دفاع عن الحديث:
أضواء على السنة المحمدية5

محمد البارودى   في الأحد ١٨ - أكتوبر - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً


 

 
" أبو هريرة ".
 ولولا أن هذه الكثرة البالغة - بفضل ثقة الجمهور بها - قد استفاضت في كتب الحديث، وأخذت مكان الاعتبار والتصديق من قلوب المسلمين، وسيطرت على عقولهم وأفكارهم. وجعلوها من عام دينهم، على ما فيها من مشكلات تحار فيها عقول المؤمنين، وشبهات وخرافات تتخذ مطاعن على الدين، وأسانيد يتكأ عليها في إثبات الاسرائيليات والمسيحيات وغيرها من الملل والنحل - لولا ذلك كله ما جرى بهذا البحث قلمنا، ولا اتجه إليه بالعناية همنا.
الاختلاف في اسمه:
لم يختلف الناس في اسم أحد - في الجاهلية والإسلام - كما اختلفوا في اسم " أبي هريرة " فلا يعرف أحد على التحقيق الاسم الذي سماه به أهله، ليدعى بين الناس به.
 قال النووي: اسم أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر على الصحيح من ثلاثين قولا... وقال حافظ المغرب ابن عبد البر في الإستيعاب: اختلفوا في اسم أبي هريرة وأمم أبيه إختلافا كثيرا لا يحاط به ولا يضبط في الجاهلية والإسلام - ومثل هذا الاختلاف والاضطراب لا يصح معه شيء يعتمد عليه - وقد غلبت عليه كنيته، فهو كمن لا اسم له غيرها وأولى المواضع باسمه المكنى.
 وقال صاحب المشكاة: قد اختلف الناس في اسم أبي هريرة ونسبه اختلافا كثيرا، وقد غلبت عليه كنيته فهو كمن لا اسم له واشتهرت الكنية حتى نسي الاسم الأصلي لأنه قد اختلف فيه اختلافا كثيرا.
ومما تبين لك يكون الجزم باسم خاص يطلق عليه، من ضروب التخمين فنكتفي بذكر كنيته التي التصقت به - وهذه الكنية قد بين هو نفسه سببها فقال: كنت أرعى غنم أهلي - وكانت لي هرة صغيرة، فكنت أضعها بالليل في شجرة، وإذا كان النهار ذهبت بها معي فلعبت بها فكنوني " أبا هريرة "!!
 نشأته وأصله:
 وإذا كانوا قد اختلفوا في اسم أبي هريرة، فإنهم كذلك لم يعرفوا شيئا عن نشأته، ولا عن تاريخه قبل إسلامه، غير ما ذكر هو عن نفسه، من أنه كان يلعب بهرة صغيرة. وأنه كان فقيرا معدما، يخدم الناس بطعام بطنه - وكل ما يعرف عن أصله أنه من عشيرة سليم بن فهم من قبيلة أزد ثم من دوس. ومن قوله في ذلك: نشأت يتيما، وهاجرت مسكينا، وكنت أجيرا بطعام بطني.
 وقال ابن قتيبة في ترجمته بكتاب " المعارف " بعد أن ذكر اختلاف الناس في اسمه، وأنه من قبيلة باليمن يقال لها دوس ما نصه: " وقال أبو هريرة نشأت يتيما وهاجرت مسكينا. وكنت أجيرا لبسرة بنت غزوان بطعام بطني، وعقبة رجلي، فكنت أخدم إذا نزلوا، وأحدو إذا ركبوا، وكنيت بأبي هريرة بهرة صغيرة كنت ألعب بها.
 قدومه إلى المدينة وذهابه إلى خيبر:
 قدم أبو هريرة بعد أن تخطى الثلاثين من عمره - وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) حينئذ في غزوة خيبر، التي وقعت في سنة 7 من الهجرة: قال ابن سعد في الطبقات الكبرى: قدم الدوسيون فيهم أبو هريرة ورسول الله بخيبر فكلم رسول الله أصحابه في أن يشركوا أبا هريرة في الغنيمة ففعلوا - ولفقره اتخذ سبيله إلى الصفة بعد ما عاد إلى المدينة فعاش بها ما أقام بالمدينة، وكان من أشهر من أمها.
سبب صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم:
 كان أبو هريرة صريحا صادقا في الإبانة عن سبب صحبته للنبي (صلى الله عليه وسلم)، كما كان صريحا صادقا في الكشف عن حقيقة نشأته. فلم يقل إنه صاحبه للمحبة والهداية - كما كان يصاحبه غيره من سائر المسلمين - وإنما قال: " إنه قد صاحبه على ملء بطنه ".
ففي حديث رواه أحمد والشيخان عن سفيان عن الزهري عن عبد الرحمن الأعرج قال: " سمعت أبا هريرة يقول: إني كنت امرأ مسكينا أصحب رسول الله على ملء بطني ". وراية مسلم: أخدم رسول الله، وفي رواية " لشبع بطني ". وفي رواية لمسلم: كنت رجلا مسكينا أخدم رسول الله على ملء بطني. وفي رواية له أيضا: وكنت ألزم رسول الله على ملء بطني. وسجل التاريخ أنه كان أكولا نهما، يطعم كل يوم في بيت النبي، أو في بيت أحد أصحابه، حتى كان بعضهم ينفر منه. ومما رواه البخاري عنه أنه قال: كنت أستقرئ الرجل الآية وهي معي كي ينقلب بي فيطعمني - وكان خير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب، كان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته، وروى الترمذي عنه: وكنت إذا سألت جعفر عن آية لم يجبني حتى يذهب إلى منزله. ومن أجل ذلك كان جعفر هذا في رأي أبي هريرة أفضل الصحابة جميعا، فقدمه على أبي بكر وعمر وعلي وعثمان وغيرهم من كبار الصحابة رضي الله عنهم جميعا. فقد أخرج الترمذي والحاكم بإسناد صحيح عن أبي هريرة: ما احتذى النعال ولا ركب المطايا، ولا وطئ التراب، بعد رسول الله أفضل من جعفر بن أبي طالب.
شيخ المضيرة:
 كان أبو هريرة يلقب " بشيخ المضيرة " وقد نالت هذه المضيرة من عناية العلماء والكتاب والشعراء ما لم ينله مثلها من أصناف الحلوى، وظلوا يتندرون بها، ويغمزون أبا هريرة قرونا طويلة من أجلها، وإليك بعض ما أرسلوه فيها.
قال الثعالبي في كتابه " ثمار القلوب في المضاف والمنسوب " ما يلي: شيخ المضيرة: كان أبو هريرة رضي الله عنه على فضله واختصاصه بالنبي (صلى الله عليه وسلم) مزاحا أكولا، وكان مروان بن الحكم يستخلفه على المدينة فيركب حمارا قد شد عليه برذعة فيلقى الرجل فيقول: الطريق! الطريق! قد جاء الأمير.. وكان يدعي الطب... وبعد أن ذكر الثعالبي شيئا من طبه وكله طعام يشفي داء الأمعاء، ويداوي نهم البطن، قال: وكان يعجبه المضيرة جدا فيأكل مع معاوية، فإذا حضرت الصلاة صلى خلف علي رضي الله عنه، فإذا قيل له في ذلك قال: مضيرة معاوية أدسم وأطيب، والصلاة خلف علي أفضل، وكان يقال له " شيخ المضيرة " وختم الثعالبي قوله ببيتين لشاعر هجا فيهما أبا هريرة أعرضنا عنهما.
وعقد بديع الزمان الهمذاني مقامة خاصة - من مقاماته - لهذه المضيرة، غمز فيها أبا هريرة غمزة أليمة فقال: حدثنا عيسى بن هشام قال: كنت بالبصرة ومعي أبو الفتح الإسكندري رجل الفصاحة يدعوها فتجيبه، والبلاغة يأمرها فتطيعه، وحضرنا معه دعوة بعض التجار، فقدمت إلينا مضيرة تثنى على الحضارة، وتترجرج في الغضارة، وتؤذن بالسلامة، وتشهد لمعاوية رحمه الله بالإمامة... وقال أستاذنا الإمام محمد عبده في شرح ذلك: " ومعاوية ادعى الخلافة بعد بيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فلم يكن من يشهد له بها في حياة علي إلا طلاب اللذائذ، وبغاة الشهوات، فلو كانت هذه المضيرة من طعام معاوية لحملت آكليها على الشهادة له بالخلافة، وإن كان صاحب البيعة الشرعية حيا - وإسناد الشهادة إليها لأنها سببها الحامل عليها.
 والإمامة والخلافة في معنى واحد " وفي الأساس لجار الله: علي مع الحال المضيرة، خير من معاوية مع المضيرة. وأخرج أبو نعيم في الحلية قال: كان أبو هريرة يطوف بالبيت هو يقول: ويل لي بطني، إذا أشبعته كظني، وإن أجعته سبني، ورواية ابن كثير في البداية والنهاية: أضعفني.
وفي خاص الخاص للثعالبي: كان أبو هريرة يقول: ما شممت رائحة أطيب من رائحة الخبز الحار، وما رأيت فارسا أحسن من زبد على تمر. قد جعل أبو هريرة الأكل من المروءة، فقد سئل: ما المروءة؟ قال: تقوى الله وإصلاح الصنيعة، والغداء والعشاء بالأفنية. وقد أضربنا عن أخبار كثيرة لأن في بعضها ما يزيد في إيلام بعض الناس.
 حديث زر غبا تزدد حبا:
 قال رسول صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة ذات يوم: زر غبا تزدد حبا، وقد كان صلوات الله عليه نعم المؤدب لأصحابه، وكان دائما يتولاهم بحكمته، ويغرس فيهم مكارم أخلاقه بسيرته، وما كان له (صلى الله عليه وسلم) أن يذر مثل أبي هريرة على ما كان عليه من غشيان البيوت في كل وقت، يقبله هذا ويصده ذاك، من غير أن يؤدبه بأدبه العالي، وكان سبب ذلك أنه صلى الله عليه وسلم قال له: أين كنت أمس يا أبا هريرة؟ قال زرت أناسا من أهلي، فقال يا أبا هريرة: زر غبا تزدد حبا. وقد ذكر أبو حيان التوحيدي في كتابه " الصداقة والصديق " قال أبو هريرة: لقد دارت كلمة العرب " زر غبا تزدد حبا " إلى أن سمعت من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) " ولقد قالها لي ". قال العسجدي: " ليست هذه الكلمة محمولة على العام، ولكن لها مواضع يجب أن تقال فيها، لأن الزائر يستحقها! ألا ترى أنه صلوات الله عليه لا يقول ذلك لأبي بكر، ولا لعلي بن أبي طالب وأشباههما، فأما أبو هريرة فأهل ذاك! لبعض الهنات التي يلزمه أن يكون مجانبا لها، وحائدا عنها ". وهنات أبي هريرة التي يغمزه بها العسجدي، أنه كان لنهمه يغشي بيوت الصحابة في كل وقت، وكان بعضهم يزور عنه، وينزوي منه، فأراد الرسول أن يلقي عليه درسا في أدب الزيارة وغشيان البيوت، فذكر له المثل العربي " زر غبا تزدد حبا ". وكان صلوات الله عليه لا يفتأ يتعهد أصحابه بالتأديب وتحرى حسن الخلق.
مزاحه وهذره: أجمع مؤرخو أبي هريرة على أنه كان مزاحا مهذارا، يتودد إلى الناس ويسليهم بكثرة الحديث، والإغراب في القول ليشتد ميلهم إليه، ويزداد إقبالهم عليه، وإليك بعض ما رووه في ذلك. قالت عنه عائشة، وهي أعلم الناس به لامتداد العمر بهما، في حديث المهراس: إنه كان رجلا مهذارا.
 التهكم به:
 ولقد كانوا يتهكمون برواياته ويتندرون عليها لما تفنن فيها وأكثر منها. فعن أبي رافع: أن رجلا من قريش أتى أبا هريرة في حلة وهو يتبختر فيها، فقال يا أبا هريرة: إنك تكثر الحديث عن رسول الله، فهل سمعته يقول في حلتي هذه شيئا؟!! فقال سمعت أبا القاسم يقول: إن رجلا ممن كان قبلكم بينما هو يتبختر في حلة، إذ خسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها حتى تقوم الساعة، فوالله ما أدري لعله كان من قومك أو من رهطك. ويبدو من سؤال هذا الرجل أنه لم يكن مستفهما وإنما كان متهكما، إذ لم يقل له: إنك تحفظ أحاديث رسول الله! وإنما قال: تكثر الحديث عن رسول الله، وسياق الحكاية يدل كذلك على أنه كان يهزأ به، ويسخر منه.
 كثرة أحاديثه:
 أجمع رجال الحديث على أن أبا هريرة كان أكثر الصحابة حديثا عن رسول الله! على حين أنه لم يصاحب النبي إلا عاما وتسعة أشهر! وقد ذكر أبو محمد ابن حزم أن مسند بقي بن مخلد قد احتوى من حديث أبي هريرة على 5374 روى البخاري منها 446.
 وقد قال هو عن نفسه - كما روى البخاري - ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثا مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فقد كان يكتب ولا أكتب! ولو بحثنا عن كل ما رواه ابن عمرو هذا لوجدناه 700 حديث عند ابن الجوزي وفي مسند أحمد 722 روى البخاري منها سبعة ومسلم 20، وقد أفزعت كثرة رواية أبي هريرة عمر بن الخطاب فضربه بالدرة وقال له: أكثرت يا أبا هريرة من الرواية، وأحر بك أن تكون كاذبا على رسول الله. ثم هدده وأوعده إن لم يترك الحديث عن رسول الله فإنه ينفيه إلى بلاده.
 وقد أخرج ابن عساكر من حديث السائب بن يزيد: لتتركن الحديث عن رسول الله أو لألحقنك بأرض دوس. ومن أجل ذلك كثرت أحاديثه بعد وفاة عمر وذهاب الدرة، إذ أصبح لا يخشى أحدا بعده. ومن قوله في ذلك: إني أحدثكم بأحاديث لو حدثت بها زمن عمر لضربني بالدرة - وفي رواية لشج رأسي. وعن الزهري عن أبي سلمة: سمعت أبا هريرة يقول: ما كنا نستطيع أن نقول قال رسول الله حتى قبض عمر! ثم يقول: أفكنت محدثكم بهذه الأحاديث وعمر حي؟ أما والله إذن لأيقنت أن المخفقة ستباشر ظهري، فإن عمر كان يقول: اشتغلوا بالقرآن فإن القرآن كلام الله. وقد قال الفقيه المحدث السيد رشيد رضا رحمه الله في ذلك: لو طال عمر عمر حتى مات أبو هريرة لما وصلت إلينا تلك الأحاديث الكثيرة ، وقال عن أحاديثه المشكلة: " لا يتوقف على شيء منها إثبات أصل من أصول الدين ".
كيف سوغ كثرة الرواية!
 كان أبو هريرة يسوغ كثرة الرواية عن النبي (صلى الله عليه وسلم) بأنه ما دام لا يحل حراما ولا يحرم حلالا، فإنه لا بأس من أن يروى. وقد أيد صنيعه هذا بأحاديث رفعها إلى النبي، ومنها ما رواه الطبراني في الكبير عن أبي هريرة أن رسول الله قال: " إذا لم تحلوا حراما ولم تحرموا حلالا وأصبتم، المعنى فلا بأس ".
وقال أيضا إنه سمع النبي يقول: " من حدث حديثا هو لله عز وجل رضا فأنا قلته وإن لم أكن قلته "، روى ذلك ابن عساكر في تاريخه. وأخرج الطحاوي عن أبي هريرة: " إذا حدثتم عني حديثا تعرفونه ولا تنكرونه فصدقوا به، قلته أم لم أقله، فإني أقول ما يعرف ولا ينكر، وإذا حدثتم عني حديثا تنكرونه ولا تعرفونه فكذبوا به، فإني لا أقول ما ينكر ولا يعرف ".
روى ذلك وغيره على حين أن الثابت عن النبي أنه قال: " من نقل عني ما لم أقله فليتبوأ مقعده من النار " وقد اضطر عمر أن يذكره بهذا الحديث لما أوغل في الرواية. تدليسه: ذكر علماء الحديث أن أبا هريرة كان يدلس - والتدليس كما عرفوه أن يروي عمن لقيه ما لم يسمعه منه أو عمن عاصره ولم يقله، موهما أنه سمعه منه، والتدليس أنواع كثيرة، وحكمه أنه مذموم كله على الإطلاق، وقد كره التدليس جماعة من العلماء، وكان شعبة أشد الناس إنكارا لذلك حتى قال: لأن أزني أحب إلي من أن أدلس! وقال أيضا: التدليس أخو الكذب.
 ومن الحفاظ من جرح من عرف بهذا التدليس من الرواة فرد روايته مطلق وإن أتى بلفظ الاتصال، ولو لم يعرف أنه دلس إلا مرة واحدة. كما نص على ذلك الشافعي رحمه الله. وروى مسلم بن الحجاج عن بسر بن سعيد قال: اتقوا الله وتحفظوا من الحديث، فوالله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة فيحدث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ويحدثنا عن كعب الأحبار، ثم يقول فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول الله عن كعب، وحديث كعب عن رسول الله! وفي رواية - يجعل ما قاله كعب عن رسول الله، وما قاله رسول الله عن كعب! فاتقوا الله وتحفظوا في الحديث. وقال يزيد بن هارون: سمعت شعبة يقول: أبو هريرة كان يدلس - أي يروي ما سمعه من كعب وما سمعه من رسول الله، ولا يميز هذا من هذا - ذكره ابن عساكر - وكأن شعبة يشير بهذا إلى حديث " من أصبح جنبا فلا صيام له "، فإنه لما حوقق عليه قال: أخبرنيه مخبر ولم أسمعه من رسول الله. وقال ابن قتيبة في " تأويل مختلف الحديث ": وكان أبو هريرة يقول، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كذا وإنما سمعه من الثقة عنده فحكاه.
 
 
 
 أول راوية اتهم في الإسلام:
 قال ابن قتيبة في تأويل متخلف الحديث: " إنه لما أتى أبو هريرة من الرواية عنه صلى الله عليه وسلم ما لم يأت بمثله من صحبه من جلة أصحابه والسابقين الأولين اتهموه وأنكروا عليه وقالوا: كيف سمعت هذا وحدك؟ ومن سمعه معك؟ وكانت عائشة رضي الله عنها أشدهم إنكارا عليه لتطاول الأيام بها وبه وممن اتهم أبا هريرة بالكذب، عمر وعثمان وعلي وغيرهم وبذلك كان - كما قال الكاتب الإسلامي الكبير
مصطفى صادق الرافعي - " أول راوية اتهم في الإسلام ". ولما قالت له عائشة: إنك لتحدث حديثا ما سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم أجابها بجواب لا أدب فيه ولا وقار، إذ قال لها - كما رواه ابن سعد والبخاري وابن كثير وغيرهم: شغلك عنه صلى الله عليه وسلم المرآة والمكحلة! وفي رواية - ما كانت تشغلني عنه المكحلة والخضاب، ولكن أرى ذلك شغلك!! على أنه لم يلبث أن عاد فشهد بأنها أعلم منه، وأن المرآة والمكحلة لم يشغلاها، ذلك أنه لما روى حديث " من أصبح جنبا فلا صوم عليه " أنكرت عليه عائشة هذا الحديث فقالت: إن رسول الله كان يدركه الفجر وهو جنب من غير احتلام فيغتسل ويصوم، وبعثت إليه بأن لا يحدث بهذا الحديث عن رسول الله، فلم يسعه إزاء ذلك إلا الإذعان. وقال: إنها أعلم مني، وأنا لم أسمعه من النبي، وإنما سمعته من الفضل بن العباس - فاستشهد ميتا وأوهم الناس أنه سمع الحديث من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كما قال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث. وكان علي رضي الله عنه سيئ الرأي فيه، وقال عنه ألا إنه أكذب الناس - أو قال: أكذب الأحياء على رسول لأبو هريرة. ولما سمع أنه يقول: حدثني خليلي! قال له: متى كان النبي خليلك؟ ولما روى حديث: متى استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يضعها في الإناء، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده - لم تأخذ به عائشة وقالت: كيف نصنع بالمهراس. ولما سمع الزبير أحاديثه قال: صدق، كذب.
وعن أبي حسان الأعرج أن رجلين دخلا على عائشة رضي الله عنها فقالا: إن أبا هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار "، فطارت شفقا ثم قالت: كذب والذي أنزل القرآن على أبي القاسم، من حدث بهذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم! إنما قال رسول الله - كان أهل الجاهلية يقولون: إن الطيرة في الدابة والمرأة والدار، ثم قرأت: " ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها ".
 وأنكر عليه ابن مسعود قوله: من غسل ميتا، ومن حمله فليتوضأ - وقال فيه قولا شديدا ثم قال: يا أيها الناس لا تنجسوا من موتاكم. وروى محمد بن الحسن عن أبي حنيفة أنه قال: أقلد من كان من القضاة المفتين من الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي والعبادلة الثلاثة ولا أستجيز خلافهم برأيي إلا ثلاثة نفر - وفي رواية - أقلد جميع الصحابة ولا أستجيز خلافهم برأيي إلا ثلاثة نفر (أنس بن مالك وأبو هريرة وسمرة بن جندب) فقيل له في ذلك فقال: أما أنس فاختلط في آخر عمره وكان يستفتى فيفتي من عقله، وأنا لا أقلد عقله، وأما أبو هريرة فكان يروي كل ما سمع من غير أن يتأمل في المعنى ومن غير أن يعرف الناسخ من المنسوخ ". وروى أبو يوسف قال: قلت لأبي حنيفة: الخبر يجيئني عن رسول الله يخالف قياسنا، ما نصنع به؟ فقال: إذا جاءت به الرواة الثقات عملنا به وتركنا الرأي. فقلت: ما تقول في رواية أبي بكر وعمر؟ قال ناهيك بهما. فقلت: وعلي وعثمان؟ قال: كذلك. فلما رآني أعد الصحابة - قال: والصحابة كلهم عدول ما عدا رجالا. وعد منهم أبا هريرة وأنس بن مالك.
وعن إبراهيم النخعي قال: كان أصحابنا يدعون من حديث أبي هريرة. ورواية الأعمش عنه - ما كانوا يأخذون بكل حديث أبي هريرة! وقال الثوري عن منصور عن إبراهيم: كانوا يرون في أحاديث رسول الله شيئا، وما كانوا يأخذون بكل حديث أبي هريرة إلا ما كان من حديث صفة جنة أو نار، أو حث على عمل صالح، أو نهى عن شر جاء في القرآن.
 وروى أبو شامة عن الأعمش قال: كان إبراهيم صحيح الحديث، فكنت إذا سمعت الحديث أتيته فعرضته عليه، فأتيته يوما بأحاديث من حديث أبي صالح عن أبي هريرة فقال: دعني من أبي هريرة! إنهم كانوا يتركون كثيرا من حديثه. وقال أبو جعفر الإسكافي - وأبو هريرة مدخول عند شيوخنا غير مرضي الرواية، ضربه عمر وقال: أكثرت من الحديث وأحر بك أن تكون كاذبا على رسول الله. وقال ابن الأثير: أما رواية أبي هريرة فشك فيها قوم لكثرتها.
وفي الأحكام للآمدي: أنكر الصحابة على أبي هريرة كثرة روايته وذلك لأن الإكثار لا يؤمن معه اختلاط الضبط الذي لا يعرض لمن قلت روايته. وجرت مسألة المصراة في مجلس الرشيد فتنازع القوم فيها، وعلت أصواتهم فاحتج بعضهم بالحديث الذي رواه أبو هريرة، فرد بعضهم الحديث وقال: أبو هريرة متهم فيما يرويه، ونحا نحوه الرشيد.
أخذه عن كعب الأحبار:
 ذكر علماء الحديث في باب " رواية الصحابة عن التابعين، أو رواية الأكابر عن الأصاغر " أن أبا هريرة والعبادلة ومعاوية وأنس وغيرهم، قد رووا عن كعب الأحبار اليهودي الذي أظهر الإسلام خداعا وطوى قلبه على يهوديته - ويبدو أن أبا هريرة كان أكثر الصحابة انخداعا به، وثقة فيه، ورواية عنه وعن إخوانه، كما كان أكثرهم رواية للحديث، ويتبين من الاستقراء أن كعب الأحبار قد سلط قوة دهائه على سذاجة أبي هريرة لكي يستحوذ عليه وينيمه ليلقنه كل ما يريد أن يبثه في الدين الإسلامي من خرافات وأوهام، وكان له في ذلك أساليب غريبة، وطرق عجيبة. فقد روى الذهبي في طبقات الحفاظ - في ترجمة أبي هريرة - أن كعبا قال فيه - أي في أبي هريرة - ما رأيت أحدا لم يقرأ التوراة أعلم بما فيها من أبي هريرة!! فانظر مبلغ دهاء هذا الكاهن ومكره بأبي هريرة الذي يتجلى في درس تاريخه أنه كان رجلا فيه غفلة وغرة! إذ من أين يعلم أبو هريرة ما في التوراة وهو لم يعرفها، ولو عرفها لما استطاع أن يقرأها لأنها كانت باللغة العبرية وهو لا يستطيع أن يقرأ حتى لغته العربية، إذ كان أميا لا يقرأ ولا يكتب. ومما يدلك على أن هذا الحبر الداهية قد طوى أبا هريرة تحت جناحه حتى جعله يردد كلام هذا الكاهن بالنص ويجعله حديثا مرفوعا إلى النبي ما نورد لك شيئا منه: روى البزار عن أبي هريرة أن النبي قال: إن الشمس والقمر ثوران في النار يوم القيامة! فقال الحسن: وما ذنبهما؟ فقال: أحدثك عن رسول الله وتقول ما ذنبهما؟
وهذا الكلام نفسه قد قاله كعب بنصه، فقد روى أبو يعلى الموصلي، قال كعب: يجاء بالشمس والقمر يوم القيامة كأنهما ثوران عقيران فيقذفان في جهنم يراهما من عبدهما. وروى الحاكم في المستدرك والطبراني - ورجاله رجال الصحيح - عن أبي هريرة: أن النبي قال: إن الله أذن لي أن أحدث عن ديك رجلاه في الأرض وعنقه مثبتة تحت العرش وهو يقول: سبحانك ما أعظم شأنك! قال: فيرد عليه ما يعلم ذلك من حلف بي كاذبا. وهذا الحديث من قول كعب الأحبار ونصه: إن لله ديكا عنقه تحت العرش وبراثنه في أسفل الأرض فإذا صاح صاحت الديكة فيقول: سبحان القدوس الملك الرحمن لا إله غيره.
 وروى أبو هريرة أن رسول الله قال: النيل وسيحان وجيحان والفرات من أنهار الجنة، وهذا القول نفسه رواه كعب إذ قال: أربعة أنهار الجنة وضعها الله عز وجل في الدنيا فالنيل نهر العسل في الجنة، والفرات نهر الخمر في الجنة، وسيحان نهر الماء في الجنة، وجيحان نهر اللبن في الجنة. وقال ابن كثير في تفسيره إن حديث أبي هريرة في يأجوج ومأجوج ونصه كما رواه أحمد عن أبي هريرة " إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس، قال الذين عليهم ارجعوا فستحفرونه غدا فيعودون... إلخ، وقد روى أحمد هذا الحديث عن كعب - قال ابن كثير لعل أبا هريرة تلقاه من كعب فإنه كان كثيرا ما كان يجالسه ويحدثه - وبين في مواضع كثيرة من تفسيره ما أخذه أبو هريرة من كعب، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن الله خلق آدم على صورته - وهذا الكلام قد جاء في الإصحاح الأول من التوراة (العهد القديم) ونصه هناك: وخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه.
ولما ذكر كعب صفة النبي في التوراة: قال أبو هريرة في صفته صلى الله عليه وسلم لم يكن فاحشا ولا متفحشا ولا سخابا في الأسواق - وهذا هو نص كلام كعب كما أوردناه من قبل.
 وروى مسلم عن أبي هريرة: أخذ رسول الله بيدي! فقال: خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد! وخلق الشجر يوم الاثنين! وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء! وبث فيها الدواب يوم الخميس! وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق من آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل. وقد روى هذا الحديث كذلك أحمد والنسائي عن أبي هريرة!! وقد قال البخاري وابن كثير وغيرهما إن أبا هريرة قد تلقى هذا الحديث عن كعب الأحبار لأنه يخالف نص القرآن في أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام. ومن العجيب أن أبا هريرة قد صرح في هذا الحديث (بسماعه) من النبي صلى الله عليه وسلم وأنه قد أخذ بيده حين حدثه به - وإني لأتحدى الذين يزعمون أنهم على شيء من علم الحديث عندنا، وجميع من هم على شاكلتهم، في غير بلادنا أن يحلوا لنا هذا المشكل. إن الحديث صحيح السند على قواعدهم - لا خلاف في ذلك - وقد رواه مسلم في صحيحه ولم يصرح بسماعه من النبي فقط، بل زعم أن رسول الله قد أخذ بيده وهو يحدثه به، وقد قضى أئمة الحديث بأن هذا الحديث مأخوذ عن كعب الأحبار وأنه مخالف للكتاب العزيز، فمثل هذه الرواية تعد ولا ريب كذبا صراحا، وافتراء على رسول الله، فما حكم من يأتي بها؟ وهل تدخل تحت حكم حديث الرسول: من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار؟ أم هناك مخرج لراوي هذا الحديث بذاته! إني والله لفي حاجة إلى الانتفاع بعلمهم في هذا الحديث وحده الذي يكشف ولا ريب عن روايات أبي هريرة التي يجب الاحتياط الشديد في تصديقها!
وقد بلغ من دهاء كعب الأحبار واستغلاله لسذاجة أبي هريرة وغفلته، أن كان يلقنه ما يريد بثه في الدين الإسلامي من خرافات وترهات حتى إذا رواها أبو هريرة عاد هو فصدق أبا هريرة، وذلك ليؤكد هذه الاسرائيليات وليمكن لها في عقول المسلمين - كأن الخبر قد جاء عن أبي هريرة وهو في الحقيقة عن كعب الأحبار.
 وإليك مثلا من ذلك نختم به ما ننقله من الأحاديث التي رواها أبو هريرة عن النبي، وهي في الحقيقة من الاسرائيليات حتى لا يطول بنا القول: روى الإمام أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله قال: إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام، اقرأوا إن شئتم " وظل ممدود ". ولم يكد أبو هريرة يروي هذا الحديث حتى أسرع كعب فقال: صدق والذي أنزل التوراة على موسى، والفرقان على محمد، لو أن رجلا ركب حقة أو جذعة ثم دار بأعلى تلك الشجرة ما بلغها حتى يسقط هرما! إن الله تعالى غرسها بيده ونفخ فيها من روحه، وإن أفنانها لمن وراء أستار الجنة وما في الجنة نهر إلا وهو يخرج من أصل هذه الشجرة. وهكذا يتعاونان على نشر مثل هذه الخرافات، ومن العجيب أن يروي هذا الخبر الغريب وهب بن منبه في أثر غريب فيرجع إليه من أراده. وفي فصل الاسرائيليات الذي مر بك أحاديث كثيرة من مثل ذلك. ولما روى أن رسول الله قال: " لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا ودما خير من أن يمتلئ شعرا " قالت عائشة: لم يحفظ إنما قال: ".. من أن يمتلئ شعرا هجيت به ".
حفظ الوعائين:
 أخرج البخاري عن أبي هريرة قال: حفظت عن رسول الله وعاءين فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم.
 وهذا الحديث معارض بحديث رواه الجماعة بألفاظ متقاربة عن علي رضي الله عنه، فقد سئل: هل عندكم كتاب؟ فقال: لا، إلا كتاب الله أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة. وكذلك يعارضه ما رواه البخاري عن عبد العزيز بن رفيع قال: دخلت أنا وشداد بن معقل على ابن عباس فقال له شداد، أترك النبي من شيء؟ فقال: ما ترك إلا ما بين الدفتين. ولو كان هناك شيء يؤثر به النبي (صلى الله عليه وسلم) أحد خواصه ويحجبه عن سائر أصحابه، لكان علي أول الناس جميعا بذلك، ذلك بأن ربيبه وابن عمه وأول من أسلم وزوج ابنته، ولم يفارقه لا في سفر ولا في حضر، وشهد معه المشاهد كلها - سوى تبوك - ولما استخلفه النبي فيها على المدينة قال له علي: أتخلفني في النساء والصبيان؟ فقال له النبي: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟! إلا أنه لا نبي بعدي، رواه البخاري والترمذي.
 حقا كان علي أولى الناس جميعا بذلك، فإن لم يكن علي فالصديق أبو بكر أو عمر، أو أبو عبيدة أو الزبير حواريه وابن عمته أو عائشة أحب أزواجه إليه بعد خديجة، أو العاقلة الرزينة أم سلمة أو ابن مسعود الذي قال له النبي: أذنك على أن ترفع الحجاب وتسمع سوادي أي سراري، حتى كانوا لشدة ملازمته للنبي (صلى الله عليه وسلم) لا يرون إلا أنه رجل من أهل بيته صلى الله عليه وسلم، وعرف بين الصحابة جميعا بأنه صاحب السواد والوساد، الذي لا يعرفه غيره رضي الله عنهم جميعا.
كان هؤلاء هم أولى الناس بأن يؤثرهم النبي بما لا يريد أن يظهره لأحد من سائر أصحابه، وإذا كان هناك أمر يريد أن يسره لأحد من خواصه. ومن هو أبو هريرة حتى يؤثره النبي بشيء يخصه به ويكتمه ويخفيه عن أصفيائه وأحبابه وأقرب الناس إليه؟! إنه لم يكن له أي فضل يدنو به إلى النبي - ولا عد بعد انتقال الرسول إلى الرفيق الأعلى من أية طبقة من طبقات الصحابة، فلا هو من السابقين الأولين ولا من المهاجرين، ولا من الأنصار، ولا من المجاهدين بأموالهم أو بأنفسهم ولا في النقباء، ولا من العرفاء، ولا من الكملة في الجاهلية وأول الإسلام، ولا من شعراء النبي الذين نافحوا عنه ولا من المفتين، ولا من القراء - الذين حفظوا القرآن - ولا جاء في فضله حديث عن الرسول ، وكل ما عرف عنه أنه كان من أهل الصفة لا أكثر ولا أقل!
 تشيع أبي هريرة لبني أمية:
 علمت مما كشفناه لك من تاريخ أبي هريرة أنه لم يصاحب النبي إلا على ملء بطنه، كما ذكر هو مرارا عن نفسه، وأنه قد اتخذ الصفة ملاذا له لفقره، يأكل فيها كما يأكل سائر أهلها، أو يأكل عند النبي أو عند أحد أصحابه. ومن كان هذا شأنه لا يكون ولا جرم إلا من عامة الصحابة لا شأن له ولا خطر، وقد ظل على ذلك زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر - ثم أخذ يظهر في زمن عثمان بعد انزوائه، ويبدو للناس بعد خفائه.
ولما شبت نار الحزب بين علي رضي الله عنه وبين معاوية، وإن شئت فقل لما انبعث الصراع بين الأموية والهاشمية بعد أن توارى - فرقا من القوة - في زمن النبي وخليفتيه أبي بكر وعمر، وانقسم المسلمون فرقا اتجه أبو هريرة إلى الناحية التي يميل إليها طبعه، وتتفق مع هوى نفس - وهي ناحية معاوية - إذ كانت تملك من أسباب السلطان والترف والمال والنعيم ما لم تملك ناحية على التي ليس فيها إلا الفقر والجوع والزهد - وليس بغريب على من نشأ نشأة أبي هريرة وعاش عيشته، أن يتنكب الطريق التي تؤدي إلى علي، وأن يتخذ سبيله إلى معاوية ليشبع نهمه من ألوان موائده الشهية، ويقضي وطره من رفده وصلاته وعطاياه السنية. وإذا كان قد بلغ من فاقة أبي هريرة وجوعه أن يخر مغشيا عليه، فيضع الناس أرجلهم على عنقه! فهل تراه يدع دولة بني أمية ذات السلطان العريض والأطعمة الناعمة، وينقلب إلى علي الزاهد الفقير الذي كان طعامه القديد؟ إن هذا لمما تأباه الطباع الإنسانية، ولا يتفق والغرائز النفسية! اللهم إلا من عصم ربك، وقليل ما هم. ولقد عرف بنو أمية صنيعه معهم، وقدروا موالاته لهم، فأغدقوا عليه من أفضالهم، وغمروه برفدهم وأعطيتهم! فلم يلبث أن تحول حاله من ضيق إلى سعة، ومن شظف العيش إلى دعة، ومن فقر إلى ثراء، وبعد أن كان يستر جسمه بنمرة بالية صار يلبس الخز والكتان الممشق. ولقد كانت أول لفتة من عين الأمويين إلى أبي هريرة لقاء مناصرته إياهم أن ولاه بسر بن أرطأة على المدينة بعد أن بعثه معاوية إلى أهل الحجاز يفعل فعلاته بهم وبأموالهم وذراريهم - وكذلك كان مروان ينيبه عنه على ولاية المدينة، ثم زادت أياديهم عليه فبنوا له قصرا بالعقيق وأقطعوه أرضا بالعقيق وبذي الحليفة، ولم يكتفوا بذلك بل زوجوه بسرة بنت غزوان أخت الأمير عتبة بن غزوان وهي التي كان يخدمها أيام عريه وفقره بطعام بطنه.
 ولقد استخفه أشره وزهوه، ونم عليه أصله ونحيزته، فخرج عن حدود الأدب والوقار مع هذه السيدة الكريمة، فكان يقول بعد هذا الزواج الذي ما كان ليحلم به: " إني كنت أجيرا لبسرة بنت غزوان بطعام بطني، فكنت إذا ركبوا سقت بهم وإذا نزلوا خدمتهم - والآن تزوجتها، فأنا الآن أركب فإذا نزلت خدمتني! " ويقول: وكانت إذا أتت على مكان سهل نزلت فقالت لا أريم حتى تجعل لي عصيدة! فها أنا إذا أتيت على نحو من مكانها قلت لها: لا أريم حتى تجعلي لي عصيدة! ومما أخرجه ابن سعد أنه قال: أكريت نفسي من ابنة غزوان على طعام بطني وعقبة رجلي.. فكانت تكلفني أن أركب قائما وأورد حافيا، فلما كان بعد ذلك زوجنيها الله فكلفتها أن تركب قائمة وأن تورد حافية.
 ولم يكن ما قدم أبو هريرة لمعاوية جهادا بسيفه أو بماله، وإنما كان جهاده أحاديث ينشرها بين المسلمين يخذل بها أنصار علي ويطعن فيها عليه، ويجعل الناس يبرؤون منه، ويشيد بفضل معاوية ودولته. وقد كان مما رواه أحاديث في فضل عثمان ومعاوية وغيرهما ممن يمت بأواصر القربى إلى آل أبي العاص وسائر بني أمية. روى البيهقي عنه أنه لما دخل دار عثمان وهو محصور، استأذن في الكلام ولما أذن له قال: إني سمعت رسول الله يقول، إنكم ستلقون بعدي فتنة واختلافا، فقال له قائل من الناس فمن لنا يا رسول الله؟.. أو ما تأمرنا؟ فقال: عليكم بالأمين وأصحابه، وهو يشير إلى عثمان، وقد أورده أحمد بسند جيد. ولما نسخ عثمان المصاحف دخل عليه أبو هريرة فقال: أصبت ووفقت! أشهد لسمعت رسول الله يقول: إن أشد أمتي حبا لي، قوم يأتون من بعدي يؤمنون ولم يروني، يعملون بما جاء في الورق المعلق.. حتى رأيت المصاحف. قال فأعجب ذلك عثمان، وأمر لأبي هريرة بعشرة آلاف. وهذا الحديث من غرائبه، وهو ينطق ولا ريب بأنه ابن ساعته. ومما وضعه في معاوية ما أخرجه الخطيب عنه: ناول النبي صلى الله عليه وسلم معاوية سهما فقال: خذ هذا السهم حتى تلقاني به في الجنة.
 وأخرج ابن عساكر وابن عدي والخطيب البغدادي عنه: سمعت رسول الله. يقول: إن الله ائتمن على وحيه ثلاثة: أنا وجبريل ومعاوية، وفي رواية أخرى عن أبي هريرة مرفوعا: الأمناء ثلاثة، جبريل وأنا ومعاوية. ونظر (أبو هريرة) إلى عائشة بنت طلحة وكانت مشهورة بالجمال الفائق - فقال: سبحان الله، ما أحسن ما غذاك أهلك! والله ما رأيت وجها أحسن منك إلا وجه معاوية على منبر رسول الله.
 والأخبار في ذلك كثيرة. ولقد بلغ من مناصرته لبني أمية أنه كان يحث الناس على ما يطالب به عمالهم من صدقات، ويحذرهم أن يسبوهم. قال العجاج الراجز: قال لي أبو هريرة: ممن أنت؟ قلت: من أهل العراق، قال: يوشك أن يأتيك بقعان الشام فيأخذوا صدقتك، فإذا أتوك فتلقهم بها فإذا دخلوها فكن في أقاصيها، وخل عنهم وعنها، وإياك أن تسبهم فإنك إن سببتهذهب أجرك وأخذوا صدقتك وإن صبرت جاءت في ميزانك يوم القيامة.
 وضعه أحاديث على علي:
 قال أبو جعفر الإسكافي إن معاوية حمل قوما من الصحابة، وقوما من التابعين، على رواية أخبار قبيحة على علي تقتضي الطعن فيه، والبراءة منه، وجعل لهم في ذلك جعلا، فاختلقوا له ما أرضاه، منهم أبو هريرة، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين عروة بن الزبير.
وروى الأعمش: لما قدم أبو هريرة العراق مع معاوية عام الجماعة جاء إلى مسجد الكوفة فلما رأى كثرة من استقبله من الناس جثا على ركبتيه ثم ضرب صلعته مرارا وقال: يا أهل العراق أتزعمون أني أكذب على الله ورسول الله وأحرق نفسي بالنار. والله لقد سمعت رسول الله يقول: لكل نبي حرما وإن حرمي بالمدينة ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وأشهد بالله أن عليا أحدث فيها. فلما بلغ معاوية قوله أجازه وأكرمه وولاه إمارة المدينة. على أن الحق لا يعدم أنصارا، وأن الصحابة إذا كان فيهم مثل أبي هريرة ممن يستطيع معاوية أن يستحوذ عليه، فإن فيهم كثرة غالبة لا يستهويها وعد، ولا يرهبها وعيد. فقد روى سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن القاسم عن عمر بن عبد الغفار أن أبا هريرة، لما قدم الكوفة مع معاوية، كان يجلس بالعشيات بباب كندة ويجلس الناس إليه، فجاء شاب من الكوفة فجلس إليه فقال: يا أبا هريرة، أنشدك الله، أسمعت رسول الله يقول لعلي بن أبي طالب، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه؟ فقال: اللهم نعم. فقال: فأشهد بالله لقد واليت عدوه وعاديت وليه، ثم قام عنه - بعد أن لطمه هذه اللطمة الأليمة. وروى مسلم: أن معاوية بن أبي سفيان قال لسعد بن أبي وقاص: ما يمنعك أن تسب أبا تراب؟ فقال: أما ذكرت ثلاثا قالهن له الرسول؟ فلن أسبه - لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلى من حمر النعم! سمعت رسول الله يقول له، لما خلفه في بعض مغازيه يا رسول الله: خلفتني مع النساء والصبيان؟ فقال له رسول الله: " أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه لا نبوة بعدي " وسمعته يقول يوم خيبر، " لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله "، فتطاولنا لها فقال: ادعوا عليا فأتي به أرمد. فبصق في عينيه، ودفع الراية إليه، ففتح الله عليه - ولما نزلت هذه الآية " قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم " الآية دعا رسول الله - عليا وفاطمة وحسنا وحسينا وقال: اللهم هؤلاء أهلي.
 ومن فضائل على أن النبي قال له: أنت مني وأنا منك. وقال له: من كنت مولاه فعلي مولاه. وقال أحمد بن حنبل ما بلغنا عن أحد من الصحابة ما بلغنا عن علي. وقال هو والنسائي والنيسابوري وغيرهم: لم يرد في حق أحد من الصحابة بالأسانيد الجياد أكثر مما جاء فيه. وأخرج مسلم عن علي: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد إلى: " أنه لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق " وقد جمع النسائي في مناقبه كتاب الخصائص.
 سيرته في ولايته:
 استعمل عمر أبا هريرة على البحرين حوالي سنة 21 ه‍ ثم بلغه عنه أشياء تخل بأمانة الوالي العادل فعزله وولى مكانه عثمان بن أبي العاص الثقفي - واستدعاه وقال له: هل علمت من حين أني استخلفتك على البحرين وأنت بلا نعلين! ثم بلغني أنك ابتعت أفراسا بألف دينار وستمائة دينار!! فقال: كانت لنا أفراس تناتجت وعطايا تلاحقت! قال: قد حسبت لك رزقك ومؤونتك، وهذا فضل فأده. فقال له: ليس لك ذلك! فأجابه عمر: بلى والله وأوجع ظهرك، ثم قام إليه بالدرة فضربه حتى أدماه. ثم قال له: إئت بها - قال: احتسبتها. فقال له عمر: ذلك لو أخذتها من حلال وأديتها طائعا! أجئت من أقصى حجر بالبحرين يجبى الناس لك، لا لله ولا للمسلمين؟ ما رجعت بك أميمة (أم أبي هريرة) إلا لرعية الحمر. وفي رواية عن أبي هريرة نفسه: أن عمر قال: يا عدو الله وعدو كتابه، سرقت مال الله، من أين اجتمعت لك عشرة آلاف. ونكتفي بما أوردناه ففيه بلاغ.
 وفاته:
 مات أبو هريرة سنة 59 ه‍ عن ثمانين سنة بقصره بالعقيق وحمل إلى المدينة ودفن بالبقيع وصلى عليه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وكان يومئذ أميرا على المدينة تكريما له. ولما كتب الوليد إلى عمه معاوية ينعي له أبا هريرة أرسل إليه معاوية " انظر من ترك، وادفع إلى ورثته عشرة آلاف درهم وأحسن جوارهم وافعل إليهم معروفا ". وهكذا يترادف رفدهم له حتى بعد وفاته.
 كلمة مجملة فيه:
 وإذ وصلنا من تاريخ أبي هريرة إلى هنا، فإنا نردف ما سقناه بكلمات للعالم الكبير المحدث السيد رشيد رضا رحمه الله قالها في أبي هريرة: كان إسلامه في سنة 7 ه‍ فصحب رسول الله ثلاث سنين ونيفا، فأكثر أحاديثه لم يسمعها من النبي، وإنما سمعها من الصحابة والتابعين، فإذا كان جميع الصحابة عدولا في الرواية - كما يقول جمهور المحدثين، فالتابعون ليسوا كذلك، وقد ثبت أنه كان يسمع من كعب الأحبار، وأكثر أحاديثه عنعنة، على أنه صرح بالسماع في حديث " خلق الله التربة يوم السبت " وقد جزموا بأن هذا الحديث أخذه من كعب الأحبار.
 وقال: إنه يكثر في أحاديثه الرواية بالمعنى والإرسال لأن الكثير منه قد سمعه من الصحابة وكذا بعض التابعين - ورواية الحديث بالمعنى كانت مثارا لمشكلات كثيرة. وقال: إنه انفرد بأحاديث كثيرة كان بعضها موضع الإنكار أو مظنته لغرابة موضوعها كأحاديث الفتن وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم ببعض المغيبات التي تقع بعده، ويزاد على ذلك أن بعض تلك المتون غريب في نفسه، ولو انفرد بمثله غير صحابي لعد من العلل التي يتثبت بها في روايته - كما هو المعهود عند نقاد الحديث، أهل الجرح والتعديل ولذلك نرى الناس ما زالوا يتكلمون في بعض روايات أبي هريرة. وقد أخرج البخاري لأبي هريرة 446 حديثا في صحيحه وأخرج لابن عباس 217 حديثا. وهذا القدر من روايتهما للأصول الموصولة من الأحاديث لم ينفردا به، وإنما شاركهما في رواية الكثير منه غيرهما، ولو أحصينا ما انفرد بروايته أبو هريرة وحده من أحاديث الأحكام الشرعية لرأيناه قليلا جدا، وعلمنا أنه لو لم يروه لما نقصت كتب الأحكام شيئا كثيرا، وأن ما عسى أن تنقصه يمكن أن يعرف حكمه من قواعد الشريعة الثابتة وأصولها القطعية، كقاعدة رفع الحرج والعسر، وإثبات اليسر وترجيحه، وقاعدة كون الأصل براءة الذمة، وكون الأصل في كل الخبائث والمضرات الحرمة، وفي كل الطيبات الحل، وكون الضرورات تبيح المحظورات وغير ذلك.
 وقال وهو يبين أن بطلي الاسرائيليات وينبوعي الخرافات هما كعب الأحبار ووهب بن منبه: " وما يدرينا أن كل الروايات - أو الموقوفة منها - ترجع إليهما، فإن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يذكرون ما يسمع بعضهم من بعض ومن التابعين على سبيل الرواية والنقل، بل يذكرونه بالمناسبات من غير عزو غالبا، وكثير من التابعين كذلك، بل أكثر ما روى عن أبي هريرة من الأحاديث المرفوعة لم يسمعه منه صلى الله عليه وسلم، ولذلك روى أكثره عنه بالعنعنة أو بقوله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقله بلفظ سمعت رسول الله يقول كذا، وقد روى عن بعض الصحابة وعن بعض التابعين وثبت أنه روى عن كعب الأحبار.
 ومن هنا نجزم بأن موقوفات الصحابة التي لا مجال فيها للاجتهاد والرأي لا يكون لها قوة المرفوع - كما قال المحدثون إلا إذا كانت ليست من قبيل الاسرائيليات.
 هذه ترجمة مختصرة لأبي هريرة التزمنا فيها الناحية التقريرية ولم نسلك الطريقة التحليلة والموضوعية، التي لا تكمل التراجم الصحيحة إلا بها، ولا تتم دراسة الرجال والأحداث إلا باتباعها، ذلك بأننا لم نصل بعد إلى احتمال سطوتها، وبخاصة إذا كان الأمر يتصل بأحد الصحابة الذين قالوا فيهم " إنهم كلهم عدول " فلا يجوز لأحد أن ينتقد بالعلم والبرهان والحجة أحدا منهم، لا في روايته ولا في شهادته، ولا في سيرته، ومما قالوه في ذلك أيضا " إن بساطهم قد طوي " كأن العدالة موقوفة عليهم وحدهم وكأنهم في ذلك قد ارتفعوا عن درجة الإنسانية، فلا يعتريهم ما يعتري كل إنسان من سهو أو خطأ، أو وهم أو نسيان - ولا نقول الكذب والبهتان! على أننا لو سلمنا لهم بأن كل صحابي معصوم فيما يقع فيه غيره من بني الإنسان وأنه لا ينسى ولا يخطئ ولا يهم، ولا يعتريه سوء فهم أو غلط، وأنه لم يكن في الصحابة منافقون، ولم يرتكب أحد منهم كبيرة ولا صغيرة ولا وقع بينهم ما وقع، ولا ارتد بعضهم بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، ولا غير ذلك كله مما حملته كتب التاريخ الصحيحة عنهم - فإن أمر أبي هريرة يباين أمر الصحابة جميعا، فقد جرحه كبار الصحابة ومن جاء بعدهم وشكوا في روايته، كما أبنا ذلك من قبل وبخاصة في كتابنا المطول عنه.
 ويعجبني قول علماء الكلام - أصحاب العقول الصريحة - في هذا الأمر نفسه، فقد جاءت عنهم هذه الكلمة الحكيمة وهي " ومن عجيب شأنهم - أي رجال الحديث - أنهم ينسبون (الشيخ) إلى الكذب ولا يكتبون عنه ما يوافقه عليه المحدثون - بقدح يحيى بن معين وعلي بن المديني وأشباههما ويحتجون بحديث أبي هريرة فيما لا يوافقه عليه أحد من الصحابة، وقد أكذبه عمر وعلي وعثمان وعائشة.
 وما بيناه من تاريخ أبي هريرة قد سقناه لك على حقيقته، وأظهرنا شخصيته كما خلقها الله ولم نأت فيها بشيء من عند أنفسنا، بل أتينا بالروايات الصحيحة فيها، ورجعنا إلى مصادر ثابتة لا يرقى الشك إليها، ولا يدنو الريب منها وعلى أننا قد طوينا كثيرا مما أثبته التاريخ الصحيح، لأن بعض الناس في دهرنا لا يزالون يخشون سطوة الحق، ولا يحتملون قوة البرهان.
وأبو هريرة لم يكن له - كما قلنا - أي شأن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عهد الخلفاء الأربعة، ولم يستطع أن يفتح فاه بحديث واحد إلا بعد قتل عمر، ولم يجرؤ على الفتوى إلا بعد الفتنة الأولى وهي قتل عثمان وعلو شأن بني أمية، وناهيك بالبخاري فإنه لم يذكره بين الصحابة الذين جاءت في فضلهم أحاديث عن رسول الله.
على أنه لا يفوتنا أن نذكر أن فيما رواه أحاديث يبدو منها شعاع من نور النبوة، ينفذ إلى القلوب السليمة، ولعلها مما يكون قد سمعه (وضبطه) والحديث الصحيح له ضوء كضوء النهار. أمثلة مما رواه أبو هريرة: أخرج البخاري ومسلم عنه قال: أرسل ملك الموت إلى موسى عليهما السلام فلما جاءه صكه فرجع إلى ربه! فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، فرد الله عليه عينيه! وقال ارجع فقل له يضع يده على متن ثور فله بكل ما غطت يده بكل شعرة سنة! قال: أي رب، ثم ماذا؟ قال: ثم الموت، قال: فالآن فأسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية حجر! قال رسول الله: فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر!! وفي رواية لمسلم قال: فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها.
وفي تاريخ الطبري عن أبي هريرة أن ملك الموت كان يأتي الناس عيانا حتى أتى موسى فلطمه ففقأ عينه، ومن بعد حادثة موسى - يأتي الناس خفيا ا ه‍ وإن رائحة الإسرائيلية لتفوح من هذا الحديث! وأخرجا كذلك عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: تحاجت الجنة والنار! فقالت النار أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين. وقالت الجنة ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطتهم! قال الله تبارك وتعالى للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذاب أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة ملؤها، فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله تبارك وتعالى رجله فتقول قط، قط، فهناك تمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض وروى البخاري عنه " ما بين منكبي الكافر مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع ".
 وأخرج أوله مسلم عنه مرفوعا، وزاد: وغلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام. وروى البخاري وابن ماجة عنه عن النبي: إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم يطرحه فإن أحد جناحيه داء والآخر شفاء. وروى الطبراني في الأوسط عنه عن النبي: أتاني ملك برسالة من الله عز وجل، ثم رفع رجله فوضعها فوق السماء والأخرى في الأرض لم يرفعها.
 وروى الترمذي عنه قال رسول الله: العجوة من الجنة، وفيها شفاء من السم. وروى الحاكم وابن ماجة من حديثه بسند صحيح: خمروا الآنية وأوكئوا الأسقية وأجيفوا الأبواب واكفتوا صبيانكم عن النساء فإن للجن انتشارا وخطفة، وأطفئوا المصابيح عند الرقاد، فإن الفويسقة (أي الفأرة) ربما اجترت الفتيلة فأحرقت أهل البيت.
وروى مسلم عنه أن رسول الله قال: إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة. وروايات أبي هريرة من هذا القبيل، وأدهى منه تفهق الكتب بها ولا نستطيع إيرادها هنا لأن ذلك يحتاج إلى مجلدات برأسها.
 ما رواه كبار الصحابة:
 علمت مما تقدم أن أبا هريرة روى عن رسول الله 5374 روى البخاري منها 446 على حين أنه لم يصاحب النبي (صلى الله عليه وسلم) إلا عاما وبضعة أشهر - وبقي أن تعرف مقدار ما رواه الذين سبقوه بالإيمان وكانوا أدنى منه إلى رسول الله وأعلم بالدين وأبعد في الفضل والجهاد من المهاجرين والأنصار وغيرهم وقضوا مع الرسول سنين طويلة - لنرى كم روى كبارهم من أحاديث رسول الله. ما رواه أبو بكر: فهذا أبو بكر أول الرجال إسلاما بعد علي، وشيخ الصحابة جميعا وقضى مع النبي ما قضى بمكة والمدينة وكان نسابة العرب، ترى كم من حديث رواه؟ قال النووي في تهذيبه: روى الصديق عن النبي 142 حديثا، أورد السيوطي منها في تاريخ الخلفاء 104 وله في البخاري 22 حديثا. ما رواه عمر: أسلم سنة ست وظل مع النبي إلى آخر حياته (صلى الله عليه وسلم) ومن قوله: كنت وجارا من الأنصار نتناوب النزول على رسول الله، ينزل يوما، وأنزل يوما، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك - وبرغم ذلك كله لم يصح عنه إلا حوال خمسين حديثا كما أثبت ذلك ابن حزم. ما رواه علي: أول من أسلم وتربى في حجر النبي وعاش تحت كنفه من قبل البعثة وظل معه إلى أن انتقل النبي إلى الرفيق الأعلى لم يفارقه لا في سفر ولا في حضر وهو ابن عمه وزوج ابنته فاطمة الزهراء، شهد المشاهد كلها سوى تبوك فقد استخلفه النبي فيها على المدينة فقال: يا رسول الله، أتخلفني في النساء والصبيان؟ فقال رسول: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه لا نبي بعدي. هذا الإمام الذي لا يكاد يضارعه أحد من الصحابة جميعا في العلم - قد أسندوا له كما روى السيوطي 58 حديثا، وقال ابن جزم: لم يصح منها إلا خمسون حديثا لم يرو البخاري ومسلم منها إلا من عشرين حديثا. عثمان: أما عثمان فقد روى البخاري له تسعة أحاديث ومسلم خمسة. الزبير بن العوام روى له البخاري تسعة أحاديث ومسلم حديث. طلحة بن عبيد الله روى له البخاري أربعة أحاديث. عبد الرحمن بن عوف روى له البخاري تسعة أحاديث. أبي بن كعب له في الكتب الستة ستون حديثا ونيف. زيد بن ثابت روى له البخاري ثمانية أحاديث، واتفق الشيخان على خمسة. سلمان الفارسي أخرج له البخاري 4 أحاديث ومسلم ثلاثة... إلخ. وقد ثبت أن كثيرا من الصحابة لم يرووا عن النبي شيئا، منهم سعيد بن زيد ابن نفيل أحد العشرة وأبي بن عمارة... إلخ.
 أحاديث مشكلة
 قلنا من قبل: إن الرواية قد حملت عن رسول الله فيما حملت أحاديث كثيرة مشكلة وغريبة، وإنا نورد هنا بعض هذه الأحاديث على طريق المثال لأن استيعابها يحتاج إلى أسفار. عن ابن عباس أن الله خلق لوحا محفوظا من درة بيضاء دفتاه من ياقوتة حمراء، قلمه نور، وكتابه نور، عرضه ما بين السماوات والأرض ينظر فيه كل يوم نظرة، أضواء على السنة المحمدية
ويحيي ويميت ويعز ويذل، ويفعل ما يشاء فذلك قوله " كل يوم هو في شأن ". رواه عبد الرزاق وابن المنذر والطبراني والحاكم. وروى الشيخان وبعض السنن والمسانيد والتفسير المأثور عن أبي ذر، قال رسول الله لأبي ذر حين غربت الشمس أتدري أين تذهب؟ قلت الله ورسوله أعلم! قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، فيقال لها ارجعي من حيث شئت فتطلع من مغربها، فذلك قوله تعالى: " والشمس تجري لمستقر لها "... الآية. وروى مسلم في مقدمة كتابه عن عبد الله بن عمرو بن العاص صاحب الزاملتين قال: إن في البحر شياطين مسجونة أوثقها سليمان بن داود، يوشك أن تخرج فتقرأ على الناس قرآنا. وروى البخاري في " باب الدواء بالعجوة للسحر " عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال، قال النبي: " من اصطبح كل يوم تمرات عجوة لم يضره سم ولا سحر ذلك اليوم إلى الليل - وفي رواية سبع تمرات عجوة - وكذا المسلم عن سعد بن أبي وقاص. وعند النسائي من حديث جابر: العجوة من الجنة وهي شفاء من السم. وأخرج الشيخان عن أبي هريرة إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين فإذا قضى التأذين أقبل حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر حتى إذا قضى التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه - وقال العلماء المحققون في شرح هذا الحديث: لئلا يسمع فيضطر أن يشهد له بذلك يوم القيامة... وروى مسلم عن أبي سفيان أنه قال للنبي: يا رسول الله أعطني ثلاثا، تزوج ابنتي أم حبيبة، وابني معاوية اجعله كاتبا، وأمرني أن أقاتل الكفار كما قاتلت المسلمين... وأم حبيبة تزوجها رسول الله وهو بالحبشة وأصدقها النجاشي، وأبو سفيان أسلم عام الفتح وبين الهجرة والفتح عدة سنين.
وروى مسلم عن عمرو بن الشريد قال: ردفت النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: هل معك من شعر أمية؟ قلت: نعم، فأنشدته مائة بيت، فقال: لقد كاد يسلم في شعره. وروى أحمد في مسنده عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: صدق أمية في شيء من شعره، وفي رواية قال رسول الله: صدق أمية ابن أبي الصلت في شيء من شعره فقال: زحل وثور تحت رجل يمينه * والنسر للأخرى وليث مرصد فقال رسول الله: صدق وقال: والشمس تطلع كل آخر ليلة * حمراء يصبح لونها يتورد تأتي فما تطلع لنا في رسلها إلا معذبة وإلا تجلد وهذا الحديث صحيح الإسناد وهو في مجمع الزوائد، ورواه أبو يعلى والطبراني ورجاله ثقات. ولما اعترض عليه في قوله: " إلا معذبة وإلا تجلد "! قال ابن عباس والذي نفسي بيده ما طلعت الشمس قط حتى ينخسها سبعون ألف ملك فيقولون لها: اطلعي، اطلعي! فتقول: لا أطلع على قوم يعبدونني من دون الله! فيأتيها ملك فتشتعل لضياء بني آدم، فيأتيها شيطان فيريد أن يصدها عن الطلوع فتطلع بين قرنيه فيحرقه الله تحتها، وذلك قول رسول الله: ما طلعت شمس إلا بين قرني شيطان، ولا غربت إلا بين قرني شيطان، وما غربت الشمس قط إلا خرت ساجدة، فيأتيها شيطان فيريد أن يصدها عن السجود فتغرب بين قرنيه فيحرقه الله تحتها. وروى الطبراني عن أبي أمامة، أن الله وكل بالشمس تسعة أملاك يرمونها بالثلج كل يوم، ولولا ذلك ما أتت على شيء إلا أحرقته.. وروى الشيخان واللفظ لمسلم عن أنس بن مالك: أن رجلا سأل النبي قالمتى تقوم الساعة؟ قال: فسكت رسول الله هنيهة ثم نظر إلى غلام بين يديه من أزد شنوءة فقال: " إن عمر هذا لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة " قال أنس: ذاك الغلام من أترابي يومئذ. وقد مات أنس في سنة 93 ه‍ على المشهور وهو ترب الغلام الذي قال النبي إنه لا يدركه الهرم حتى تقوم الساعة، وبذلك يكون قيام الساعة قبل انقضاء القرن الأول الهجري كما نص الحديث! فما قول عباد الأسانيد؟! لعل بعضهم ينبري فيقول: وما يدريك لعل هذا الغلام لم يدركه الهرم إلى الآن!!
 حديث فيم يختصم الملأ الأعلى:
 وروى أحمد في مسنده، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خرج عليهم ذات غداة وهو طيب النفس مسفر الوجه فسئل عن السبب فقال: وما يمنعني! أتاني ربي عز وجل في أحسن صورة قال: يا محمد قلت لبيك ربي وسعديك! قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري أي ربي! قال: فوضع كفيه بين كتفي فوجدت بردهما بين ثديي حتى تجلى لي ما في السماوات وما في الأرض! ورواية الشهرستاني: لقيني ربي فصافحني وكافحني ووضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله.
 ثور الجنة:
 وفي بدائع الفوائد لابن القيم ثبت عن النبي أن المؤمنين ينحر لهم يوم القيامة ثور الجنة الذي كان يأكل منها فيكون نزلهم، قال ابن القيم: فهذا حيوان قد كان يأكل من الجنة فينحر نزلا لأهلها.
رؤية النبي لله 11 مرة، والإسراء كان يقظة: قال القاضي: نص أحمد على أن الإسراء كان يقظة، وحكى له أن موسى ابن عقبة قال: أحاديث الإسراء منام فقال: هذا كلام الجهمية - وقال أبو بكر النجار: رآه إحدى عشرة مرة! تسع مرات ليلة المعراج حينما كان يتردد بين موسى وبين ربه عز وجل، ومرتين بالكتاب. ملك من حملة العرش: في منتخب كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال: عن أنس عن النبي أذن لي أن أحدث عن ملك من حملة العرش رجلاه في الأرض السفلى وعلى قرنه العرش وبين شحمة أذنه وعاتقه خفقات الطير 700 عام يقول: أنت الملك سبحانك حيث كنت. الرعد: عن ابن عباس: الرعد ملك من ملائكة الله موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله تعالى - وعنه أيضا الحيات مسخ الجن كما مسخت القردة والخنازير زمن بني إسرائيل - وعنه: أول ما خلق الله من شيء " القلم "، ثم خلق النون فكبس الأرض على ظهر النون الحجر الأسود: عن ابن عباس: الحجر الأسود يمين الله تعالى في الأرض يصافح بها من يشاء من خلقه وفي رواية أخرى عنه أنه قال: الحجر الأسود من الجنة، وكان أشد بياضا من الثلج حتى سودته خطايا الشرك، وقالوا إنه يأتي يوم القيامة، وله لسان وشفتان ليشهد لمن استلمه بحق. وهذا الحديث إسرائيلي منقول عن وهب بن منبه الذي قال فيه: كان لؤلؤة بيضاء فسوده المشركون. وقد استهزأ الجاحظ بهذا الحديث فقال: كان يجب أن يبيضه المسلمون حين أسلموا...
 فضل بسم الله الرحمن الرحيم:
 عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله قال: لما نزل بسم الله الرحمن الرحيم هرب الغيم إلى المشرق وسكنت الرياح وهاج البحر، وأصغت البهائم بآذانها ورجمت الشياطين من السماء، وحلف الله تعالى بعزته وجلاله ألا يسمى اسمه على شيء إلا بارك فيه. أحد حملة العرش: عن جابر قال رسول الله: " أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام. رواه أبو داود والبيهقي. جبريل له ستمائة جناح: وروى الإمام أحمد عن عبد الله قال: رأى رسول الله جبريل في صورته له ستمائة جناح، كل جناح منها يسد الأفق، يسقط من جناحه من الدر والياقوت، ما الله به أعلم. (إسناده قوي)
وعن عبد الله بن مسعود قال: رأى رسول الله جبريل في حلة خضراء وقد ملأ بين السماء والأرض. (رواه مسلم) يكشف ربنا عن ساقه: روى الشيخان عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أن الله عز وجل يكشف عن ساقه. وفي البخاري عن أبي سعيد قال: سمعت النبي يقول: يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة. وقال ابن مسعود: يكشف الله عن ساقه اليمنى فيضيئ من نور ساقه الأرض. الشاة من دواب الجنة: وفي سنن ابن ماجة من حديث ابن عمر، أن النبي قال: الشاة من دواب الجنة. قدم الجبار: في الصحيحين من حديث أنس، أن النبي قال: لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول: هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه فيزوى بعضها إلى بعض. شجرة في الجنة: روى البخاري عن ابن سعيد عن النبي قال: إن في الجنة لشجرة يسير الراكب الجواد، أو المضمر السريع مائة عام ما يقطعها. وفي رواية: إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ولا يقطعها.
 أصدق الحديث ما عطس عنده:
 رواه الطبراني في الأوسط والترمذي وغيرهما عن أنس.
طوبى شجرة في الجنة: رواه أحمد وابن حبان وفي رواية، طوبى شجرة في الجنة غرسها الله بيده ونفخ فيها من روحه تنبت بالحلى والحلل، وإن أغصانها لترى من وراء سور الجنة. والمشكلات لا يمكن حصرها، وبحسبك أن تجد الطحاوي قد ألف كتاب " مشكل الآثار " في أربعة مجلدات كبار، ولم يستوعب فيها كل المشكلات. وهذا الكتاب طبع في الهند.
 أحاديث المهدي:
 مما يبدو من مشكلات الرواية تلك الأحاديث المختلفة التي جاءت في كتب السنة المشهورة عند الجمهور عن " المهدي المنتظر " والتي تذكر أنه يخرج في آخر الزمان ليملأ الدنيا عدلا - كما ملئت جورا. وهو عند أهل السنة " محمد بن عبد الله " وفي رواية: أحمد بن عبد الله - والشيعة الإمامية متفقون على أنه " محمد بن الحسن المهدي " من الأئمة المعصومين ويلقبونه بالحجة والقائم المنتظر. وتقول الكيسانية: إن المهدي هو: محمد بن الحنفية وهو حي يقيم بجبل رضوى بين أسدين يحفظانه، وعنده عينان نضاختان تفيضان ماء وعسلا ومعه أربعون. والمشهور في نسبه أنه علوي فاطمي من ولد الحسن، وعند الشيعة الإمامية أنه من ولد الحسين رضي الله عنهما. وقد قال الحكيم ابن خلدون في مقدمته إن المشهور بين الكافة من أهل الإسلام على مر الأعصار، أنه لا بد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيد الدين، ويظهر العدل، ويتبعه المسلمون، ويستولي على الممالك الإسلامية ويسمى " بالمهدي "، ويكون خروج الدجال وما بعده من أشراط الساعة الثابتة في الصحيح على أثره، وأن عيسى ينزل بعده فيقتل الدجال وينزل معه فيساعده على قتله ويأتم بالمهدي في صلاته، ويحتجون في
الباب بأحاديث خرجها الأئمة وتكلم فيها المنكرون لذلك، وربما عارضوها ببعض الأخبار... إلخ). وقد طعن ابن خلدون في أكثر أحاديث المهدي التي جاءت في كتب السنة عند الجمهور. أما الشيعة - وبخاصة الإمامية فإن لهم أدلة يروونها عن أئمتهم وهم يعتمدون عليها في إثبات ظهور المهدي - ولكل قوم سنة وإمامها.
 المهدي العباسي: وهناك عدة أحاديث مصرحة بأنه سيكون من ولد العباس، ولكثرة هذه الأحاديث نكتفي بالإشارة إليها، ومن أراد الوقوف عليها فليرجع إليها في مظانها. المهدي السفياني: وإذا كان للعلويين مهدي، وللعباسيين آخر، فلم لا يكون للأمويين مهدي ثالث! ما دام باب الوضع يسع كل ما يدخل فيه، وبخاصة بعد أن أصبحوا من القوة والسلطان بحيث يتقرب الوضاعون إليهم لينالوا من عطائهم، وقد جاءت آثار بأن لهم مهديا يسمى " السفياني " لا نطيل بذكر أخباره وما جاء فيه.
 الخلفاء الاثنا عشر: وإليك بعض ما جاء في الخلفاء الاثنى عشر، لكي تقف على ناحية من نواحي الاختلاق في رواية الحديث وهو مما يعنينا في هذا البحث أما ما وراء ذلك فليس من غرضنا ولا من حقنا مناقشة الناس في معتقداتهم. جاءت أحاديث كثيرة تنبئ أن الخلفاء سيكونون اثنى عشر خليفة. وإنا نورد هنا ما وقفنا عليه من مختلف ألفاظها، ولا نعرض لمعاني متونها! روى الشيخان واللفظ للبخاري عن جابر بن سمرة: يكون اثنا عشر أميرا كلهم من قريش.
ورواية مسلم: " لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا وكلهم من قريش ". وفي رواية أخرى: " إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي له فيهم اثنا عشر خليفة ". وفي رواية ثالثة: " لا يزال الإسلام عزيزا منيعا إلى اثنى عشر خليفة ". ووقع عند أبي داود بلفظ: " لا يزال هذا الدين عزيزا إلى اثنى عشر خليفة ". وفي حديث أبي جحيفة عند البزار والطبراني بلفظ " لا يزال أمر أمتي صالحا " وأخرج أبو داود عن جابر بن سمرة نحوه وزاد. " فلما رجع إلى منزله أتته قريش فقالوا: ثم يكون ماذا؟ فقال: الهرج " أي الفتنة والقتال. وعند أبي داود: " لا يزال هذا الدين قائما حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم تجتمع عليهم الأمة ".
 وعند أحمد: " لا تزال هذا الأمر صالحا، ورواية أخرى عنده، لا يزال هذا الأمر مرضيا، وأخرجه الطبراني بلفظ " لا تضرهم عداوة من عاداهم ". ووقع عند أبي داود وأخرجه أحمد والبزار من حديث ابن مسعود، أنه سئل كم يملك هذه الأمة من خليفة؟ قال: سألنا عنها رسول الله فقال: اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل. وأخرج الطبراني من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رفعه: إذا ملك اثنا عشر من بني كعب بن لؤي، كان النقف والنقاف إلى يوم القيامة. وعن كعب الأحبار - ولا بد من كعب الأحبار!!، وفي كل واد أثر من ثعلبة!! - يكون اثنا عشر مهديا ثم ينزل روح الله فيقتل الدجال. وعلى أن هذه الأحاديث قد جعلت الخلفاء اثنى عشر، فقد رووا حديثا يعارض هذه الأحاديث جميعا، وهو حديث سفينة الذي أخرجه أصحاب السنن
وصححه ابن حيان وغيره " الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم يكون ملكا ". وكذلك أخرج أبو داود من حديث ابن مسعود رفعه " تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين سنة أو ست وثلاثين أو سبع وثلاثين، فإن هلكوا فسبيل من هلك، وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاما " زاد الطبراني والخطابي: فقالوا: سوى ما مضى؟ قال: نعم. أقوال بعض العلماء في هذه الأحاديث: قال القاضي عياض: توجه على هذا العدد " أي الاثنى عشر " سؤالان أحدهما أنه يعارضه ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم في حديث سفينة " الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم يكون ملكا " لأن الثلاثين سنة لم يكن فيها إلا الخلفاء الأربعة، وأيام الحسن بن علي، والثاني أنه ولى الخلافة أكثر من هذا العدد. وقال ابن الجوزي في كشف المشكل: قد أطلت البحث عن معنى هذا الحديث، وتطلبت مظانه، وسألت عنه فلم أقع على المقصود، لأن ألفاظه مختلفة ولا أشك أن التخليط فيها من الرواة. أما السيوطي فبعد أن أورد ما قاله العلماء في هذه الأحاديث المشكلة. خرج برأي غريب نورده هنا تفكهة للقراء وهو: وعلى هذا فقد وجد من الاثنى عشر، الخلفاء الأربعة والحسن ومعاوية وابن الزبير وعمر بن عبد العزيز - وهؤلاء ثمانية ويحتمل أن يضم إليهم المهدي من العباسيين لأنه فيهم كعمر بن عبد العزيز في بني أمية، وكذلك الظاهر، لما أوتيه من العدل وبقي الاثنان المنتظران!! أحدهما المهدي! لأنه من أهل البيت محمد - ولم يبين المنتظر الثاني - ورحم الله من قال في السيوطي: إنه حاطب ليل. وقبل أن نختم الكلام عن المهدي نثبت هنا كلمة عنه للعلامة الكبير الأستاذ مرتضى العسكري من كبار علماء العراق تبين عقيدة الشيعة الإمامية الاثنا عشرية في المهدي.
قال حفظه الله من جواب طويل بعث به إلينا: الشيعة الاثنا عشرية يعتقدون أن الأرض لم تخل من حجة لله على خلقه ولا تخلو منه كذلك، وهو إما أن يكون نبيا يوحي إليه أو من يعين من قبله على شريعته من بعده، ويبينها لأمته. وهم يرون في الأحاديث الاثنى عشر التي أوردتموها في كتابكم ص 210 - 211 تحت عنوان " الخلفاء الاثنا عشر " بيانا لعدد الأئمة الاثني عشر الذين يلون أمر الدين بعد النبي، فإن هذا العدد لا ينطبق على الراشدين، ولا الأمويين ولا غيرهم مضافا إلى مئات الأحاديث التي يروونها بطرقهم الخاصة عن رسول الله مما فيه التنصيص على ذلك. وثاني عشر هؤلاء الأئمة عندهم هو المهدي ابن الحسن العسكري المولود بسامراء سنة 255 ه‍ والذين يعتقدون فيه أنه لا يزال حيا كحياة نوح ألف سنة إلا خمسين عاما بين قومه، وكحياة عيسى الذي ما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم بل رفعه الله إليه... وهم يعتقدون بأن المهدي موجود وحي بقدرة الله التي جعلت الطين طيرا لإبراهيم، والنار بردا وسلاما له، والإيمان بوجوده كل هذه المدة دليل على الإيمان بقدرة الله، ويعتقدون أنه موجود بين الناس، وقد يعاينهم كأحدهم دون أن يشخصوه. ومما يذكر من فوائد وجوده أنه إذا أحتاج المسلمون إلى بيان رأي خفي فيه وجه الصواب يقوم بإرشاد بعض العلماء إلى صواب الرأي في الأمر. أما موعد ظهوره فإنهم يجمعون على أنه من الغيب الذي لا يعرفه إلا الله وأن لظهوره علائم منها ما هو حتمي الوقوع، وأخرى غير حتمية على ما في الأحاديث، وأنه يبدأ ظهوره من مكة على الأشهر، وتكون حملته الأولى من جيش عدده كعدد جيش رسول الله في بدر، وأنه يملأ الأرض عدلا، وأنه يحكم بين الناس بالواقع وإن خالف ذلك شهادة الشاهدين، أما سرداب الغيبة الذي قيل عنه في الحلة أو سامراء فلم أسمع بشيعي يقول بغيبة المهدي فيه، أو بوجوده فيه، أو بخروجه منه، ولعل السرداب الموجود في سامراء كان مصلى للإمامين علي الهادي والحسن العسكري اتخذاه مصلى لهما للعبادة فقد كانوا يتخذون في بيوتهم مصلى يعبدون الله فيه، ثم بقي كذلك حتى اليوم. هذا بعض ما حضر آن عصر الجمعة 2 ربيع الآخر سنة 1381.
الدجال
جاء في الدجال الذي أشار إليه ابن خلدون في كلمته عن المهدي أحاديث كثيرة بعضها يصرح بأن النبي صلى الله عليه وآله كان يرى أن من المحتمل ظهور الدجال في زمنه، وأنه يكفي المسلمين شره، وبعضها يصرح، أنه يخرج بعد فتح المسلمين لبلاد الروم والقسطنطينية، وبعض الأحاديث تقول بأنه سيكون معه جبال من خبز وأنهار من ماء وعسل! كما رواه أحمد والبيهقي وزاد مسلم جبال من لحم! وأخرج نعيم بن حماد من طريق كعب " أن الدجال تلده أمه بقوص من أرض مصر، وبين مولده ومخرجه ثلاثون سنة...! ومن أخباره أنه ينزل عند باب دمشق الشرقي ثم يظهر بالمشرق فيعطى الخلافة ثم يأتي النهر فيأمره أن يسيل فيسيل، ثم يأمره أن يرجع فيرجع، ثم يأمره أن ييبس فييبس، ثم يأمر الجبال أن تتناطح فتتناطح، ويأمر الريح أن تثير سحابا فتمطر الأرض، ويخوض البحر في كل يوم ثلاث خوضات فلا يبلغ حقويه - وإحدى يديه أطول من الأخرى، فيمد الطويلة في البحر فتبلغ مقره فيخرج من الحيتان ما يريد! وفي رواية عن مسلم أنه يخرج من أصبهان - وفي حديث الجساسة عند مسلم أنه محبوس بدير أو قصر في جزيرة في الشام أو بحر اليمن - وروى الحاكم وأحمد أنه يخرج من خراسان، وفي حديث النواس بن سمعان عند مسلم أنه يخرج بين الشام والعراق. الدجالة في خطبة الوداع: روى البخاري عن ابن عمر قال: كنا نتحدث بحجة الوداع والنبي بين أظهرنا ولا ندري ما حجة الوداع، فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر المسيح الدجال فأطنب في ذكره وقال: ما بعث الله من نبي إلا أنذر أمته أنذره نوح والنبيون من بعده، وأنه يخرج فيكم فما خفى عليكم من شأنه فليس يخفى عليكم! إن ربكم ليس على ما يخفى عليكم ثلاثا! إن ربكم ليس بأعور، وإنه أعور عين اليمنى كأن عينه عنية طافية، ألا إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد ثلاثا ويلكم أو يحكم انظروا: لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض. وقال ابن حجر في شرح هذا الحديث: ذكر الخطبة في حجة الوداع جماعة من الصحابة ولم يذكر أحد منهم قصة الدجال فيها إلا ابن عمر ولعل ابن حجر قد فاته أن ابن عمر هذا أحد تلاميذ كعب الأحبار. وهاك حديثا غريبا آخر في الدجال. في الصحيحين من حديث أنس بن مالك عن النبي أنه ذكر الدجال فقال: إلا أنه أعور وإن ربكم ليس بأعور. وقال الفخر الرازي في " أساس التقديس " عند الكلام على هذا الحديث: إن هذا الخبر مشكل لأن ظاهره يقضي أن النبي أظهر الفرق بين الإله تعالى وبين الدجال بكون الدجال أعور! وكون الله تعالى ليس بأعور! وذلك بعيد. وخبر الواحد إذا بلغ هذه الدرجة في ضعف المعنى وجب أن يعتقد أن الكلام كان مسبوقا بمقدمة لو ذكرت لزال هذا الإشكال. وهناك أحاديث أخرى عن هذا الدجال أعرضنا عن ذكرها وكلها مرفوعة إلى النبي.. ولكي يمكنوا لهذه العقيدة في عقول المسلمين، أوردوا حديثا عن النبي بأن " من كذب بالمهدي فقد كفر، ومن كذب بالدجال فقد كفر ".
عمر الدنيا
 في تفسير الآلوسي أن السيوطي أخرج عدة أحاديث في أن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة.. وذكر أن مدة هذه الأمة تزيد على ألف سنة ولا تبلغ الزيادة خمسمائة سنة، واستدل على ذلك بأخبار وآثار ذكرها - أي السيوطي - في رسالته التي سماها " الكشف عن مجاوزة هذه الأمة الألف " ، وقد قال الآلوسي: وإذا لم يظهر المهدي على رأس المائة التي نحن فيها ينهدم جميع ما نبأه فيها - كما لا يخفى وكأني بك تراه منهدما. وقد مضت المائة التي كان فيها الآلوسي وهي المائة الثالثة عشرة من الهجرة ومضى بعدها ست وثمانون سنة من المائة الرابعة عشرة، ولم يظهر المهدي وبذلك ينهدم يقينا ما نبأه السيوطي وخلط فيه. وذكر ابن خلدون في مقدمته قالوا: إن خروج الدجال يكون سنة 743 ه‍، والكلام في ذلك يطول بغير طائل، وقد أعرضنا كذلك عن إيراد أخبار الفتن وأشراط الساعة ونزول عيسى التي زخرت بها كتب السنة المعتمدة بين المسلمين، والمقدسة من شيوخ الدين، وكذلك أهملنا هنا ذكر الأحاديث الواردة في خروج النيل والفرات وسيحون وجيحون من أصل سدرة المنتهى فوق السماء السابعة وهي في البخاري وغيره، وخلق كل شيء من نور النبي صلى الله عليه وسلم وبشارة الوحوش به، وما إلى ذلك من هذه الأخبار الغريبة. ومن يرد أن يقف على هذه الأخبار كلها فليرجع إلى كتب السنة وإلى ما جاء في الفصل الثاني والخمسين من مقدمة ابن خلدون وهو الفصل الذي عقده على " أمر الفاطمي وما يذهب إليه الناس في شأنه وكشف الغطاء عن ذلك ".
كلمة جامعة في أحاديث أشراط الساعة - وأمثالها انتهى العلامة السيد رشيد رضا في تفسيره، بعد أن طعن في أحاديث أشراط الساعة وأماراتها - مثل الفتن والدجال والجساسة وظهور المهدي وغير ذلك - إلى هذه النتائج القيمة:
 1 - أن النبي لم يكن يعلم الغيب " قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله، ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون " وهو معلوم من الدين بالضرورة، وإنما أعلمه الله ببعض الغيوب بما أنزل عليه في كتابه، وهو قسمان صريح، ومستنبط.
 2 - لا شك أن أكثر الأحاديث قد روى بالمعنى كما هو معلوم واتفق عليه العلماء، ويدل على ذلك إختلاف رواة الصحاح في ألفاظ الحديث الواحد حتى المختصر منها، وما دخل على بعض الأحاديث من المدرجات وهو ما يدرج في اللفظ المرفوع من كلام الرواة - فعلى هذا كان يروي كل أحد ما فهمه وربما وقع في فهمه الخطأ، لأن هذه أمور يد غيبية وربما فسر بعض ما فهمه بألفاظ يزيدها. وإذا كان النبي لم يطلعه الله تعالى على ما أطلعه عليه من هذه المغيبات بالتفصيل. وكان يجتهد في بعضها ويقدر، ويأخذ بالقرائن كما قال النووي وابن الجوزي في تجويزه صلى الله عليه وسلم أن يكون ابن صياد اليهودي المعاصر له هو الدجال المنتظر، وكذا تجويزه أن يظهر في زمنه وهو حي، فهل من الغرابة أن يقع الخلط والتعارض فيما يروي عنه بالمعنى بقدر فهم الرواة. إن العابثين بالإسلام ومحاولي إفساد المسلمين وإزالة ملكهم من زنادقة اليهود والفرس وغيرهم من أهل الابتداع، وأهل العصبيات العلوية والأموية والعباسية، وقد وضعوا أحاديث كثيرة افتروها وزادوا في بعض الآثار المروية دسائس دسوها، وراج كثير منها بإظهار رواته
للصلاح والتقوى، ولم تعرف بعض الأحاديث الموضوعة إلا باعتراف من تاب إلى الله من واضعيها.
 ولقد كان الأستاذ الإمام محمد عبده رحمه الله يقول: إن الإسلام الصحيح هو ما كان عليه أهل الصدر الأول قبل ظهور الفتن - وإن بعض الصحابة والتابعين كانوا يروون عن كل مسلم وما كل مؤمن صادق، وما كانوا يفرقون في الأداء بين ما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم أو من غيره، وما بلغهم عنه بمثل سمعت وحدثني - وأخبرني - ومثل - عن النبي أنه قال - أو قال رسول الله - كما فعل المحدثون من بعد، عند وضع مصطلح الحديث - وقد ثبت أن الصحابة كان يروي بعضهم عن بعض وعن التابعين حتى عن كعب الأحبار وأمثاله - والقاعدة عند أهل السنة أن جميع الصحابة عدول فلا يخل جهل اسم راو منهم بصحة السند! وهي قاعدة أغلبية لا مطردة، فقد كان في عهد النبي منافقون قال تعالى: (9 - 102) " وممن حولكم من الأعراب منافقون. ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم " مردوا عليه، أحكموه وصقلوه أو صقلوا فيه حتى لم يعد يظهر في سيماهم وفحوى كلامهم، كالذين قال الله فيهم - منهم (47 - 31): " ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول "، ولكن البلية من الرواية عن مثل كعب الأحبار وممن روى عنه أبو هريرة وابن عباس ومعظم التفسير المأثور مأخوذ عنه وعن تلاميذه، ومنهم المدلسون كقتادة وغيره من كبار المفسرين وكابن جريج. فكل حديث مشكل المتن أو مضطرب الرواية، أو مخالف لسنن الله تعالى في الخلق، أو لأصول الدين. أو نصوصه القطعية أو للحسيات وأمثالها من القضايا اليقينية، فهو مظنة لما ذكرنا.. فمن صدق رواية مما ذكر - ولم يجد فيها إشكالا فالأصل فيها الصدق، ومن ارتاب في شيء منها، أو أورد عليه بعض المرتابين أو المشككين إشكالا في متونها، فليحمله على ما ذكرنا من عدم الثقة بالرواية، لاحتمال كونها من دسائس الاسرائيليات، أو خطأ الرواية بالمعنى، أو غير ذلك مما أشرنا إليه، وإذا لم يكن شيء منها ثابتا بالتواتر القطعي فلا يصح أن يجعل شبهة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم المعلوم بالقطع، ولا على غير ذلك من القطعيات. نقلنا هذا الكلام الجامع ليهتدي الناس إلى دراسة الحديث - لا أحاديث أشراط الساعة فحسب، بل في كل ما روي منسوبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ونختم هذا الفصل بهذه الأحاديث المتناقضة:
 أحاديث متناقضة ولا يدري المسلمون، بأيها يأخذون!
 روى البخاري عن عمران بن حصين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم - قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة، ثم إن بعدكم قوما يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون، ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يفون، ويظهر فيهم السمن. وعن عبد الله رضي الله عنه أن النبي قال: " خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم يجيئ قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته. وقال ابن حجر العسقلاني: قد سبق في صفة النبي صلى الله عليه وآله قوله: بعثت في خير قرون بني آدم - وفي رواية بريدة عند أحمد: خبر هذه الأمة القرن الذي بعثت فيهم. وقد ظهر أن الذي بين البعثة وآخر من مات من الصحابة 120 سنة أو دونها، أو فوقها بقليل على الاختلاف في وفاة أبي الطفيل، وإن اعتبر ذلك من بعد وفاته صلى الله عليه وآله فيكون مائة سنة أو تسعين، أو سبعا وتسعين!
وأما قرن التابعين فإن اعتبر من سنة مائة كان نحو سبعين أو ثمانين، إلى أن قال: واتفقوا أن آخر من كان من أتباع التابعين ممن يقبل قوله، من عاش حدود العشرين ومائتين، وفي هذا الوقت ظهرت البدع ظهورا فاشيا، وأطلقت المعتزلة ألسنتها، ورفعت الفلاسفة رؤوسها! وامتحن أهل العلم ليقولوا بخلق القرآن! وتغيرت الأحوال تغيرا شديدا، ولم يزل الأمر في نقص إلى الآن، وظهر قوله صلى الله عليه وآله ثم يفشو الكذب ظهورا بينا حتى يشمل الأقوال والأفعال والمعتقدات والله المستعان!! وقد اقتضى هذا الحديث أن تكون الصحابة أفضل من التابعين والتابعون أفضل من أتباع التابعين.. وقد احتج ابن عبد البر بحديث: مثل أمتي مثل المطر، لا يدرى أوله خير أم آخره ، وهو حديث حسن له طرق قد يرتقى بها إلى الصحة. وقد روى ابن أبي شيبة من حديث عبد الرحمن بن جبر قال رسول الله ليدركن المسيح أقواما إنهم لمثلكم أو خير - ثلاثا، وروى أبو داود والترمذي من حديث أبي ثعلبة رفعه: يأتي أيام للعامل فيهن أجر خمسين، قيل: منهم أو منا يا رسول الله؟ قال: بل منكم. وهو شاهد لحديث، مثل أمتي مثل المطر - وروى أحمد والدارمي والطبراني من حديث أبي جمعة قال: قال أبو عبيدة يا رسول الله أأحد خير منا! أسلمنا معك وجاهدنا معك! قال: قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني. وإسناده حسن وقد صححه الحاكم. وقد تعقب كلام ابن عبد البر بأن مقتضى كلامه أن يكون فيمن يأتي بعد الصحابة من يكون أفضل من بعض الصحابة وبذلك صرح القرطبي، ولكن كلام ابن عبد البر ليس على الإطلاق في حق جميع الصحابة فإنه صرح في كلامه باستثناء أهل بدر والحديبية، ولابن حجر كلام كثير في ذلك يرجع إليه.
 
ونحن نقول إن قرن النبي صلوات الله عليه وقع فيه من الأحداث الجسام ما وقع مثل فتنة عثمان وما جرت على المسلمين من بلايا، ومثل ما فعل الأمويون في حكمهم من تقويض قاعدة الشورى في الإسلام! ولا نطيل بذكر ما وقع في هذا القرن مما سجله التاريخ على صفحاته. ومن أجل ذلك نرجح أن الحديث الصحيح الذي يتفق مع روح الرسالة المحمدية هو حديث " مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره ". هذا والأحاديث المتناقضة كثيرة تؤلف منها كتب كتابة القرآن رأينا قبل أن نعرض للكلام عن كتابة الحديث، أن نأتي بفذلكة وجيزة من تأريخ جمع القرآن وكتابته لنبين كيف كانت عناية الرسول صلى الله عليه وآله وكذا صحابته من بعده بكتابة هذا الكتاب العظيم، وكيف كانوا يبالغون في التدقيق في جمعه وحفظه حتى أوفوا على الغاية من الكمال، وخرج إلى الناس في أصدق صورة بلغها كتاب على مد الزمن كله، وبذلك استحق صفة التواتر الصحيح الذي لا يمترى فيه إنسان، ولا يختلف عليه اثنان. وتلقاه المسلمون جميعا في مشارق الأرض ومغاربها على اختلاف مذاهبهم بالثقة التامة واليقين الكامل، لا يشذ في ذلك منهم أحد. ولو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد عنى بكتابة الحديث كما عنى بكتابة القرآن وعنى الصحابة من بعده بكتابته، لجاءت أحاديث الرسول كلها متواترة في لفظها ومعناها، ليس شيء فيها اسمه صحيح، ولا شيء اسمه حسن، ولا شيء اسمه ضعيف، ولا غير ذلك من الأسماء التي اخترعوها مما لم يكن معروفا زمن النبي وصحابته، وبذلك كان يرتفع الخلاف في حقيقته، وينحط عن كاهل العلماء أعباء البحث عن صحته، ووضع المؤلفات الكثيرة التي صنفت في " علوم الحديث " والبحث عن أحوال الرواة، من حيث العدالة والضبط والجرح والتعديل وغير ذلك، وكان فقهاء الدين يسيرون على نهج واحد لا اختلاف بينهم في أصله ولا تباين،
اللهم إلا في الفهم والإدراك، إذ تكون أدلتهم كلها متواترة كالقرآن الكريم فلا يأخذون بما سموه الظن الغالب الذي فتح أبواب الخلاف ومزق صفوف الأمة وجعلها مذاهب وفرقا، مما لا يزال أمره بينهم إلى اليوم وما بعد اليوم قائما. ثم كانت الأحاديث تصبح كذلك من أهم المصادر لعلماء النحو ورجال اللغة والبلاغة. كيف كانت كتابة القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ كان النبي حينما ينزل عليه من القرآن ما ينزل يأمر كتابه بأن يسارعوا إلى كتابته عند النطق به حتى لقد بلغ من حرصه على أدائه كما أوحى إليه، أن كان يحرك لسانه بما يتلقاه من الوحي حتى لا يتفلت منه شيء، فقد أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى " لا تحرك به لسانك.. " الآية، قال: كان رسول الله يعالج من التنزيل شدة، وكان يحرك به لسانه وشفتيه مخافة أن يتفلت منه - يريد أن يحفظه - فأنزل الله: " لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه " ويقول إن علينا أن نجمعه في صدرك ثم نقرأه فإذا قرأناه - إذا أنزلناه عليك " فاتبع قرآنه " فاسمع له وأنصت، ثم إن علينا بيانه أي تبيينه بلسانك... إلخ. وكان النبي يحض صحابته على حفظه وضبطه، والمداومة بالليل والنهار على تلاوته وكذلك كان يحث على قراءته في الصلاة وفي غير الصلاة وبذلك كثر القراء " الحفاظ " وقد كان بعضهم يكتب ما ينزل " ابتداء من عند أنفسهم أو بأمر النبي " ومنهم من حفظ بعضه، ومنهم من حفظ أكثره، ومنهم من حفظه كله وهم قليل.
 كتاب الوحي:
 كان كتاب الوحي - كما ذكروا - الخلفاء الأربعة وسعيد بن العاص وغيرهم، وقالوا كذلك إن أكثرهم كتابة وأشهرهم بينهم كان زيد بن ثابت وإن كان أول من كتب للنبي بمكة من قريش عبد الله بن سعد بن أبي سرح الذي ارتد، ثم عاد إلى الإسلام يوم الفتح، وأول من كتب بالمدينة أبي بن كعب وزيد بن ثابت.
وفي المواهب الفتحية: إن الزبير بن العوام وجهم بن الصلت كانا يكتبان أموال الصدقة، وكان حذيفة يكتب خرص النخل، وكان المغيرة بن شعبة والحصين بن نمير، يكتبان المداينات والمعاملات. جمع القرآن وسببه: قضى رسول الله ولم يكن القرآن جمع في شيء وذلك أنه كان في الصدور، وفيما كتب متفرقا، في عهد النبي، ولما تولى أبو بكر ونشبت حرب الردة وقتل فيها كثير من الصحابة - خشى عمر من ضياع القرآن بموت الصحابة، فدخل على أبي بكر وقال له: إن أصحاب رسول الله باليمامة يتهافتون تهافت الفراش في النار، وإني أخشى ألا يشهدوا موطنا إلا فعلوا ذلك حتى يقتلوا وهم حملة القرآن فيضيع القرآن وينسى، ولو جمعته وكتبته؟ فنفر منها أبو بكر، ولما تراجعا أرسل أبو بكر إلى زيد بن ثابت وقال له: إن عمر قد دعاني إلى أمر فأبيت، وأنت كاتب الوحي فإن تكن معه اتبعتكما، فنفر زيد كذلك، وقال: نفعل ما لم يفعل رسول الله؟ فقال عمر: وما عليكما لو فعلتما ذلك؟ فشرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك ما رأى عمر، ثم تتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف، والأكتاف وقطع الأديم، وصدور الرجال... وقد اختص أبو بكر زيدا بذلك لأنه من كتاب الوحي، وكان حافظا للقرآن، وهذا الجمع هو ضم متفرق القرآن من صحف لتكون هذه الصحف في مصحف. تحريهم في جمع القرآن: لما اتفق الرأي على جمع القرآن وتدوينه قام عمر في الناس وقال: من تلقى من رسول الله شيئا من القرآن فليأت به. وقال أبو بكر لعمر وزيد: اقعدا على باب المسجد فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه، وكان عمر - كما علمت - لا يقبل من أحد حديثا عن رسول الله حتى يشهد شاهدان على أنهما قد تلقياه من النبي، وعهدوا إلى بلال أن ينادي بأنحاء المدينة، أن من كان عنده قطعة عليها شيء من كتاب الله فليأت بها إلى الجامع وليسلمها إلى الكتبة. قال أبو شامة وكان غرضهم ألا يكتب إلا من عين ما كتب بين يدي النبي لا من مجرد الحفظ، ولذلك قال زيد في آخر سورة التوبة لم أجدها مع غيره - أي لم أجدها مكتوبة مع غيره - لأنه كان لا يكتفى بالحفظ دون الكتابة. وقد روى ابن وهب في موطئه عن مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله ابن عمر أنه قال: قد جمع أبو بكر القرآن في قراطيس ا ه‍، وبذلك يكون أبو بكر هو أول من جمع القرآن في الصحف وهذا هو الجمع الأول. هذا ما أمكن نشره هنا في هذا الحيز الضيق من الكلام في موضوع كتابة القرآن الكريم، ولم نعرض لشيء من التفصيل عما جاء في هذا الأمر الخطير الذي تشعبت فيه الرواية، واختلف فيها كلام الرواة لأن ذلك ليس من همنا، ولا هو من موضوع كتابنا. ومن شاء أن يقف على كل ما قيل في هذا الأمر فليرجع إلى كتاب الاتقان للسيوطي، وكتاب التبيان للجزائري والجزء الأول من " البيان في تفسير القرآن " للعلامة المحقق الكبير السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي. وهذا الكتاب وحده كاف في بيان هذا الأمر لأن مؤلفه الجليل قد درسه درس وافيا، وفصل فيه القول تفصيلا بحيث لا تجد مثله في كتاب آخر حتى ليجب على كل مسلم أن يقرأه ليستفيد منه علما ومعرفة.
 غريبة توجب الحيرة:
 من أغرب الأمور، ومما يدعو إلى الحيرة أنهم لم يذكروا اسم علي رضي الله عنه فيمن عهد إليهم بجمع القرآن وكتابته، لا في عهد أبي بكر ولا في عهد عثمان! ويذكرون غيره ممن هم أقل منه درجة في العلم والفقه! فهل كان علي لا يحسن شيئا من هذا الأمر؟ أو كان من غير الموثوق بهم؟ أو ممن لا يصح استشارتهم أو إشراكهم في هذا الأمر؟ اللهم إن العقل والمنطق ليقضيان بأن يكون على أول من يعهد إليه بهذا الأمر، وأعظم من يشارك فيه وذلك بما أتيح له من صفات ومزايا لم تهيأ لغيره من بين الصحابة جميعا - فقد رباه النبي صلى الله عليه وآله على عينه، وعاش زمنا طويلا تحت كنفه، وشهد الوحي من أول نزوله إلى يوم انقطاعه، بحيث لم يند عنه آية من آياته!! فإذا لم يدع إلى هذا الأمر الخطير فإلى أي شيء يدعى؟! وإذا كانوا قد انتحلوا معاذير ليسوغوا بها تخطيهم إياه في أمر خلافة أبي بكر فلم يسألوه عنها ولم يستشيروه فيها، فبأي شيء يعتذرون من عدم دعوته لأمر كتابة القرآن؟ فبماذا نعلل ذلك؟ وبماذا يحكم القاضي العادل فيه؟ حقا إن الأمر لعجيب وما علينا إلا أن نقول كلمة لا نملك غيرها وهي: لك الله يا على! ما أنصفوك في شيء! الجمع الثاني في عهد عثمان: لبثت الصحف التي كتبت في عهد أبي بكر عنده إلى أن قضى نحبه - رضي الله عنه - ثم حفظت عنه عمر مدة ولايته، وقبل موته دفع بها إلى ابنته حفصة، وظلت عندها حتى طلبها عثمان ليراجعوا عليها المصحف الذي كتب في عهده. كتابة القرآن في عهد عثمان: ما كاد عمر رضي الله عنه ينقلب إلى ربه، ويتولى عثمان الخلافة حتى أخذ أمر المسلمين يتحول، واختلف المسلمون حتى في قراءة القرآن.
أخرج ابن أبي داود في المصاحف من طريق أبي قلابة أنه قال: لما كان في خلافة عثمان جعل المعلم يعلم قراءة الرجل، والمعلم يعلم قراءة الرجل، فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون، حتى ارتفع ذلك إلى المعلمين، حتى كفر بعضهم بعضا، فبلغ ذلك عثمان فخطب فقال، أنتم عندي تختلفون فمن نأى عني من الأمصار أشد اختلافا. وروى البخاري عن أنس أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة وقال لعثمان: يا أمير المؤمنين: أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى ا ه‍. ومما ذكره حذيفة: رأيت أناسا من أهل حمص يزعمون أن قراءتهم خير من قراءة غيرهم وأنهم أخذوا القرآن عن " المقداد "، ورأيت أهل دمشق يقولون إن قراءتهم خير من قراءة غيرهم، فإنهم قرأوا بقراءة " أبي بن كعب " ورأيت أهل الكوفة يقولون مثل ذلك وأنهم قرأوا على " أبي موسى "، ويسمون مصحفه " لباب لقلوب ". وفي رواية عمارة بن غزية ذكرها ابن حجر في الفتح (ص 14 ج 9) أن حذيفة قدم من غزوة فلم يدخل بيته حتى أتى عثمان فقال: يا أمير المؤمنين أدرك الناس! قال: وما ذاك؟ قال غزوت فرج أرمينية فإذا أهل الشام يقرءون بقراءة " أبي بن كعب " فيأتون بما لم يسمع أهل العراق، وإذا أهل العراق يقرءون بقراءة عبد الله بن مسعود فيأتون بما لم يسمع أهل الشام فيكفر بعضهم بعضا. ولما بلغ كل ذلك عثمان ورأى الأمر قد حزب أرسل إلى حفصة ابنة عمر أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة، فأرسل إلى كل أفق بمصحف، مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق. قال الحافظ ابن حجر - وكان ذلك في أواخر سنة 24 وأوائل سنة 25 ه‍.
 الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان:
 قال ابن التين وغيره: الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان، أن جمع أبي بكر كان لخشية أن يذهب من القرآن شيء بذهاب حملته، لأنه لم يكن مجموعا في موضع واحد، فجمعه في صحائف مرتبا لآيات سوره على ما وقفهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وجمع عثمان كان لما كثر الاختلاف في وجوه القراءة، حتى قرأوا بلغاتهم من اتساع اللغات، فأدى ذلك إلى تخطئة بعضهم بعضا، فخشي من تفاقم الأمر في ذلك فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد مرتبا لسوره واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش، محتجا بأنه نزل بلغتهم، وإن كان قد وسع في قراءته بلغة غيرهم، رفعا للحرج والمشقة في إبداء الأمر، فرأى أن الحاجة في ذلك قد انتهت فاقتصر على لغة واحدة عدد المصاحف التي أرسلها عثمان إلى الآفاق: اختلف في عدة المصاحف التي أمر عثمان بكتابتها، والمشهور أنها كانت خمسة، أرسل أربعة منها إلى الآفاق وأمسك عنده واحدا منها. هذه لمعة ضئيلة مما جمعناه في هذا البحث رأينا إيرادها هنا، ولعل الله يهيئ لنا نشر البحث الطويل الذي أعددناه لكتاب برأسه في هذا الموضوع الجليل لينتفع به المسلمون خاصة، والمعنيون بالمباحث الإسلامية عامة.
وقفة قصيرة:
 ولا بد لي هنا من أن أقف وقفة قصيرة أستعلن فيها ما عراني من حيرة فيما أوردوه من أنباء هذا الجمع وما فيها من تناقض كثير. فنبأ يقول: إن عمر هو الذي فزع إلى أبي بكر في هذا الجمع، وخبر يقول: إن هذا الجمع لم يكن في عهد أبي بكر، وإنما هو عمر الذي تولاه، ورواية ثالثة تفيد أن عمر قد قتل قبل أن يكمل هذا الجمع، وأن عثمان هو الذي أتمه، وثم روايات أخرى كثيرة تحمل مثل هذا التناقض، لا نتوسع بإيرادها. ونحن لو أخذنا بالأخبار المشهورة، التي رواها البخاري، وهي التي فزع فيها عمر إلى أبي بكر لكي يجمع القرآن لما رأى القتل قد استحر في وقعة اليمامة وأنه قد قتل فيها من الصحابة مئات وهم، حملة القرآن، وإذا استمر الأمر على ذلك فإن القرآن يضيع وينسى! لو نحن أخذنا بهذا النبأ فإنه يتبين منه أن الصحابة وحدهم هم الذين كانوا في هذا العهد يحملون القرآن، فإذا ما ماتوا أو قتلوا ضاع القرآن ونسي، وأنه ليس هناك مصدر آخر يحفظ القرآن على مد الزمان إذ كانوا مادته وكانوا كتابه؟ على حين ذكروا قبل ذلك في أخبار وثيقة يرضى بها العقل ويؤيدها العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكتب كل ما ينزل عليه من قرآن وقت نزوله على العسب واللخاف وقطع الأديم وغيرها، وأنه اتخذ لذلك كتابا أحصى التاريخ أسماءهم، فأين ذهبت هذه النسخة، التي لا يشك فيها أحد ولا يمتري فيها إنسان؟ لأنها هي التي حفظ الله بها القرآن الكريم في قوله تعالى: " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " وفي قوله تعالى " إنا علينا جمعه وقرآنه ". إن هذه النسخة الفريدة التي تحمل الصورة الصحيحة للقرآن التي ستبقى على وجه الزمن خالدة لو كانت موجودة لأغنتهم عما وجدوه في سبيل عملهم من عناء، ولا صبحت هي المرجع الأول للقرآن في كل عصر ومصر والتي كان يجب على عثمان أن يراجع عليها مصاحفه التي كتبها قبل أن يوزعها على الأمصار.
تعقيب لا بد منه:
 وإذا كانوا - كما قلنا - قد أوفوا على الغاية من التحقيق في كتابة القرآن الكريم وحفظه حتى لا يستطيع أحد أن يمارى في ذلك، أو يحيك بصدره شيء من الريب فيه، فقد قامت حول هذا الأمر الخطير أمور سموها مشكلات نرى من الواجب أن نشير إلى بعضها حتى لا يأخذ علينا أحد أننا قد أغفلنا شيئا مما يجب أن يعلمه قراء كتابنا عن الرواية وما جنت، وهو ما يتصل بموضوعنا " وفي كل واد أثر من ثعلبة "! قال العلامة طاهر الجزائري في كتابه " التبيان " وهو يتكلم عن وجوب تواتر القرآن وما ورد على ذلك من مشكلات: وهنا مشكلات ترد على أصل وجوب تواتر القرآن نذكرها مع الجواب عنها: المشكل الأول: نقل عن ابن مسعود أنه كان ينكر سورة الفاتحة والمعوذتين من القرآن وقد أنكر صحة النقل عنه كثير من العلماء، قال النووي في شرح المهذب: أجمع المسلمون على أن المعوذتين والفاتحة من القرآن وأن من جحد شيئا منها كفر، وما نقل عن ابن مسعود باطل ليس بصحيح. وقال ابن حزم في كتاب القدح المعلى تتميم المحلى: هذا كذب على ابن مسعود وموضوع، وإنما صح عنه قراءة عاصم عن زر عنه، وفيها المعوذتان والفاتحة. وقال ابن حجر في شرح البخاري: قد صح عن ابن مسعود إنكار ذلك فأخرج أحمد وابن حبان عنه أنه كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه - وبعد أن أورد كل الروايات التي جاءت في أن ابن مسعود كان يحك المعوذتين من مصاحفه قال (ابن حجر): فقول من قال إنه كذب عليه مردود، والطعن في الروايات الصحيحة بغير مستند لا يقبل!! وقال ابن قتيبة في مشكل القرآن: ظن ابن مسعود أن المعوذتين ليستا من القرآن .
أنتهى الجزء الخامس.
 
 
 
اجمالي القراءات 10511
التعليقات (1)
1   تعليق بواسطة   فتحي مرزوق     في   السبت ٢٤ - أكتوبر - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً
[43175]

عن أبي هريرة والعدالة

كيف يؤخذ عنهأبي هريرة الحديث الذي يعتبرالمصدر الثاني للتشريع بإصرار منهم  وهو على ما هو عليه من الأخلاق ، إذا كانوا يدافعون عن الرواة ويقولون إنهم من العدول فهل نستطيع وصف أبي هريرة بهذا الوصف  بالعدالة مثلا  بعد هذا المقال المأخوذ من كتاب أضواء على السنة ؟ هل نحتاج لكم ألف سنة حتى نفهم  إن هذا لشيء عجاب اقرأوا هذا الجزء ثم ارجعوا بعدها إلى صوابكم إن استطعتم  :


ومن شظف العيش إلى دعة، ومن فقر إلى ثراء، وبعد أن كان يستر جسمه بنمرة بالية صار يلبس الخز والكتان الممشق. ولقد كانت أول لفتة من عين الأمويين إلى أبي هريرة لقاء مناصرته إياهم أن ولاه بسر بن أرطأة على المدينة بعد أن بعثه معاوية إلى أهل الحجاز يفعل فعلاته بهم وبأموالهم وذراريهم - وكذلك كان مروان ينيبه عنه على ولاية المدينة، ثم زادت أياديهم عليه فبنوا له قصرا بالعقيق وأقطعوه أرضا بالعقيق وبذي الحليفة، ولم يكتفوا بذلك بل زوجوه بسرة بنت غزوان أخت الأمير عتبة بن غزوان وهي التي كان يخدمها أيام عريه وفقره بطعام بطنه.

ولقد استخفه أشره وزهوه، ونم عليه أصله ونحيزته، فخرج عن حدود الأدب والوقار مع هذه السيدة الكريمة، فكان يقول بعد هذا الزواج الذي ما كان ليحلم به: " إني كنت أجيرا لبسرة بنت غزوان بطعام بطني، فكنت إذا ركبوا سقت بهم وإذا نزلوا خدمتهم - والآن تزوجتها، فأنا الآن أركب فإذا نزلت خدمتني! "


أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق