دونهم أن يصدقوا الكاذب في أي خبر لا تقوم القرينة على كذبه فيه؟ ومن صدق شيئا يجوز أن يحدث به من غير عزو إلى من سمعه منه.
وقال رحمه الله في أمر نزول عيسى من السماء وخروج الدجال والمهدي: إن الأحاديث الواردة في نزول عيسى كثيرة في الصحيحين والسنن وغيرها، وأكثرها واردة في أشراط الساعة وممزوجة بأحاديث الدجال، وفي تلك الأشراط - ولا سيما أحاديث الدجال والمهدي - اضطراب واختلاف وتعارض كثير، والظاهر من مجموعها، أنه يظهر في اليهود دجال بل أكبر دجال عرف في تاريخ الأمم فيدعي أنه هو المسيح الذي تنتظره اليهود فيفتتن به خلق كثير، وفي آخر مدته يظهر المسيح الذي هو عيسى بن مريم، ويكون نزوله في المنارة البيضاء شرقي دمشق - ويلتقي بالمسيح الدجال بباب لد بفلسطين، وهناك يقتل المسيح الصادق عيسى بن مريم الدجال بعد حرب طويلة تكون بين المسلمين واليهود.. فنزول عيسى عقيدة أكثر النصارى وقد حاولوا في كل زمان منذ ظهر الإسلام إلى الآن بثها في المسلمين، وممن حاولوا ذلك بإدخالها في التفسير وهب بن منبه الركن الثاني بعد كعب الأحبار لتشويه تفسير القرآن بما بثه من الخرافات.
حديث طعن الشيطان لكل بني آدم إلا عيسى وأمه: ومن المسيحيات في الحديث ما رواه البخاري عن أبي هريرة أن النبي قال: كل ابن آدم يطعن الشيطان في جنبه حين يولد، غير عيسى بن مريم، ذهب يطعن فطعن في الحجاب. وفي رواية: سمعت رسول الله يقول: ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان غير مريم وابنها ". وفي رواية ثالثة: كل بني آدم قد طعن الشيطان فيه حين ولد غير عيسى بن مريم وأمه، جعل الله دون الطعنة حجابا فأصاب الحجاب ولم يصبها! وفي رواية عند مسلم " إلا نخسة الشيطان " و" إلا يستهل من نخسة الشيطان ". وفقه هذا الحديث الذي سمعه الصحابي الجليل من الرسول، أن الشيطان يطعن كل ابن آدم، أو ينخسه إلا عيسى بن مريم وأمه، وبذلك لم يسلم من طعن الشيطان أحد غيرهما من بني آدم أجمعين، حتى الرسل: نوح وإبراهيم وموسى وغيرهم، وخاتمهم محمد صلوات الله عليه وعلى جميع النبيين، فانظر واعجب!.
ولم يقفوا عند ذلك بل كان من رواياتهم أن النبي صلوات الله عليه ولم ينج من نخسة الشيطان إلا بعد أن نفذت الطعنة إلى قلبه - وكان ذلك بعملية جراحية تولتها الملائكة بآلات جراحية مصنوعة من الذهب! ونصب هذه الروايات أن صدره صلوات الله عليه قد شق وأخرجت منه العلقة السوداء! وحظ الشيطان - كما يقولون - وكأن العملية الأولى لم تنجح فأعيد شق صدره، ووقع ذلك مرات عديدة بلغت خمسا، وأربع منها باتفاق كما يقولون، في الثالثة من عمره، وفي العاشرة، وعند مبعثه، وعند الإسراء. ومرة خامسة فيها خلاف وقد قالوا، إن تكرار الشق إنما هو زيادة في تشريف النبي! وإن هذه العملية الجراحية لتشبه من بعض الوجوه عملية صلب السيد المسيح عليه السلام، وهو لم يرتكب ذنبا يستوجب هذا الصلب، وإنما ذكروا ذلك لكي يغفر الله خطيئة آدم التي احتملها هو وذريته من بعده إلى يوم القيامة، وأصبحت في أعناقهم جميعا، وتنص العقيدة المسيحية أنه لا يظفر بهذا الغفران إلا من يؤمن بعقيدة الصلب. ولئن قال المسلمون لإخوانهم المسيحيين: ولم يغفر الله لآدم خطيئته بغير هذه الوسيلة القاسية التي أزهقت فيها روح طاهرة بريئة، هي روح عيسى عليه السلام بغير ذنب؟ قيل لهم: ولم لم يخلق الله قلب رسوله الذي اصطفاه كما خلق قلوب إخوانه من الأنبياء المرسلين - والله أعلم حيث يجعل رسالته - نقيا من العلقة السوداء وحظ الشيطان بغير هذه العملية الجراحية التي تمزق فيها صدره وقلبه مرار عديدة!
ولا أدري والله أين يذهبون مما جاء في سورة الحجر من الكتاب العزيز في قوله تعالى: " قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين. إلا عبادك منهم المخلصين. قال هذا صراط علي مستقيم. إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ".
وكيف يدفعون الكتاب بالسنة، أو يعارضون المتواتر الذي يفيد اليقين، بأحاديث الآحاد التي لا تفيد إلا الظن؟! هذا إذا كانت هذه الأحاديث صحيحة. على أن حديث نخس الشيطان هذا قد طعن فيه الزمخشري في الكشاف وقال فيه فخر الدين الرازي في تفسيره " طعن القاضي في هذا الخبر وقال إنه خبر واحد، ورد على خلاف الدليل فوجب رده، وإنما قلنا على خلاف الدليل لوجوه،
أحدها: أن الشيطان إنما يدعو إلى الشر من يعرف الخير والشر - والصبي ليس كذلك!
الثاني: أن الشيطان لو تمكن من هذا النخس لفعل أكثر من ذلك، من إهلاك الصالحين وإفساد أحوالهم.
الثالث: لم خص بهذا الاستثناء مريم وعيسى عليهما السلام دون سائر الأنبياء عليهم السلام؟
الرابع: أن ذلك النخس لو وجد بقي أثره، ولو بقي أثره لدام الصراخ والبكاء - فلما لم يكن ذلك علمنا بطلانه. وقال أستاذنا الإمام محمد عبده رضي الله عنه: " والمحقق عندنا أنه ليس للشيطان سلطان على عباد الله المخلصين، وخيرهم الأنبياء والمرسلون - وأما ما ورد في حديث مريم وعيسى من أن الشيطان لم يمسهما، وحديث إسلام شيطان النبي (صلى الله عليه وسلم) وحديث إزالة حظ الشيطان من قلبه (صلى الله عليه وسلم)، فهو من الأخبار الظنية لأنه من رواية الآحاد - ولما كان موضعها عالم الغيب، والإيمان بالغيب من قسم العقائد، وهي لا يؤخذ فيها بالظن لقوله تعالى: " إن الظن لا يغني من الحق شيئا " - كنا غير مكلفين الإيمان بمضمون تلك الأحاديث في عقائدنا. ابن جريج وممن كان يبث في الدين الإسلامي مما يخفيه قلبه - ابن جريج الرومي، الذي مات سنة 150 ه وكان البخاري لا يوثقه وهو على حق في ذلك.
قال الذهبي في تذكرة الحفاظ إنه من أصل رومى فهو نصراني الأصل. ويقول عنه بعض العلماء إنه كان يضع الحديث، وإنه تزوج بتسعين امرأة زواج متعة. ومن المسيحيات التي تدسست إلى الإسلام ما ذكروه من إقعاد النبي (صلى الله عليه وسلم) على العرش! ذلك أنهم لما رأوا أن من عقائد المسيحيين أن عيسى عليه السلام يقعد بجوار الله على العرش عز عليهم ألا يقعد محمد (صلى الله عليه وسلم) هو الآخر على العرش، فرووا هذا الخبر الذي ننقله لك بنصه عن كتاب بدائع الفوائد لابن القيم ص 39 و40 ج 4. " قال القاضي: صنف المروزي كتابا في فضيلة النبي (صلى الله عليه وسلم) وذكر فيه " إقعاده على العرش " قال القاضي: وهو قول أبي داود وأبي جعفر الدمشقي وإسحاق بن راهويه وإبراهيم الحربي وعبد الله بن الإمام أحمد، والمروزي، وبشر الحافي، ثم ذكر أسماء أكثر من خمسة عشر عالما يقولون بذلك.
قلت (أي ابن القيم): وهو قول ابن جرير الطبري، وإمام هؤلاء كلهم مجاهد إمام التفسير، وهو قول أبي الحسن الدار قطني ومن شعره فيه: حديث الشفاعة عن أحمد * إلى أحمد المصطفى مسنده وجاء (حديث بإقعاده * على العرش) أيضا فلا تجحده أمروا الحديث على ووجهه * ولا تدخلوا فيه ما يفسده ولا تنكروا (أنه قاعد)* ولا تنكروا أنه يقعده وإليك هذه الكلمة الصغيرة ننقلها من كتاب العقيدة والشريعة للمستشرق الكبير جولد تسيهر ص 42 و43: وهناك جمل أخذت من العهد القديم والعهد الجديد، وأقوال للربانيين، أو مأخوذة من الأناجيل الموضوعة وتعاليم من الفلسفة اليونانية، وأقوال من حكم الفرس والهنود، كل ذلك أخذ في الإسلام عن طريق " الحديث " حتى لفظ " أبونا " لم يعدم مكانه في الحديث المعترف به، وبهذا أصبحت ملكا خالصا للإسلام بطريق مباشر أو غير مباشر! وقد تسرب إلى الإسلام كنز كبير من القصص الدينية حتى إذا ما نظرنا إلى المواد المعدودة في الحديث ونظرنا إلى الأدب الديني اليهودي فإننا نستطيع أن نعثر على قسم كبير دخل الأدب الديني الإسلامي من هذه المصادر اليهودية.
ولا نستقصي كل ما دخل الإسلام من المسيحيات. ومن شاء أن يستزيد من معرفة الاسرائيليات والمسيحيات وغيرها في الدين الإسلامي، فليرجع إلى كتب التفسير والحديث والتاريخ وإلى كتب المستشرقين أمثال جلد تسيهر، وفون كريمر وغيرهما، فقد نقلت فيهما من هذه الإسرائيليات والمسيحيات أشياء كثيرة. وقبل أن نخرج من هذا الباب نتحفك بشيء مما رواه أبو هريرة في نزول عيسى من السماء.
عيسى بن مريم ونزوله
ذكروا أن من علامات الساعة نزول المسيح من السماء. وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة قال رسول الله: " والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويقتل القرد ولا يقبل إلا الإسلام ". ولا ينزل بشريعة مستقلة، ويتسلم الأمر من المهدي، ويكون المهدي من أصحابه وأتباعه. وكل أعماله تشابه الأعمال التي ذكروا أن المهدي سيقوم بها.
محل نزوله: محل نزوله عند المنارة البيضاء شرقي دمشق واضعا كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفع رأسه تحدر منه جمان كاللؤلؤ، ويكون نزوله لست ساعات مضت من النهار ويقعد على المنبر، فيدخل المسلمون والنصارى واليهود المسجد، ويصلي بالمسلمين صلاة العصر بمسجد دمشق، ثم يخرج بمن معه من أهلها في طلب الدجال، والأرض تقبض له إلى أن يأتي بيت المقدس فيجده مغلقا قد حصره الدجال.
مقدار مدته: في حديث أبي هريرة عند الطبراني وابن عساكر عن النبي (صلى الله عليه وسلم) " يمكث عيسى في الناس أربعين سنة "، ثم يدفنه المسلمون عند نبينا (صلى الله عليه وسلم). وعن ابن عمر مرفوعا: يتزوج ويلد ولدين ذكرين أحدهما يسمى موسى والآخر محمدا، ويمكث خمسا وأربعين سنة ثم يموت ويدفن معي في قبري، فأقوم أنا وعيسى من قبر واحد بين أبي بكر وعمر! وقالوا إنه يمكث سبع سنين، وبعد أن يقتل الدجال يذهب إلى المدينة فيزور قبر النبي (صلى الله عليه وسلم) ويحج البيت الحرام ويتوفى بالمدينة! وهناك أخبار من هذا القبيل كثيرة أعرضنا عنها لعدم فائدتها. ما استشكلوه: وقد قالوا: الروايات ثابتة أن نزول عيسى مع الفجر على منارة دمشق الشرقية، ولكن كيف يقال في رواية أخرى إن النزول كان لست ساعات مضت من النهار! وكذلك المعروف عند أهل العلم أن عيسى إنما يصلي وراء المهدي صلاة الصبح لا العصر!
كثرة الأحاديث المروية
رأيت فيما تقدم أن الوضع كان له أسباب كثيرة، وبواعث متعددة، وأن أبوابه قد ظلت مفتحة قرونا، يخرج منها كل يوم ألوان مختلفة من الأحاديث التي يفتن الوضاع في صوغها وإسنادها إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم). ولقد كان من رواء ذلك أن كثرت الأحاديث المنسوبة إلى النبي كثرة هائلة، حتى بلغت مئات الألوف مما جعل الحافظ الدار قطني يقول: إن الحديث الصحيح في الحديث الكذب كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود.
وقد أفزعت هذه الكثرة العلماء فنهضوا لكشف القناع عن الأحاديث الموضوعة، ووضعوا فيها المؤلفات الكثيرة، ومن أشهر من تجرد لذلك ابن الجوزي السيوطي والصاغاني والملا علي القاري وغيرهم. وقد عرض الدكتور أحمد أمين رحمه الله لأمر كثرة الأحاديث هذه فقال: " ومن الغريب أننا لو اتخذنا رسما بيانيا للحديث لكان شكل " هرم " طرفه المدبب هو عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) ثم يأخذ في السعة على مر الزمان، حتى نصل إلى القاعدة أبعد ما نكون على عهد الرسول - مع أن المعقول كان العكس. فصحابة رسول الله أعرف الناس بحديثه، ثم يقل الحديث بموت بعضهم مع عدم الراوي عنه وهكذا، ولكنا نرى أن أحاديث العهد الأموي أكثر من أحاديث عهد الخلفاء الراشدين، وأحاديث العصر العباسي أكثر من أحاديث العهد الأموي.
قد يكون ضمن الأسباب الصحيحة أن الهجرة لطلب الحديث في العصر العباسي وجمعه من مختلف الأمصار كانت أتم وأنشط، لكن ليس هذا كل السبب، بل من أكبر الأسباب في تضخم الحديث - الوضع - فاليهود والنصارى وغيرهم من أهل الديانات الأخرى أدخلوا في الأحاديث أشياء كثيرة من دياناتهم وأخبارهم، فملئت الأحاديث بما في التوراة وحواشيها، وبعض أخبار النصرانية.. وبعض تعاليم الشعوبية كالأحاديث التي تدل على فضل الفرس والروم ا ه. أبو هريرة لو كانت أحاديث رسول الله كلها من الدين العام - كالقرآن - لا يقوم إلا عليها، ولا يؤخذ إلا منها، وأنه يجب على كل مسلم أن يعرفها ويتبع ما فيها، كما يتبع ما في القرآن، وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) قد أمر أصحابه أن يحفظوا هذه الأحاديث لكي تؤثر من بعده - لكان أكثر الصحابة رواية لها، أعلاهم درجة في الدين، وأثبتهم قدما في الإيمان، وأسناهم مرتبة في العلم - ولكان المقلون منهم في الرواية دون المكثرين في رتبة الدين، ووراءهم في درجة العلم والفضل، وخلفهم في منزلة الاعتبار، ولكنا نجد الأمر - على ما بدا في كتب الحديث المعروفة - قد جرى على خلاف ذلك!! فإن أفضل الصحابة في المرتبة، وأرفعهم في المنزلة وأوسعهم علما بالدين، وأشدهم عناية به، وأقواهم حياطة له، الذين نيط بهم حمل أحكام الدين بما تلقوه عن أستاذهم الأكبر - كالخلفاء الراشدين والعشرة الذين قالوا إنه (صلى الله عليه وسلم) قد مات وهو راض عنهم - أو بشرهم بالجنة، وكبار المهاجرين والأنصار وغيرهم - كل أولئك كانوا أقل الصحابة تحديثا عنه، وأنزرهم رواية، حتى لقد بلغ الأمر ببعضهم أنه لم يرو عن الرسول حديثا واحدا!! ولم يقف الأمر بهم عند ذلك فحسب، بل قد وجدنا كبار الصحابة يرغبون عن رواية الحديث وينهون إخوانهم عنها، ولقد أدى بهم فرط الاحتياط إلى أن كانو يحرقون ما يكتبون منها - كما علمت ذلك كله من قبل - وهذا الأمر قد دعانا إلى أن نفرد ترجمة خاصة لمن كان أكثر الصحابة تحديثا عن رسول الله، وأوسعهم رواية، على حين أنه كان من عامة الصحابة، وكان بينهم لا في العير ولا في النفير ذلكم هو أبو هريرة.
انتهى الجزء الرابع.
اجمالي القراءات
16063
قراءة كتاب (أضواء على السّنة ) تذكرنى بأيام مضت . وحين أعيد قراءته ألمح ـ بعين الباحث ـ المصادر التى نقل عنها الشيخ محمود ابو رية ، وأقارن بين دهشتى الأولى حين كنت أقرأ هذا الكتاب من ثلاثين عاما ، و دهشتى الحالية حين أقارن بين هذا الكتاب وما نجحنا بتوفيق الله جل وعلا فى إرسائه بالاحتكام للقرآن الكريم .
ومع هذا يبقى أبو رية و أحمد أمين علامات بارزة فى تاريخ التطور الفكرى الدينى فى القرن العشرين .
وأعطى بعض انطباعات سريعة
ـ الشيخ أبو رية ينقل عن الفصل الأول من كتاب ( تاريخ الخلفاء ) للسيوطى فيما كتبه السيوطى عن فضائل بنى العباس .وهو ينقل عن فجرالاسلام لأحمد أمين ويعترف بالنقل عنه ، كماينقل كثيرا عن مقدمة صحيح مسلم . ولقد نشرنا بحثا عنها بعنوان ( إنكار السّنة فى صحيح مسلم )
نقل الشيخ أبو رية مقالة البخارى إنه يحفظ 100 ألف حديث صحيح و 200 ألف حديث غير صحيح ، وكان يجب عليه أن يعلّق على هذا الزعم ، فليس فى طاقة بشر أن يحفظ مثل هذا الكم ّ من الأحاديث بأسانيدها ومتنها ، ثم ما هو معيار الحديث الصحيح من غيرالصحيح ، وهل تملك ذاكرته أن تضع فارقا صارما بين عشرات الألوف من الصحيح وأضعافها من غيرالصحيح ؟ أم هو مجرد كلام كاذب فى الهواء الطلق ؟