( لمحة عن الخطبة الدينية فى تاريخ المسلمين )
هذا الكتاب
كان مقالات إستجابة لسؤال ، ثم بعد تنقيحها تم تجميعها فى هذا الكتاب .
الفصل الأول : ( عصر النبوة )( 1 ) مقدمة )
مقدمة
1 ـ ورد هذا السؤال : ( أنت تنكر أى كلام للنبى محمد عليه السلام خارج القرآن الكريم ، وأكدت هذا فى كتابك عن ( كلمة : قل ) فى القرآن ، وأنه ليس للنبى محمد أقوال خارج القرآن . اسمح لى : كيف تقنعنى أن يرسل الله تعالى رجلا عربيا فى قوم يتنافسون فى الفصاحة ثم لا يكون الأفصح فيهم . لا بد أن يكون النبى فصيحا حتى يحوز على إعجاب قومه . لا بد أن تكون له أقوال فصيحة وخُطب . ليس له شعر كما جاء فى القرآن لأن الله تعالى يقول (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ) يس (69) ). ولكن المؤكد انه كانت له خطب ، وإلا كيف كان يصلى الجمعة ؟. لماذا لا تكتب بحثا عن الخطبة النبوية ؟ أريد أن أعرف ما حدث فيها من تغيير فى عصور الخلفاء . الأكيد أن التغييرات الناتجة من الفتوحات والفتنة الكبرى والحروب الأهلية قد أوجدت وظيفة سياسية ودعائية للخطبة ) .ـ وأقول
أولا :
1 ـ فى كتابنا ( القرآن وكفى ) قلنا الفرق بين النبى والرسول. الرسول هو النبى حين يبلغ القرآن ، أما النبى فهو شخص النبى وعلاقاته ، وهناك بعض أقوال للنبى مذكورة فى القرآن ، وبهذا تعتبر جزءا من الاسلام . أما أقوال النبى وتصرفاته خارج القرآن فليست جزءا من الاسلام . هى تنتمى الى التاريخ الذى ليس محلا للإيمان. الباحث التاريخى يبحث رواياتها ، ويعرضها على القرآن الكريم ، إن وافقت كانت صحيحة بالمقياس التاريخى ، حيث الحقيقة فيه نسبية وليست مطلقة ، ولا يمكن أن تكون جزءا من دين الاسلام . فالقرآن الكريم هو وحده هو الاسلام ،وحقائقة مطلقة . إن خالفت القرآن الكريم فهو رواية ساقطة بالتأكيد .
2 ـ أما عن الخطبة فهى طبقا لملة ابراهيم جزء من صلاة الجمعة ، والله جل وعلا لم يذكر تفصيلات الصلاة ، لأنها كانت معروفة للعرب بكل مافيها ، ولو كانت تشريعا جديدا لأنزل رب العزة تفصيلاتها ، ذكر رب العزة فقط التشريع الجديد فيها مثل القصر فى صلاة الخوف والطهارة قبلها ، أو حين يحدث تقصير فينزل توضيح كما حدث عندما ترك الصحابة النبى محمدا عليه السلام يخطب فى صلاة الجمعة ، فنزل توبيخ لا يتحدث عن تشريع صلاة الجمعة ، بل يذكر ما حدث ، يقول رب العزة جل وعلا : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11) الجمعة ). ومع كثرة الأسئلة التى وجهها الناس للنبى محمد عليه السلام وتكرارها وتنوعها ونزول الوحى بالاجابة فلم يأت سؤال واحد عن الصلاة لأنها كانت معروفة مألوفة .
3 ـ يلفت النظر ان كتب الأحاديث المشهورة للدين السنى لم يرد فيها أي خطبة جمعة للنبي عليه السلام –مع انه عاش في المدينة عشر سنوات خطب فيها اكثر من خمسمائة مرة ، الا ان القرآن يؤكد علي ان النبي صلي الله عليه وسلم كان مأمورا بأن يتحدث في الاسلام بالقرآن فقط ، وبه فقط كان يبشر وينذر ويدعو ويعظ ( 6 / 19 ، 51 ،70 )( 50 /45 ).وبالتالي فأن خطبة الجمعة –وهي وظيفة تعبدية –كان يتلو فيها الرسول صلي الله عليه وسلم القرآن ، ومن هنا يشملها الامر بالانصات لقراءة القرآن ، حيث يقول الله تعالي ( واذا قرأ القرآن فاستمعوا له وانصتوا لعلكم ترحمون : 7 / 204 ).
4- وعدا صلاة الجمعة فقد اشار القرآن الكريم الي مجالس الشوري ، اذ جاءت الآيات القرآنية تجعل الشوري فريضة كفريضة الصلاة والزكاة : (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) الشورى ) وتجعلها فرضا علي النبي نفسه ، وتؤكد ان الامة هي المصدر الوحيد للسلطات ، لأنه لو كان فظا غليظ القلب لانفضوا من حوله ، أي ان قوته تأتي باجتماعهم حوله لذلك لابد ان يعفو عنهم ويستغفر لهم ويشاورهم في الامر قال له جل وعلا : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) آل عمران ) وكان بعض المسلمين يتخلف عن حضور الشوري او يحضر ويستأذن النبي في الانصراف ، او ينصرف بدون عذر ، فنزلت الايات تحذر من ذلك. قال جل وعلا : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) النور ).ونزلت ايات اخري تتحدث عن سلبيات كانت تحدث في مجالس الشورى ( المجادلة 7 : 13 ). وبعد تحكم قريش فى الدولة بعد موت النبى محمد أصبحت الشورى محصورة فى حلقة ضيقة حول الخليفة فى عصر ما يسمى بالخلفاء الراشدين .
5 ـ ولنا ان نتصور ان تلك المجالس فى عصر النبى محمد عليه السلام كان يدور فيها الكثير من الحوار وكانت هذه الحوارات تلقي بطريقة الخطب ، وهي الطريقة التي سار عليها العرب وقتها وحتى أواخر القرن الهجرى . ولكن التدوين المنظم لم يبدأ الا فى العصر العباسى . وحين بدأ ذلك التدوين المنظم فانه اغفل مجالس الشوري فى عهد النبى محمد عليه السلام ، حيث قامت دولة النبى محمد على الشوري أو الديمقراطية المباشرة ، ولم يكن منتظرا من الاستبداد السياسي والكهنوتي الذي ساد في العصر العباسي –وهو عصر التدوين - ان يسمح بتدوين يعيد الشرعية لفريضة الشوري القرآنية .
6- الا ان التدوين العباسى والذي تم بأثر رجعي لعصر النبي محمد ذكر بعض خطب متفرقة للنبي . ونحن نتعامل معها على أنها أخبار تاريخية وليست جزءا من الدين ، أى أننا ننفى نسبتها للنبى محمد عليه السلام ، ونراها لا تعبر مطلقا عن خاتم النبيين بل تعبرعن تصور من رواها ومدى مهارته فى الصياغة . ونعطى لها نماذج .
ثانيا : نماذج من الخطب المنسوبة للنبى محمد عليه السلام فى سيرة ابن هشام المتوفي ( 213 هـ)
نقلها عن ابن اسحاق المتوفى فى منتصف القرن الثانى الهجرى ..
1 ـ فى موقعة ( بدر ) حين تأكد للنبى أنهم سيواجهون جيشا لقريش وليس القافلة إستشار أصحابه . يروى ابن اسحاق وينقل عنه ابن هشام الترحيب بالقتال دون إعتراض . ننقل النّص التاريخى ثم نعلق عليه :
2 ـ ( وَأَتَاهُ الْخَبَرُ عَنْ قُرَيْشٍ بِمَسِيرِهِمْ لِيَمْنَعُوا عِيرَهُمْ فَاسْتَشَارَ النّاسَ وَأَخْبَرَهُمْ قُرَيْشٍ فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ، فَقَالَ وَأَحْسَنُ. ثُمّ قَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ، فَقَالَ وَأَحْسَنُ ثُمّ قَامَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ امْضِ لِمَا أَرَاك اللّهُ فَنَحْنُ مَعَك، وَاَللّهِ لَا نَقُولُ لَك كَمَا قَالَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ لِمُوسَى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبّكَ فَقَاتِلَا إنّا هَهُنَا قَاعِدُونَ} وَلَكِنْ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبّك فَقَاتِلَا إنّا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ فَوَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ لَوْ سِرْت بِنَا إلَى بِرْكِ الْغِمَادِ لَجَالَدْنَا مَعَك مِنْ دُونِهِ حَتّى تَبْلُغَهُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَيْرًا، وَدَعَا لَهُ بِهِ..اسْتِيثَاقُ الرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ أَمْرِ الْأَنْصَارِ: ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ «أَشِيرُوا عَلَيّ أَيّهَا النّاس» وَإِنّمَا يُرِيدُ الْأَنْصَارَ، وَذَلِكَ أَنّهُمْ عَدَدُ النّاسِ وَأَنّهُمْ حِينَ بَايَعُوهُ بِالْعَقَبَةِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّا بُرَاءٌ مِنْ ذِمَامِك حَتّى تَصِلَ إلَى دِيَارِنَا، فَإِذَا وَصَلْتَ إلَيْنَا، فَأَنْتَ فِي ذِمّتِنَا نَمْنَعُك مِمّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا. فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَتَخَوّفُ أَلّا تَكُونَ الْأَنْصَارُ تَرَى عَلَيْهَا نَصْرَهُ إلّا مِمّنْ دَهَمَهُ بِالْمَدِينَةِ مِنْ عَدُوّهِ وَأَنْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسِيرَ بِهِمْ إلَى عَدُوّ مِنْ بِلَادِهِمْ. فَلَمّا قَالَ ذَلِكَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: وَاَللّهِ لَكَأَنّك تُرِيدُنَا يَا رَسُولَ اللّهِ؟ قَالَ «أَجَلْ» قَالَ فَقَدْ آمَنّا بِك وَصَدّقْنَاك، وَشَهِدْنَا أَنّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقّ، وَأَعْطَيْنَاك عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا، عَلَى السّمْعِ وَالطّاعَةِ فَامْضِ يَا رَسُولَ اللّهِ لِمَا أَرَدْتَ فَنَحْنُ مَعَك، فَوَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ لَوْ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَك، مَا تَخَلّفَ مِنّا رَجُلٌ وَاحِدٌ وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوّنَا غَدًا، إنّا لَصُبُرٌ فِي الْحَرْبِ صُدُقٌ فِي اللّقَاءِ. لَعَلّ اللّهَ يُرِيك مِنّا مَا تَقَرّ بِهِ عَيْنُك، فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللّهِ. فَسُرّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِقَوْلِ سَعْدٍ وَنَشّطَهُ ذَلِكَ. ثُمّ قَالَ «سِيرُوا وَأَبْشِرُوا، فَإِنّ اللّهَ تَعَالَى قَدْ وَعَدَنِي إحْدَى الطّائِفَتَيْنِ وَاَللّهِ لَكَأَنّي الْآنَ أَنْظُرُ إلَى مَصَارِعِ الْقَوْم ).
3 ـ ونقول : نقرأ خلاف ذلك فى القرآن الكريم. نفهم أن فريقا من المؤمنين قبيل الدخول فى معركة بدر كرهوا القتال حين عرفوا أن جيش قريش هو القادم ، وكانوا يأملون أن تكون القافلة وليس الجيش ، وأنهم جادلوا النبى محمدا عليه السلام ، ثم حين تحتم عليهم القتال كانوا كأنما يُساقون الى الموت وهم ينظرون . قال جل وعلا : ( كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) الانفال ) .
4 ـ وكانت أول مرة يحصل فيها المسلمون على غنائم . ودار جدل حول توزيعها . فالخروج لبدر كان أصلا للحصول على أموال المهاجرين التى صادرتها قريش وتاجرت بها مع أسهم أولئك المهاجرين . فهل الغنائم التى حازوها من جيش قريش تكون لأولئك المهاجرين عوضا عن أموالهم ؟ أم تكون للمحاربين المنتصرين فى بدر ؟. لم يكن التشريع قد نزل ، وسألوا النبى محمد عليه السلام ، وكالعادة لم يجبهم ، بل إنتظر الاجابة من رب العزة ، ونزل قوله جل وعلا يحذرهم مقدما من أن تكون الأنفال ( الغنائم ) سببا للنزاع ، فهى أصلا لله جل وعلا ورسوله ، أى للاسلام ودعوته ، وعليهم أن يتقوا ربهم جل وعلا وأن يصلحوا ما بينهم إن كانوا حقا مؤمنين . قال جل وعلا : (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) الانفال ). ثم نزل توزيع الغنائم ، أن يكون للاسلام ودعوته الخمس ، وهذا الخمس يتم توزيعه على الدعوة ( لله ورسوله ) ولأقارب المحاربين واليتامى والمساكين وابناء السبيل ، ثم يتم توزيع الباقى على المحاربين ، قال جل وعلا : (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) الانفال ). ثم قال لهم جل وعلا : (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) الانفال )
5 ـ بعدها لم ينزل أى تشريع فى موضوع الغنائم . ورد فقط توبيخ يخص بعض التصرفات كما جاء فى سورة الفتح ( 15 ) .
6 ـ وبالتالى لا يمكن أن نتصور أن يكون النبى هو الذى يعصى تشريع الله جل وعلا فى الغنائم ، فيعطى قريش والعرب ويحرم الأنصار كما زعم ابن اسحاق ونقله عنه ابن هشام . والرواية الكاذبة تزعم أن الأنصار تذمروا حين وجدوا النبى حرمهم من غنائم ( حنين ) 7 : يذكر ابن هشام فى السيرة : ( قَالَ ابْنُ هِشَامٍ قَالَ حَدّثَنَا ابْنُ إسْحَاقَ: قَالَ وَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ،. عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ. قَالَ لَمّا أَعْطَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا أَعْطَى مِنْ تِلْكَ الْعَطَايَا، فِي قُرَيْشٍ وَفِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ وَجَدَ هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِهِمْ؟ حَتّى كَثُرَتْ مِنْهُمْ الْقَالَةُ حَتّى قَالَ قَائِلُهُمْ لَقَدْ لَقِيَ وَاَللّهِ رَسُولُ اللّهِ قَوْمَهُ فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ قَدْ وَجَدُوا عَلَيْك فِي أَنْفُسِهِمْ لِمَا صَنَعْت فِي هَذَا الْفَيْءِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَكُ فِي هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ. قَالَ فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ؟ قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا أَنَا إلّا مِنْ قَوْمِي. قَالَ فَاجْمَعْ لِي قَوْمَك فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ. قَالَ فَخَرَجَ سَعْدٌ فَجَمَعَ الْأَنْصَارَ فِي تِلْكَ الْحَظِيرَةِ. قَالَ فَجَاءَ رِجَالٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ فَتَرَكَهُمْ فَدَخَلُوا، وَجَاءَ آخَرُونَ فَرَدّهُمْ. فَلَمّا اجْتَمَعُوا لَهُ أَتَاهُ سَعْدٌ فَقَالَ قَدْ اجْتَمَعَ لَك هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمّ قَالَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ: مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا عَلَيّ فِي أَنْفُسِكُمْ؟ أَلَمْ آتِكُمْ ضُلّالًا فَهَدَاكُمْ اللّهُ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ اللّهُ وَأَعْدَاءً فَأَلّفَ اللّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ قَالُوا: بَلَى، اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنّ وَأَفْضَلُ. ثُمّ قَالَ أَلَا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ؟ قَالُوا: بِمَاذَا نُجِيبُك يَا رَسُولَ اللّهِ؟ لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنّ وَالْفَضْلُ. قَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَا وَاَللّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَلَصُدّقْتُمْ أَتَيْتَنَا مُكَذّبًا فَصَدّقْنَاك، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاك، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاك، وَعَائِلًا فَآسَيْنَاك. أَوَجَدْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِكُمْ فِي لُعَاعَةٍ مِنْ الدّنْيَا تَأَلّفْت بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا. وَوَكَلْتُكُمْ إلَى إسْلَامِكُمْ أَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النّاسُ بِالشّاةِ وَالْبَعِيرِ وَتَرْجِعُوا بِرَسُولِ اللّهِ إلَى رِحَالِكُمْ؟ فَوَاَلّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْت امْرَأً مِنْ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النّاسُ شِعْبًا وَسَلَكَتْ الْأَنْصَارُ شِعْبًا، لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ. اللّهُمّ ارْحَمْ الْأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ. وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ. قَالَ فَبَكَى الْقَوْمُ حَتّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ وَقَالُوا: رَضِينَا بِرَسُولِ اللّهِ قَسْمًا، وَحَظّا. ثُمّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَتَفَرّقُوا ).
8 ـ هى دراما تراجيدية مؤثرة تؤكد مهارة صانعها . ونحن نرضى بها قصة مؤثرة بشرط أن لا يكون بطلها خاتم النبيين عليه وعليهم السلام .
( 2 ):أُكذوبة خطبة حجة الوداع
أولا : ملاحظات عامة :
1 ـ هل كان النبى محمد يعلم موعد موته بحيث إحتاج الى أن يلقى خطبة الوداع يقول فيها ( لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا.. ) ؟
2 ـ قد يقال : إن الوحى بالقرآن قد إنتهى نزولا فعلم النبى أن مهمته قد انتهت وأنه سيموت فخطب هذه الخطبة الوداعية . هذه الحجة فى داخلها الرد عليها . لأن الاسلام إكتمل بالقرآن الكريم ، وفيه كل الاسلام ، وبالتالى لا يوجد نقص يستدعى النبى لأن يخطب هذه الخطبة .
3 ـ هذه الخطبة المزورة تدخل فى نطاق الوعظ والتذكير . فهل كان الرسول يعظ ويذكر وينذر بكلامه وخطبه أم بالقرآن الكريم . كان يفعل ذلك بالقرآن الكريم وحده ، وكان هذا إمتثالا لأوامر رب العزة جل وعلا . قال له : ( فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45) ق )( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ ) (19) الانعام ) ( وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) الانعام ) (وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ )(70) الانعام ).
وقد كان عليه السلام مأمورا بأن يتبع القرآن الكريم ، قال له ربه جل وعلا : (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) الانعام) (وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109) يونس ) ( وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) الاحزاب ) وأمره ربه جل وعلا أن يعلن :(قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) الاعراف ) (إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ )(50)الانعام) ( إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) يونس ) (إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) الاحقاف ), هل بعد كل هذا نتصور خاتم النبيين يعصى ربه جل وعلا فى نهاية العمر ؟
4 ـ لو كانت هذه الخطبة المزورة تتفق مع القرآن لقلنا أنه لا حاجة لنابها لأننا مأمورون بالاكتفاء بالقرآن وحده كتابا، قال جل وعلا عمن لا يكتفى بالقرآن الكريم : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) العنكبوت ) كما أننا مأمورون بالاكتفاء برب العزة جل وعلا وحده إلاها، قال جل وعلا: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ )(36) الزمر ) فماذا إذا كانت هذه الخطبة المزورة تتناقض مع القرآن الكريم ؟
ثانيا : عرض للخطبة المزورة كما جاءت فى سيرة ابن هشام نقلا عن ابن اسحاق :
قال تحت عنوان : (خُطْبَةُ الرّسُولِ فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ ) :
( قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ مَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى حَجّهِ فَأَرَى النّاسَ مَنَاسِكَهُمْ وَأَعْلَمَهُمْ سُنَنَ حَجّهِمْ وَخَطَبَ النّاسَ خُطْبَتَهُ الّتِي بَيّنَ فِيهَا مَا بَيّنَ فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمّ قَالَ أَيّهَا النّاسُ اسْمَعُوا قَوْلِي، فَإِنّي لَا أَدْرِي لَعَلّي لَا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا بِهَذَا الْمَوْقِفِ أَبَدًا؛ أَيّهَا النّاسُ إنّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ إلَى أَنْ تَلْقَوْا رَبّكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، وَكَحُرْمَةِ شَهْرِكُمْ هَذَا، وَإِنّكُمْ سَتَلْقَوْنَ رَبّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ وَقَدْ بَلّغْت، فَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ فَلِيُؤَدّهَا إلَى مَنْ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهَا، وَإِنّ كُلّ رِبًا مَوْضُوعٌ وَلَكِنْ لَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ. قَضَى اللّهُ أَنّهُ لَا رِبَا، وَإِنّ رِبَا عَبّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ مَوْضُوعٌ كُلّهُ وَأَنّ كُلّ دَمٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيّةِ مَوْضُوعٌ وَإِنّ أَوّلَ دِمَائِكُمْ أَضَعُ دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، وَكَانَ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي لَيْثٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ فَهُوَ أَوّلُ مَا أَبْدَأُ بِهِ مِنْ دِمَاءِ الْجَاهِلِيّةِ. أَمّا بَعْدُ أَيّهَا النّاسُ فَإِنّ الشّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ مِنْ أَنْ يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ هَذِهِ أَبَدًا، وَلَكِنّهُ إنْ يُطَعْ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ فَقَدْ رَضِيَ بِهِ مِمّا تَحْقِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَاحْذَرُوهُ عَلَى دِينِكُمْ أَيّهَا النّاسُ إنّ النّسِيءَ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلّ بَهْ الّذِينَ كَفَرُوا، يُحِلّونَهُ عَامًا وَيُحَرّمُونَهُ عَامًا، لِيُوَاطِئُوا عِدّةَ مَا حَرّمَ اللّهُ فَيَحِلّوا مَا حَرّمَ اللّهُ وَيُحَرّمُوا مَا أَحَلّ اللّهُ وَإِنّ الزّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللّهُ السّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَإِنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَةٌ وَرَجَبُ مُضَرَ، الّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ. أَمّا بَعْدُ أَيّهَا النّاسُ فَإِنّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقّا، وَلَهُنّ عَلَيْكُمْ حَقّا، لَكُمْ عَلَيْهِنّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ وَعَلَيْهِنّ أَنْ لَا يَأْتِينَ بِفَاحِشَةِ مُبَيّنَةٍ فَإِنْ فَعَلْنَ فَإِنّ اللّهَ قَدْ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تَهْجُرُوهُنّ فِي الْمَضَاجِعِ وَتَضْرِبُوهُنّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرّحٍ فَإِنْ انْتَهَيْنَ فَلَهُنّ رِزْقُهُنّ وَكُسْوَتُهُنّ بِالْمَعْرُوفِ وَاسْتَوْصُوا بِالنّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنّهُنّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ لَا يَمْلِكْنَ لِأَنْفُسِهِنّ شَيْئًا، وَإِنّكُمْ إنّمَا أَخَذْتُمُوهُنّ بِأَمَانَةِ اللّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنّ بِكَلِمَاتِ اللّهِ فَاعْقِلُوا أَيّهَا النّاسُ قَوْلِي، فَإِنّي قَدْ بَلّغْت، وَقَدْ تَرَكْت فِيكُمْ مَا إنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلّوا أَبَدًا، أَمْرًا بَيّنًا، كِتَابَ اللّهِ وَسُنّةَ نَبِيّهِ. أَيّهَا النّاسُ اسْمَعُوا قَوْلِي وَاعْقِلُوهُ تَعَلّمُنّ أَنّ كُلّ مُسْلِمٍ أَخٌ لِلْمُسْلِمِ وَأَنّ الْمُسْلِمِينَ إخْوَةٌ فَلَا يَحِلّ لِامْرِئِ مِنْ أَخِيهِ إلّا مَا أَعْطَاهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ فَلَا تَظْلِمُنّ أَنَفْسَكُمْ اللّهُمّ هَلْ بَلّغْت؟ فَذُكِرَ لِي أَنّ النّاسَ قَالُوا: اللّهُمّ نَعَمْ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اللّهُمّ اشْهَد . )
ثانيا : نقد موضوعى لتلك الخطبة المزورة :
: 1 ـ قال ابن هشام : ( قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ مَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى حَجّهِ فَأَرَى النّاسَ مَنَاسِكَهُمْ وَأَعْلَمَهُمْ سُنَنَ حَجّهِمْ. ) . ابن اسحاق هنا فى البداية يتكلم كما لو كان حاضرا ، هذا بينما بينه وبين موت النبى محمد أكثر من قرن من الزمان .هذا يعنى أنه يؤلف هذا الكلام من دماغه . كاذبا على رسول الله . وفى النهاية يقول : ( فَذُكِرَ لِي أَنّ النّاسَ قَالُوا: اللّهُمّ نَعَمْ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اللّهُمّ اشْهَد . ) يعنى ذكر له بعضهم ( أن الناس قالوا .. فقال رسول الله .. ) . من هم أولئك الناس المجهولين الذين قالوا له هذا ؟ وهل حضروا هذه الخطبة ثم ظلوا بعدها يعيشون عصر الخلفاء ( الراشدين ) والخلفاء الأمويين والعصر العباسى الأول الذى عاش فيه ابن اسحاق ؟ هذا يعنى أنه يؤلف هذا الكلام من دماغه ..كاذبا على رسول الله .
2 ـ ثم قوله أن النبى أرى الناس أو علمهم عمليا مناسكهم وسنن الحج . فهل قبلها لم يكونوا يعرفون ؟ ولقد حج النبى بالناس قبلها .. فلماذا لم يعلمهم قبلها ؟ هذا مع ان الحج متوارث من ملة ابراهيم ، ونزلت توجيهات جديدة فى تشريعه فى سورتى البقرة والحج . أى لم يعد هناك جديد يتعلمونه .!
3 : قال : ( وَخَطَبَ النّاسَ خُطْبَتَهُ الّتِي بَيّنَ فِيهَا مَا بَيّنَ ). القرآن الكريم هو الكتاب المبين وآياته بينات ومبينات . فهل بعد بيان القرآن بيان ؟ وهل يحتاج الاسلام الى بيان بعد بيان القرآن ؟
4 ـ قال :( أَيّهَا النّاسُ إنّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ إلَى أَنْ تَلْقَوْا رَبّكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، وَكَحُرْمَةِ شَهْرِكُمْ هَذَا،) . لقد نزل تحريم قتل النفس البريئة فى سور مكية ، قال جل وعلا ضمن الوصايا العشر : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) الانعام ) وتكرر هذا فى قوله جل وعلا :(وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ) (33) الاسراء ) وعن عباد الرحمن قال جل وعلا (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68) الفرقان ). فهل كانوا محتاجين لأن يعرفوا هذا .
5 ـ من المفترض أنهم كانوا يعلمون باليوم الآخر ولقاء الله جل وعلا يوم الحساب . هل يتفق هذا مع قول : ( وَإِنّكُمْ سَتَلْقَوْنَ رَبّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ ) .
6 ـ ـ ومن المفترض أنهم كانوا يعلمون وجوب تأدية الأمانات من قوله جل وعلا : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ) (58) النساء) (وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) المؤمنون ). هل يتفق هذا مع قوله : ( فَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ فَلِيُؤَدّهَا إلَى مَنْ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهَا،)
7 ـ قوله ( قَضَى اللّهُ أَنّهُ لَا رِبَا.) . الذى لم يعرفه ابن اسحاق الجاهل مؤلف هذا الكلام أن الربا المحرم فى سورة البقرة هو ربا الصدقة فقط . أى إن الفقير المحتاج الذى له حق فى الصدقة يذهب الى شخص غنى يسأله فيعطيه الغنى هذا قرضا بربا بدلا من أن يعطيه حقه فى الصدقة . لذا كان حديث رب العزة جل وعلا فى سورة البقرة مقارنة بين الصدقة وهذا الربا ( البقرة 261 : 281 ). أما ربا التجارة فهو مباح إذا كان بالتراضى وبدون أضعاف مضاعفة . قال جل وعلا : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) آل عمران ) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ) (29) النساء ). والتفاصيل فى مقالنا :( معركة الربا ) المنشور هنا .
8 ـ قال :( أَمّا بَعْدُ أَيّهَا النّاسُ فَإِنّ الشّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ مِنْ أَنْ يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ هَذِهِ أَبَدًا. ) . هذا كلام فى الغيب ، ولم يكن له عليه السلام أن يتكلم فى الغيب ، ثم هذا هجص يخالف فى القرآن ، يزعم أن الشيطان يئس ، والشيطان لا ييأس من إضلال البشر . فقد قال ابليس لرب العزة جل وعلا : (ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) الأعراف ) . ولذا تكرر التحذير الالهى فى القرآن الكريم من الشيطان مع الأمر بالاستعاذة بالله منه . ثم كان بعض الصحابة فى وقت نزول القرآن الكريم ( من الذين آمنوا بمعنى الأمن والأمان ـ وليس الايمان القلبى الخالص) ـ يعبدون الأنصاب وهى من عمل الشيطان . قال جل وعلا يحذرهم : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92) المائدة ) . ثم هذه الفتوحات والحروب الأهلية ( الفتنة الكبرى ) التى وقع فيها الخلفاء بعد موت النبى أليست عبادة عملية للشيطان ؟
9 ـ قال : ( أَيّهَا النّاسُ إنّ النّسِيءَ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلّ بَهْ الّذِينَ كَفَرُوا، يُحِلّونَهُ عَامًا وَيُحَرّمُونَهُ عَامًا، لِيُوَاطِئُوا عِدّةَ مَا حَرّمَ اللّهُ فَيَحِلّوا مَا حَرّمَ اللّهُ وَيُحَرّمُوا مَا أَحَلّ اللّهُ ) هنا نقل من القرآن الكريم . فهل لم يكونوا يعرفون هذا ؟
10 ـ قال : ( وَإِنّ الزّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللّهُ السّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ ) . هذا كلام فى الغيبيات لا يمكن أن يتكلم به النبى محمد عليه السلام ، ثم هو هجص وخرافة ولا معنى له .
11 ـ قال : ( وَإِنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَةٌ وَرَجَبُ مُضَرَ، الّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ. ) . هنا جهل بالأشهر الأربعة الحُرُم المتواليات ، وهى : ذو الحجة ومحرم وصفر وربيع الأول . وهذا واضح من بداية سورة التوبة . والتوضيح فى كتابنا عن الحج ، وفى بحث (الحج أشهر معلومات ).
12 ـ هنا فيلم إباحى يقوله ابن إسحاق عليه اللعنة ويجعله فى خطبة ينسبها للنبى محمد عليه السلام 12 / 1 :. قال : ( أَمّا بَعْدُ أَيّهَا النّاسُ فَإِنّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقّا، وَلَهُنّ عَلَيْكُمْ حَقّا، لَكُمْ عَلَيْهِنّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ ) . يعنى إذا زنت بشخص لا تكرهونه فلا بأس ، واهلا وسهلا به . ولها حق فى ذلك.أما إذا كان الزانى شخصا تكرهونه فليس لها حق فى ذلك .!!
12 / 2 : قال : ( وَعَلَيْهِنّ أَنْ لَا يَأْتِينَ بِفَاحِشَةِ مُبَيّنَةٍ فَإِنْ فَعَلْنَ فَإِنّ اللّهَ قَدْ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تَهْجُرُوهُنّ فِي الْمَضَاجِعِ وَتَضْرِبُوهُنّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرّحٍ ) يعنى إذا وقعت فى الفاحشة المبينة المثبتة فهناك إذن للزوج بعقابها بالهجر فى المضاجع والضرب اليسير .. يا بلاش ..!! وإذن اين عقوبة الجلد فى سورة النور ؟ وواضح أن هذا الفيلم تم إخراجه قبل تأليف عقوبة الرجم .
12 / 3 . وقال : ( فَإِنْ انْتَهَيْنَ فَلَهُنّ رِزْقُهُنّ وَكُسْوَتُهُنّ بِالْمَعْرُوفِ ). يعنى إن تابت وانتهت عن الزنا فلها الرزق والكسوة بالمعروف . ابن اسحاق فى جهله بالقرآن الكريم يعطى حقوق المطلقة العفيفة للزوجة الزانية . هذا مع أن من عقوبات الزوجة المطلقة إذا وقعت فى فاحشة مبينه أن تخرج من بيتها بما يعنى أن لا نفقة لها . قال جل وعلا : (يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ) (1) الطلاق ) .
13 : قال : ( وَاسْتَوْصُوا بِالنّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنّهُنّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ لَا يَمْلِكْنَ لِأَنْفُسِهِنّ شَيْئًا. ) . هذا جهل أيضا بالقرآن الكريم ، فالمرأة فى عصر النبى كانت متفاعلة تشارك فى الشورى وفى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إن كانت مؤمنة وبعكس ذلك إن كانت منافقة ، وتشارك فى القتال ، ويكفى أن الأعذار فى القتال وفى العبادات تسرى على الرجال والنساء بلا تفرقة . أى كانت للمرأة فى عهد النبى محمد عليه السلام شخصيتها المستقلة ، وليس كما قال ابن اسحاق عالة لا تملك لنفسها شيئا . ابن اسحاق يعبر عن عصره . عصر السبايا والجوارى .ولا عجب ، فهذا الكافر الحقير ملأ سيرته بإفتراءات تنسب للنبى أنه كان يسبى النساء .
14 ـ فى النهاية يفترى هذا القول : ( وَقَدْ تَرَكْت فِيكُمْ مَا إنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلّوا أَبَدًا، أَمْرًا بَيّنًا، كِتَابَ اللّهِ وَسُنّةَ نَبِيّهِ.). لا يمكن للنبى محمد ان يقول ( تركت فيكم ) لأنه حين قال هذا كان حيا وليست له ( تركة ). ثم إن القرآن ليس ملكية خاصة إمتلكها النبى وتركها لمن بعده . الله جل وعلا وحده هو الذى أنزل الكتاب ، وهو جل وعلا الذى أورثه لنا ، قال جل وعلا عن القرآن الكريم ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32 ) فاطر) . أما ( السُّنّة ) فهى سُنّة الله جل وعلا والرسول أسوة حسنة فى تطبيقها ، وقد شرحنا هذا فى كتاب ( القرآن وكفى ) وفى بحث ( الاسناد ) ، أى لا يمكن للنبى محمد أن يقول ( وسُنّتى ). ولكن المضحك أن ابن إسحاق ليس فقط جاهلا بالقرآن بل كان جاهلا أيضا باللسان العربى ، ولا عجب فقد كان من الموالى . وقد قال ( وَقَدْ تَرَكْت فِيكُمْ مَا إنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلّوا أَبَدًا،....، كِتَابَ اللّهِ وَسُنّةَ نَبِيّهِ ). هنا خطأ . قال ( إعتصمتم به ) أى هو شىء واحد ، ثم ذكر الكتاب والسنة وهما مثنى . أى كان يجب ان يقول ( إعتصمتم بهما ).
ثالثا : نقد تلك الخطبة من حيث الاسناد :
1 ـ نلاحظ أن ابن إسحاق لم يصنع إسنادا لخطبة الوداع هذه . إكتفى بقوله : ( قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ مَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى حَجّهِ فَأَرَى النّاسَ مَنَاسِكَهُمْ وَأَعْلَمَهُمْ سُنَنَ حَجّهِمْ وَخَطَبَ النّاسَ خُطْبَتَهُ الّتِي .. )، أى هو يروى القصة كما لو كان حاضرا ، هذا مع أنه بينه وبين عصر النبى محمد عليه السلام أكثر من قرن من الزمان، أى إنه هو الذى إخترع القصة من دماغه .
2 ـ من يجعلون أنفسهم (علماء الجرح والتعديل ) أى فحص الإسناد والحكم على حال الراوى هل هو ثقة أو غير ثقة ــ لم يتوقفوا مع إفتقاد هذه الخطبة الى الإسناد ، ولم يتساءلوا لماذا إنفرد ابن إسحاق بروايتها كأنه شاهد عليها بنفسه ، ولماذا لم يروها مالك بن أنس ، وهو أبن المدينة والذى كان معاصرا لابن إسحاق ـ وخصما له فى نفس الوقت ؟ . ثم الأهم : أنهم فى قواعدهم يجعلون الأحاديث على درجات: أعلاها هو الحديث المتواتر ـ الذى يفيد عندهم اليقين ــ وهو الذى رواه جماعة عن جماعة عن جماعة عن جماعة ..الخ بحيث يتعذر تواظؤهم على الكذب . وهم فيه مختلفون : منهم من يقول : لا يوجد حديث متواتر بهذا الوصف ، ومنهم من يقول يوجد حديث واحد متواتر ، ومنهم من يقول يوجد بضعة أحاديث متواترة. وفقا لما يقولونه عن الحديث المتواتر فإن حديث خطبة الوداع ــــ لو صح ــــ فهو الأولى بالتواتر ، لأن المفهوم أن النبى ألقى هذه الخطبة الوداعية فى عشرات الألوف من الصحابة ، ولأنها خطبة الوداع فالمفترض أن يرويها آلاف الصحابة وينقلها عنهم آلاف التابعين ثم ألآف ألاف تابعى التابعين ثم ملايين الرواة فى عصر ابن اسحاق . لكن الذى حدث أن الذى رواها هو شخص واحد ، إخترعها من خياله . ثم جاء المغفلون بعده فى القرون التالية فرووها عنه مؤمنين بها .
3 ـ هنا خبل يستحق جائزة ( نوفل ).!
أخيرا :
1 ـ لا عجب أن يكون ابن اسحاق بهذا الجهل ، فالجهل شيمة كل ائمة السنيين . ولكن الأعجب أن تظل أكاذيبه وجهالاته عن النبى محمد عليه السلام ـ مقدسة حتى الآن .
2 ـ ألا يوجد فى المحمديين رجل رشيد ؟ !
( 3 ) أكاذيب سامة
أولا : ابن إسحاق رائد الكذابين
1 ـ إبن إسحاق أول من كتب السيرة ، صنع رواياتها من خياله ، وصنع لها إسنادا ( عن فلان عن فلان أنه قال .. )، ومن جاء بعده سار على طريقته ، ينقل عنه ويضيف . وبتكرار الروايات يصدقها الناس ، ويتوارثون تصديقها ، ولإرتباطها بالنبى تصبح دينا ، وتتوارى الشخصية الحقيقية للنبى محمد عليه السلام كما وردت ملامحها فى القرآن ، ويحل محلها هذه الشخصية الخرافية التى صنعها ابن اسحاق وابن سعد والطبرى ..وغيرهم .
2 ـ إبن إسحاق كان يضع رواية واحدة للحدث ، من جاء بعده وضع أكثر من رواية لنفس الحدث لا تخلو هذه الروايات من إختلاف وتداخل وإضطراب ، بما يدل على أن مصانع إختلاق الروايات كانت تعمل بكامل طاقتها ، يعمل فيها القصاصون ، ويتم صنع إسناد لها ثم تتم كتابتها .
3 ـ ومثلا ، فإن رواية خطبة الوداع التى تعرضنا لها نقلها الطبرى وغيره ، ولكن أضاف الطبرى لها روايات أخرى ، وصنع لها إسنادا ينتهى الى ابن اسحاق ويتجاوزه . يقول : ( حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق عن يحيى بن بعباد بن عبدالله بن الزبير عن أبيه عباد قال كان الذي يصرخ في الناس يقول رسول الله وهو على عرفة ربيعة بن أمية بن خلف قال يقول له رسول الله قل أيها الناس إن رسول الله يقول هل تدرون أي شهر هذا فيقولون الشهر الحرام فيقول قل لهم إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة شهركم هذا ثم قال قل إن رسول الله يقول أيها الناس فهل تدرون أي بلد هذا قال فيصرخ به فيقولون البلد الحرام قال فيقول قل إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة بلدكم هذا ثم قال قال أيها الناس هل تدرون أي يوم هذا فقال لهم فقالوا يوم الحج الأكبر فقال قل إن الله حرم عليكم أموالكم ودماءكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا ) .
ويروى رواية أخرى تنتهى الى ابن اسحاق ويتجاوزه ، يقول : ( حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق عن عبدالله بن أبي نجيح أن رسول الله حين وقف بعرفة قال هذا الموقف للجبل الذي هو عليه وكل عرفة موقف وقال حين وقف على قزح صبيحة المزدلفة هذا الموقف وكل المزدلفة موقف ثم لما نحر بالمنحر قال هذا المنحر وكل منى منحر فقضى رسول الله الحج وقد أراهم مناسكهم وعلمهم ما افترض عليهم في حجهم في المواقف ورمي الجمار والطواف بالبيت وما أحل لهم في حجهم وما حرم عليهم فكانت حجة الوداع وحجة البلاغ . )
ولنتذكر أن ابن إسحاق توفى حوالى 152 ، بينما توفى الطبرى عام 310 .
ثانيا : خطب عن غيب الساعة
من روايات الخطب المضحكة فى الخطب المنسوبة للنبى محمد عليه السلام والتى رواها الطبرى أنه خطب يؤكد لأصحابه أن القيامة وشيكة .
1 ـ يقول الطبرى : ( عن ابن عمر قال :كنا جلوسا عند النبي ، والشمس مرتفعة على قعيقعان بعد العصر ، فقال : " ما أعماركم في أعمار من مضى إلا كما بقي من هذا النهار فيما مضى منه" ) . والنبى لم يكن له أن يتحدث فى الغيب .!!
2 ـ ويضع رواية ثانية ، يقول : ( حدثنا ابن بشار ومحمد بن المثنى قال ابن بشار حدثني خلف بن موسى وقال ابن المثنى حدثنا خلف بن موسى قال حدثني أبي عن قتادة عن أنس بن مالك ، أن رسول الله خطب أصحابه يوما ، وقد كادت الشمس أن تغيب ولم يبق منها إلا شق يسير ، فقال : " والذي نفس محمد بيده ما بقي من دنياكم فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه وما ترون من الشمس إلا اليسير . " )
3 ـ وفى رواية ثالثة : ( حدثنا ابن وكيع قال حدثنا ابن عيينة عن علي بن زيد عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال : قال النبي عند غروب الشمس : " إنما مثل ما بقي من الدنيا فيما مضى منها كبقية يومكم هذا فيما مضى منه . " ) .
4 ـ وفى روايات مضمونها واحد مع بعض إختلافات ينسب فيها الطبرى للنبى العلم بالساعة ، قال : ( حدثنا هناد بن السري وأبو هشام الرفاعي قالا حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي حصين عن أبي صالح عن ابي هريرة قال قال رسول الله بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بالسبابة والوسطى . " ) .
(حدثنا أبو كريب حدثنا يحيى بن آدم عن أبي بكر عن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي بنحوه حدثنا هناد قال حدثنا أبو الأحوص وأبو معاوية عن الأعمش عن أبي خالد الوالبي عن جابر بن سمرة قال قال رسول الله بعثت أنا والساعة كهاتين . ") ( حدثنا أبو كريب قال حدثنا عثام بن علي عن الأعمش عن أبي خالد الوالبي عن جابر بن سمرة قال : كأني أنظر إلى إصبعي رسول الله وأشار بالمسبحة والتي تليها وهو يقول بعثت أنا والساعة كهذه من هذه" ) ( حدثنا ابن حميد قال حدثني يحيى بن واضح قال حدثنا فطر عن أبي خالد الوالبي عن جابر بن سمرة قال قال رسول الله بعثت من الساعة كهاتين وجمع بين إصبعيه السبابة والوسطى ". ).
القارىء الساذج يظن أن تتابع الروايات يعنى أنها صادقة فى مضمونها مع إختلافات بسيطة فيها. وهو لا يسأل نفسه عن أولئك الرواة الذين عاشوا بعد موت النبى بقرنين وأكثر : أليس وجودهم على قيد الحياة يعتبر تكذيبا لتلك الروايات التى يقولونها .
والقارىء الذى يؤمن بهذه الروايات يكفر بالقرآن لأنه لا يكتفى بالقرآن الكريم وحده حديثا ـ و تجعله هذه الأحاديث يؤمن بأن النبى كان يعلم الغيب وأنه كان يتكلم عن الساعة . المؤمن بالقرآن وحده يتأكد له أن النبى لم يكن يعلم الغيب وأنه سئل كثيرا عن الساعة وأن الله جل وعلا أكّد أن النبى ليس له أن يعلم الغيب ولا غيب الساعة . بالتالى فلا يجتمع فى قلب إنسان الايمان بالقرآن والايمان بتلك الأحاديث ، وهما متناقضان .
ثالثا :خطبتان فى حادث الإفك
1 ـ وتكاثرت الروايات عن حادثة الإفك ، وتجعل السيدة عائشة هى المتهمة فيها وأن آيات سورة النور كانت عن هذا . وقد نفينا هذا فى كتابنا ( القرآن وكفى مصدرا للتشريع ) . وننقل منه :
( الافتراء على عائشة في حديث الإفك:
إذا ذكرت حديث الإفك انصرف ذهن السامع إلى اتهام عائشة بالزنا ونزل براءتها من السماء تأسيساً على ما جاء في سورة النور من آيات تتحدث عن موضوع "الإفك". وإذا حاول باحث أن يتفهم الآيات وأن يناقش روايات التراث عن موضوع حديث الإفك تناولته الاتهامات كما لو أن أسطورة تخلف عائشة عن ركب النبي واتهامها أصبحت من المعلوم من الدين بالضرورة.
وملخص الأسطورة التي ذكرها البخاري (الجزء الخامس ص 148، الجزء السادس ص 127) أن النبي كان إذا أراد سفر اقرع بين نسائه فأيهن خرج سهمها خرج بها الرسول معه.وفى غزوة بنى المصطلق كانت القرعة من نصيب عائشة، وأثناء رجوع الجيش افتقدت عائشة قرطها فنزلت تبحث عنه وانطلق الجيش وهم يظنونها داخل الهودج.. ورجعت عائشة فوجدت الجيش قد انطلق فنامت مكانها إلى أن جاء صفوان بن المعطل السلمى فحلمها على جمله وأتى بها إلى المدينة، فاتهمها المنافقون به وغضب منها الرسول إلى أن نزلت فيها آيات سورة النور تعلن براءتها (النور 11: 26) ، ومع ذلك فلا يزال حديث الإفك وصمة تطارد عائشة وتنسج الخيالات المريضة حولها أساطير وروايات ، ووجد فيه بعض المستشرقين مجالاً للطعن في شرف عائشة وفى اتهام النبي بأنه اختلق الآيات ليبرئها، وهذه إحدى أفضال البخاري والمصدر الثاني علينا وعلى ديننا الحنيف..!!
إن حقيقة الأمر أن عائشة "أم المؤمنين وأمنا نحن إذا كنا مؤمنين" لا علاقة لها مطلقاً بحديث الإفك المذكور في سورة النور. وأساس هذا الافتراء على عائشة يبدأ بأكذوبة "أن النبي كان إذا خرج لغزوة أقرع بين نسائه واصطحب إحداهن.." والقرآن الكريم ينفى أن النبي كان يصطحب معه نساءه في غزواته، فالله تعالى يقول للنبي عنه خروجه لغزوة بدر - أولى الغزوات - ﴿ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ..﴾ (الأنفال 5) والبيت يعنى الزوجة ، وفى توضيح أكثر يقول تعالى عن نفس الغزوة ﴿ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ...﴾ (آل عمران 121) أي خرج النبي عن أهله ، والأهل هم الزوجة والزوجات - لكى يصفّ المؤمنين للقتال. إذن لم يكن معه واحدة من نسائه منذ أول غزوة غزاها..
وفى غزوة الأحزاب في العام الخامس من الهجرة ، نزلت سورة الأحزاب وفيها الأمر بالحجاب لنساء النبي والأمر حاسم لهن بأن يمكـثـن في البيت ولا يخرجن منه ﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ﴾ (الأحزاب 33) فكيف يأمرهن الله بالبقاء في البيت ويأتي النبي فيصطحـبهن في غزوة بنى المصطلق فيما بعد؟.
لقد كان ترك النساء في المدينة بعيداً عن الغزوات عادة إسلامية حرص عليها النبي والمسلمون بحيث لم يكن يتخلف عن الغزو إلا النساء والأطفال والشيوخ غير القادرين. وحين تخلف المنافقون عن الخروج مع النبي في احدى معاركه الدفاعية نزل القرآن يعيّرهم ويسخر منهم بأنهم رضوا بأن يتخلفوا مع النساء والصبيان ﴿ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ..﴾ (التوبة 87، 93) فهل من المعقول أن يصطحب النبي زوجاته معه عرضة لخطر الحرب بينما تبقى بقية النساء آمنات في المدينة؟.
ولكن عن ماذا تتحدث سورة النور ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ...﴾؟
إن سورة النور من أوائل ما نزل في المدينة ، لذا جاءت بتشريعات اجتماعية جديدة لصيانة المجتمع الإسلامي الجديد في أوائل استقراره بالمدينة، ولنا أن نتصور المدينة في أول العهد بها حين جاءها المهاجرون والمهاجرات ليعيشوا بين الأوس والخزرج وفيهم الأنصار المؤمنون وفيهم ضعاف الإيمان والمنافقون وحولهم اليهود . والمهاجرون والمهاجرات بين أنصاري يؤثرهم على نفسه ولو كان به خصاصة وبين منافق يستثقل وجودهم وينتظر الفرصة ليصطاد في الماء العكر وسط ذلك الخليط البشرى الذى تكدس لأول مرة في مكان واحد ، ولا ريب أن المهاجرين كانوا في حاجة للعـون بعد أن تركوا أموالهم وديارهم وجاءوا إلى المدينة لا يملكون شيئاً إلا الإيمان وحب الإسلام. ولا ريب أن بعض المهاجرات كان حالهن أشد بؤساً فقد تركن أزواجهن المشركين فراراً بدينهن، ولا ريب أيضاً أنهن كن يتلقين مساعدات من بعض مؤمني الأنصار الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.. ولا ريب أن المنافقين وجدوا فرصتهم في تشويه ذلك العمل النبيل بإشاعة قصص كاذبة عن علاقات آثمة بين أولئك المؤمنين والمؤمنات من المهاجرات والأنصار..
إن هذا التصور لفهم آيات سورة النور عن موضوع الإفك يستند إلى فهم حقيقي للظروف التاريخية الواقعية للسنوات الأولى لاستقرار المجتمع المسلم في المدينة حيث تم التآخي بين المهاجرين والأنصار ونزلت سورة النور بتشريعات اجتماعية تنظم السلوكيات داخل هذا المجتمع ، وكان ذلك قبل غزوة بنى المصطلق بعدة سنوات ، فليس ما جاء في هذه السورة أدنى علاقة بتلك الأسطورة التي حاكها البخاري وكتب الحديث عن عائشة ومسيرتها المزعومة مع النبي في الجيش.
ويؤكد ذلك أن آيات سورة النور تتحدث عن اتهام جماعة من أهل المدينة لجماعة من المؤمنين الأبرياء، تتحدث عن جماعة ظالمة اتهمت جماعة بريئة ، تتحدث عن مجموعة ولا تتحدث عن ضحية واحدة وإنما عن مجموعة من الضحايا البريئات . سورة النور لا تتحدث عن أم المؤمنين عائشة ، ولو كان لها علاقة بحديث الإفك لنزل ذلك في القرآن صراحة، فقد عهدنا القرآن أكثر اهتماماً بكل ما يخص بيت النبي وأمهات المؤمنين . فقد تحدث عن أمهات المؤمنين وبيت النبي في سورة الأحزاب وفى سورة التحريم وخاطبهن مباشرة في أمور أقل خطراً من ذلك الاتهام المزعوم لعائشة . ولكن القرآن في سورة النور لا يشير مطلقاً إلى عائشة أو أي واحدة من نساء النبي وإنما يتحدث عن عموم المؤمنين في حادث إفك اهتزت له المدينة في أول العهد بها وقد تكدس فيها المهاجرون والأنصار لأول مرة.. ولنراجع معاً آيات سورة النور..
تبدأ السورة بتقرير عقوبة الزنا (وهى الجلد لا الرجم)، ثم عقوبة رمى المحصنات ثم قضية التلاعـن بين الزوج وزوجته، ثم تدخل السورة على حديث الإفك بتقرير نفهم منه شيئين: 1ـ أن عقوبات الزنا وقذف المحصنات له علاقة مباشرة بالحديث التالي عن الاشاعات التي راجت في المدينة وقتها . 2ـ أن حديث الافك ليس خاصا بإحدى نساء النبي وانما هو أمر اشترك فيه جماعة من المؤمنين اتهموا جماعة اخرى من المؤمنين اثما وعدوانا . وهذا لا يجوز في اخلاقيات المجتمع المسلم الذى ينزل عليه الوحى القرآني. في ذلك يقول الله تعالى يخاطب المؤمنين جميعا في المدينة: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ فالخطاب هنا عام للمؤمنين جميعاً ، فليس ذلك الحديث الإفك شراً للمؤمنين بل هو خير لهم لأنه بسببه أنزل الله في السورة التشريعات التي تنظم الحياة الاجتماعية للمسلمين حتى لا يتكرر المجال للتقولات والإشاعات.
ثم تقول الآية التالية تتحدث عن عموم المؤمنين أيضاً ﴿ لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ﴾ إذن هي تهمة عامة تمس مجتمع المسلمين جميعاً وكان ينبغي عليهم أن يرفضوها وأن يظنوا بأنفسهم خيراً، وتمضى الآيات على نفس الوتيرة تخاطب جموع المسلمين لأن المظلومين جماعة والذين ظلموهم جماعة أخرى ، وقد تداول المسلمون أقوال الظلمة بدون تروٍ أو تدبر، تقول الآيات ﴿ لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ يَعِظُكُمْ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾.
ولأن المظلومين مجموعة والظلمة أيضاً مجموعة تقول الآية التالية ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ﴾ فالمنافقون أرادوا بتوزيعهم التهم على مجموعات المؤمنين أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وقد وصفهم الله تعالى بأنهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف (التوبة 67) وتوعدهم بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة.وينهاهم رب العزة عن اتباع خطوات الشيطان، ثم تلتفت الآية لبعض المحسنين الذين توقفوا عن الصدقة مخافة أن تلوكهم الألسنة ﴿ وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا..﴾.ولأن المظلومين جماعة من المسلمات العفيفات فإن الله توعد الظلمة بعذاب شديد ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾.
ونتوقف مع كلمة "المحصنات الغافلات" فهي الموضع الوحيد في القرآن الذى أتت فيه صفة الغفلة بمعنى السذاجة وطيبة النية، وما عداه فإن صفة الغفلة تلحق بالذي يعرض عن الحق ويلهو عنه ، ووصف المحصنات البريئات بالغفلة دليل على أنهن كن يتصرفن بالسجية والفطرة النقية في التعامل مع الناس ، ولو كان مجتمع المدينة خالياً من المنافقين والذين في قلوبهم مرض ما لحقت بهن الشبهات والاتهامات. والله تعالى دافع عن هؤلاء المحصنات الغافلات المؤمنات ولعن من اتهمهن في شرفهن . ثم يقول تعالى ﴿ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ إذن جاءت البراءة من الوقوع في الإثم الخبيث لأولئك الطيبات وأولئك الطيبون ولأنهم جماعة قال عنهم ربنا تعالى ﴿ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾.ثم أتت الآيات التالية تتحدث عن تشريع الاستئذان حتى لا يتكرر دخول بعض الناس بلا إذن كما كان مألوفاً في الجزيرة العربية ، وحتى لا يكون هناك مجال للشبهات والأقاويل ، ثم توالت التشريعات الاجتماعية في الزى والنكاح.. وذلك هو الخير الذى قالت عنه الآية الأولى في موضوع الإفك ﴿ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾.)
2 ـ وفى هذه الأكذوبة الكبرى عن حادث الإفك نسبوا للنبى أنه خطب مرتين . نقتطف من الروايات ما نسبوه لعائشة ( .. وقد قام رسول الله في الناس يخطبهم ولا أعلم بذلك ، ثم قال : " أيها الناس ما بال رجاله يؤذونني في أهلي ويقولون عليهن غير الحق والله ما علمت منهن إلا خيرا ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت منه إلا خيرا وما دخل بيتا من بيوتي إلا وهو معي. " ) ، ويفترى الراوى أن النبى بعد نزول براءتها فى سورة النور ( .. خرج الى الناس فخطبهم وتلا عليهم ما أنزل الله عز وجل من القرآن في ثم أمر بمسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش وكانوا ممن أفصح بالفاحشة فضربوا حدهم. ) .
3 ـ المشكلة الحقيقية أن المحمديين يؤمنون بهذا الإفك ( إتهام عائشة ) ، ويجعلونه معلوما لديهم بالضرورة .
الفصل الثانى : الخطبة الدينية فى عصر " الخلفاء الراشدين" :
( خطبة ابى بكر فى بيعة السقيفة ) .
أولا
1 ـ مصطلح الخلفاء الراشدين نبت فى العصر العباسى الثانى للتفرقة بين الخلفاء الأربعة الأوائل الذين جاءوا من أفرع مختلفة من قريش وبين الأسر الحاكمة القرشية التى توارثت الحكم ، كالأمويين والعباسيين .
2 ـ وصفوا الحكم الأموى بأنه ( المُلك العضوض )، أى القائم على القوة والغلبة ، كما لو أن حكم من أسموهم بالراشدين خلا من القوة والغلبة . الثابت تاريخيا أن قبيلة قريش بسطوتها قامت بتهميش الأنصار ، وتم نفى ثم قتل زعيمهم سعد بن عبادة الذى لم يعترف بخلافة أبى بكر ثم بخلافة عمر . وأصبح الأمر عجبا فمن اسلم بالأمس من قريش أصبحوا فى موقع الصدارة فى خلافة الراشدين ، وانتهى الأمر بوصول الحكم الى الأمويين قادة الحرب ضد النبى محمد عليه السلام .
3 ـ الأهم هو تقويض النظام الشورى الاسلامى ( الديمقراطية المباشرة ) وتحولها الى إستبداد خليفة قد يتشاور مع دائرة ضيقة ، ثم ولادة مصطلح ( الراعى والرعية ) و ( أهل الحل والعقد ) ، وبهذا تم عقد الصلح بين نظام الخلافة القرشية ونظم الاستبداد فى القرون الوسطى . وظل تعبير( أهل الحل والعقد ) مجرد مصطلح فقهى نظرى ، إذ أصبح الخليفة يستنكف فى العصر العباسى الثانى من المشورة ، وهو العصر الذى شهد تقعيد الفقه كما شهد ولادة وسيطرة الأديان الأرضية للمسلمين ، وشهد أيضا تحكم الجوارى فى الخليفة ودولته ، وقد تكون محظيته أو تكون والدته . وابتعد الفقهاء وصناع الأحاديث عن نقد هذا ، وتفرغ بعضهم لتقنينه فى أحاديث .
4 ـ فى هذا العصر بدأ التأريخ للخلفاء الذين أطلقوا عليهم لقب ( الراشدين ) بعد موتهم بقرنين وأكثر ، وحاولوا تجميل صورتهم بوصف إحتلالهم لأوطان الآخرين بأنه فتح (إسلامى ) وتبع هذا تشريع للسبى والسلب والنهب . وتحولت حروبهم الأهلية فى خلافة (على ) الى مجرد ( الفتنة الكبرى ) . وواكبتها أحاديث تنهى وتحرّم نقد هذه الفتنة الكبرى ونقد ( الصحابة ) بل جعلهم معصومين من الخطأ ، وصعدوا بإسناد الأحاديث التى إخترعوها الى أولئك الصحابة . مع إغفال حقيقتين : أن كل شخصيات أولئك الصحابة هى صناعة تاريخية . قد يكون هناك فعلا أبوبكر وعمر وعثمان وعلى وعائشة ..الخ .. ولكن المكتوب عنهم هو صناعة تاريخية ، ومهمة الباحث التاريخى توضيح الخطأ والصواب فى هذه الصناعة . كما أن صناعة الأحاديث إستلزمت فى العصر العباسى الثانى صناعة أسماء لصحابة ربما لا أصل لهم ، رووا على ألسنتهم ملايين الأحاديث .
5 ـ عصر ( الراشدين ) لم يشهد تدوينا ، وإنشغل فيها أهله بالفتوحات ثم بالحروب الأهلية ، وكانوا يحملون سوى السلاح دون القلم . وحتى لو كان معهم قلم فلم يتيسر لهم الوقت لهذا القلم . بدأت الروايات فى العصر الأموى بالموالى والقصاصين ، وكان (القصص ) وظيفة رسمية فى الدولة الأموية تماثل وزارة الاعلام ، كما كانت وظيفة للهواة . وبدأ تدوين ما يقال على إستحياء ، ثم توسع التدوين مع الاستقرار فى العصر العباسى وسطوة الموالى ، وهم أهل حضارة . وقد فصلنا هذا فى بحث عن التدوين منشور هنا .
6 ـ مات النبي عليه السلام دون أن يحدد حاكما ، وهذا وفق نظام الشورى الذى يجعل الأمة تحكم نفسها بنفسها ، وفق نظام شرحناه هنا فى بحث الشورى الاسلامية . بموته عليه السلام تقدمت الصفوف قريش لتحكم ، وجاء فى الروايات التاريخية ذلك جدل حول الخلافة فى سقيفة بني ساعدة بين المهاجرين والانصار اسفر عن بيعة ابي بكر الصديق ، وتمثل هذا الجدل في خطب قالها ابو بكر ورد عليه فيها زعيم الانصار سعد بن عبادة . ثم حين تولي ابو بكر الخلافة القي خطبته ، التي صارت تقليدا . بأن يلقي الخليفة خطبة . وقد جاء في خطبة ابي بكر المشهورة قوله (أَمّا بَعْدُ أَيّهَا النّاسُ فَإِنّي قَدْ وُلّيت عَلَيْكُمْ وَلَسْت بِخَيْرِكُمْ فَإِنْ أَحْسَنْت فَأَعِينُونِي؛ وَإِنْ أَسَأْت فَقَوّمُونِي؛ الصّدْقُ أَمَانَةٌ وَالْكَذِبُ خِيَانَةٌ وَالضّعِيفُ فِيكُمْ قَوِيّ عِنْدِي حَتّى أُرِيحَ عَلَيْهِ حَقّهُ إنْ شَاءَ اللّهُ وَالْقَوِيّ فِيكُمْ ضَعِيفٌ عِنْدِي حَتّى آخُذَ الْحَقّ مِنْهُ.. ) وهذا كلام رائع بلا شك . ولكنه يخالف ما سار عليه ابو بكر من تهميش للأنصار ومن المبادرة بالفتوحات فى الشهر الحرام ، منتهكا حُرمة الأشهر الحرم . واستمرت الفتوحات هادرة لا تعترف بحرمة الشهر الحرم ، ولا تعترف بحُرمة قتل الأنفس وحرمة السلب والنهب والسبى والاسترقاق . لو صح أن أبا بكر قال هذا الكلام فى خطبته الأولى حين تولى الخلافة فهو رائد فى النفاق والتلاعب بالكلمات . ولكن على سنته سار اللاحقون من الخلفاء المستبدين .
7 ـ عموما يمكن تقسيم عصر الخلفاء الراشدين الي فترتين : الاولي : فترة الفتوحات بعد اخماد حركة الردة وتمتد من بداية خلافة ابي بكر الي منتصف عهد عثمان تقريبا ، وفيها كانت الخطب مصاحبة لحركة القتال ،اما في المدينة لاستنفار الناس للغزو ، واما في ساحة المعارك لتحميس القبائل علي الاستماتة في القتال والفترة الثانية : هي فترة الفتنة الكبري ، التي بدأت بانتهاء المرحلة الاولي من الفتوحات وخلاف المسلمين حول الغنائم وانتقاد سياسة عثمان في توزيعها ، ثم تحول الانتقاد الي ثورة ومقتل عثمان وتولية الثوار لعلي ، وخروج السيدة عائشة والزبير بن العوام وطلحة بن عبد الله علي علي ، وحدوث موقعة الجمل ، وعصيان معاوية والحرب بينه وبين علي في موقعة صفين و اللجوء الي التحكيم وفشل التحكيم وخروج الخوراج علي ( علي )، ومقتله .. ثم في النهاية اقامة معاوية خليفة ، في هذه الفترة الثانية صحبت الخطب مراحل الخلافات بين المسلمين ، واشهرها اخر خطبة لعثمان وهو محاصر في بيته قبل ان يقتله الثوار ، ثم الخطب المشهورة لعلي بن ابي طالب في اصحابه وانتقاده الشديد لهم ، وقد تم جمعها في كتاب ( نهج البلاغة ) اذ كانت تلك الخطبة آيه في البلاغة العربية ، و كالعادة فان هذه الخطب تؤرخ للاحداث التي قيلت فيها وتعبر عنها .ومن العجيب ان اول خطبة لعثمان واخر خطبة له كانت مجرد مواعظ في عدم الاغترار بالدنيا و في ايثار الاخرة عليها . وهذه المواعظ تتناقض مع شهرته بالفساد والذى أدى الى الثورة عليه وحصاره ومقتله فى داره .
ونستشهد ببعض الروايات المصنوعة فى أزمنة مختلفة:
ثانيا : رواية ابن اسحاق والتى نقلها ابن هشام فى السيرة :
1 ـ ( .. إنّهُ كَانَ مِنْ خَبَرِنَا حِينَ تَوَفّى اللّهُ نَبِيّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ الْأَنْصَارَ خَالَفُونَا، فَاجْتَمَعُوا بِأَشْرَافِهِمْ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ، وَتَخَلّفَ عَنّا عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالزّبِيرُ بْنُ الْعَوّامِ وَمَنْ مَعَهُمَا، وَاجْتَمَعَ الْمُهَاجِرُونَ إلَى أَبِي بَكْرٍ فَقُلْت لِأَبِي بَكْرٍ انْطَلِقْ بِنَا إلَى إخْوَانِنَا هَؤُلَاءِ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَانْطَلَقْنَا نَؤُمّهُمْ حَتّى لَقِيَنَا مِنْهُمْ رَجُلَانِ صَالِحَانِ فَذَكَرَا لَنَا مَا تَمَالَأَ عَلَيْهِ الْقَوْمُ وَقَالَ أَيْنَ قُلْنَا: نُرِيدُ إخْوَانَنَا هَؤُلَاءِ مِنْ الْأَنْصَارِ، قَالَا: فَلَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَقْرَبُوهُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ اقْضُوا أَمْرَكُمْ. قَالَ قُلْت: وَاَللّهِ لَنَأْتِيَهُمْ. فَانْطَلَقْنَا حَتّى أَتَيْنَاهُمْ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ، فَإِذَا بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ رَجُلٌ مُزَمّلٌ فَقُلْت: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فَقُلْت: مَا لَهُ؟ فَقَالُوا: وَجِعَ. فَلَمّا جَلَسْنَا تَشَهّدَ خَطِيبُهُمْ فَأَثْنَى عَلَى اللّهِ بِمَا هُوَ لَهُ أَهْلٌ ثُمّ قَالَ أَمّا بَعْدُ فَنَحْنُ أَنْصَارُ اللّهِ وَكَتِيبَةُ الْإِسْلَامِ وَأَنْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ رَهْطٌ مِنّا، وَقَدْ دَفّتْ دَافّةٌ مِنْ قَوْمِكُمْ قَالَ وَإِذَا هُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَحْتَازُونَا مِنْ أَصْلِنَا، وَيَغْصِبُونَا الْأَمْرَ فَلَمّا سَكَتَ أَرَدْت أَنْ أَتَكَلّمَ وَقَدْ زَوّرَتْ فِي نَفْسِي مَقَالَةٌ قَدْ أَعْجَبَتْنِي، أُرِيدُ أَنْ أُقَدّمَهَا بَيْنَ يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ وَكُنْت أَدَارِي مِنْهُ بَعْضَ الْحَدّ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى رِسْلِك يَا عُمَرَ فَكَرِهْت أَنْ أُغْضِبَهُ فَتَكَلّمَ وَهُوَ كَانَ أَعْلَمَ مِنّي وَأَوْقَرَ فَوَاَللّهِ مَا تَرَك مِنْ كَلِمَةٍ أَعْجَبَتْنِي مِنْ تَزْوِيرِي إلّا قَالَهَا فِي بَدِيهَتِهِ أَوْ مِثْلَهَا أَوْ أَفْضَلَ حَتّى سَكَتَ قَالَ أَمّا مَا ذَكَرْتُمْ فِيكُمْ مِنْ خَيْرٍ فَأَنْتُمْ لَهُ أَهْلٌ وَلَنْ تَعْرِفَ الْعَرَبُ هَذَا الْأَمْرَ إلّا لِهَذَا الْحَيّ مِنْ قُرَيْشٍ، هُمْ أَوْسَطُ الْعَرَبِ نَسَبًا وَدَارًا، وَقَدْ رَضِيتُ لَكُمْ أَحَدَ هَذَيْنِ الرّجُلَيْنِ فَبَايِعُوا أَيّهمَا شِئْتُمْ وَأَخَذَ بِيَدَيْ وَبِيَدِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرّاحِ وَهُوَ جَالِسٌ بَيْنَنَا، وَلَمْ أَكْرَهْ شَيْئًا مِمّا قَالَهُ غَيْرُهَا، كَانَ وَاَللّهِ أَنْ أُقَدّمَ فَتُضْرَبُ عُنُقِي، لَا يُقَرّبُنِي ذَلِكَ إلَى إثْمٍ أَحَبّ إلَيّ مِنْ أَنْ أَتَأَمّرَ عَلَى قَوْمٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ. قَالَ قَائِلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ: أَنَا جُذَيْلُهَا الْمُحَكّكُ وَعُذَيْقُهَا قُرَيْشٍ. قَالَ فَكَثُرَ اللّغَطُ وَارْتَفَعَتْ الْأَصْوَاتُ حَتّى تَخَوّفْت الِاخْتِلَافَ فَقُلْت: اُبْسُطْ يَدَك يَا أَبَا بَكْرٍ فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعْته، ثُمّ بَايَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ، ثُمّ بَايَعَهُ الْأَنْصَارُ، وَنَزَوْنَا عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ قَتَلْتُمْ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ. قَالَ فَقُلْت: قَتَلَ اللّهُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَة )َ.
خُطْبَةُ عُمَرَ قَبْلَ أَبِي بَكْرٍ عِنْدَ الْبَيْعَةِ الْعَامّةِ :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي الزّهْرِيّ، قَالَ حَدّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ لَمّا بُويِعَ أَبُو بَكْر ٍ فِي السّقِيفَةِ وَكَانَ الْغَدُ جَلَسَ أَبُو بَكْر ٍ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَامَ عُمَرُ فَتَكَلّمَ قَبْلَ أَبِي بَكْرٍ فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمّ قَالَ أَيّهَا النّاسُ إنّي كُنْت قُلْت لَكُمْ بِالْأَمْسِ مَقَالَةً مَا كَانَتْ مِمّا وَجَدْتهَا فِي كِتَابِ اللّهِ وَلَا كَانَتْ عَهْدًا عَهِدَ إلَيّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَكِنّي قَدْ كُنْت أَرَى أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَيُدَبّرُ أَمَرْنَا؛ يَقُولُ يَكُونُ آخِرُنَا وَإِنّ اللّهَ قَدْ أَبْقَى فِيكُمْ كِتَابَهُ الّذِي بِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَإِنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ هَدَاكُمْ اللّهُ لِمَا كَانَ هَدَاهُ لَهُ وَإِنّ اللّهَ قَدْ جَمَعَ أَمْرَكُمْ عَلَى خَيْرِكُمْ صَاحِبِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثَانِي اثْنَيْنِ إذْ هُمَا فِي الْغَارِ فَقُومُوا فَبَايِعُوهُ فَبَايَعَ النّاسُ أَبَا بَكْرٍ بَيْعَةَ الْعَامّةِ بَعْدَ بَيْعَةِ السّقِيفَة.
.خُطْبَةُ أَبِي بَكْرٍ :
فَتَكَلّمَ أَبُو بَكْر ٍ فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِاَلّذِي هُوَ أَهْلُهُ ثُمّ قَالَ : ( أَمّا بَعْدُ أَيّهَا النّاسُ فَإِنّي قَدْ وُلّيت عَلَيْكُمْ وَلَسْت بِخَيْرِكُمْ فَإِنْ أَحْسَنْت فَأَعِينُونِي؛ وَإِنْ أَسَأْت فَقَوّمُونِي؛ الصّدْقُ أَمَانَةٌ وَالْكَذِبُ خِيَانَةٌ وَالضّعِيفُ فِيكُمْ قَوِيّ عِنْدِي حَتّى أُرِيحَ عَلَيْهِ حَقّهُ إنْ شَاءَ اللّهُ وَالْقَوِيّ فِيكُمْ ضَعِيفٌ عِنْدِي حَتّى آخُذَ الْحَقّ مِنْهُ إنْ شَاءَ اللّهُ لَا يَدَعُ قَوْمٌ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللّهِ إلّا ضَرَبَهُمْ اللّهُ بِالذّلّ وَلَا تَشِيعُ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطّ إلّا عَمّهُمْ اللّهُ بِالْبَلَاءِ أَطِيعُونِي مَا أَطَعْت اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِذَا عَصَيْتُ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ. قُومُوا إلَى صَلَاتِكُمْ يَرْحَمُكُمْ اللّهُ . )
ثانيا : روايات مختلفة كتبها الطبرى
1 ـ( ... فاجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ليبايعوا سعد بن عبادة فبلغ ذلك أبا بكر فأتاهم ومعه عمر وأبو عبيدة بن الجراح فقال ما هذا فقالوا منا أمير ومنكم أمير فقال أبو بكر منا الأمراء ومنكم الوزراء ثم قال أبو بكر إني قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين عمر أو أبا عبيدة إن النبي جاءه قوم فقالوا ابعث معنا أمينا فقال لأبعثن معكم أمينا حق أمين فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح وأنا أرضى لكم أبا عبيدة فقام عمر فقال أيكم تطيب نفسه أن يخلف قدمين قدمهما النبي فبايعه عمر وبايعه الناس فقالت الأنصار أو بعض الأنصار لا نبايع إلا عليا حدثنا ابن حميد قال حدثنا جرير عن مغيرة عن زياد بن كليب قال أتى عمر بن الخطاب منزل علي وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين فقال والله لأحرقن عليكم أو لتخرجن إلى البيعة فخرج عليه الزبير مصلتا السيف فعثر فسقط السيف من يده فوثبوا عليه فأخذوه .. ) .
2 ـ ( .. إذ جاء رجل يسعى فقال هاتيك الأنصار قد اجتمعت في ظلة بني ساعدة يبايعون رجلا منهم يقولون منا أمير ومن قريش أمير قال فانطلق أبو بكر وعمر يتقاودان حتى أتياهم فأراد عمر أن يتكلم فنهاه أبو بكر فقال لا أعصي خليفة النبي في يوم مرتين قال فتكلم أبو بكر فلم يترك شيئا نزل في الأنصار ولا ذكره رسول الله من شأنهم إلا وذكره وقال ولقد علمتم أن رسول الله قال لو سلك الناس واديا وسلكت الأنصار واديا سلكت وادي الأنصار ولقد علمت يا سعد أن رسول الله قال وأنت قاعد قريش ولاة هذا الأمر فبر الناس تبع لبرهم وفاجرهم تبع لفاجرهم قال فقال سعد صدقت فنحن الوزراء وأنتم الأمراء قال فقال عمر ابسط يدك يا أبا بكر فلأبايعك فقال أبو بكر بل أنت يا عمر فأنت أقوى لها مني قال وكان عمر أشد الرجلين قال وكان كل واحد منهما يريد صاحبه يفتح يده يضرب عليها ففتح عمر يد أبي بكر وقال إن لك قوتي مع قوتك قال فبايع الناس واستثبتوا للبيعة وتخلف علي والزبير واخترط الزبير سيفه وقال لا أغمده حتى يبايع علي فبلغ ذلك أبا بكر وعمر فقال عمر خذوا سيف الزبير فاضربوا به الحجر قال فانطلق إليهم عمر فجاء بهما تعبا وقال لتبايعان وأنتما طائعان أو لتبايعان وأنتما كارهان فبايعا .)
3 ـ ( وإنه كان من خبرنا حين توفى الله نبيه أن عليا والزبير ومن معهما تخلفوا عنا في بيت فاطمة وتخلفت عنا الأنصار بأسرها واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر فقلت لأبي بكر انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار فانطلقنا نؤمهم فلقينا رجلان صالحان قد شهدا بدرا فقالا أين تريدون يا معشر المهاجرين فقلنا نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار قالا فارجعوا فاقضوا أمركم بينكم فقلنا والله لنأتينهم قال فأتيناهم وهم مجتمعون في سقيفة بني ساعدة قال وإذا بين أظهرهم رجل مزمل قال قلت من هذا قالوا سعد بن عبادة فقلت ما شأنه قالوا وجع فقام رجل منهم فحمد الله وقال أما بعد فنحن الأنصار وكتيبة الإسلام وأنتم يا معشر قريش رهط نبينا وقد دفت إلينا من قومكم دافة قال فلما رأيتهم يريدون أن يختزلونا من أصلنا ويغصبونا الأمر وقد كنت زورت في نفسي مقالة أقدمها بين يدي أبي بكر وقد كنت أداري منه بعض الحد وكان هو أوقر مني وأحلم فلما أردت أن أتكلم قال علىرسلك فكرهت أن أعصيه فقام فحمد الله وأثنى عليه فما ترك شيئا كنت زورت في نفسي أن أتكلم به لو تكلمت إلا قد جاء به أو بأحسن منه وقال أما بعد يا معشر الأنصار فإنكم لا تذكرون منكم فضلا إلا وأنتم له أهل وإن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش وهم أوسط العرب دارا ونسبا ولكن قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح وإني والله ما كرهت من كلامه شيئا غير هذه الكلمة إن كنت لأقدم فتضرب عنقي فيما لا يقربني إلى إثم أحب إلي من أن أؤمر على قوم فيهم أبو بكر فلما قضى أبو بكر كلامه قام منهم رجل فقال أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش قال فارتفعت الأصوات وكثر اللغط فلما أشفقت الاختلاف قلت لأبي بكر بكر ابسط يدك أبايعك فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون وبايعه الأنصار ثم نزونا على سعد حتى قال قائلهم قتلتم سعد بن عبادة فقلت قتل الله سعدا وإنا والله ما وجدنا أمرا هو أقوى من مبايعة أبي بكر خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة فإما أن نتابعهم على ما نرضى أو نخالفهم فيكون فساد حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة بن الزبير قال إن أحد الرجلين اللذين لقو من الأنصار حين ذهبوا إلى السقيفة عويم بن ساعدة والآخر معن بن عدي أخو بني العجلان فأما عويم بن ساعدة فهو الذي بلغنا أنه قيل لرسول الله من الذين قال الله لهم فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين فقال رسول الله نعم المرء منهم عويم بن ساعدة
ثالثا : روايات ابن الجوزى فى المنتظم
1 ـ عاش فى القرن السادس ونقل عن الطبرى وصنع لرواياته إسنادا .
وجاء بروايات جديدة منها : ( بايع أبا بكر المهاجرون والأنصار كلهم غير سعد بن عبادة.أخبرنا محمد بن الحسين وإسماعيل بن أحمد أخبرنا ابن النقور أخبرنا ابن المخلص أخبرنا أحمد بن عبد الله بن سيف حدَثنا السرير بن يحيى حدَثنا شعيب بن إبراهيم حدَّثنا سيف بن عمر عن ميسر عن جابر قال: قال سعد بن عبادة يومئذ لأبي بكر: إنكم يا معشر المهاجرين حسدتموني على الإمارة وإنك وقوميِ أجبرتموني على البيعة فقال: أما لو أجبرناك على الفرقة فصرت إلى الجماعة كنت في سعة ولكنا أجبرناك على الجماعة فلا إقالة لها لأن نزعت يدًا من طاعة أو فرقت جماعة لأضربن الذي فيه عيناك.) ( روى سيف عن ثابت بن معاذ الزيات عن الزهري عن يزيد بن معن السلمي قال: قدم سعد بن عبادة يوم السقيفة فبايع فقال له أبو بكر: لئن اجتمع إليك مثلها رجلان لأقتلنك.)
( بايع أبا بكر المهاجرون والأنصار كلهم غير سعد بن عبادة لأن الأنصار كانت قد أرادت أن تجعل البيعة له فقال له عمر: لا تدعه حتى يبايع . فقال له بشير بن سعد أبو النعمان وكان أول من صفق على يدي أبي بكر: إنه قد لج وليس بمبايعكم أو يقتل وليس بمقتول حتى يقتل معه ولده وأهل بيته وطائفة من عشيرته فإن تركه بضاركم إنما هو واحد فقبل أبو بكر نصيحة بشير ومشورته وكف عن سعد فكان سعد لا يصلي بصلاتهم ولا يصوم بصيامهم وإذا حجِ لم يفض بافاضتهمِ فلم يزل كذلك حتى توفي أبو بكر وولي عمر فلم يلبث إلا يسيراَ حتى خرج مجاهداَ إلى الشام فمات بحوران في أول خلافة عمر ولم يبايع أحدًا.)
( أخبرنا محمد بن أبي طاهر قال: أخبرنا الحسن بن علي الجوهري قال: أخبرنا ابن حيوية قال: أخبرنا ابن معروف قال: أخبرنا ابن الفهم قال: حدَّثنا محمد بن سعد قال: أخبرنا عبيد اللّه بن موسى قال: أخبرنا هشام بن عروة قال عبيد اللّه: أظنه عن أبيه قال: لما ولي أبو بكر خطب الناس فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: أما بعد أيها الناس قد وليت أمركم ولست بخيركم ولكن نزل القرآن وسن النبي صلى الله عليه وسلم فَعَلًمَنَا فَعَلِمْنَا اعلموا أن أكيس الكيس التقوى وأن أحمق الحمق الفجور وأن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له بحقه وأن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه الحق أيها الناس إنما أنا متبع ولست بمبتدع فإن أحسنت فأعينوني وإن زغت فقوموني.)
( وأخبرنا وهب بن جرير قال: حدَثنا أبي قال: سمعت الحسن قال: لما بويع أبو بكر قام خطيبًا ولا واللهّ ما خطب خطبته أحد بعد فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإني وليت هذا الأمر وأنا له كاره والله لوددت أن بعضكم كفانيه ألا وإنكم إن كلفتموني أن أعمل فيكم مثل عمل رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم لم أقم به كان رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم عبدًا أكرمه اللهّ بالوحي وعصمه الا وإنما أنا بشر ولستَ بخير من أحدكم فراعوني فإن رأيتموني استقمت فاتبعوني وإذا رأيتموني زغتَ فقوموني.واعلموا أن لي شيطانا يعتريني فإذا رأيتموني غضبت فاجتنبوني لا أوثر في أشعاركم وأبشاركم.).
أخيرا :
1 ـ عجيب أن يكون إختيار حاكم ينفرد بالأمر يخالف الشورى الاسلامية التى أرساها النبى محمد عليه السلام ، ثم تكون الخطب فى بيعة السقيفة دينية .
2 ـ هذه هى البداية فى قيام قريش بحرب الاسلام باسم الاسلام . إذ بعد بيعة أبى بكر شنّ الحاكم الجديد حربا ضد من رفضوا دفع الزكاة له فيما يعرف بحرب الردة ، ثم شنّ حربا عالمية فيما يعرف بالفتوحات ، وكلها باسم الاسلام ومناقضة تماما للإسلام ، وفيها كانت الخطب فى تلك الحروب دينية ، تزعم الانتماء الى الاسلام ، وهى أفظع عداء للإسلام .
3 ـ وسار تاريخ الخلفاء على هذه السُنّة القبيحة ، أن يجعلوا الخطبة دينية سواء فى العصر الأموى فى فتوحاتهم وفى مظالمهم ، وحتى المعارضة للأمويين من الخوارج وبقية الثوار على الأمويين ـ مثل ثورة الفقهاء والقُرّاء بزعامة ابن الأشعث والخطب الحماسية الدينية التى قيلت ضد الأمويين قبيل موقعة دير الجماجم . وتبعهم المحمديون فى العصر العباسى والفاطمى عصر الدولة الدينية والكهنوت الدينى السياسى .
4 ـ بل إنه حين تلاشى الانتماء الدينى السلفى لدى المحمديين وتأسيس دول مستبدة عسكرية وطنية وقومية فإن تأليه عبد الناصر وصدام والقذافى جعل الخطبة تقديسا وعبادة وتأليها لهذا المستبد .
5 ــ أى كلها يدخل فى نطاق الخطبة الدينية ، سواء فى دولة الخلفاء أو فى غيرها ، فالإستبداد يجعل الفرعون المستبد يكرر ــ ضمنيا ــ خطب فرعون موسى لقومه وإستخفافه بهم .
( خُطب (على بن أبى طالب ) تعكس شخصيته )
مقدمة :
1 ـ يقول ابن سعد فى الطبقات الكبرى عن أول خطبة لعمر بن الخطاب : ( أول خطبة خطبها عمر: حمد الله أثنى عليه ثم قال : " أما بعد فقد ابتليت بكم وابتليتم بي وخلفت فيكم بعد صاحبي ، فمن كان بحضرتنا باشرناه بأنفسنا ومهما غاب عنا . ولينا أهل القوة والأمانة. فمن يحسن نزده حسنا ومن يسىء نعاقبه . ويغفر الله لنا ولكم . ) وجاء برواية أخرى تقول : ( كان أول كلام تكلم به عمر حين صعد المنبر أن قال اللهم إني شديد فليني وإني ضعيف فقوني وإني بخيل فسخني . ) اى إجعلنى سخيا . وواضح فى خطبته أنه كان عمليا وحازما .
2 ـ ويذكر ابن سعد أن عثمان عجز عن إلقاء خطبته الأولى ، قال ( أن عثمان لما بويع خرج إلى الناس فخطبهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس إن أول مركب صعب وإن بعد اليوم أياما وإن أعش تأتكم الخطبة على وجهها وما كنا خطباء وسيعلمنا الله . ) إلا إن الطبرى ذكر بعض خطب عثمان ، قال : ( خطب عثمان الناس بعد ما بويع فقال أما بعد فإني قد حملت وقد قبلت ألا وإني متبع ولست بمبتدع...ألا وإن الدنيا خضرة قد شهيت إلى الناس ومال إليها كثير منهم فلا تركنوا إلى الدنيا ولا تثقوا بها فإنها ليست بثقة واعلموا أنها غير تاركة إلا من تركها . ) .وواضح أنها خطبة وعظية .
وذكر الطبرى آخر خطبة خطبها عثمان قال : ( إن الله عز وجل إنما أعطاكم الدنيا لتطلبوا بها الآخرة ولم يعطكموها لتركنوا إليها .إن الدنيا تفنى والآخرة تبقى فلا تبطرنكم الفانية ولا تشغلنكم عن الباقية ، فآثروا ما يبقى على ما يفنى ، فإن الدنيا منقطعة وإن المصير إلى الله . اتقوا الله جل وعز فإن تقواه جنة من بأسه ووسيلة عنده ... ) . عثمان كان فاسدا منافقا ، يعظ بما لا يفعل . وكان له يوم مقتله ثلاثون الف الف درهم وخمسمائة الف درهم ومائة الف دينار ، وقد نهبها الثوار الذين قتلوه ، بالاضافة الي ما قيمته مائتا الف دينار من الاصول .
3 ـ على أن أفصح الخطباء وأكثرهم فى الخطابة فى هذا العصر كان (عليا بن أبى طالب ) . وقد جمعت خطبه فى ( نهج البلاغة ) ، منها ما نتشكك فيه ، ومنها ما نراه صحيحا فى نسبتها اليه . ومن خطبه يمكن رسم شخصيته .
شخصية على بن أبى طالب من تحليل بعض خطبه :
عابد للدنيا مقاتل فى سبيلها :
1 ـ برزت قريش بعد موت النبى لتحول الاسلام الى تجارة ، وفى صراع على السلطة ومن يتولى الخلافة تعصبت قريش ضد (على بن ابى طالب ) الأقرب للنبى محمد ، لأن عليا لو تولى الخلافة فلن تخرج من عقبه . حقد ( على ) على قومه لإعتقاده أنه الأولى بالخلافة من أبى بكر ومن جاء بعده ـ زاده حقده أنه بعد مقتل غريمه عثمان وتعيين (على ) خليفة بضغط الثوار المسيطرين على المدينة فإن قريش لم ترض به . جانب منها بايعه ثم نكث البيعة ، وعلى رأسهم الزبير وطلحة ومعهما عائشة ، وقد فارقوا المدينة وذهبوا الى البصرة وكانت تابعة لعلى فإحتلوها ونهبوا بيت مالها . الجانب الآخر وهم الأمويون وحلفاؤهم إعتصموا بالشام .
2 ـ (على ) حارب رفاقه فى صراع على الدنيا. الفارق بينه وبينهم أنه كان يتمسح بالدين أما هم فقد كانوا طُلاّب دنيا وبصراحة . لم يشارك فى الفتوحات ولكنه إستفاد منها نساء السبى والأموال ، ومعظم إبنائه وبناته كانوا من نساء السبى.كان يعتقد أنه صاحب ( تراث محمد ) ويعنى ثمرات الفتوحات ومغانمها التى لم يشارك فيها . و قد قال حين منعه سعيد ابن العاص بعض المال :( إِنَّ بَنِي أُمَيَّةَ لَيُفَوِّقُونَنِي تُرَاثَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله تَفْوِيقاً وَاللَّهِ لَئِنْ بَقِيتُ لَهُمْ لَأَنْفُضَنَّهُمْ نَفْضَ اللَّحَّامِ الْوِذَامَ التَّرِبَةَ. ) . أى يتوعدهم بالعقاب إذا آل اليه الأمر . وربما فهمت قريش حقده فعملت على منع وصوله الى الخلافة.
3 ـ ويتردد فى خُطبه كراهيته لقومه قريش لهذا السبب . خطب مرة فقال : ( مَا لِي وَلِقُرَيْشٍ وَاللَّهِ لَقَدْ قَاتَلْتُهُمْ كَافِرِينَ وَلَأُقَاتِلَنَّهُمْ مَفْتُونِينَ وَإِنِّي لَصَاحِبُهُمْ بِالْأَمْسِ كَمَا أَنَا صَاحِبُهُمُ الْيَوْمَ وَاللَّهِ مَا تَنْقِمُ مِنَّا قُرَيْشٌ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ اخْتَارَنَا عَلَيْهِمْ فَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي حَيِّزِنَا ).
وكان يدعو عليهم فى خطبه ، ومنها : ( اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَى قُرَيْشٍ وَمَنْ أَعَانَهُمْ فَإِنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوا رَحِمِي وَأَكْفَئُوا إِنَائِي وَأَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي حَقّاً كُنْتُ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِي .) وقال فى خطبة أخرى : ( اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَى قُرَيْشٍ وَمَنْ أَعَانَهُمْ فَإِنَّهُمْ قَطَعُوا رَحِمِي وَصَغَّرُوا عَظِيمَ مَنْزِلَتِيَ وَأَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي أَمْراً هُوَ لِي ... ).
4 ـ وجاءته فرصة الخلافة فكان الأحرص عليها . وقال فى خطبة : ( وَقَدْ قَالَ قَائِلٌ إِنَّكَ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ يَا ابْنَ أَبِي طَالِبٍ لَحَرِيصٌ ، فَقُلْتُ : بَلْ أَنْتُمْ وَاللَّهِ لَأَحْرَصُ وَأَبْعَدُ وَأَنَا أَخَصُّ وَأَقْرَبُ ، وَإِنَّمَا طَلَبْتُ حَقّاً لِي وَأَنْتُمْ تَحُولُونَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ وَتَضْرِبُونَ وَجْهِي دُونَهُ .).
5 ـ ومن هنا كان حرصه على اللجوء الى السيف ليحمى ما إعتبره حقا له . وهو القائل فى الزبير وطلحة ومن معهم من قريش، حين دخلوا البصرة ونهبوا بيت المال وقتلوا بعض أتباعه : ( فَقَدِمُوا عَلَى عَامِلِي بِهَا وَخُزَّانِ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِهَا فَقَتَلُوا طَائِفَةً صَبْراً وَطَائِفَةً غَدْراً . فَوَاللَّهِ لَوْ لَمْ يُصِيبُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا رَجُلًا وَاحِداً مُعْتَمِدِينَ لِقَتْلِهِ بِلَا جُرْمٍ جَرَّهُ لَحَلَّ لِي قَتْلُ ذَلِكَ الْجَيْشِ كُلِّهِ إِذْ حَضَرُوهُ فَلَمْ يُنْكِرُوا وَلَمْ يَدْفَعُوا عَنْهُ بِلِسَانٍ وَلَا بِيَدٍ ...). أى يستحل قتل الجيش كله مقابل قتل رجل واحد .
ونصحوه بألا يقاتل طلحة والزبير وأن يدعهما وقد فارقاه الى البصرة ، فخطب رافضا يقول : ( وَاللَّهِ لَا أَكُونُ كَالضَّبُعِ تَنَامُ عَلَى طُولِ اللَّدْمِ حَتَّى يَصِلَ إِلَيْهَا طَالِبُهَا وَيَخْتِلَهَا رَاصِدُهَا وَلَكِنِّي أَضْرِبُ بِالْمُقْبِلِ إِلَى الْحَقِّ الْمُدْبِرَ عَنْهُ وَبِالسَّامِعِ الْمُطِيعِ الْعَاصِيَ الْمُرِيبَ أَبَداً حَتَّى يَأْتِيَ عَلَيَّ يَوْمِي فَوَاللَّهِ مَا زِلْتُ مَدْفُوعاً عَنْ حَقِّي مُسْتَأْثَراً عَلَيَّ مُنْذُ قَبَضَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَوْمِ النَّاسِ هَذَا . ) أى يضرب المقبل بالمدبر والمطيع بالعاصى ، والسبب أنه صاحب الحق فى الخلافة بعد موت النبى ، وأنهم منعوه هذا الحق . أى لن يفرط فى حقه مهما سالت الدماء .!
( على بن أبى طالب ) سليط اللسان :
1 ـ إقتنع أنه صاحب حق فكان حريصا على حرب خصومه من قبيلته قريش ولكن لم يجد جيشا مخلصا مطيعا بمثل ما كان لمعاوية . لذا إنطلق لسانه بالسب والشتم .
2 ـ إجتمع حول (على ) شراذم الأعراب ، أغلبهم دخل فى الاسلام كارها لسيطرة قريش ، فلما عاد نفوذ قريش بخلافة أبى بكر إرتدوا ، وحاربتهم قريش وهزمتهم فخضعوا ، ثم قذفت بهم قريش فى الفتوحات لتضرب عصفورين بحجر واحد ، تتخلص من متاعبهم وتفتح بسيوفهم بلادا . تحول الأعراب من مسلمين فى أواخر عهد النبى الى مرتدين بعد موته ثم مسلمين ثم فاتحين ، ثم عندما رأوا قريش قد حازت معظم الغنائم تحولوا الى ثائرين وقتلوا عثمان ، ثم إنضموا الى (على ) وهم يحملون نفس الكراهية لقريش ، فأتعبوا عليا بشقاقهم وترددهم ، وفى النهاية خرجوا فأصبحوا ( خوارج ) ، حاربهم وهزمهم ، ثم قتلوه. أتعبوه فى تثاقلهم فى حرب أهله من قريش . وهو فى حرصه على هذا الحرب كان يخطب فيهم سبّا وشتما ، حتى أصبح سليط اللسان مع فصاحته الهائلة . ولم ينج من سلاطة لسانه أصحابه أو خصومه .
2 ، ونستشهد ببعض خطبه فى سبّ أتباعه :(يَا أَشْبَاهَ الرِّجَالِ وَلَا رِجَالَ، حُلُومُ الْأَطْفَالِ وَعُقُولُ رَبَّاتِ الْحِجَالِ ، لَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَرَكُمْ وَلَمْ أَعْرِفْكُمْ مَعْرِفَةً . وَاللَّهِ جَرَّتْ نَدَماً وَأَعْقَبَتْ سَدَماً . قَاتَلَكُمُ اللَّهُ لَقَدْ مَلَأْتُمْ قَلْبِي قَيْحاً وَشَحَنْتُمْ صَدْرِي غَيْظاً وَجَرَّعْتُمُونِي نُغَبَ التَّهْمَامِ أَنْفَاساً وَأَفْسَدْتُمْ عَلَيَّ رَأْيِي بِالْعِصْيَانِ وَالْخِذْلَانِ ... ) ( كَمْ أُدَارِيكُمْ كَمَا تُدَارَى الْبِكَارُ الْعَمِدَةُ وَالثِّيَابُ الْمُتَدَاعِيَةُ كُلَّمَا حِيصَتْ مِنْ جَانِبٍ تَهَتَّكَتْ مِنْ آخَرَ كُلَّمَا أَطَلَّ عَلَيْكُمْ مَنْسِرٌ مِنْ مَنَاسِرِ أَهْلِ الشَّامِ أَغْلَقَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بَابَهُ وَانْجَحَرَ انْجِحَارَ الضَّبَّةِ فِي جُحْرِهَا وَالضَّبُعِ فِي وِجَارِهَا الذَّلِيلُ وَاللَّهِ مَنْ نَصَرْتُمُوهُ وَمَنْ رُمِيَ بِكُمْ فَقَدْ رُمِيَ بِأَفْوَقَ نَاصِلٍ إِنَّكُمْ وَاللَّهِ لَكَثِيرٌ فِي الْبَاحَاتِ قَلِيلٌ تَحْتَ الرَّايَاتِ وَإِنِّي لَعَالِمٌ بِمَا يُصْلِحُكُمْ وَيُقِيمُ أَوَدَكُمْ وَلَكِنِّي لَا أَرَى إِصْلَاحَكُمْ بِإِفْسَادِ نَفْسِي أَضْرَعَ اللَّهُ خُدُودَكُمْ وَأَتْعَسَ جُدُودَكُمْ لَا تَعْرِفُونَ الْحَقَّ كَمَعْرِفَتِكُمُ الْبَاطِلَ وَلَا تُبْطِلُونَ الْبَاطِلَ كَإِبْطَالِكُمُ الْحَقَّ . ) ( أَيُّهَا النَّاسُ الْمُجْتَمِعَةُ أَبْدَانُهُمْ الْمُخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمْ كَلَامُكُمْ يُوهِي الصُّمَّ الصِّلَابَ وَفِعْلُكُمْ يُطْمِعُ فِيكُمُ الْأَعْدَاءَ تَقُولُونَ فِي الْمَجَالِسِ كَيْتَ وَكَيْتَ فَإِذَا جَاءَ الْقِتَالُ قُلْتُمْ حِيدِي حَيَادِ..الخ ) ( أُفٍّ لَكُمْ لَقَدْ سَئِمْتُ عِتَابَكُمْ أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ عِوَضاً وَبِالذُّلِّ مِنَ الْعِزِّ خَلَفاً إِذَا دَعَوْتُكُمْ إِلَى جِهَادِ عَدُوِّكُمْ دَارَتْ أَعْيُنُكُمْ كَأَنَّكُمْ مِنَ الْمَوْتِ فِي غَمْرَةٍ وَمِنَ الذُّهُولِ فِي سَكْرَةٍ يُرْتَجُ عَلَيْكُمْ حَوَارِي فَتَعْمَهُونَ وَكَأَنَّ قُلُوبَكُمْ مَأْلُوسَةٌ فَأَنْتُمْ لَا تَعْقِلُونَ مَا أَنْتُمْ لِي بِثِقَةٍ سَجِيسَ اللَّيَالِي وَمَا أَنْتُمْ بِرُكْنٍ يُمَالُ بِكُمْ وَلَا زَوَافِرُ عِزٍّ يُفْتَقَرُ إِلَيْكُمْ مَا أَنْتُمْ إِلَّا كَإِبِلٍ ضَلَّ رُعَاتُهَا فَكُلَّمَا جُمِعَتْ مِنْ جَانِبٍ انْتَشَرَتْ مِنْ آخَرَ ) ( مُنِيتُ بِمَنْ لَا يُطِيعُ إِذَا أَمَرْتُ وَلَا يُجِيبُ إِذَا دَعَوْتُ لَا أَبَا لَكُمْ مَا تَنْتَظِرُونَ بِنَصْرِكُمْ رَبَّكُمْ أَ مَا دِينٌ يَجْمَعُكُمْ وَلَا حَمِيَّةَ تُحْمِشُكُمْ أَقُومُ فِيكُمْ مُسْتَصْرِخاً وَأُنَادِيكُمْ مُتَغَوِّثاً فَلَا تَسْمَعُونَ لِي قَوْلًا وَلَا تُطِيعُونَ لِي أَمْراً حَتَّى تَكَشَّفَ الْأُمُورُ عَنْ عَوَاقِبِ الْمَسَاءَةِ فَمَا يُدْرَكُ بِكُمْ ثَارٌ وَلَا يُبْلَغُ بِكُمْ مَرَامٌ دَعَوْتُكُمْ إِلَى نَصْرِ إِخْوَانِكُمْ فَجَرْجَرْتُمْ جَرْجَرَةَ الْجَمَلِ الْأَسَرِّ وَتَثَاقَلْتُمْ تَثَاقُلَ النِّضْوِ الْأَدْبَرِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ مِنْكُمْ جُنَيْدٌ مُتَذَائِبٌ ضَعِيفٌ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ .)
3 ـ لم يسلم من لسانه صهره واكبر أنصاره الأشعث بن قيس . كان (على ) يخطب على منبر الكوفة فقال له الأشعث : ( يا أمير المؤمنين، هذه عليك لا لك، فخفض (علي ) إليه بصره ثم قال: ( مَا يُدْرِيكَ مَا عَلَيَّ مِمَّا لِي .! عَلَيْكَ لَعْنَةُ اللَّهِ وَلَعْنَةُ اللَّاعِنِينَ ، حَائِكٌ ابْنُ حَائِكٍ ، مُنَافِقٌ ابْنُ كَافِرٍ . وَاللَّهِ لَقَدْ أَسَرَكَ الْكُفْرُ مَرَّةً وَالْإِسْلَامُ أُخْرَى ، فَمَا فَدَاكَ مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَالُكَ وَلَا حَسَبُكَ . وَإِنَّ امْرَأً دَلَّ عَلَى قَوْمِهِ السَّيْفَ وَسَاقَ إِلَيْهِمُ الْحَتْفَ لَحَرِيٌّ أَنْ يَمْقُتَهُ الْأَقْرَبُ وَلَا يَأْمَنَهُ الْأَبْعَدُ .). وقال للبرج بن مسهر الطائي : ( اسْكُتْ قَبَحَكَ اللَّهُ يَا أَثْرَمُ فَوَاللَّهِ لَقَدْ ظَهَرَ الْحَقُّ فَكُنْتَ فِيهِ ضَئِيلًا شَخْصُكَ خَفِيّاً صَوْتُكَ حَتَّى إِذَا نَعَرَ الْبَاطِلُ نَجَمْتَ نُجُومَ قَرْنِ الْمَاعِزِ. ).
4 ـ أطلق لسانه على خصومه : وكان ينادى عمرو بن العاص باسم أمه ( ابن النابغة )وكانت من بنات الهوى ..وخطب يهاجم أهل البصرة وأهلها بعد وقعة الجمل ، فقال : ( كُنْتُمْ جُنْدَ الْمَرْأَةِ وَأَتْبَاعَ الْبَهِيمَةِ . رَغَا فَأَجَبْتُمْ ، وَعُقِرَ فَهَرَبْتُمْ . أَخْلَاقُكُمْ دِقَاقٌ ،وَعَهْدُكُمْ شِقَاقٌ ، وَدِينُكُمْ نِفَاقٌ ، وَمَاؤُكُمْ زُعَاقٌ ، وَالْمُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مُرْتَهَنٌ بِذَنْبِهِ ، وَالشَّاخِصُ عَنْكُمْ مُتَدَارَكٌ بِرَحْمَةٍ مِنْ ربه ) وقال أيضا فيهم : (أرْضُكُمْ قَرِيبَةٌ مِنَ المَاءِ، بَعِيدَةٌ مِنَ السَّماءِ، خَفَّتْ عُقُولُكُمْ، وَسَفِهَتْ حُلُومُكُمْ، فَأَنْتُمْ غَرَضٌ لِنَابِل، وَأُكْلَةٌ لاِكِل، وَفَرِيسَةٌ لِصائِد.). وقال فى ذم أهل الشام:( جُفَاةٌ طَغَامٌ وَعَبِيدٌ أَقْزَامٌ جُمِعُوا مِنْ كُلِّ أَوْبٍ وَتُلُقِّطُوا مِنْ كُلِّ شَوْبٍ مِمَّنْ يَنْبَغِي أَنْ يُفَقَّهَ وَيُؤَدَّبَ وَيُعَلَّمَ وَيُدَرَّبَ وَيُوَلَّى عَلَيْهِ وَيُؤْخَذَ عَلَى يَدَيْهِ..) أخيرا :
جانب كبير من الخطب المنسوبة لعلى بن أبى طالب منتحل لا علاقة له به . منها خطب فى علم الغيب وفى الزهد ، وفى مكارم الأخلاق والحض على السلام ، ومنها هذه الخطبة فى الوعظ بعدم سب أهل الشام ( إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ وَلَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ وَقُلْتُمْ مَكَانَ سَبِّكُمْ إِيَّاهُمْ اللَّهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَنَا وَدِمَاءَهُمْ وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَبَيْنِهِمْ وَاهْدِهِمْ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ مَنْ جَهِلَهُ وَيَرْعَوِيَ عَنِ الْغَيِّ وَالْعُدْوَانِ مَنْ لَهِجَ بِهِ . ).
الفصل الثالث : فى العصر الأموى
( إزدهار الخطب الدينية وأنواعها فى العصر الأموى )
مقدمة : لمحة عن الدولة الأموية
1 ـ في العصر الاموى (40 : 132 هجرية ) ازدهرت الخطبة وتنوعت أغراضها بحيث كانت البوق الاعلامي للدولة الاموية وخصومها علي السواء . والواقع ان الدولة الاموية وعصرها يمثلان نموذجا للعجب ، فتلك الدولة التي عاشت اقل من قرن هي التي امتدت فيها الفتوحات العربية فيما بين حدود الهند والصين شرقا الي جبال البرانس جنوب فرنسا ، ودمرت اسطول البيزنطيين واحتلت بعض جزر البحر المتوسط .. هذا في الوقت الذي عاشت فيه الدولة الاموية حروبا هائلة في الداخل ضد خصومها من الخوارج والشيعة والموالي والاقباط والبربر ، ومن الهاشميين والزبيريين وحتي من داخل الجيش الاموي نفسه ، مثل ثورة ابن الاشعث وثورة المهالبة ، وحتي من داخل البيت الاموي نفسه ، وهكذا الي ان جاء الخطر الاكبر علي الدولة متمثلا في الدعوة العباسية المستترة بالرضي من ال محمد ، لتقضي علي الدولة الاموية في ريعان شبابها بعد ان اجهدت نفسها في حروب داخلية وفتوحات خارجية ..
2 ـ والدولة الاموية هي التي تمثل الثقافة العربية البدوية ، هذا اذا اعتبرنا الثقافة هي النمط السائد للسلوكيات والعادات والتقاليد الاجتماعية ، ولذلك ازدهر مع الضجيج الحربي والخلافات والثورات دخول اسلحة اخري في ميدان المعارك كان اهمها الشعر العربي الفصيح ، والخطابة الفصيحة ، وكانت مؤهلات القائد اذا كان الخليفة او واليا او ثائرا ان يتمتع بالشجاعة والكرم والفصاحة فى القول وفى الخطابة . مثلما اعتاد العرب في صحرائهم.
3 ـ وتلك الحركة المستمرة في الغزو او في الثورة والمواجهات الداخلية لم تعط فرصة كافية لقيام حركة تدوين للافكار السائدة او المعارك الضارية ، لذلك فان التأريخ لهذه الدولة الاموية قد تم بعد سقوطها وفي عهد الخلافة العباسية المعروفة بعدائها الشديد للامويين ابناء عمومتهم .
وغياب التدوين وعدم الاهتمام الكبير بالمراسلات الخطية اوسع مكانا هاما للخطبة الشفهية المعبرة عن الروح الاصيلة للعربي الذي كان يفاخر وقتها بفصاحته وشجاعته ، او بأنه يملك فصاحة اللسان وشجاعة السنان .ومن هنا يمكن القول بأن الخطبة كانت اهم عنصر دعائي في العصر الاموي للخليفة او الوالي او الثائر علي السواء …بحيث يمكن التأريخ للعصر وتفسيره من خلال الكم الهائل من الخطب التي قيلت فيه وقامت بالدعاية لقائل الخطبة واتباعه .
4 ـ ونعطى سريعا نماذج للخطب الأموية وأنواعها .
أولا : خطبة الجمعة (الأموية )
1 ـ نتج عن طغيان الهدف الدعائي علي الخطبة ، ان تحولت الخطبة الدينية ( خطبة الجمعة ) الي خطبة سياسية ، اذ ارتبطت في الدولة الاموية بالدعاء علي ( علي بن ابي طالب )، وتلقيبه بلقب ابي تراب للتحقير ، واصبح من معالم صلاة الجمعة سب ( علي ) وبنيه ، والخليفة الاموي الوحيد الذي الغي هذا هو عمر بن عبد العزيز خلال فترة حكمه القليلة ، ثم رجع الامر الي ما كان عليه . وبعد زوال الدولة الاموية انتهي سب الامام علي ، ولكن لم ينته تحويل خطب الجمعة الي غرض سياسي ، بل اصبح من شعائر الاعتراف بالحاكم هو الدعاء له في خطبة الجمعة ، ولا زال ذلك ساريا حتي الان .
2 ـ وقد سبق ان خطبة الجمعة في عصر النبوة المضئ كانت قراءة القرآن ، أي كانت خطبة دينية صرفة ، ولكن تحولت في الدولة الاموية الي خطب سياسية صرفة ، ثم بعد زوال الدولة الاموية اختلط فيها الدين بالسياسة ، او بمعني اصح تحول فيها الدين لخدمة السياسة ، اما للدعاية للحاكم ام ضد الحاكم .وهذا مظهر من مظاهر التأثر بالدولة الاموية الذي لا يزال باقيا فيما يخص خطبة الجمعة .
3 ـ و أدي سب الامام علي في خطبة الجمعة الي مقتل حجر بن عدي زعيم الشيعة في الكوفة ، وذلك في خلافة معاوية ، ولم يكن حجر بن عدي ثائرا علي الدولة الاموية ، وانما بايع معاوية ودخل في طاعته مثل باقي الشيعة الذين بايعوا لمعاوية بعد تنازل الحسين بن علي لمعاوية ، ومارس حجر بن عدي المعارضة القولية التي كان يسمح بها معاوية القائل : ( انا لا نحول بين الناس والسنتهم طالما لا يحولون بيننا وبين ملكنا )، أي يسمح بالمعارضة القولية دون المعارضة المسلحة ، ولكن حجر كان يصيح بالوالي المغيرة بن شعبة اذا دخل في سب الامام علي اثناء الخطبة ، وكان يسكت عنه المغيرة ، فلما مات المغيرة وتولي بعده علي الكوفة زياد بن ابيه وخطب كالعادة وسب الامام علي اعترض عليه حجر بن عدي وصحبه بمثل ما اعتاد ، فاعتقلهم زياد وارسلهم الي معاوية متهما اياهم بالخروج علي الدولة فأمر معاوية بقتله هو وصحبه ، مع تأكيد حجر هو واتباعه انهم علي الطاعة .وكان قتل معاوية لحجر بن عدي واتباعه بداية مشوار دموي استحلت فيه الدولة الاموية دماء المعارضين المسالمين ، واشتهر زياد بن ابيه ثم الحجاج بالاسراف في القتل بمجرد الظن . وكان فاتحة الشر هو تحويل الخطبة الدينية في صلاة الجمعة الي منشور سياسي يهاجم عدو الدولة الاموية .
4 ــ ونعطي بعض فقرات من خطبة زياد وهو يهدد حجرا واصحابه في المسجد ، قال زياد بعد ان حمد الله واثني عليه ( اما بعد فأنا غب البغي والغي وخيم ، ان هؤلاء جمعوا ( أي اجتمعوا ) فأشروا ( أي زاد شرهم ) وامنوني فاجترئوا علي ، وايم الله لئن لم تستقيموا لاداوينكم بدوائكم .. ما انا بشئ ان لم امنع باحة الكوفة من حجر وادعه نكالا لمن بعده ، ويل امك يا حجر ، سقط العشاء بك علي سرحان ) (تاريخ الطبري 5/256 ). ( السرحان هو الذئب ) ، وهو مثل عربي يضرب فيمن يطلب حاجة فيهلك .وسنعرض لها التفصيل.
5 ـ ودخل كثيرون في الاسلام في العصر الاموي ، واصبح من ثوابت التدين لهم ما احدثه الامويون من لعن علي وابنائه في خطب الجمعة خلال عشرات السنين ، ويروي المسعودي في مروج الذهب ان المسلمين في مدينة ( حران ) ظلوا بعد سقوط الدولة الاموية متمسكين بلعن ابي طالب في خطبة الجمعة وصلاتها ويقولون :( لا صلاة الا بلعن ابي تراب ) ( مروج الذهب 2/193 )
6 ـ و ذلك ان خطب الجمعة ارتبطت بوظيفة دعائية يقوم بها الخطيب او رفيق له تعينه الدولة الاموية وهي وظيفة القصص ، أي الوعظ بالمسجد ، ولارتباط الوعظ بقص الحكايات اصبح اسمه القصص ، وكان القاص يجتذب اليه افئدة المستمعين يحكايات خرافية مستوحاة من الكتب الدينية القديمة والتراث السابق علي الاسلام ، ثم ينسبه للنبي عليه السلام والانبياء السابقين ويخلط بين الخرافات و الغيبيات واساطير العذاب في القبر ، وبعد ان يسيطر علي المستمعين يقوم بلعن ابي تراب ، أي علي بن ابي طالب وخصوم الدولة ، ويمدح الخليفة الاموي وآله . وعن طريق هذا القصص دخلت الخرافات في تراث المسلمين ، خصوصا في قصص الانبياء السابقين والاحاديث السنية والتفسير ، اذ ان العصر الاموي كان عصر الرواية الشفهية الذي تتردد فيه الروايات والاقاويل وتحظي بالتقديس طالما تتم نسبتها للنبي والصحابة ، فلما جاء العصر العباسي اتيح لهذه الروايات ان تدون فيما يسمى بعلوم الحديث والتفسير والتاريخ ، خصوصا وان علماء الجرح والتعديل ( أي توثيق الروايات ) كانوا يتساهلون في تلك الروايات لأنها لا تدخل ضمن اطار الفقه والحلال والحرام ، ولم يفهموا ان خطورتها اكثر حين تقوم بصياغة العقول .وكان الامام الاوزاعي اشهر الوعاظ في العصر الاموي والعباسي ، واشهر القصاص ، واليه تنسب اساطير عذاب القبر والثعبان الاقرع ، كما أوضحنا فى كتابى ( حد الردة ) و ( عذاب القبر والثعبان الأقرع ) .
ثانيا : خطب المناظرات السياسية
وبازدهار الخطب السياسية الدعائية فقد عرف العصر الاموي ما يمكن تسميته بالمناظرات الخطابية او Debate المعروفة الان في الانتخابات الامريكية ، ولكن مع اختلاف الظروف ، حيث كانت الخطبة تحل محل السلاح في موضع لا مجال فيه لاستعمال السلاح ، وحينئذ يتم التحارب بالخطب بديلا عن السلاح . ونأخذ لذلك عدة امثلة :
1 ـ خطبة معاوية في وفد الشيعة ورد صعصعة بن صوحان عليه : ( العقد الفريد لابن عبد ربه 3/266 : 267 ).
2 ـ خطابات الهجاء بين ابن الزبير والهاشميين
أقام عبد الله بن الزبير نفسه خليفة فلم يبايعه بنو هاشم ، فقام خطيب ونال من علي بن ابي طالب ، فخطب محمد بن الحنفية بن علي يرد عليه ، فتندر عليه الزبير ، فقام ابن الحنفية يرد عليه في خطبة اخري ، مما استدعي عبد الله الزبير لأن يخطب مهددا باحراق بني هاشم جميعا ،وانقذهم منه مجئ جيش المختار الذي خلصهم منه.( تاريخ اليعقوبي 261 : 262 ، مروج الذهب 2/ 86 ).
وخطب عبد الله بن الزبير يهاجم عبد الله بن العباس ، وكان ابن عباس قد اصابه العمي في الكبر ، فقال فيه ابن الزبير : ان هاهنا رجلا قد اعمي الله قلبه كما اعمي بصره ، يزعم ان متعة النساء حلال من الله ورسوله ، ويفتي في القملة والنملة ، وقد احتمل بيت مال البصرة بالامس وترك المسلمين بها يرتضخون النوي ، وكيف الومه في ذلك وقد قاتل ام المؤمنين ، وحواري رسول الله صلي الله عليه وسلم ومن وقاه بيده ).
فابن الزبير هنا يعير ابن عباس بالعمي وينكر عليه انه احل زواج المتعة ، أي الزواج لأجل محدد ، ويعيره بأنه اخذ بيت مال البصرة حين كان واليا عليها في خلافة علي ، وانه قاتل مع علي ضد ام المؤمنين عائشة في موقعة الجمل حيث كان معها الزبير بن العوام الملقب بحواري رسول الله وقد اشتهر الزبير –والد عبد الله –بانه دفع السهام عن النبي بيده . وحين سمع عبد الله بن العباس هذه الخطبة قام من فوره فخطب ، وكان مما قاله : ( يابن الزبير اما العمي فان الله تعالي يقول : فانها لا تعمي الابصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور ، واما فتياي في القملة والنملة فان فيها حكمين لا تعلمهما انت واصحابك ، واما حملي المال فانه كان مالا جبيناه فأعطينا كل ذي حق حقه، وبقيت بقية هي دون حقنا في كتاب الله فاخذناها بحقنا ، واما المتعة فسل امك اسماء اذ انزلت عن عوسجة ، واما قتالنا ام المؤمنين فبنا سميت ام المؤمنين لابك ولا بأبيك ، فانطلق ابوك وخالك الي حجاب مده الله عليها فهتكاه عنها ثم اتخذاها فتنه يقاتلان دونها وصانا حلائلهما ( زوجاتهما ) في بيوتهما ، واما قتالنا اياكم ، فانا لقيناكم زحفا ، فان كنا كفارا فقد كفرتم بفراركم منا ، وان كنا مؤمنين فقد كفرتم بقتالكم ايانا ، وايم الله لولا مكان صفية ( صفية بنت عبد المطلب ام الزبير وعمة النبي (ص) ) فيكم ومكان خديجة فينا لما تركت لبني اسد بن عبد العزي عظما الا كسرته ) . ( شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد 5/812 : 823 .)
رابعا : خطب فى وراثة الحكم الأموى :
1 ـ وحدثت الكوارث في الدولة الاموية بتولي يزيد الخلافة بعد ابيه معاوية ، كأول عملية وراثة للحكم في تاريخ المسلمين . وكي يمهد معاوية لهذا الامر الخطير فقد اقام حركة دعائية ضخمة عن طريق ولاته وكبار اتباعه وقادته ، وجري في هذه الحركة ما يمكن تسميته بمهرجان الخطب التي تباري فيها المتحدثون في تزكية يزيد وتأييد ولايته للعهد ، وممن خطب داعيا للبيعة الي يزيد : مروان ابن الحكم ، والضحاك بن قيس ،وعبد الرحمن بن عثمان الثقفي ،وثور بن معن السلمي ،وعبد الله بن عصام ،وعبد الله بن سعد الفزاري ،وعمرو بن سعيد الاشدق ، بالاضافة الي خطبة معاوية ، وخطبة ابي حنيف وصبرة بن شيمان . وخطب ضد الدعوة ليزيد : الاحنف بن قيس ورد عليه الضحاك بن قيس ، ورد عليه الاحنف مرتين ،ورد عليه عبد الله بن عثمان الثقفي علي الاحنف ، وخطب الحسين بن علي ضد البيعة ورد عليه معاوية بخطبة ، ورد عبد الله الزبير علي معاوية بخطبة .. الخ . ( الكامل لابن الاثير 3/ 250 ، الامامة والسياسة لابن قتيبية 1/ 263 : 298 ، عيون الاخبار لابن قتيبة 1/95 ، البيان والتبيين للجاحظ 1/300 )
2 ـ ومنها خطبة معاوية بن يزيد بن معاوية حين اعلن تنازله عن الخلافة الامر الذي ادي الي تفكك الدولة وحروب اهلية وموت الخليفة المعتزل نفسه ، وقد قال في خطبته ( قد ضعفت عن امركم ، ولم اجد لكم مثل عمر بن الخطاب لأستخلفه ، ولا مثل اهل الشوري ، فأنتم اولي بأمركم فاختاروا من احببتم) .
خامسا : خطب ضد المعارضة
1 ـ منها خطبة عبد الملك بن مروان في اهل المدينة ( يا معشر قريش ، وليكم عمر بن الخطاب فكان فظا غليظا مضيقا عليكم فسمعتم له واطعتم ، ثم وليكم عثمان فكان سهلا لينا كريما فعدوتم عليه فقتلتموه ، وبعثنا عليكم مسلما يوم الحرة فقتلكم ، فنحن نعلم يا معشر قريش انكم لا تحبوننا ابدا وانتم تذكرون يوم الحرة ، ونحن لا نحبكم ابدا ونحن نذكر مقتل عثمان ) ( مروج الذهب للمسعودي 3/ 128 ، البيان والتبيين للجاحظ 2/62 : 65 ).
2 ـ واشتهر الوالي زياد بن ابيه بخطبته البتراء –أي التي تخلو من البسملة وحمد الله –وفيها يهدد اهل البصرة فيقول ( اما بعد فان الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء والغي الموفي بأهله الي النار ، مافيه سفهاؤكم ويشتمل عليه حلماؤكم من الامور العظام يلبث فيها الصغير ولا يتحاشي عنها الكبير .. ولا تذكرون انكم احدثكم في الاسلام الحدث الذي لم تسبقوا اليه من ترككم الضعيف يقهر ويؤخذ ماله وهذه المواخر المنصوبة والضعيفة المسلوبة في النهار المبصر ..) الي ان يقول ( وقد احدثتم احداثا واحدثنا لكل ذنب عقوبة ، من غرق قوما غرقناه ، ومن احرق قوما احرقناه ، ومن نقب بيتا عن قوم نقبنا عن قلبه ومن نبش قبرا دفناه حيا فيه ،فكفوا عني ايديكم و السنتكم اكفف عنكم يدي ولساني ..) (. مروج الذهب للمسعودي 2/133 : 136 .)
3 ـ واشتهر الحجاج بن يوسف الثقفي بالشدة مع الفصاحة ، وخطبه كثيرة ، منها خطبته المشهورة والتى ذكرتها معظم الحوليات التاريخية ، وهذا حين قدم الكوفة واليا لأول مرة ، فاتاها ملثما فصعد المنبر و حسر اللثام عن وجهه و انشد :
انا ابن جلا وطلاع الثنايا متي اضع العمامة تعرفوني
ثم بدأ يقول ( اني والله لأري ابصارا طامحة واعناقا متطاولة ،ورءوسا قد اينعت وحان وقت قطافها واني لصاحبها ، كأني انظر الي الدماء تترقرق بين العمائم واللحي ..) الي ان يقول ( يا اهل العراق يا اهل الشقاق والنفاق ومساوئ الاخلاق ، والله لا اغمز كتغماز التين ولا يقعقع لي بشنان ..).أي لا يسمح بأن يجربه او يهدده .
سادسا : خطب حربية :
أشهرها خطبة طارق بن زياد حين احرق السفن بعد ان عبر الي اسبانيا ، ذلك المضيق الذي سمي باسمه فيما بعد ، قال ( ايها الناس : اين المفر ؟ البحر من ورائكم والعدو امامكم وليس لكم والله الا الصدق والصبر ، واعلموا انكم في هذه الجزيرة اضيع من الايتام في مأدبة اللئام ، وقد استقبلكم عدوكم بجيشه في اسلحته واقواته الموفورة وانتم لا وزر لكم الا سيوفكم ولا اقوات لكم الا ما تستخلصونه من ايدي عدوكم ..). ( نفح الطيب للمقري 1/ 255 : 226 )
أخيرا : خطبة ليلة الدخلة .!!
1 ـوهذا التأثير الطاغي للخطبة الدينية في العصر الاموي وصل الي سرير الزوجية في ليلة الزفاف ، يحكي شريح اشهر قاضي في العصر الاموي انه ليلة ان دخل بزوجته التميمية وبعد أن خلا لهما البيت يقول ( فمددت يدي ناحيتها فقالت : علي رسلك يا ابا امية كما انت ، ثم قالت : الحمد لله احمده واستعينه واصلي علي محمد واله ، اني امرأة غريبة لا علم لي بأخلاقك فبين لي ما تحب فآته وما تكرهه فازدجر عنه .. الي ان قالت : اقول قولي هذا واستغفر الله لي ولك ، يقول القاضي ( فأحوجتني والله الي الخطبة في ذلك الموضع ، فقلت الحمد لله احمده واستعينه واصلي علي النبي واله وسلم ، وبعد فانك قد قلتي كلاما ان تثبتي عليه يكن ذلك حظك وان تدعيه يكن حجة عليك ، احب كذا ..) ( العقد الفريد لابن عبد ربه 4/ 166 : 167 )
2 ـ وكما امتد اثر الخطبة الي هذا العمق –الي فراش الزوجية ، فانه امتد ايضا الي بدايات الدولة العباسية ، حيث كان الخلفاء في العصر العباسي الاول لا تزال فيهم الثقافة العربية حية .
( خطبة زياد فى إعلان الأحكام العرفية لأول مرة فى تاريخ المسلمين )
مقدمة :
1 ـ كان والى البصرة لمعاوية هو (ابن عامر) وكان لينًا لا يأخذ على أيدي السفهاء ولا يعاقب، فانتشر الفسق والانحلال فى البصرة مرتبطا بكونها مركز المعارضة السياسية لمعاوية، وزارأحد الصحابة معاوية، وهو ابن الكواء - واسمه عبد الله أبن أبي أوفى ـ فسأله عن الناس فقال: "أما البصرة فقد غلب عليها سفهاؤها وعاملها ضعيف" فعزله معاوية، وبعث الحارث بن عبد الله الأزدي واليا مكانه. وكان ذلك فى أوائل عام 45. وبقى الحارث واليا على البصرة عدة أشهر الى أن عزله معاوية ليولى مكانه زياد بعد أن استلحقه ، وكان ذلك فى نفس العام 45.
2 ـ وقتها كان المغيرة بن أبى شعبة واليا على الكوفة. وكان زياد قد جاء من فارس وتوقف فى الكوفة ينتظر قرار معاوية. وتوجس المغيرة من قدوم زياد الى الكوفة بالذات ، وخشى أن يعزله معاوية من ولاية الكوفة ليعيّن زيادا مكانه فيها . فقال المغيرة لصديقه وائل بن حجر الحضرمي: إعلم لي علمه، أى أرسله الى زياد ليستطلع منه سبب مجيئه الى الكوفة بالذات ، تقول الرواية (فأتاه فلم يقدر منه على شيء). أى تحوط زياد فى حديثه معه فلم يخبره بشىء. واشتعلت مخاوف المغيرة، فذهب إلى معاوية، وطلب إستعفاءه من ولاية الكوفة وأن يعيش فى منطقة قرقيسيا، فخاف معاوية منه لأنه سيكون هناك بين جماهير قومه من قبائل قيس، أى يصبح بهم خطرا على معاوية، فألزمه بالرجوع الى عمله واليا على الكوفة، وقال له:(لترجعن إلى عملك). (فأبى، فازداد معاوية تهمةً له،فرده على عمله، فعاد إلى الكوفة ليلًا ).
3 ـ وسرعان ما أرسل معاوية زيادا واليا على البصرة، فقدمها في آخر شهر ربيع الآخر أو غرة جمادى الأولى من هذه السنة 45، وأضاف اليه خراسان وسجستان.
تقول الروايات إن زيادا قدم البصرة (والفسق ظاهر فاشٍ فخطبهم خطبته البتراء، التى لم يحمد الله فيها). وفى تلك الخطبة البتراء الشهيرة عام 45 أعلن زياد الأحكام العرفية ،أو قانون الطوارىء، ليسجل سبقا سيئا فى تاريخ المسلمين. وسميت (الخطبة البتراء) لأنها خلت من تحميد الله سبحانه وتعالى، على غير العادة فى الخطب.وقد جمعت تلك الخطبة بين الانذار والوعظ ، والتهديد والوعيد فى أروع أسلوب.
ونتوقف بالتحليل مع هذه الخطبة التى تعد أحدى عيون الأدب العربى، وأشهر الخطب فيه.
نصّ الخطبة :
(اما بعد فان الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء والغيّ الموفي بأهله علي النار ما فيه سفهاؤكم ويشتمل عليه حلماؤكم من الامور العظام، ينبت فيها الصغير ولا يتحاشي عنها الكبير، كأنكم لم تقرأوا كتاب الله ولم تسمعوا ما اعد من الثواب الكريم لأهل طاعته والعذاب الاليم لأهل معصيته في الزمن السرمدي الذي لا يزول؟ اتكونون كمن طرفت عينه الدنيا وسدت مسامعه الشهوات واختار الفانية علي الباقية؟ ولا تذكرون انكم احدثتم في الاسلام الحدث الذي لم تسبقوا اليه من ترككم الضعيف يقهر ويؤخذ ماله، وهذه المواخير المنصوبة ؟ والضعيفة المسلوبة(أى المرأة التى يغتصبونها) في النهار المبصر والعدد غير القليل؟ الم يكن منكم نُهاةٌّ يمنعون الغواة من دلج اليل وغارة النهار؟ قربتم القرابة وباعدتم الدين، تعتذرون بغير العذر وتغضون عن المختلس.! اليس كل امرئ منكم يذب عن سفيهه ؟ صنع من لا يخاف عاقبة ولا يرجو معادا ؟ ما انتم بالحلماء ، ولقد اتبعتم السفهاء، فلم يزل بكم ما ترون من قيامكم دونهم حتي انتهكوا حرمة الاسلام، ثم اطرقوا وراءكم كنوسا (اشخاص مشبوهين) في مكانس (اماكن) الريب (أي التهم) . حرام علي الطعام والشراب حتي اسويها بالارض هدما واحراقا.
اني رأيت اخر هذا الامر لا يصلح الا بما صلح به اوله، لين في غير ضعف، و شدة في غير عنف، واني أقسم بالله لأخذن الولي بالمولي والمقيم بالظاعن والمقبل بالمدبر والمطيع بالعاصي والصحيح منكم في نفسه بالسقيم، حتي يلقي الرجل منكم اخاه فيقول (انج سعد فقد هلك سعيد)، او تستقيم لي قناتكم. (أي تسيروا علي الطريق المستقيم). ان كذبة المنبر بلقاء مشهورة، فاذا تعلقتم علي بكذبه فقد حلت لكم معصيتي، واذا سمعتموها فاغتمزوها في، واعلموا ان عندي امثالها، من نقب منكم عليه فانا ضامن لما ذهب منه. فأياي ودلج الليل فاني لا اوتي بمدلج الا سفكت دمه، وقد اجلتكم في ذلك بمقدار ما يأتي الخبر الكوفة ويرجع اليكم، واياي ودعوي الجاهلية فأني لا اخذ داعيا بها الا قطعت لسانه. وقد احدثتم (اخترعتم) احداثا وقد احدثنا لكل ذنب عقوبة، من غرّق قوما غرّقناه ، ومن احرق قوما احرقناه ، ومن نقب بيتا نقبنا عن قلبه، ومن نبش قبرا دفناه حيا فيه، فكفوا عني ايديكم والسنتكم اكفف عنكم يدي ولساني، ولا تظهر علي احد منكم ريبة (شبهة) بخلاف ما عليه عامتكم الا ضربت عنقه، وقد كانت بيني وبين قوم إحنُّ (كراهية وخصومة) فجعلت ذلك دبر اذني وتحت قدمي ، فمن كان منكم محسنا فليزدد احسانا، ومن كان منكم مسيئا فليدع إساءته، اني والله لو علمت ان احدكم قد قتله السل من بغضي لم اكشف له قناعا ولم اهتك له سرا حتي يبدي لي صفحته، فاذا فعل ذلك لم اناظره، فاستأنفوا اموركم وارعوا علي انفسكم، فرب مسوء بقدومنا سنسره، ومسرور بقدومنا سنسوؤه.
ايها الناس : انا اصبحنا لكم سادة وعنكم ذادة ، نسوسكم بسلطان الله الذي اعطانا ونذود عليكم بفئ الله الذي خولنا ، فلنا عليكم السمع والطاعة فيما احببنا ، ولكم علينا العدل والانصاف فيما ولينا ، فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم لنا . واعلموا اني مهما قصرت فلن اقصر لثلاث : لست محتجبا عن طلب حاجة منكم ولو أتاني طارقا بليل، ولا حابسا عطاء ولا رزقا عن ابانه، ولا مجمرا لكم بعثا (أي لا يبقي الجيش في ارض العدو في غير زمن الغزو). فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم فانهم ساستكم المؤدبون لكم ، وكهفكم الذي اليه تأوون ،ومتي يصلحوا تصلحوا ، ولا تشربوا قلوبكم ببغضهم فيشتد لذلك غيظكم ويطول له حزنكم ولا تدركوا به حاجتكم ، مع انه لو استجيب لكم فيهم لكان شرا لكم .اسأل الله ان يعين كلا علي كل ، واذا رأيتموني انفذ فيكم الامر فانفذوه علي اذلاله ( أي علي حاله ) وايم الله ان لي فيكم لصرعى ( قتلى ) كثيرة فليحذر كل امرئ منكم ان يكون من صرعاي .) .
تحليل الخطبة
الهدف الاعلامي للخطبة :
في فترة الاضطراب السياسي عرفت البصرة التمرد السياسي اضافة الي التمرد الاخلاقي ، خصوصا مع ضعف الولاة عليها من قبل معاوية ، ومنهم ابن عامر والحارث بن عبد الله الازدي الذي ظل واليا اربعة اشهر، وبعد ان انضم زياد الي معاوية اصبح لمعاوية فارس وخراسان ، وهما اهم اقاليم البصرة ، وكان منوطا بزياد ان يتولي البصرة بكل الاقاليم التابعة لها .
وحيث ان مدينة البصرة نفسها كانت عاصمة للانحلال والتمرد وقتها فكان لابد من اصلاحها واخضاعها بالشدة والعنف ، وحيث ان شخصية الوالي تعرف من خلال لقائه الاول بالناس ، ومن خلال خطبته فيهم ، فقد حرص زياد علي ان يقدم نفسه ويعلن سياسته في تلك الخطبة البتراء التي خلت من الحمد والتسبيح ، وكل ذلك لخدمة الهدف الاعلامي للخطبة، وهي تبرير اعلانه الاحكام العرفية علي البصرة وولايتها لاخضاعها للسلطة الاموية سياسيا ، وتأكيد الأمن فيها اجتماعيا.
وسائل تحقيق الهدف الدعائي للخطبة :
تحليل الخطبة من حيث الفصاحة والسياسة :
عبقرية زياد تظهر في فصاحته ودهائه وحُسن سياسته ، وبهذه العبقرية تمكن وهو مجهول النسب من الوصول الي الصف الاول بين الساسة في عصره مع انه لم تكن له عشيرة ولا نسب ولا سابقة في الاسلام ولا تميز في الفتوحات او المعارك الاهلية ، وتتجلي في هذه الخطبة عبقرية زياد من حيث الشكل ومن حيث المضمون .
من حيث الشكل تظهر عبقريته في الفصاحة .
وقد شهد له بهذه الفصاحة في خطبته بعض السامعين من فصحاء العرب ، اذ قام عبد الله بن الاهتم فقال لزياد بعد ان اتم خطبته : اشهد ايها الامير انك اوتيت الحكمة وفصل الخطاب ) وقال له الاحنف ابن قيس ( قد قلت فأحسنت ايها الامير ..) .
ومن مظاهر الفصاحة في لغة الخطبة :
1 ـ بدؤها بدون بسملة او حمد لله ، لأن ذلك يوحي باللين والتسامح والعفو والمغفرة ، وليس هذا هو الهدف الاعلامي من تلك الخطبة البتراء ، وزياد استفاد هذه البلاغة من القرآن الكريم حيث نزلت سورة (براءة ) بدون بسملة وافتتحت بالبراءة من المشركين المعتدين ، وجعلت لهم اجلا مدته اربعة اشهر حتي يتوبوا عن اعتدائهم وعصيانهم ، وربما وجد زياد حال البصرة وسكانها اشبه بحال اولئك المشركين المعتدين ، فنسج خطبته علي منوال افتتاحية سورة براءة ( السورة رقم 9 في القرآن الكريم ).
وزياد هو اول من ابتدع هذه النوعية من الخطب ، أي الخطب البتراء ، ويقول الجاحظ في كتابه البيان والتبيين ( علي ان خطباء السلف الطيب واهل البيان والتابعين لهم باحسان مازالوا يسمون الخطبة التي لم تبدأ بالتحميد وتستفتح بالتمجيد : البتراء ، ويسمون الخطبة التي لم توشح بالقرآن وتزين بالصلاة علي النبي صلي الله عليه وسلم : الشوهاء ) .
2 ـ من حيث البلاغة فى الاسلوب ، فقد حفلت الخطبة (بالمحسنات اللفظية) من (الطباق) و(المقابلة) و(الجناس) .
2/ 1 : و(الطباق) هو ايراد لفظين متناقضين في المعني في سياق واحد ، مثل قوله ( ما فيه سفهاؤكم .. ويشتمل عليه حلماؤكم ")( الصغير .. الكبير ) ( اختار الفانية علي الباقية )( دلج الليل وغارة النهار ") ( قربتم القرابة وباعدتم الدين )(ما انتم بالحلماء ، وقد اتبعتم السفهاء )(آخر هذا الامر لا يصلح الا بما صلح به اوله )(لآخذن الولي بالمولي ، والمقيم بالظاعن ، والمقبل بالمدبر ، والصحيح منكم بالسقيم ) .
والأمثلة فى القرآن الكريم كثيرة ( للطباق)، ومنها (هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ )(الحديد 3)( وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاء وَلا الأَمْوَاتُ) ( فاطر 19 ـ ).
2 / 2 : وحين يقع التناقض بين اكثر من لفظ في جملتين متقابلتين يتحول (الطباق) الي (مقابلة)، وذلك كقوله تعالي (فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا) (التوبة / 82) فالضحك القليل في الجملة الاولي يقابله البكاء الكثير في الجملة الثانية. ونظير ذلك قوله جل وعلا (إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) (الانفطار 13 ـ )
وتكررت المقابلة في خطبة زياد ومنها قوله (ولم تقرءوا كتاب الله ولم تسمعوا ما اعد الله حق الثواب الكريم لأهل طاعته والعذاب الاليم لأهل معصيته) فالثواب الكريم لأهل الطاعة ، يقابله العذاب الاليم لأهل المعصية، ومنها قوله (فرب مسوء بقدومنا سيسر، ومسرور بقدومنا سنسوؤه) فالمقابلة هنا بين المبتئس الذي سيصبح مسرورا والمسرور الذي سيصبح مبتئسا عندما يأتي الامير. وأيضا (فلنا عليكم.. ولكم علينا) (لين في غير ضعف.. وشدة في غير عنف).
3 ـ اما الجناس فهو اشتراك الالفاظ المختلفة في المعني في بعض الحروف، أو كل الحروف.
ويكون الجناس ناقصا كقوله تعالي ( فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ ) (التكوير:15، 16). ويكون الجناس كاملا تاما اذا اشترك اللفظان المختلفان في المعني في كل الحروف كقوله تعالي (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ) (الروم 55) .
وتكرر الجناس في خطبة زياد مثل قوله (المواخير المنصوبة والضعيفة المسلوبة) ( لين في غير ضعف.. وشدة في غير عنف) (انج سعد فقد هلك سعيد) (من غرق قوما غرقناه) (ومن حرق قوما حرقناه.. ومن نقب بيت.. نقبت عن قلبه) (نهاة تمنع الغواة)
4 ـ وبالإضافة للمحسنات اللفظية هناك البلاغة المعنوية من الاستعارة والتشبيه والكناية.
فيقول عن المرأة التي تتعرض للاختطاف والاغتصاب (الضعيفة المسلوبة) وهي كناية شديدة الوقع.
ويأتي التشبيه بقوله ( أتكونون كمن طرفت عينه الدنيا). فتشبيههم في غيهم وعماهم بالذي دخل عينيه شئ اعاقها علي الابصار .
وهناك استعارة في قوله (طرفت عينه الدنيا) (وسدت مسامعه الشهوات).
ويأتى في غاية الفصاحة قوله عن الفساق المستترين في المنعطفات المظلمة والطرقات المهجورة (ثم اطرقوا وراءكم كنوسا في مكانس الريب) والكنوس او الكنس بمعني مستتر، ومنها قوله تعالي عن النجوم المستترة الجارية في الفضاء الكوني (الْجَوَارِ الْكُنَّسِ)، ويقول عن الحكام (كهفكم الذي اليه تأوون).
ومن المبالغة في الاستعارة قوله وقد اجاد فيه (اني لو علمت ان احدكم قد قتله السُّل من بغضي لم اكشف له قناعا).
4 ـ وتلك البلاغة المعنوية وتلك المحسنات اللفظية استخدمها زياد ليوقع التأثير العميق في المستمعين فى عصر الفصاحة العربية، وليقنعهم بهذه الفصاحة اللفظية والمعنوية بصدقه فيما يقول عن إجراءاته المتشددة وعزمه علي تنفيذها .
ويمكن مراجعة قراءة الخطبة ليتبين ان زياد احسن توظيف تلك المحسنات اللفظية والبلاغية خصوصا في الجزء الاول من خطبته الذي حفل بالهجاء لأهل البصرة وبوعظهم في نفس الوقت. ثم احسن ايضا في توظيف فصاحته في الجزء الثاني حين اخذ يهددهم في لغة شديد وفصيحة ، ثم جاء الجزء الثالث اكثر هدوءا فكان الاسلوب اقرب الي الاسلوب التقريري وابتعد عن الاسلوب الادبي والمجازي ليلائم الحال .
هذا عن عبقرية زياد في خطبته من حيث الفصاحة ، او الشكل العام .
ويوازي هذا عبقريتة في خطبته من حيث المضمون .
فالخطبة تنقسم الي ثلاثة اقسام : البداية ، والوسط ، والخاتمة ..
البداية :
1 ـ في البداية بادر بهجاء اهل البصرة والهجوم عليهم وقرن ذلك الهجوم بالوعظ الديني . وهذه النوعية من الوعظ المقترن بالتهديد والوعيد والقتل بسيف السلطان تناسب حال زياد.
2 ـ ويلاحظ انه لم يستخدم في الوعظ ايه قرآنية مع اشارته في معرض هجومه عليهم الي هجرهم كتاب الله ( كأن لم تسمعوا بآي الله ولم تقرأوا كتاب الله ولم تسمعوا ما اعد الله …الخ ).
3 ـ كما انه لم يستشهد بأي حديث منسوب للنبي عليه السلام ، اذ انه في تلك الفترة لم تكن للأحاديث دولة رائجة في الرواية الشفهية، وقد بدأت روايتها الشفهية علي اتساع فيما بعد ، ثم يدأت كتابتها بعد هذا الوقت بقرن من الزمان .
4 ـ كما أن مصطلح (السنة ) بمفهومه الدينى لم يكن بعد معروفا أو مستعملا .لذا لم يرد فى خطبة زياد. كل ما قاله هو الآيات القرآنية و الكتاب (كأن لم تسمعوا بآي الله ولم تقرأوا كتاب الله ).
ففى القرن الأول الهجرى لم يحدث أبدا ـ أقول أبدا ـ فى أى خطبة رسمية أن يقال (الكتاب والسّنة ) بل الكتاب فقط . وحتى بعد عصر (زياد ) بنصف قرن تقريبا خطب عمر بن عبد العزيز أول خطبة له بعد توليه الخلافة فذكر فيها الكتاب فقط ونفى وجود شىء معه ، إذ لم يكن فى ثقافة المسلمين وقتها شىء يسمى السنة . يروى ابن سعد فى الطبقات الكبرى فى ترجمة عمر بن عبد العزيز ، أنه عندما تولى الخلافة بعد موت ابن عمه سليمان بن عبد الملك : (خرج الى المسجد فصعد المنبر فحمد الله واثنى عليه ثم قال :أما بعد ، فانه ليس بعد نبيكم نبي ، ولا بعد الكتاب الذي انزل عليه كتاب ، الا ان ما احل الله حلال الى يوم القيامة وما حرم الله حرام الى يوم القيامة. الا اني لست بقاض ولكني منفذ. الا اني لست بمبتدع ولكني متبع الا انه ليس لاحد ان يطاع في معصية الهك .الا اني لست بخيركم ولكني رجل منكم غير ان الله جعلني اثقلكم حملا ).
5 ـ والمستفاد من هذا ان زياد في وعظه استخدم اسلوبه الشخصي ، وقرن الوعظ بتوضيح مثالب اهل البصرة من الصغار والسفهاء الي الكبار والزعماء ، حيث فشا فيهم الفسق والظلم في الليل والنهار .
وكان ممكنا ان يستشهد زياد بالقرآن الكريم وفيه اروع ما قيل بالعربية الفصحي في الوعظ والترغيب والترهيب ، الا ان ذلك لن يعطي لزياد فرصته في اظهار فصاحته الشخصية ، وهي احدي مظاهر عبقريته، وبها يستطيع بهذا الاسلوب الدعائي احكام سيطرته السياسية .
وهذه المبادرة الحادة بالهجوم كانت مقدمة لما جاء في وسط الخطبة من اعلانه لسياسته او احكامه العرفية التي لم تكن معروفة قبل زياد .
6ـ لقد قامت سياسة معاوية علي اساس الحلم والمداراة ، وهو القائل ( لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت ، قالوا كيف ؟ قال : اذا شدوها ارخيتها ، واذا ارخوها شددتها ). ولم تكن هذه السياسة لتجدي في البصرة وولاياتها في المشرق ، وهي احد اهم مراكز المعارضة السياسية للحكم الاموي الجديد ، وبسبب انفتاح البصرة علي الخليج والعالم واتساع الولايات التابعة لها ، وكونها مجتمعا متعدد الاعراق فان تمردها السياسي اقترن بانفلات اخلاقي مع ضعف الولاة وكثرة توليهم وعزلهم .وهذه الحالة في رأي زياد لا يجدي معها تطبيق الاحكام الشرعية العادية ، كما لا يجدي معها تطبيق سياسة معاوية في اللين والمداراة ، وانما تحتاج الي نوعية من الاحكام العرفية لا تأخذ المجرم فقط ، وانما تستهدف المحيطين به .
وهذه الاحكام العرفية التي بدأ بها زياد فى تاريخ المسلمين كان لابد من اسلوب خاص في إعلانها ، أي لا يصح ان يبدأ بها خطبته ، وانما يمهد لها بمقدمة هادرة يقرن فيها الهجوم والانتقاد الحاد بالوعظ الجاد، ثم بعدها يدخل في تفصيل احكامه العرفية . وبعد ان وزع هجاءه ووعظه علي الجميع من السفهاء والحلماء والرعاع والزعماء داعيا للاصلاح ومنحازا للفضيلة ، وبعد ان تيقن من إحساس المستمعين بالخجل والعار بدأ في الموضوع الاساسي للخطبة ، وهو وسطها ، او الاحكام العرفية التي فرضها علي اهل البصرة .
الوسط :
وفي هذا الجزء يبدأ بقوله عن اماكن الفجور ( حرام علي الطعام والشراب حتي اسويها بالارض هدما واحراقا ) فهذا ينذر نذرا ويقسم قسما انه لن يأكل ولن يشرب حتي يهدم ويحرق اماكن الفجور تلك .. وبالتالي يكون تنفيذ هذا القسم – وهو سهل ميسور – اصدق دليل علي عزمه في تنفيذ سياسته ..
ثم بعدها بدأ يوضح سياسة واحكامه العرفية :
اهم معالم هذه السياسة :
المظهر الأول :
1 ـ معاقبة المخطئ ومن حوله ، فهو يعاقب الولي بالمولي و المقيم بالظاعن .. الخ .. وهذا يناقض القرآن وتشريع الاسلام القائل (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (فاطر18) (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى )(الاسراء 15) (أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (النجم 38) فليس في الاسلام ان يعاقب البرئ بذنب المجرم، ولهذا فان احد الخوارج وهو ابو بلال مرداس بن ادية قال ليزيد معلقا علي خطبته (انبأنا الله غير ما قلت ، قال الله عز وجل: وابراهيم الذي وفى، الا تزر وازرة وزر اخري، وان ليس للانسان الا ما سعي) فأوعدنا الله خير مما اوعدتنا يا زياد، فقال له زياد: انا لا نبلغ ما نريد فيك وفي اصحابك حتي نخوض اليكم في الباطل خوضا).
اذن يعترف زياد ببطلان هذه الاجراءات التشريعية، الا انها ضرورة في نظره لمواجهة الانفلات الامني الذي اسهب في الهجوم عليه..
ويهمنا هنا أن زيادا قد أسس هذه القاعدة الظالمة ، وهى معاقبة البرىء بجرم المجرم ، وهى أهم إجراءات السياسة القمعية للنظم الاستبدادية العربية حتى الآن .ويستعملها نظام مبارك فى مصر سياسة ثابتة يتعامل بها مع الخصوم السياسيين، بل ويتعامل بها البوليس المصرى فى إرغام البرىء على الاعتراف بما لم يقترفه بتهديده بانتهاك حرمة بيته ، ومن العادات الهمجية للبوليس المصرى فى عهد العسكر اتخاذ الأقارب رهائن والقبض عليهم لارغام المطلوب على تسليم نفسه . هذا القمع وذاك الظلم قننه زياد فى تلك الخطبة (الوعظية )، وسار عليها المستبد الشرقى حتى الآن.
ولم ينفع مع زياد وعظ مرداس له حين ذكّره بالقاعدة القرآنية، بل اعترف بصراحة أنه يخوض فى الباطل خوضا ليواجه الخوارج.
وعلى أى حال فقد كان لزياد شجاعة الاعتراف بأنه على الباطل هنا، ولكن المستبدين من بعده ـ وحتى الآن ـ ليسوا فى مثل شجاعته وليسوا فى مثل فصاحته .
2 ـ وهناك تناقض اخر في خطبة زياد، ليس مع القرآن فقط، ولكن مع فقرات من الخطبة نفسها، اذ انه يقول (اني رأيت اخر هذا الامر لا يصلح الا بما صلح به اوله، لين في غير ضعف و شدة في غير عنف، واني اقسم بالله لأخذن الولي بالمولي والمقيم بالظاعن.. الخ..). وهنا يقع التناقض. فكيف يتأتي اللين مع معاقبة المظلوم البرئ؟ وكيف لا تكون معاقبة البرئ شدة وعنفا ؟
ثم ان زياد يخطئ حين يزعم ان سياسته هذه هي نفس السياسة التي صلح بها حال المسلمين الاوائل في عهد النبي عليه السلام، اذ يقول (اني رأيت اخر هذا الامر لا يصلح الا بما صلح به اوله) فالواقع التاريخي يؤكد ان تلك الاحكام العرفية كان زياد اول من طبقها في تاريخ المسلمين .وفي النهاية فان الباعث لزياد علي هذه السياسة هو ان اهل البصرة كانوا يتعاونون علي الاثم والعدوان، فلابد من اخافة الجميع.. وقد نجح في هذا.
المظهر الثانى من مظاهر سياسته:
1 ـ استحداث عقوبات جديدة لم تكن، والتعليل في قوله (وقد احدثتم احداثا لم تكن وقد احدثنا لكل ذنب عقوبة) أي فالجرائم الجديدة ابتدع لها زياد عقوبات جديدة من جنسها من الاغراق والحرق وشق القلب والدفن حيا وقطع لسان من يتكلم بدع"> أى إن عبقرية زياد جعلته يستخدم اسلوب الوعظ فى تمرير أحكام استثنائية غاية فى القسوة، تصادر مقدما حرية التعبير التى كفلها معاوية نفسه حين قال قولته الشهيرة (إنا لا نحول بين الناس وألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين ملكنا). وقد فهم ابو بلال مرداس بن ادية خطورة تلك الخطبة وما تعلنه من سياسة فاعترض، فاعترف زياد بأنها الطريق الوحيد لمواجهة الخوارج، حتي ولو سار في طريق الباطل.
6 ـ ونجح زياد في تطبيق هذه السياسة في البصرة حتي اضاف له معاوية ولاية الكوفة ، وكان للشيعة في الكوفة تأثير في ولاية المغيرة بن شعبة عليها ، وكانوا يهاجمون المغيرة اذا بدأ في الخطبة في شتم علي ابن ابي طالب ، وكان قائد الشيعة في ذلك حجر بن عدي الكندي ، وراح حجر بن عدي ضحية لسياسة زياد في الكوفة هو واصحابه ، فكانوا اول قتلي المعارضة القولية في تاريخ المسلمين ، وهذا هو موضوعنا التالى .
في نهاية الخطبة :
يقرن تقعيد العلاقة بين الحاكم والمحكوم ببعض النصائح وبعض الود الحذر مع التحذير والتهديد ، ولكن في اسلوب اكثر هدوءا .
وتقعيد العلاقة بين الحاكم والمحكوم هنا ينبع من عقيدة الحق الالهي في الحكم الى سبق بها زياد الخليفة العباسى أبا جعفر المنصور. إذ كرر المنصور العباسى ـ بعد قرن تقريبا ـ ما قاله زياد فى هذه الخطبة من أن الحاكم يستمد سلطته ـ ليس من الناس ـ ولكن من رب الناس ، وأنه صاحب الحق الالهى فى السلطة و فى الثروة ، معتبرا أن مشيئة الله هي التي اعطت الحكم للحاكم ، وبهذا الحق الالهي المقدس يمارس الحاكم سلطاته . يقول زياد في ذلك ( نسوسكم بسلطان الله الذي اعطانا ، ونذود- أي ندافع – عنكم بفئ الله الذي خولنا ) أي ان الله هو الذي اعطاه السلطان والاموال ، ولذلك يطلب منهم الطاعة غير المشروطة ( فلنا عليكم السمع والطاعة فيما احببنا ) أي ليست الطاعة للحاكم مقيدة بطاعة الله ، بل طبقا لما يريده ويحبه السلطان .
ثم يجعل من حقهم علي الحاكم العدل طالما ينصحون للحاكم ، فالعدل هنا مشروط بالمناصحة أي يكونوا اعوانا ناصحين للحاكم ( ولكم علينا العدل فيما ولينا، فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم ) فالسلطان هو الذى يملك الولاية و السلطة ، وهو الذى يملك العدل ويملك الثروة أو الفىء .
وفي سياق فصاحته يؤكد قاعدة سياسية خطيرة ، وهي الطاعة المطلقة للحاكم في مقابل عدل مقيد بمدي نصحهم للحاكم ، ويربط صلاح الحاكم بصلاح الرعية ( ومتي تصلحوا يصلحوا ) وهى حجة وجيهة لتأجيل الاصلاح حتى تنصلح الأمة .وفى النهاية يمنعهم من بغض الحاكم ويأمرهم بالدعاء له بالصلاح ..
وفي اطار تقعيد هذه العلاقة لصالح الحاكم علي حساب المحكوم اعلن انه لن يقصر عنهم في تحقيق ثلاث : انه لن يجعل حجابا بينه وبين أي طالب لحاجة حتي ولو جاءه بالليل ، ولن يمنع عنهم حقوقهم المالية ، ولن يمنع جيشا في ارض العدو من العودة للوطن .وفي النهاية يذكرهم ويحذرهم من عقوبته فيهم ، فيقسم بالله انه له صرعي كثيرين فيهم فليحذر كل منهم ان يكون من صرعاه..
مدي نجاح الخطبة:
واتت الخطبة ثمارها سريعا، فقال الاحنف بن قيس احد زعماء القبائل واشهرهم علي الاطلاق ( قد قلت فأحسنت ايها الامير، والثناء بعد البلاء، والحمد بعد العطاء، وانا لن نثني حتي نبتلي ) أي يعول علي النتائج والافعال وليس علي الوعود والاقوال، او بمعني اخر يؤيد زياد في دعوته الشديدة للاصلاح ، لذلك قال له زياد: صدقت. بينما قال زياد لابن الاهتم: كذبت. ذلك ان ابن الأهثم قال : (اشهد انك ايها الامير قد اوتيت الحكمة وفصل الخطاب، فقال زياد له: ذاك بني الله داود عليه السلام، مشيرا الي ما جاء في القرآن بشأن داود (38 / 20) أي انه لم يتأثر بنفاق ومدح ابن الاهتم له، وبادر بتكذيبه.
النجاح الحقيقى للخطبة هو فى مدى تطبيقها.
علي ان النجاح الحقيقي للخطبة – كما اشار الاحنف – يتجلي في التطبيق، وهذا ما حرص عليه زياد اذ استعمل علي شرطته عبد الله بن حصن، فأمهل الناس – وفق ما جاء في الخطبة – حتي يبلغ الخبر الكوفة وعاد اليه وصول الخبر، واطمأن الي وصول التحذير والتهديد الي الجميع، وبعدها بدأ التنفيذ ، فكأن يؤخر صلاة العشاء حتي يصلي اخر من يصلي ثم يأمر رجلا فيقرأ القرآن ساعة او ساعتين ، ثم ينتظر الي ان يصل رجل الي اطراف البصرة وبعدها يخرج صاحب الشرطة فلا يري انسانا بالطريق الا قتله.
واستمر زياد في سياسته فاسرف في العقوبة وعاقب بالظن والتهمة، حتي خافه الناس خوفا شديدا، وتأكد الأمن بحيث كان الشئ يسقط من صاحبه فيظل في مكانه الي ان يأتي صاحبه ويأخذه، وتبيت المرأة دون ان تغلق عليها بابها، وهابه الناس هيبة لم يهابوها لأحد من قبله، وجمع الي هذه الشدة فصاحة في الخطب استطاع ان يجعلها خير دعاية لسياسته لذلك قال عنه الشعبي اشهر الرواة وكان يعيش في عهده ( ما سمعت متكلما قط تكلم فأحسن الا احببت ان يسكت خوفا من ان يسئ الا زيادا ، فانه كان كلما تكلم اكثر كان اجود كلاما . .) .
الفصل الرابع : فى العصر العباسى : ( الخطبة الدينية بين العصرين الأموى والعباسي )
أولا : الخطابة بين العصرين الأموى والعباسى من حيث الفصاحة
1 ـ امتد زخم الخطابة العربية الي اوائل القرن الثالث الهجري ليشمل عصور الخلفاء العباسيين الاقوياء ( السفاح ، المنصور ، المهدي ، الهادي ، الرشيد ، المأمون ) وبالعكس اخذت الرسائل تحل محل الخطب الشفهية ، معبرة بذلك علي علو شأن التدوين علي حساب الخطابة الشفهية ، فاذا كان العصر الاموي هو عصر الروايه الشفهية فان العصر العباسي هو عصر تدوين العلوم وتنظيمها وتنوعها وازدهارها .
2 ـ ولقد كان الخليفة الاموي عربي الثقافة والانتماء لابد ان ينتسب للعروبة بالاب والام ، حتي ان افضل ابناء عبد الملك بن مروان كان مسلمة بطل الحروب ضد الروم ، وكانت امه رومية ،لذلك فلم يتول الخلافة التي وليها من هو اقل منه شأنا من اخوته وابناء عمومته ، وكان الوضع في الخلفاء العباسيين مختلفا اذ كانوا جميعا ابناء جواري ماعدا السفاح اولهم والامين ابن الرشيد ، وكانت امه عربية هاشمية عباسية ، والمقصود ان الخليفة العباسي نشأ في بيئة غير عربية فلم يتعود لسانه اللغه العربية الفصحي ، وبالتالي انتشر اللحن علي الالسنة ، واحتاج العصر العباسي الي وضع قواعد اللغة العربية ليستقيم نطقها ، بعد ان كان العرب ينطقونها فصيحة بليغة بالسليقة ، ولابد ان ينعكس ذلك علي وضعية الخطبة التي يتفوق فيها الاكثر فصاحة .
2 ـ ومن الانصاف للخلفاء العباسيين ان نذكر ان اللحن في اللغة العربية وجد طريقه الي الخلفاء الامويين منذ عصر الخليفة الوليد بن عبد الملك الذي وصف بانه كان لحانا –أي يقع في الخطأ في الاعراب حين يخطب –مع ان اباه الخليفة عبد الملك كان من افصح الناس ، وقد قال عبد الملك عن شيبته ( شيبنا طلوع المنابر وتوقع اللحن ) وسئل عن شيبته فقال ( وكيف لا ، وانا اعرض عقلي عن الناس في كل جمعة ) والطريف ان عبد الملك كان مترددا في تولية ابنه الوليد للخلافة بعده بسبب عدم فصاحته ). أي ان النطق العربي السليم للغة وبالسليقة بدأ يندثر ، وحين جاء العصر العباسي انتشر اللحن فاحتاج العصر العباسي الي جمع الفاظ اللغة العربية ووضع النحو او قواعد اللغه بالرجوع الي الاعراب الذين لا يزالون في الصحاري العربية وبعيدين عن الاختلاط بالعجم ، ومن هؤلاء تم جمع الالفاظ العربية ، ثم قياس قواعد اللغة العربية علي كيفية نطقهم الطبيعي والتلقائي للكلمات.ومن الطريف ان الاعاجم هم الذين افسدوا السليقة العربية لدي العرب في العراق وغيرها ، ثم ان الاعاجم هم الذين وضعوا العلوم في قواعد اللغة العربية وعلومها .
ثاتيا : تدهور الخطبة تدريجيا فى العصر العباسى
1 ـ ومن الطبيعي ان هذا لم يحدث فجأة .اذ شهد العصر العباسي منذ بدايته بعض الزخم القوي في المؤثرات الاموية في ازدهار الخطبة ، ثم بدأ يتراجع لصالح التدوين وقيام الرسائل بدور الخطب في التواصل والدعاية ، ثم اندثر دور الخطبة في العصر العباسي الثاني حتي اصبحنا نقرأ نوادر في هذا الشأن .
منها ان احمد بن محمد بن عبد الله حفيد الخليفة المهتدي العباسي كان خطيبا لجامع بغداد الكبير المعروف بجامع المنصور ، وظل يخطب فيه منذ 386 الي ان توفي سنة 418 هـ ، وكان الخطيب طوال هذه السنين يخطب خطبة واحدة لا يعرف غيرها ابدا ، والغريب ان الناس كانوا اذا سمعوها يضجون بالبكاء ، هذا ما ذكره المؤرخ ابن الجوزي.
2 ـ ثم تفاقم الامر بتحكم الامراء والملوك الاعاجم في الخلافة العباسية ، وهم لا يحسنون الكلام بالعربية اصلا ، وكان معاونوهم من الكتاب والوزراء والقضاة يغلب عليهم العمل بالدواوين دون مواجهة الناس بالخطب ، ولذلك فان اول خطبة فيما يسمى بالمسجد الاقصي بعد تحرره علي يد صلاح الدين الايوبي قام بها القاضي ابو المعالي الدمشقي ، بحضور السلطان صلاح الدين ، ومع طول الخطبة ، فانها ازدحمت بالايات القرآنية في مجال الوعظ والنشوة بالنصر والهجوم علي الصليبيين دون جديد .ولو كان القائد المنتصر المشهور صلاح الدين الايوبي يحسن الخطابة لانتهز هذه الفرصة لابهار الناس بفصاحته بعد ان ابهر العالم بشجاعته .ومع ذلك فقد وجدت خطب كثيرة لبعض الخلفاء في العصر العباسي الثاني ، خصوصا المعتز والمهتدي وغيرهما .. بالاضافة الي بعض القواد والعلماء ، الا ان العصر لم يعد عصر الخطب .. ولم يعد للخطب دورها الاعلامي والدعائي الذي كان من قبل .
ثالثا : مقارنات
1 ـ والزخم الذي احدثه العصر الاموي في الخطبة وامتد تأثيره حتي اوائل العصر العباسي يغري بعقد مقارنات سريعة لعلها تكون فاتحة لدراسات اكثر عمقا واكثر تأصيلا …ولكن نكتفي بعقد اشارات سريعة للمقارنات .
أ –إشتد الأمويون منذ عصر الفتنة الكبرى الثانية ( فتنة عبد الله بن الزبير ) فى سفك الدماء ، وكان الحجاج بن يوسف المعبر عن هذه المرحلة بدمويته وسفكه للدماء . وكان عبد الملك بن مروان رائد هذه العنف فى استعمال السلاح وفى قمع المعارضة القولية معا . ولجأت المعارضة فى المدينة الى إستعمال الوعظ والأمر بالتقوى لتذكير الخليفة برب العزة الذي يستوي الجميع امامه في العبودية ، وهذا يضع لخليفة في مأزق ، أن ينطبق عليه قول الله تعالي عن العصاة المتجبرين ( واذا قيل له اتق الله اخذته العزة بالاثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد : 2/ 206 ). وقيل هذا للخليفة عبد الملك بن مروان ـ وهو الذي كان احد فقهاء المدينة قبل تولى الخلافة . ثم أصبحت المدينة مركز المعارضة السياسية له ، فخطب في اهل المدينة شهيرة يقول فيها لهم ( اما بعد فلست الخليفة المستضعف –يعني عثمان –ولا الخليفة المداهن –يعني معاوية –ولست الخليفة المأفون –يعني يزيد بن معاوية - .. الا واني لا اداوي ادواء هذه الامة الا بالسيف حتي تستقيم لي قناتكم .. والله لا يأمرني احد بتقوي الله بعد مقامي هذا الا ضربت عنقه ) وكان ذلك سنة 75 هـ
2 ـ ثم جاءت الدعوة العباسية تزعم العودة الي صفاء الدين ولكنها تضمر الاستمرار في الاستبداد ولكن عن طريق تبريره بمبررات دينية منتحله بصناعة الاحاديث والتأويل للقرآن .الا ان بعض الناس صدق الدعاية العباسية فكان يأمر الخليفة بتقوي الله ، وكان الخليفة يتقبلها من القائل اذا كان زاهدا في الدنيا لا يطلب مالا ولا نفوذا ولا جاها ، وتنوعت المواقف للخلفاء العباسيين الاوائل ، خصوصا اعرقهم في الحكم وهو ابو جعفر المنصور الذي وطد الدولة العباسية ، وكان من ابرع الخطباء ، وقد خطب مرة فقال ( الحمد لله ، احمده واستعينه واومن به واتوكل عليه واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له ) فقام له رجل فقال : يا امير المؤمنين اذكرك من انت في ذكره ، فقال ابو جعفر المنصور : مرحبا مرحبا لقد ذكرت جليلا وخوفت عظيما ، واعوذ بك ان اكون ممن اذا قيل له : اتق الله اخذته العزة بالاثم والموعظة منا بدت ، ومن عندنا خرجت ، وانت يا قائلها فاحلف بالله مالله اردت بها ، انما اردت بها ان يقال : قام فقال فعوقب فصبر ، واهون بها من قائلها ، واياكم يا معشر الناس وامثالها ،واشهد ان محمد عبده ورسوله ..) وعاد الي خطبته يكملها كأنما يقرا من قرطاس علي حد قول ابن الجوزي في تاريخه .
ومع فصاحة الخليفة ابي جعفر المنصور –ثاني الخلفاء العباسيين –الا انه كان سفاكا للدماء ، وهو ابرع من ارسي دعائم الدولة الدينية المخالفة لما كان عليه النبي عليه السلام في دولته القائمة علي حرية الرأي والفكر والعقيدة والشوري والعدل الاجتماعية ، وكان من ضحايا ابي جعفر المنصور رجل اسمه منصور بن جعونه وكان ذلك سنة 141 هـ ، وكان وقتها الطاعون منتشرا في العراق ، ثم اخذ في التناقص ، فخطب ابو جعفر المنصور في مدينة الرقة فقال ( احمدوا الله يا اهل الشام فقد رفع عنكم بولايتنا الطاعون ) فهب منصور بن جعونة يقول له ( الله تعالي اكرم من ان يجمع بين ولايتكم والطاعون ) فأمر المنصور بقتله .
رابعا : الايدلوجية السياسية فى الحكم تظهر فى الخطب
1 –والايدولوجية الدينية التي صدرت عنها الدعاية الاموية وخلفت الخطب ، هي الجبرية الدينية .. لقد اوقع الامويون بالمسلمين فظائع ، كان اولها تولي معاوية الحكم عبر طريق مفروش بالدماء ، ثم يقيم ابنه خليفته ليرثه مخالفا لما تعارف عليه المسلمون ، ونتج عن اقرار مبدأ التوراث في الحكم ان حدثت في خلافة يزيد ين معاوية ثلاث كوارث ضخمة ، هي قتل الحسين وآله في كربلاء ، واقتحام المدينة المنورة وقتل اهلها واغتصاب نسائها في موقعة الحرة ، ثم انتهاك مكة وضرب الكعبة بالمجانيق ..
ثم توالت فظائع سفك الدماء في خلافة عبد الملك وابنائه وولاتهم من امثال الحجاج بن يوسف وخالد القسري وغيرهم .. وتلك الفظائع الدموية اعطت زادا للدعاية السوداء ضد الامويين .. والتي لا تزال اثارها في كتب التراث حتي اليوم .وقابل الامويون هذه الدعاية بدعاية مضادة ترتدي بسذاجة رداء الدين ، وهي ما يعرف بالجبرية ، أي ان الله تعالي –في رأيهم –قد اراد وشاء ان يموت الحسين قتيلا في كربلاء ، وشاء ان يتم انتهاك حرية المدينة ومكة .. وان من يعترض علي ذلك فقد اعترض علي ارادة الله .
ومن الطبيعي ان تعتنق المعارضة مبدأ اخر مخالفا هو حرية ارادة الانسان ومسئوليته علي ما يفعله وهو المذهب المعروف تراثيا باسم القدرية ، ومن القائلين به مكحول الدمشقي وغيلان الدمشقي ومعبد الجهني وقد قرنوا دعوتهم ودعايتهم بالثورة علي الامويين ، وفشلوا في ثورتهم فانتقم منهم الامويون افظع انتقام ، وهذا موضوع شرحه يطول .. ويدخل في ايدولوجية المعارضة باصنافها ..وعنها صدرت الخطبة من الطرفين
ونستشهد ببعض فقرات مما قاله خلفاء بنو امية في الجبرية السياسية ( لقد خطب عبد الملك بن مروان بعد ان قتل مصعب بن الزبير فقال ضمن خطبته ( ايها الناس .. دعوا الاهواء المضلة .. فقد حاربتمونا فرأيتم كيف صنع الله بكم ..). أي ان الله هو الذي هزمهم وليس عبد الملك
وخطب زياد بن ابيه خطبته البتراء المشهورة في اهل البصرة ، فكان مما قاله فيها ( ايها الناس انا اصبحنا لكم سادة وعنكم زادة ، نسومكم بسلطان الله الذي اعطانا ، ونزود عنكم بفئ الله الذي خولنا ، قلنا عليكم السمع والطاعة فيما احببنا ، ولكم علينا العدل والانصاف فيما ولينا فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم لنا ) .
2 ـ وجاءت الدولة العباسية بمفهوم شامل للدولة الدينية صدرت عنه دعايتها ،وخطب بهذا ابو جعفر المنصور يؤكد ويكرر ما قاله الوالي الاموي زياد بن ابيه ، يقول المنصور في خطبته يوم عرفة في الحرم ( ايها الناس ، انما انا سلطان الله في ارضه ، اسوسكم بتوفيقه ورشده ، وخازنه علي فيئه اقسمه بارادته ، واعطيه باذنه ، وقد جعلني الله عليه قفلا ، اذا شاء ان يفتحني فتحني لاعطائكم ، وان شاء ان يقفلني عليه اقفلني ، فارغبوا الي الله ايها الناس وسلوه في هذا اليوم الشريف .. ان يوفقني الي الصواب ويسددني للرشاد ).
والمنصور في هذا الخطاب يوضح كل ملامح الحاكم الذي يحكم وفقا للحق الالهي المقدس (Divine Right of King ) ولذلك فقد استمر في العصر العباسي اضطهاد المفكرين القائلين بالارادة الحرة او مسئولية الانسان عن اعماله والذين يناقضون فكرة الجبرية التي ورثها العباسيون عن الامويون ، حيث تبرر هذه الايدولوجية اخطاء الحاكم وتنسبها لله تعالي بزعم ان تلك مشيئة الله وارادته وقضائه الذي لا راد له .ومناقشة هذه الافكار ليس موضعها الان .ولكن تلك الافكار استمرت في العصر المملوكي الذي ورث العصر العباسي .
ملاحظة : هذا البحث مقتطفات عن الخطبة من أبحاث سابقة للمؤلف .
الفصل الخامس : فى العصر الفاطمى
( الخطبة الدينية شعيرة سياسية فى العصر الفاطمى )
مقدمة :
1 ـ الدولة العباسية دخلت فى دور الضعف منذ عصر الخليفة المتوكل ، وتزايد ضعفها ، وتحكم فى الخلفاء مراكز قوى من القادة الأتراك والدول القادمة من الشرق كالبويهيين والسلاجقة . وهذه القوى التى سلبت الخليفة العباسى سلطانه السياسى حرصت على تعظيم كهنوته الدينى لتستمد منها شرعية الحكم . فأصبح الخليفة العباسى كهنوتا دينيا مقدسا ولكن منزوع السلطات . هذه هى السمة الأساس فى العصر العباسى الثانى . وفى هذا العصر أسس الفاطميون الشيعة دولتهم فى المهدية فيما يعرف الآن بتونس ، ومنها زحفوا الى مصر واستولوا عليها واسسوا القاهرة والجامع الأزهر ، وزحف نفوذهم شرقا فى الشام والعراق ، ووصل حينا من الدهر الى بغداد نفسها حيث أعلن القائد البساسيرى الدعوة للخليفة الفاطمى المستنصر بالله . أعلن هذا فى الخطبة فى بغداد ، لأن الخطبة فى هذا العصر أصبحت من شعائر الحكم السياسى الدينى ، أو الدولة الدينية .
2 ـ الدولة الفاطمية كانت النموذج الكلاسيكى للدولة الدينية ، فأصبحت الخطبة فيها وظيفة رسمية وسياسية ، ومن خلالها يكون إعلان التبعية للخليفة ، ويحرص الخليفة الفاطمى على أن يخطب الجمعة ينفسه ـ حتى لو كان فتى مراهقا ـ ولذا كان يصطحب معه فى الخطبة بعض كبار أتباعه ، أو ينوب عنه آخر يختاره .
3 ـ بهذا تميز الخليفة الفاطمى عن قرينه العباسى ، لذا كان المؤرخون يذكرون خطبة الخليفة الفاطمى كأحد أنشطته السياسية الرسمية ، وليس هذا ملحوظا فى الحوليات التاريخية التى تؤرخ للدولة العباسية .
4 ـ ونتعرف على رسوم وطقوس الصلاة والخطبة للخليفة الفاطمى فى صلاة الجمعة والعيدين مما كتبه المقريزى فى تاريخه :( إتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء )، وهو ينقل عن مؤرخى الدولة الفاطمية مثل المسبحى وابن زولاق .
أولا : الخليفة المعز لدين الله الفاطمى ثالث الخلفاء الفاطميين وأول الخلفاء الفاطميين فى مصر:
1 ـ قال عنه المقريزى : ( وفي يوم عيد الفطر ركب المعز وصلى بالناس على رسمه وخطب.) (على رسمه :أى طبقا للنظم الرسمية للدولة ) .وتكرر هذا : ( وصلى المعز صلاة العيد وخطب على الرسم الذي تقدم ذكره وانصرف إلى القصر فأطعم على الناس.)
2 ـ ( عام 378 وفي يوم الجمعة عشرة شهر رمضان ركب العزيز إلى جامع القاهرة بالمظلة فخطب وصلى.) أى كان يسير بمظلة ( شمسية ) فوقه ، ضمن شعائر الصلاة والخطبة . وجامع القاهرة هو الجامع الأزهر .
3 ـ ذكر المؤرخ ابن زولاق أنه صلى الجمعة خلف الخليفة المعز لدين الله الفاطمى ، قال : ( أنا سبحت خلفه في كل ركعة وفي كل سجدة نيفاً وثلاثين تسبيحة ، وكان القاضي النعمان بن محمد يبلغ عنه التكبير . وقرأ في الثانية بأم الكتاب وسورة والضحى ، ثم كبر أيضاً بعد القراءة ، وهي صلاة جده علي بن أبي طالب ، وأطال أيضاً في الثانية الركوع والسجود . وأنا سبحت خلفه نيفا وثلاثين تسبيحة في كل ركعة وفي كل سجدة ، وجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في كل، فلما فرغ من الصلاة صعد المنبر وسلم على الناس يمينا وشمالا ، ثم نشر البندين اللذين كانا على المنبر فخطب وراءهما ، وكان في أعلى درجة من المنبر وسادة ديباج مثقل فجلس عليها بين الخطبتين ، واستفتح الخطبة ببسم الله الرحمن الرحيم. وكان معه على المنبر جوهر وعمار بن جعفر وشفيع صاحب المظلة ثم قال: الله أكبر الله أكبر استفتح بذلك وخطب وأبلغ وأبكى الناس وكانت خطبته بخضوع وخشوع. فلما فرغ من خطبته انصرف في عساكره وخلفه أولاده الأربعة بالجواشن والخوذ على الخيل بأحسن زي وساروا بين يديه بالفيلين.) . هنا طقوس فى الخطبة وهو على المنبر ، وهناك القائم بالمظلة أو الشمسية ، واسمه شفيع . وموكب فى دخوله الجامع الأزهر وموكب فى رجوعه القصر ( قصر الذهب )
4 ـ وعن خطبة المعز لدين الله فى صلاة عيد الأضحى والمأدبة بعدها : ( وغدا المعز لصلاة عيد النحر في عساكره وصلى كما ذكر في صلاة الفطر من القراءة والتكبير وطول الركوع والسجود ، وخطب ، وانصرف في زيه، فلما وصل إلى القصر أذن للناس عامة ، فدخلوا والشمسية منصو
دعوة للتبرع
النحت العارى وغيره: هل صناعه لوحات ورسوم ات فيها مناظر جنسيه...
معاهدة سلام : هل يجوز للدول ة الاسل امية أن تتعام ل ...
حق التشريع : من له الحق التشر يع في الدين الاسل امى ؟ ...
مستعدون للتعاون : سلام علی ;کم یا دکتر احمد صبح 40; ...
ثلاثة أسئلة: السؤا ل الأول جاء فى بعض الموا قع : ( يعجز...
more