رقم ( 3 )
فصل تمهيدى : ماهية الاسلام وتاريخه وتطبيقه فى عهد النبى محمد عليه السلام

فصل تمهيدى : ماهية الاسلام وتاريخه وتطبيقه فى عهد النبى محمد عليه السلام

ماهية الاسلام

مفهوم الاسلام والايمان.

أ ـ ان الايمان في اللغة العربية وفي مصطلحات القرآن له استعمالان :

مقالات متعلقة :

"آمن بـ"أي اعتقد في ، و"آمن لـ"أي وثق و اطمئن:

1ـ آمن ب" أي اعتقد ،مثل قوله تعالي (آمن الرسول بما انزل اليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين احد من رسله( 2 /285) وآمن بـ بمعني اعتقد بالإيمان القلبي الباطني.

 وفي العقيدة أو التعامل مع الله تعالي  يختلف الناس حتي في داخل المذهب الواحد والدين الواحد.  والقرآن يؤكد علي تأجيل الحكم علي الناس في اختلافاتهم العقيدية الي يوم القيامة والي الله تعالي وحده (2/ 113)(3/ 55) (10/ 93،) (16 / 124) (5/ 48 ) (39/ 3،7،46).

2- :( آمن لـ)  هو الاستعمال الاخر فى التعامل مع الناس ، أي وثق واطمأن واصبح مأمون الجانب يطمئن له الناس ويثقون فيه ،وتكرر هذا المعني في القرآن خصوصا في القصص القرآني ،ففي قصة نوح قال له المستكبرون (انؤمن لك واتبعك الارذلون ) (ا26 / 111)أي كيف نثق فيك ونطمئن لك وقد اتبعك الرعاع، وتكرر ذلك المعني عن (آمن لـ )في قصة ابراهيم (29 / 26)وقصة يوسف (1712 /)وقصة موسي (44 / 21) (23 / 47)وفي حديث القرآن عن احوال النبي محمد في المدينة ( 3 /73 )(  2 / 75 )ومواضع اخرى كثيرة .

والايمان بمعني الأمن والامان والثقة والاطمئان هو بالطبع حسب السلوك أو التعامل مع الظاهر ،فكل من تأمنه وتثق فيه ويكون مأمون الجانب هو انسان مؤمن في مصطلحات القرآن ،اما عقيدته ـ ان كانت بوذية  او مسيحية او يهودية او اسلامية ـ  فهذا شـأنه الخاص بعلاقته مع ربه .والله تعالي هو الذي سيحكم عليك وعليه وعلي الجميع يوم القيامة .

والقرآن يؤكد علي تأجيل الحكم علي الناس في اختلافاتهم العقيدية الي يوم القيامة والي الله تعالي وحده (2/ 113)(3/ 55) (10/ 93،) (16 / 124) (5/ 48 ) (39/ 3،7،46).

(3)  وقد جاء الاستعمالان معا لكلمة الايمان  في قوله تعالي عن النبي محمد (يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين :9 / 61)أي يؤمن بالله اى يعتقد فيه وحده الاها ،ويؤمن للمؤمنين أي يثق فيهم ويطمئن لهم .

والخلاصة ان الايمان في القرآن الكريم هو الامن في السلوك البشرى وفى التعامل مع الناس ،وكل انسان يامنه الناس ويثقون فيه يكون مؤمنا .ومعناه  العقيدى أى في التعامل مع الله تعالي  هو الايمان به وحده الاها لا شريك له  , هو وحده الشفيع والولى والنصير والوكيل والمستحق وحده بالعبادة والتقديس ،والحكم علي هذا الاعتقاد الذي يختلف فيه الناس- مرجعه لله تعالي وحده يوم القيامة -والمهم ان يتعامل الناس فيما بينهم بالثقة والامن والامان والسلام ..أي ان الايمان في الاسلام هو قرين السلام  في التعامل مع الناس .

ب- مفهوم الاسلام يشبه مفهوم الايمان في القرآن .

الاسلام هو السلام بالمعني السلوكى أو الظاهري في التعامل مع الناس.

والاسلام هو الاستسلام لله تعالى بطاعة أوامره بالمعني الاعتقادي في التعامل مع الله تعالى .

1-الاسلام في معناه القلبي الاعتقادي هو التسليم والانقياد لله تعالي وحده . والاسلام بهذ المعني نزل في كل الرسالات السماوية علي جميع الانبياء وبكل اللغات القديمة ،الي ان نزل اخيرا باللغة العربية ،وصار ينطق بكلمة "الاسلام"التي تعني الاعتقاد والتسليم والانقياد والطاعة المطلقة لله تعالى وحده (الانعام 161:163) فالاسلام في الاعتقاد هو الخضوع لله تعالي بكل اللغات وفي كل زمان ومكان وفي كل الرسالات السماوية , الا انه عندنا وللاسف قد تحول الى وصف باللغة العربية لقوم معينين في عصور معينة .

وليس لأحد من البشر ان يحكم علي انسان بشأن عقيدته ،والا كان مدعيا للالوهية.

والقرآن يؤكد علي تأجيل الحكم علي الناس في اختلافاتهم العقيدية الي يوم القيامة والي الله تعالي وحده (2/ 113)(3/ 55) (10/ 93،) (16 / 124) (5/ 48 ) (39/ 3،7،46).

هذا هو معني الاسلام الباطني القلبي الاعتقادي ، هو فى التعامل مع اللة تعالي استسلام وخضوع له بلغة القلوب ،وهي لغة عالمية يتفق فيها البشر جميعا، وعلي اساسها سيكون حسابهم جميعا امام الله تعالي يوم القيامة.

(2) اما الاسلام في التعامل الظاهري فهو السلم والسلام بين البشر مهما اختلفت عقائدهم يقول تعالي (يا ايها الذين أمنوا ادخلوا في السلم كافة )البقرة 208 .أي يأمرهم الله تعالي بايثار السلم .

 ونتذكر هنا تحية الاسلام الا وهي السلام وان السلام من اسماء الله تعالي، كل ذلك مما يعبر عن تأكيد الاسلام علي وجهه السلمي ويؤكد المعني السابق للايمان بمعني الامن والامان .

(3) والانسان الذي يحقق الايمان السلوكى في تعامله مع الناس فيكون مأمون الجانب لا يعتدي علي احد ويحقق الايمان العقيدى في تعامله مع الله تعالى فلا يؤمن في قلبه الا بالله تعالي وحده الاها، هذا الانسان سيكون مستحقا للامن عند الله يوم القيامة .

ونفس الحال فى الانسان الذي يحقق الاسلام السلوكى في تعامله مع الناس فيكون مسالما لا يعتدي علي احد ،ويحقق الاسلام العقيدى في تعامله مع الله تعالى فيسلم قلبه وجوارحه لله تعالي وحده ،هذا الانسان يكون مستحقا للسلام عند الله تعالي يوم القيامة ،وفي ذلك يقرر الله تعالى إن المؤمنين الذين لا يظلمون أحدا من الناس جزاؤهم الأمن  (6 / 82)أي ان الذين آمنوا  بالله في عقيدتهم وآمن الناس لهم واطمئنوا اليهم لأنهم لم يظلموا احدا ،لهم الامن في الاخرة لأن الجزاء من جنس العمل .

لذلك فان الله تعالي يعدهم بالسلام و الامن فى الجنة (15 / 46) والجنة هى دار السلام  (6 / 127) والسلام هو تحية أهل الجنة ( 13 / 24 ) ( 10 /10 ) ( 36 / 58 ) وحين يكون الناس فى فزع يوم القيامة فإن المؤمنين فقط سيتمتعون بالأمن  ( 21 / 103 ) ( 27 / 89 ، 87 )

أي ان السلام والامان في التعامل مع البشر +الاستسلام لله والايمان بالله وحده وطاعته وحده =السلام والامان في الجنة . وفى المقابل فإن الاعتداء والظلم لله تعالي والناس = الجحيم.

 

مفهوم الكفر والشرك فى القرآن الكريم

1 ـ الكفر و الشرك سواء, هما قرينان فى مصطلح القرآن لذلك يأتيان مترادفين فى النسق القرآنى. ( 9 / 1 ، 2 ، 17 ) ( 40 /42 )

2 ـ  الكفر فى الغة العربية يعنى التغطية, أى كفر بمعنى غطى , ومثلها أيضا " غفر" ومنه المغفر الذى يغطى الوجه فى الحرب. وكلمة "كفر" أى غطى انتقلت الى لغات أخرى منها الأنجليزية : [Cover]. الا ان الله تعالى وصف المزارعين بالكفار, فالزارع كان يطلق عليه فى اللغة العربية "كافر" لأنه " يكفر الزرع " اى يغطيه بالتراب والماء لينمو. وجاء هذا المعنى فى القرآن الكريم ( 57 / 20 ).

لقد خلق الله تعالى البشر بفطرة نقية لا تعرف تقديسا الا لله تعالى ولا تعرف غيره جل وعلا ربا والاها و معبودا ووليا وشفيعا ونصيرا ( 30 / 30 ). ثم تأتى البيئة الأجتماعية وموروثاتها الدينية فتغطى تلك الفطرة النقية بالاعتقاد فى آلهة وأولياء و شفعاء ينسبونهم الى الله تعالى زورا , ويزعمون أنها  تقربهم الى الله تعالي زلفا أو أنها واسطة تشفع لديه. ذلك الغطاء او تلك التغطية هى الكفر بالمعنى الدينى . و فى نفس الوقت فان ذلك هو أيضا شرك لأنه حول الألوهية الى شركة وجعل لله تعالى شركاء فى ملكه ودينه.

وفى الواقع فان فى داخل الكفر والشرك بعض الأيمان حيث يؤِِِمنون بالله ايمانا ناقصا اذ يجعلون معه شركاء فى التقديس , أو يأخذون من مساحة التقديس  ـ التى ينبغى أن تكون لله تعالى خالصة ـ ويعطونها لمن لا يستحقها من البشر و الحجر. وبهذا يجتمع  ذلك الايمان ـ الناقص ـ بالله تعالى مع الايمان بغيره أي بتأليه البشر و الحجر , ووصف الله تعالى أن أكثرية البشر لا تؤمن بالله إلا أذا آمنت معه بغيره ، وهذا هو حال المشركين ، ( 12 / 106 )

أى أن الشرك يعنى وجود إيمان بالله لكنه إيمان ناقص حيث يؤمن بالله تعالى ويؤمن أيضا بوجود آلهة أخرى معه. وهذا الايمان الناقص فى عقيدة الشرك سيؤدى بأصحابه الى النار يوم القيامة ، وسيقال لهم وقتها أنهم كانوا إذا قيل لهم فى الدنيا آمنوا بالله وحده رفضوا ولم يؤمنوا بالله إلا إذا جعلوا معه شريكا وحولوا الالوهية الى شركة بين الله تعالى وغيره ( 40 / 12 )

والله تعالى لا يأبه بذلك الايمان القليل لأنه " كفر" أى غطى الفطرة بتقديس غير الله . والفطرة كما جاء فى القرآن الكريم تجعل الالوهية لله وحده . وقد لعن الله تعالى الكافرين بسبب إيمانهم القليل بالله ( 4 /  46.) وأكد أن أيمان الكافرين القليل لن ينفعهم يوم القيامة ( 32  /29 ).

وبعضهم يرى أن الكفر هو الالحاد أى الانكار التام لوجود الخالق جل و علا , وان الشرك هو الاعتقاد فى آلهة واولياء مع الله, فالشرك عندهم يختلف عن الكفر .

و نقول بالاضافة لما سبق ان الله تعالى ذكر فرعون نموذجا لاكثر البشر كفرا والحادا؛ بلغ به الحاده الى ادعاء واعلان الربوبية العليا، ووصل به تحديه لله تعالى أن يتساءل ساخرا عن الله تعالى منكرا وجوده لأنه ما علم الاها للمصريين سواه ـ يقصد نفسه.( 79/  :23   :  24) ( 28 /38) (40 / 36 ـ37).

هذا الملحد الأكبر كان فى داخله يؤمن بآلهته الفرعونية , بل و يؤِِمن بأن لله تعالى ملائكة  (43/  53) (7 / 127)" ولكنه انخدع بالملك والسلطان والتراث الدينى الذى يزكى طغيانه والكهنة والجند يؤازرونه فازداد طغيانا وتحدى رب العزة جل وعلا. وحين زال عنه سلطانه وجنده وكهنته وكهنوته و أدركه الغرق انكشف غطاء الوهم ورجع سريعا الى فطرته التى غطتها موروثات الشرك ,واعلن اسلامه فى الوقت الضائع حيث لا يجدى الندم ولا التوبة( 10 /  90 ـ ) و أصبح مثلا فى القرآن الكريم لكل مستبد يصل به استبداده الى الالحاد والتأله. ومع ذلك قل من يعتبر من أغلبية المسلمين من الراعى والرعية والرعاع.

ان اعتى الملحدين فى عصرنا لا يستطيع الغاء الفطرة فى داخله, ومهما اعلن انكاره لله جل وعلا فانه عندما يتعرض للمرض أو الغرق أو المصائب يرجع ذليلا لربه جل و علا.  وقد يعود الى عتوه بعد زوال المحنة ( 10 / 22 ـ 9) ( 39 / 8 ، 49 ) ( 17 / 67 ـ ) . و قد يظل في غيه الى لحظة الاحتضار . وهنا يصبح اسيرا بين يدى خالقه يصرخ حيث لا يسمعه البشر من حوله وحيث لا ينفع الندم ولا تجدى التوبة. وحديث القرآن عن هذا الغيب وغيره يطول ـ وما أروعه ـ ولكن ليس هنا محله.

3 ـ وفى كل الأحوال فان الشرك والكفر يعنيان معا الظلم والاعتداء.

وقد وصف الله تعالى الشرك بالله بأنه ظلم عظيم (13  /  31) فأعظم الظلم أن تظلم الخالق جل وعلا وتتخذ الاها معه ، وهو خالقك ورازقك .  وهذا طبعا فى العقيدة والتعامل مع الله.

أما فى التعامل مع البشر فإذا تطرف أحدهم فى ظلم الناس بالقتل والقهر والاستبداد ومصادرة الحقوق الأساسية للانسان فى المعتقد والفكر ، أصبح هذا الظالم مشركا كافرا بسلوكه،وتصرفه وتعامله الظالم مع الناس ، ولا شأن لنا بما فى قلبه أو بعقيدته التى يتمسح بها أو يعلنها. نحن هنا نحكم فقط على جرائمه الظاهرة من قتل للابرياء واعتداء على الآمنين وقهر للمظلومين . أما عقيدته وعقائدنا فمرجع الحكم فيها فالى الله تعالى يوم القيامة.

والقرآن يؤكد علي تأجيل الحكم علي الناس في اختلافاتهم العقيدية الي يوم القيامة والي الله تعالي وحده (2/ 113)(3/ 55) (10/ 93،) (16 / 124) (5/ 48 ) (39/ 3،7،46).

4 ـ وعليه فكما للاسلام والايمان معنيان (الايمان بالله وحده الاها والانقياد والاستسلام لله وحده)  حسب العقيدة القلبية فىالتعامل مع الله، و( الأمن والثقة والسلام )فى التعامل مع كل الناس ، فان النقيض لهما وهما الشرك والكفر يعنيان معا الظلم والاعتداء. الظلم لله تعالى والاعتداء على ذاته بالاعتقاد فى آلهة أخرى معه ، وتقديس غيره ( فيما يخص العقيدة ) والظلم والاعتداء على البشر بالقتل للابرياء وسلب حقوقهم وقهرهم.

وبينما يكون لله تعالى وحده الحكم على اختلافات البشر فى أمور العقيدة ـ من اعتقاد فيه وحده أوبالعكس مثل إتخاذ أولياء وآلهة معه أو نسبة الابن والزوجة له ـ  فإنه يظل من حق البشر الحكم على سلوكيات الأفراد وتصرفاتهم ، إن خيرا وإن شرا. إن كانت سلاما وأمنا فهو مؤمن مسلم ، وإن كانت ظلما وبغيا فهو مشرك كافر بسلوكه فقط. هنا يكون سهلا تحديدنا  المسلم بأنه الذى سلم الناس من أذاه ، والمشرك الكافر هو المجرم الارهابى والمستبد الظالم الذى يقهر شعبه ، او الطاغية ، من الطغيان ، وهو أفظع الظلم ، والبغى وهو الظلم الذى يجاوز الحد ويعتدى على الآخرين ظلما وعدوانا.

 5 ـ لقد ارتبط الكفر والشرك فى القرآن الكريم بوصف الظلم. وتكرر وصف الظلم فى القرآن الكريم نحو مأتى مرة ، منها على سيبيل المثال:

(2:254) (31:13) (2: 165) (4: 75 & 168) (6: 45) (10:13 &52) (11: 37& 67& &94& 102 & 116) (14: 44 & 45) (21:13) (29: 49);

كما ربط الله تعالى بين الكفر والشرك ومصطلح الاعتداء فى مواضع كثيرة ، منها :(9:10) (50: 25) (68: 12) (83: 12)

4:154) (7:163) (2:229) (4: 14) (65:1) (5: 94& 87) (23: 7)).

وقد حرّم الله تعالى البغى ( 7 / 33 ) ( 16 / 90 ) ووصف كبار المشركين بالبغى والطغيان ( 28 / 76 ) ( 20 / 24 ) ( 53 / 52 ).

6 ـ الطاغوت أعتى الكفر والشرك والظلم

يمكن للقارىء أن يتأكد من هذا إذا راجع كلمة الطاغوت وسياقها القرآنى فى ( 2 / 256 ـ ) ( 4 / 51 ، 60 ، 76 ) ( 5 / 60 ) ( 16 / 36 ) ( 39 / 17 ).

هناك مجرم عادى يقتل الأبرياء كل يوم دون مبرر دينى، وهناك مستبد علمانى يقهر شعبه تحت شعار  الوطنية أو القومية دون أن يتمسح بالدين أو أن يحمل إسم الله تعالى. هذا القاتل الظالم وذلك المستبد العلمانى يوصفان بالكفر والشرك حسب إجرامهما السلوكى.

ولكن بعضهم يبرر ويسوغ ظلمه للبشر واعتداءه عليهم بتفسيرات دينية وأقاويل ينسبها لله تعالى ورسوله ، ويجعل ذلك سفك الدماء وغزو المسالمين جهادا وفريضة دينية ، كما فعل المسلمون فيما يسمى بالفتوحات الاسلامية  وكما يفعل حاليا الارهابيون الذين يزعمون أن إجرامهم الارهابى جهادا . هنا يكون ظلمهم لله تعالى وللناس مضاعفا. هنا يمتد طغيانهم ليشمل الله تعالى ودينه ووحيه و الناس أيضا. هذه الحالة من الطغيان المركب والمضاعف يسميه القرآن الكريم : ( الطاغوت ) اى الافك والتزييف المسىء المنسوب ظلما وعدوانا لله تعالى والذى يتمسح بدينه بالكذب والبهتان.

وفى مصطلح القرآن فإن الطاغوت هو إمام المشركين الظالمين وهو الذى اليه يرجعون وبه يتمسكون. وإذا تدبرنا السياق القرآنى الذى وردت فيه كلمة الطاغوت فى القرآن وجدناها تنطبق فى عصرنا على ما يسمى بالأحاديث المنسوبة للنبى محمد ، والتى تعرف بالسنة النبوية ،وعلى الفقه والفتاوى التى تجعل القتل جهادا والتى تقنع الشباب بالانتحار ليقتل المدنيين عشوائيا. هذا هو  التشريع الدينى الذى يحول أبشع الظلم الى عبادة ، ويجعل القتل العشوائى للمدنيين والأطفال والنساء والشيوخ جهادا أمر الله تعالى به. لا يوجد طغيان وبغى أفظع من هذا. ولأنه أفظع ظلم يقع على الله تعالى ودينه ورسوله وكتابه فقد إستعمل القرآن له وصف المبالغة فى الطغيان فجعله طاغوتا.

وبهذا الطاغوت كانت تحكم الدول الدينية المذهبية باسم الاسلام وياسم المسيحية فى العصور الوسطى فى الشرق المسلم والغرب الأوربى المسيحى ، وتحت عباءة الطاغوت  دارت الحروب الدينية والفتوحات باسم الاسلام وباسم المسيحية ، ودارت محاكم التفتيش والاضطهادات الدينية والمذهبية ، وجرى استرقاق الملايين وهتك أعراضهم بمقولة السبى ، وابيدت أمم فى أطراف العالم باسم دين الله تعالى .ثم تحررت منه أوربا ، وكان المسلمون على وشك التحرر منه فكريا وثقافيا بانتهاء الدولة العثمانية وسقوط خلافتها الطاغوتية لولا أن السعودية الوهابية أعادت نشر نفس الكهنوت ، وأسهم البترول والظروف السياسية فى القرن العشرين فى نشر هذا الطاغوت الوهابى ليسيطرعلى أفئدة المسلمين متقمصا زى الاسلام ، وهو أعدى أعداء الاسلام.

7 ـ  والمحصلة النهائية لما سبق

أن كل إنسان مسالم فهو مسلم حسب الظاهر من سلوكه بغض النظر عن دينه ومعتقده ، سواء كان مؤمنا بالقرآن أو مسيحيا أو من بنى اسرائيل أو بوذيا أو ملحدا. وحسب سلوكه المسالم نتعامل معه بنفس السلم ونزوجه نساءنا ونتزوج من نسائه ، ويتمتع الأولاد بحريتهم فى إختيار ما يشاءون من عقيدة أو ملة. وطبقا لتشريعات القرآن فلكل بيوت العبادة حصانة سواء كانت كنائس أو أديرة أو بيوت عبادة لأصحاب التوراة أو أى بيت يذكر الناس فيه إسم الله كثيرا أو مساجد. ومن أجل الدفاع عن كل بيوت العبادة شرع الله تعالى الجهاد  ( 22 / 40 )

2 ـ إن كل قاتل ظالم وكل مستبد يقهر شعبه  فهو كافر مشرك ظالم باغ طاغ بغض النظر عن دينه الرسمى. فإذا سوغ قتله وظلمه بتفسيرات دينية نسبها لدين الله تعالى فقد أصبح طاغوتا ، يرتكب أفظع ظلم لله تعالى والبشر. وهذا ما كان يرتكبه قادة الكنائس الأوربية والمتحالفون معهم من الحكام ، وما كان يرتكبه الخلفاء فى الامبراطوريات العربية فى العصور الوسطى ، وما يفعله الآن حكام الدول الدينية فى السعودية وايران ، وما يرتكبه الثائرون عليهم من جماعات الارهاب مثل ابن لادن والظواهرى والزرقاوى . وهؤلاء يحرم الزواج منهم ويحرم تزويجهم .

وهذه قاعدة عامة تسرى على كل البشر، لأن الاسلام بهذا المعنى هو دين الله تعالى لكل البشر.

الإسلام هو دين الله لكل البشر

الجنة لكل مؤمن صالح من البشر

هناك آيتان فى القرآن : (2 / 62) (5 / 69) تجعلان دخول الجنة متاحاً لكل إنسان إذا آمن بالله تعالى واليوم الآخر وعمل صالحاً سواء كان من الذين آمنوا بالقرآن أو من الذين هادوا والنصارى أى أتباع التوراة والانجيل أو من الصابئين أى الذين صبأوا أى خرجوا عن دين الأسلاف والمتوارث. والمعنى يشمل كل البشر من أصحاب الرسالات السماوية وغيرها، فالذى يؤمن بالله تعالى وباليوم الآخر ويعمل صالحاً من جميع البشر فهو من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

إن الله تعالي لا يهتم بما يطلقه البشر علي انفسهم من القاب وتقسيمات ، فالمهم هو الايمان الصحيح والعمل الصالح الناتج عنه. أي ان من يؤمن بالله واليوم الاخر ويعمل صالحا فهو عند الله قد ارتضي الاسلام أو الانقياد لله عز وجل، سواء كان من المسلمين او غيرهم في كل زمان او مكان او بكل لسان .إن الله تعالى ليس منحازاً إلى جنس من البشر أو إلى مذهب أو جيل أو عصر أو طائفة. ولكن أديان البشر الأرضية تجعل كل طائفة تستأثر بالله تعالى وتستأثر بالجنة من دون العالمين, ومن هنا يظلمون الله تعالى وينسبون له التحيز، وما الله تعالى بظلام للعبيد (3 / 182) ( 8 / 51 ) (22 / 10,) (41 /  46) (  50/ 29)

 كل الرسالات السماوية تقول شيئاً واحداً

كل الرسالات السماوية من آدم إلى محمد عليهم السلام اختلفت لغاتها, وكانت كل رسالة تنطق بلغة القوم ولهجتهم, (14 / 4) ولكن مع اختلاف اللغات فى كل الرسالات إلا أن المضمون واحد هو التأكيد على الإيمان بالله تعالى وحده لا شريك له والإيمان باليوم الآخر والعمل الصالح. وبهذا نطق كل نبى باللغة التى يتفاهم بها مع قومه إلى أن نزلت الرسالة الخاتمة على النبى محمد خاتم النبيين تنطق باللغة العربية وتكرر فى القرآن العربى نفس ما قيل قبل ذلك فى الرسالات السماوية باللغات البشرية المختلفة, (41 / 43))39 / 65-66 ). والقرآن الكريم نقل آيات من الوحي الذي نزل على إبراهيم وموسى في الأمر بالصلاة وإيثار الآخرة ( 87 /14 -)" وتكرر ذلك في سورة النجم ( 53 /  36 –). وأكد الله تعالى أن الوحى واحد وأساسيات التشريع واحدة فى كل الرسالات السماوية (4 / 163) (42 / 13).

وليس المؤمنون هم أتباع القرآن الكريم فحسب بل المؤمنين هم أتباع كل رسالة سماوية وأتباع كل نبي، لأن الحساب يوم القيامة يوم عام لجميع الناس ولكل الأمم(  11 /103) ".

وفي نفس الوقت فذلك الحساب العام حساب موحد بشرع واحد في أساسياته، أنزله الإله الواحد.  ومهما اختلف اللغات التي يصلى بها البشر لله تعالى فالعبرة بالتقوى ، فلن يدخل الجنة الا المتقون ( 19 / 63 ) ، وهم الذين يخشون الله تعالى وحده فلا يؤمنون باله غيره ، ولا يظلمون أحدا من البشر ، ولا يدخرون وسعا فى المبادرة بالعمل الصالح النافع للمجتمع مع التمسك بالخلق السامي والسلوك القويم في التعامل مع الناس، وتلك أمور قلبية وسلوكية تسرى على كل مجتمع و على كل إنسان.

إن الدين عند الله الإسلام:

وهذا الوحى الواحد فى الرسالات السماوية المختلفة اللغات كان ينزل بجوهر الإسلام الذى هو الإيمان بالله تعالى الواحد واليوم الآخر والعمل الصالح, وكل نبى كان ينطق بهذا المعنى عن الإسلام باللغة التى يتحدث بها مع قومه, قالها نوح لقومه أن دينه هو الاسلام (10 / 72) لم ينطق كلمة الاسلام باللغة العربية لأنها لم تكن قد وجدت بعد, وإنما نطقها بلغة قومه. وكذلك قالها إبراهيم بلغته التى كان يتحدث بها حين أعلن إسلامه لرب العالمين ، وحين أوصى بنيه وهو على فراش الموت بالتمسك بالاسلام ، ووبنفس الوصية وصى النبى يعقوب أبناءه وهو يحتضرقائلا لهم إن الله تعالى إختار لهم الاسلام دينا فلا بد أن يحافظوا على اسلامهم الى آخر لحظة فى حياتهم  (2 / 131, 132) وموسى تكلم باللغة المصرية القديمة، وبها أوصى قومه من بنى اسرائيل الخائفين من بطش فرعون ان يتوكلوا على الله إن كانوا فعلا مسلمين ( 10 / 84) وفرعون الذى إضطهد بنى اسرائيل وطاردهم حين أدركه الغرق أعلن إسلامه و إيمانه بدين موسى وقال ذلك ليس باللغة العربية ولكن باللغة المصرية القديمة (10 / 90)

ونوح عليه السلام حين ركب السفينة نطق باسم الله الغفور الرحيم ( 11 / 41 ) لم يقلها نوح باللغة العربية التي لم تكن موجودة وقتها، قالها بلغة قومه التي اندثرت ولا نعرف شيئا عنها ، والنبى سليمان بعث برسالة إلى ملكة سبأ وشعبها يدعوهم إلى الإسلام ، وقبلها كتب فى رسالته فاتحة القرآن ﴿بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَـَنِ الرّحِيمِ﴾ ، ولم يكن ذلك باللغة العربية, وفيما بعد أعلنت ملكة سبأ إسلامها متبعة دين سليمان (27 /31 ، 30 ، 44). والحواريون مع عيسى أعلنوا إسلامهم أو طاعتهم وانقيادهم لله تعالى (3 / 52).

وهكذا نطق الرسل الأنبياء السابقون كلهم بالإسلام, كل حسب لغته ، ولكن المضمون واحد هو الإيمان الصحيح بالله تعالى لا اله غيره والايمان باليوم الآخر، وان ينعكس هذا الايمان عملا صالحا نافعا للناس ، إلى أن نزل القرآن الرسالة السماوية الخاتمة بالإسلام ينطق باللغة العربية

على خاتم النبيين محمد عليهم جميعاً السلام. وإذن فليس الإسلام الذى جاء به محمد عليه السلام بدعاً أو مختلفاً عن الرسالات السماوية السابقة, كما أن خاتم النبيين ليس مبتدعاً لشئ جديد أو بدعاً من الرسل (46 / 9).

 

تاريخ الاسلام فى الأمم السابقة:

نحن لا نعرف عدد الأنبياء( 4 / 164 ) مع أن الله تعالى أخبر انه بعث في كل أمة نذيرا (35 / 24). والأمة في المصطلح القرآني تعنى هنا اى مجتمع في زمان معين.لم يقص علينا القرآن إلا بعض من بعثهم الله تعالى في منطقة الشرق الأوسط. ومن خلال قصص الأنبياء جاء تاريخ بعض الأمم السابقة التي عاصرت أولئك الأنبياء.

وتنقسم الأمم السابقة إلى قسمين:

*قسم أهلكه الله تعالى وأباده مثل قوم نوح وغيرهم. وقد استمرت ذرية نوح بعد هلاك قومه المعاندين ( 37 / 77 )، وكان من هذه الذرية من عاند الأنبياء اللاحقين فعوقبوا بالابادة مثل عاد وثمود ومدين في منطقة الشرق الأوسط.(69 /8) (53/ 50 -)

*وقسم استمر وجوده متمتعا بالرسالات السماوية المشهورة في فروعه، ومنهم في الشرق الأوسط ذرية إبراهيم المتمثلة في العرب المستعربة وبنى إسرائيل، فقد جعل الله  تعالى إبراهيم إماما للناس المؤمنين الآتين بعده ( 2 /124)  لذا توالت الرسالات السماوية فى ذرية ابراهيم وهى أهم وأرفع من تبقى من ذرية نوح. وذكر رب العزة أن من هذه الذرية من سيكون مهتديا ،وأن أكثريتهم ستكون ضالة برغم وجود الكتب السماوية . ( 57 /26)

وبينما اندثر تاريخ الأمم السابقة فإن تراث إبراهيم استمر مع ذريته صحفا سماوية وأنبياء من ذريته مع تحريفات وضعتها الذرية، واختلافات، واتباع بالحق وزيغ بالباطل، وكانت الصلاة والصيام والحج واعطاء الصدقة مع الايمان بالاله الواحد أهم معالم دين ابراهيم أو ملة ابراهيم.

ملة إبراهيم الحنيفية الاسلامية

 كانت الكعبة أول بيت وضعه الله تعالى للبشر قبل إبراهيم ، وأمر الناس بالحج اليه ، وامر بتوفير الأمن لكل من دخل هذا الحرم الالهى، أو بيت الله تعالى ومسجده الحرام( 3 /95"). كان بيت الله مهجورا قبل إبراهيم ثم أوضح الله لإبراهيم مكان البيت ، وأمره برفع قواعده وإعادة بنائه وتطهيره مما حوله من الأصنام ، وأن يدعو الناس للحج اليه (22 /26-) . وقام ابراهيم برفع قواعد الكعبة وإعادة بنائها ، وساعده فى ذلك إبنه الأكبر اسماعيل الجد الأكبر للعرب المستعربة. واثناء عملهما كانا يدعوان الله تعالى أن يجعل حول هذا البيت بلدا آمنا يرزقه من خير الثمرات، وان يجعل من ذريتهما أمة مسلمة لله تعالى ، وان يوضح لهم مناسك العبادة من صلاة وصوم وحج وصدقة ، وأن يبعث فى آخر الزمان من هذه الأمة رسولا منهم يعلمهم الكتاب والحكمة ، يزكيهم ويسمو بهم أخلاقيا.( 2 / 124 ـ) 

واستجاب الله تعالى لدعوة ابراهيم واسماعيل فتوافد الناس عليهما بعد أن أتما بناء البيت الحرام يتعلمون مناسك الحج والاعتكاف والصلاة عند البيت بنفس الطريقة التي أراها الله تعالى لإبراهيم وإسماعيل، وهى نفس طريقة العبادة التي كانت من قبل للأمم السابقة البائدة حيث كان البيت الحرام أول بيت لله تعالى وضعه للناس منذ أن كان على هذا الكوكب ناس.

بإبراهيم وابنه إسماعيل تكون مجتمع جديد فى الجزيرة العربية حول مكة يقيم الصلاة ويؤدى مناسك الحج إلى بيت الله الحرام.  وحرص إبراهيم على أن تستمر إقامة شعائر ملة ابراهيم فى ذريته (14 /35 -40) فاستمرت ملة ابراهيم فى الذرية قرونا طويلة ولكن لحقها التحريف واضاعة الصلاة وإتباع الشهوات ( 19 / 59 ).

 ثم استجاب الله تعالى لدعوة ابراهيم واسماعيل فكان آخر الأنبياء للعالم هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، من قريش أشهر وأقوى قبيلة تنتمى الى معد بن عدنان الذى ينتهى نسبه الى إسماعيل بن ابراهيم. جاء ليجدد ملة ابراهيم الاسلامية، أى طريقة العبادة من صلاة وصدقة وصيام وحج. وتلك هي ملة إبراهيم التي نزل القرآن الكريم يأمر خاتم النبيين محمدا باتباعها(4 / 125)". (6 / 162/163)

 

قبائل العرب

تاريخيا ينقسم العرب الى عرب بائدة ، أى الأمم التى أهلكها الله تعالى لأنهم كذبوا الرسل مثل عاد وثمود وطسم وجرهم الأولى، والعرب الباقية الذين تكاثروا ولا يزالون.

وتنقسم العرب الباقية الىقسمين كبيرين : العرب العاربة القحطانيون اليمنيون ،والعرب المستعربة الشماليون.

العرب القحطانيون أبناء يعرب بن قحطان أقاموا لهم حضارة فى اليمن وممالك أشهرها معين وسبأ وحمير ، ثم بانهيار سد مأرب هاجر معظمهم الى مناطق فى شمال الجزيرة العربية ووسطها وعلى حدود الشام والعراق، منهم الأوس والخزرج الذين سكنوا يثرب والتى أصبح اسمها المدينة ، والتى هاجر اليها محمد وأصحابه فيما بعد، ومنهم الغساسنة الذين أقاموا لهم إمارة فى الحيرة جنوب العراق متمتعة بالتحالف مع الامبراطورية الفارسية، ومنهم الغساسنة الذين أقاموا لهم إمارة جنوب سوريا متحالفة مع الروم، وتحارب الغساسنة والمناذرة لصالح القوتين العظميين وقتها ، والتاريخ يعيد نفسه ، وهذه عادته السيئة فى الشرق الأوسط!!

وتوزعت قبائل أخرى قحطانية فى بادية الشام مثل قبائل كلب التى تحالفت فيما بعد مع الأمويين وأعانتهم فى تأسيس ملكهم ، ومنهم جرهم الثانية القديمة التى سكنت مكة وتزوج منهم اسماعيل ابن ابراهيم عليهما السلام ، وعاش فى كنفهم ، وأنجب ذرية أسست الشعب الثانى من العرب وهم العرب المتعربة أو المستعربة.  

العرب المتعربة أو المستعربة.  

هم نسل ابراهيم من إبنه الأكبر اسماعيل.

عدنان هو الجد الأكبر المعروف للعرب المستعربة والذى ينتهى نسبه الى اسماعيل بن ابراهيم.

وأنجب عدنان معد، ومن أبناء معد أربعة كل منهم أنجب مجموعة ضخمة من القبائل ،أبرزهم نزار. أنجب نزار ولدين هما ربيعة ومضر. ربيعة هو جد لعشرات القبائل التى سكنت نجد وغيرها، وأهمها بكر وتغلب . مضر أنجب قيس والياس. قيس اليه تنتسب القبائل القيسية المضرية ، والياس ، تنتمى اليه قبائل كثيرة كان آخرها قريش التى تنتمى الى جدها النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.

وأشهر الأسر فى قريش الهاشميون والأمويون ، وهم أبناء رجل واحد هو عبد مناف بن قصى. وقصى هذا أقدم زعيم معروف لقريش ، وهو الذى تمكن من السيطرة على مكة والبيت الحرام وطرد قبيلة جرهم من مكة. الي هاشم ينتمى النبى محمد الى لم ينجب ولدا يبلغ مبلغ الرجال ، لذا كان أقرب الناس اليه هم ذرية ابن عمه الشقيق على بن ابى طالب الذى تزوج فاطمة بنت محمد ، ومنهما تفرع العلويون ، وقامت باسمهم دول كثرة كالفاطميين قديما والهاشميون حديثا فى الأردن. ، والى هاشم ينتمى العباس عم النبى ومن ذريته العباسيون الذين أنشأوا الدولة العباسية. والى أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ينتمى الأمويون الذين أقاموا الدولة الأموية..

وبين الهاشميين والأمويين دار تاريخ الاسلام قبيل وأثناء وبعد نزول القرآن الكريم آخر رسالة سماوية اسلامية للبشرية فى آخر الزمان والى قيام الساعة .

ذرية إبراهيم من العرب والاسرائيليين والمحافظة على ملة ابراهيم

أنجب إبراهيم ولدين كلاهما صار نبيا لله تعالى وهما:  إسماعيل في مكة واسحق في الشام، وفرح بهما إبراهيم في شيخوخته (14 / 39 - )

و أنجب إسحق ابنه يعقوب الذى سمى إسرائيل وأصبح نبيا ، وأنجب يعقوب أو إسرائيل الأسباط وهم اثنا عشر ذكرا،  كان يوسف هو النبي منهم، وتناسل أبناء يعقوب أو أبناء إسرائيل الاثنا عشرة فصاروا اثني عشرة قبيلة سكنوا مصر بعد أن استقدم يوسف والديه و إخوته من الشام إلى مصر. ثم تكاثر أبناء إسرائيل في مصر أبان حكم الهكسوس، وبعد أن طرد المصريون الهكسوس تولى الفراعنة الحكم فأسرفوا في اضطهاد بنى إسرائيل لأنهم كانوا أعوان الهكسوس. فبعث الله تعالى موسى لينقذ بنى إسرائيل من الاضطهاد. وبعد غرق فرعون موسى يذكر القرآن الكريم انتشار بنى إسرائيل بين مصر والشام والحجاز ( 7 /137 – ) (28 / 48 ) (26 / 57:  59  ) ( 44 /25: 28 ) ثم ما لبث أن أقاموا لهم ملكا في فلسطين بلغ الذروة في عهد النبيين داود وسليمان عليهما السلام.وتتابع فيهم الملك والرسالة  ( 4 /54 ) إلى أن دمّر بختنصر البابلي ملكهم، ولكن وجودهم البشرى استمر ومعه الرسالات السماوية إلى أن كان زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام آخر النبيين من بنى إسرائيل. 

وأولئك الأنبياء من ذرية اسحق بن إبراهيم حافظوا على ملة إبراهيم الاسلامية بين العراق والشام ومصر بمختلف اللهجات واللغات، (21 / 73) وكان كل نبي يوصى بها قومه كما ذكر القرآن عن احتضار إبراهيم ويعقوب ووصيتهما عند الموت. على أن الذرية كانت في اغلبها تضيع الصلاة بالوقوع في الشرك وفى المعاصي.

كان أول نبي نعلمه في العرب - وهو إسماعيل بن ابراهيم عليهما  السلام- يأمر أهله بالصلاة والزكاة وإتباع ملة ابراهيم الاسلامية (19 / 54-)  ، وكان حفيده محمد عليه السلام - آخر نبي في العرب وفى العالم- يأمر أهله بنفس الأمر.( 20 / 132).

 

خاتم النبيين متبع لملة إبراهيم حنيفا وليس منشئا لدين جديد

من الأخطاء الكبرى أن يعتقد المسلمون إن محمدا خاتم النبيين قد جاء بدين جديد أو كان بدعا بين الرسل. لقد أمره ربه جل وعلا أن يعلن أنه ليس متميزا عن الرسل السابقين وانه حتى لا يعلم الغيب مثل بعض الرسل السابقين (  9 /46) وأمره ربه جل وعلا أن يقتدى بالهدى الذي جاء به من سبقه من الأنبياء عليهم جميعا السلام. ( 6 / 90 )

وأهم الهدى هو ما تعلق بطريقة العبادة أو ما يعرف بالملة. وإذا كانت الأمم السابقة في المنطقة قد فنيت ولم يعد لها بقاء فقد بقيت أمم أخرى تكاثرت وانتشرت في كل أنحاء العالم، منها في الشرق الأوسط ذرية إبراهيم وهو أبو الأنبياء وأبو شعبين هما بنو إسرائيل والعرب المستعربة، وفيهما توارثت الذرية ملة إبراهيم من صلاة وصوم وصدقة وحج وتلاوة للكتاب الإلهي.

ولكن تمسكوا بالحركات والتدين السطحي الظاهري المنافق المرائي دون إخلاص الدين لله تعالى فتحولت الطاعة إلى عصيان، ولهذا تعاقب الأنبياء في بنى إسرائيل كلهم يدعو إلى العودة إلى الأصل المضيء لملة إبراهيم، أو " ملة إبراهيم الحنيفية" التي تعنى إخلاص العقيدة لله تعالى وحده وطهارة السلوك، أو بمعنى آخر هو إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.

ثم جاء خاتم الأنبياء جميعا من ذرية إسماعيل بن إبراهيم رسولا للبشر جميعا إلى قيام الساعة ينادى بنفس المهمة وهى اتباع ملة إبراهيم حنيفا. أي باختصار هي دعوة لإصلاح الدين الأصلي – الإسلام – الذي جاء به جده الأكبر أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام. نزل الوحي عليه يأمره باتباع ملة أبيه إبراهيم في إن تكون صلاته بل وحياته ومماته  لله وحده لا شريك له، وأمره ربه أن يعلن ذلك لقومه وللعالم ( 6 /   162ـ  ) ( 4 / 125 )

ودائما تقترن كلمة (ملة إبراهيم )بوصف (حنيفا) وهى وصف لعقيدة الاسلام القائمة على الاعتقاد فى الله تعالى وحده الاها ووليا مقدسا نطلب منه النفع ونعوذ به من السوء ، وأنه الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. وهذا ما خالفه العرب بزعامة قريش ، إذ كانوا يزعمون التمسك بملة إبراهيموهم مقيمون على الشرك فى العقيدة باتخاذ أولياء مقدسين وآلهة مع الله والشرك فى السلوك بالظلم والاعتداء والقتل وإدمان الفواحش. وقد تمسك العرب بتأدية سطحية لملة جدهم ابراهيم فأدوا  الصلاة المتوارثة من ركوع وسجود ومواقيت وحرصوا على تأدية مناسك الحج ، وكانوا يصومون رمضان ويصلون صلاة أسبوعية يوم الجمعة ولكن وقعوا في الشرك وأدمنوا البغي والعصيان، وظنوا كما نظن الآن أن مجرد الشكل يكفى، وتناسوا – كما نتناسى نحن الآن أيضا – أن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة تعنى الالتزام بالتقوى أى خشية الله تعالى فى السر وفى العلن بمعنى ألا نتخذ معها الاها آخر وألا نعصيه ،وألا نظلم أحدا من الناس.

 

ابراهيم فى القرآن الكريم

لقد مدح رب العزة في القرآن إبراهيم عليه السلام وقال فيه ما لم يقله في أي نبي آخر.

 فهو النبي الوحيد الذي عندما عاتبه ربه قرن العتاب بالمدح، فعندما جاءت الملائكة لتبشر إبراهيم بابنه اسحق ثم يعقوب، وتخبره بأنها ستدمر قوم لوط – أخذ إبراهيم يجادل ويدافع عن قوم لوط خوفا على المسلمين في داخل القرية، دون أن يعرف أن الأمر الإلهي قد صدر فعلا وأن الله تعالى لا يبدل القول. فجاءه اللوم مقترنا بالمدح بأنه ـ أى ابراهيم حليم رقيق القلب سريع التوبة (11 /74 – 75 )

وإبراهيم هو النبي الوحيد الذى نجح في كل الاختبارات التي امتحنه الله تعالى بها( 53 / 37  ). جاءه الاختبار كلمات تقول له: هاجر واترك أباك وأهلك ووطنك ، اترك ابنك الوحيد،  غريبا في صحراء الحجاز، اذبح إبنك الوحيد عند البيت الحرام..الخ وأتم إبراهيم تنفيذ كل تلك الكلمات والأوامر فجعله الله تعالى إماما لكل المتقين إلى قيام الساعة سواء كان أولئك المتقون من ذريته أو لم يكونوا( 2 /124 ). وفى كل عصر وفى كل مكان بعد إبراهيم فان من يرفض ملة إبراهيم فقد ضل سواء السبيل ( 2 / 130 - 131 )

وهو النبي الوحيد الذي تتالت الآيات تمدحه بما لم تقله في نبي آخر، ثم تختتم بتقرير إن خاتم النبيين تابع له متبع لملته ومأمور بذلك، يصفه الله تعالى بأنه كان وحده يعادل "أمة "أو مجتمعا من الخير، وأنه كان يداوم العبادة مخلصا لربه ولم يقع في الشرك طيلة حياته.و كان شَاكِرًا للنعم التى أنعم الله تعالى بها عليه مهتديا  إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ، وقد تكرم الله تعالى عليه فاختاره نبيا وأعطاه فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَجعله فِي الآخِرَةِ مِنَ الصَّالِحِينَ. ثم أمر الله تعالى خاتم النبيين محمدا بأَنِ يتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا (16 / 120-123)

دعوة القرآن للتمسك بملة ابراهيم

وهذا الإصرار على وصف ملة إبراهيم بالحنفية التي تعنى عدم الوقوع في الشرك يعنى الرد على أولئك الذين زعموا من العرب أن ملة إبراهيم عندهم هي مجرد التمسك بكيفية الصلاة المتوارثة عن جدهم إبراهيم دون التمسك بالإخلاص في العبادة لله وحده وإسلام الرجة لله تعالى وحده.

وهو نفس الرد على أهل أبناء عم العرب ومن نسل إبراهيم الذين اعتقدوا أن اليهودية أو النصرانية هي استمرار لملة إبراهيم فقال لهم المولى عز وجل إنََ الهدى الحقيقى لا يكون إلا فى إتباع ملة ابراهيم حنيفا ( 2 / 135) أي يدعوهم إلى الرجوع لملة إبراهيم الحنيفية. وكان أهل الكتاب وقتها يتنازعون فى أن ابراهيم كان يهوديا أو كان نصرنيا ورد القرآن عليهم بأن ابراهيم  مَا كَانَ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، وإِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ.( 3 / 67-68 ) أي أحق الناس بملة إبراهيم هو خاتم النبيين والذين اتبعوا هذه الملة من المؤمنين في كل زمان ومكان. أي أن الأمر ليس شعارا يرفع وإنما هو إتباع صادق للدين الحنيف الذي جاء به أبو الأنبياء وأبو المسلمين ؛إبراهيم عليه السلام، ( 22 /78 -)

فملة إبراهيم هي إقامة الصلاة لله وحده وعبادته وحده دون ولي أو شريك...وقد تتالت الأوامر والنواهي على النبي محمد بإخلاص العبادة لله وحده وعدم اتخاذ أولياء مع الله لاستعادة نقاء ملة إبراهيم. (10 / 105) . أي كانت دعوة محمد خاتم النبيين تتركز في إتباع ملة إبراهيم حنيفا بإخلاص العبادة والصلاة لله وحده وفق ما كان إبراهيم يفعل في عبادته وفى صلاته.

إلا أن الصلاة ليست كيفية فقط من حركات قيام وركوع وسجود ولكنها أيضا وفى الأهم خشوع ومراعاة للتقوى بحيث يظهر أثر الصلاة في سلوكنا وأخلاقنا، أي المحافظة على الصلاة. والذين خلفوا الأنبياء أساءوا فهم الصلاة كما نسئ نحن الآن فهمها أيضا؛ اهتموا بالحركات والكيفية والمواعيد ونسوا الهدف من الصلاة وهو التقوى وتطهير القلب والسلوك من الشرك والرياء والمعاصي.وبتعبير القرآن الكريم ( أضاعوا الصلاة وأتبعوا الشهوات ) ( 19 /58-59)

أضاعت قريش الصلاة وإتبعت الشهوات مع تأدية الصلاة شكليا، ولا تزال تلك مشكلة أكثرية المتدينين منا نحن المسلمين اليوم . نصلى ولكن لا نحافظ على الصلاة. نركع ونسجد ونقوم ونقعد ونسبح ونفعل كل حركات الصلاة ولكن نرتكب المعاصى ونقع فى الشرك السلوكى والشرك العقيدى ، وهذا ليس إلا تضييعا للصلاة ، وتصبح تللك الصلاة الحركية ـ كما قال تعالى عن صلاة مشركى قريش أعداء النبى محمد ـ  " مكاء وتصدية" أى مجرد حركات وأصوات. ولذلك كانت رسالة النبى محمد تتلخص فى تنقية ملة ابراهيم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، وهذا يعنى فى مصطلحات القرآن : التمسك بالتقوى والسمو الخلقى .فالصلاة وكذلك كل العبادات ليست هدفا في حد ذاتها ، إنها وسائل للتقوى، (2 / 21 ، 183 ، 189 ، 196 ) (29 / 45).

 

 

لمحة عن : قريش وصناعة الأديان الأرضية

 

أولا : العرب وتضييع ملة ابراهيم الاسلامية قبل نزول القرآن الرسالة الالهية الخاتمة

العرب ـ بزعامة قريش ـ قبل نزول القرآن أضاعوا ملة ابراهيم الاسلامية حين وقعوا في الشرك بمعناه العقيدى وهو إتخاذ آلهة مع الله تعالى مع إيمانهم بالله تعالى. وذكر القرآن أن العرب كانوا يؤمنون بان الله هو خالق السماوات والأرض ومسخر الشمس والقمر وانه مالك الأرض ومن فيها وأن بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه (23 / 84؛89") (29 /  61 )( 39 / 38) ولكنهم مع ذلك لم يخلصوا لله تعالى عبادتهم إذ اتخذوا أولياء أقاموا لهم الأنصاب أي الأضرحة – كما نفعل اليوم -  وحجوا إليهم – كما نفعل نحن في الموالد الصوفية - وعكفوا على قبورهم المقدسة بزعم أنها تقربهم لله زلفى – كما نفعل في ضريح الحسين والسيدة زينب والسيدة نفيسة والإمام الشافعي والمرسى أبى العباس والسيد البدوي وغيرهم -وذلك ينافى الإخلاص في عبادة الله وحده، (39 / 2-3)

وكانت للعرب المشركين مساجد يؤدون فيها الصلاة ولكنهم لوقوعهم في الشرك كانوا يسمون هذه المساجد بأسماء الأولياء الذين يعبدونهم كما نفعل نحن الآن، وحين دعا النبي إلى أن تكون هذه المساجد لله تعالى وحدة تكالبوا عليه يريدون إيذاءه،وقد أمر الله تعالى رسوله محمدا أن يوجه خطابا محددا لأولئك العرب الذين يقدسون أضرحة الأولياء المدفونة في مساجد الله تعالى، والذين يقرنون أسماء البشر المقدسين مع اسم الله تعالى في الأذان للصلاة وفى تأديتهم للصلاة. الخطاب المحدد هو أيضا موجه لنا حيث يذكر المسلمون اسم محمد نفسه مع اسم الله تعالى في الأذان وفى الصلاة ويكتبون اسم محمد مع الله تعالى بما يعنى تقديسا لمحمد وهو الذي أرسله الله تعالى لمحو تقديس البشر والحجر والشجر. ولذلك فان الخطاب الذي أمر الله تعالى رسوله الكريم أن يعلنه هو أيضا موجه للمسلمين اليوم بعد أن أضاعوا ملة ابراهيم وضلوا كما ضلت قريش من قبل.( 72 / 18-23 )

وبعد ظهور الاسلام اضطهدت قريش المسلمين فاضطرت معظمهم إلى الهجرة إلى المدينة، وبقى بعض المؤمنين في مكة وحاولوا أن يصلوا في نفس المساجد التى إعتادوا الصلاة فيها ولكن المشركين القرشيين المعتدين منعوهم من دخولها فنزلت آية في المدينة تحتج على ذلك ( 2 / 114)

والعرب المشركون في الجاهلية كانوا يؤدون الصلاة ولكن لم يقيموا الصلاة، وكانوا مشهورين بالكرم ولكن دون أن يؤتوا الزكاة بمعنى التطهر والسمو الخلقي، لذلك ظلوا يغير بعضهم على بعض ، وينتهكون الحرمات ويسبون ويسلبون ويشربون الخمر ويرتكبون النسىء اى يستحلون القتال حتى في الأشهر الحرم بعد إعلان عدم حرمتها أو تأجيل حرمتها (9 / 37 ). أى عرفوا من ملة ابراهيم وجود أشهر أربعة فى السنة يحرم فيها القتال والظلم أشد تحريم ، حيث تكون موعدا للحج الى الحرم المكانى لله تعالى فى مكة ، فيجتمع فى تأدية الحج السلام والأمن داخل البيت الحرام وخارجه. ولكن حرفوا فى الأشهر الحرم وأحلوا القتال فيها ، كما حرفوا فى الحج نفسه بزرع أصنام حول الكعبة.

وكانت قريش هى المسيطرة على مكة والقائمة على رعاية البيت الحرام وموسم الحج، وقد جعلت من ذلك كله تجارة رابحة لها بحجة أنها تقوم بعمارة المسجد الحرام وخدمة الحجاج ويقرن ذلك بارتكاب المعاصي وعبادة الأولياء والقبور المقدسة. وقد رد عليهم رب العزة جل وعلا معتبرا أن ذلك لا شأن له بالتعمير الحقيقي لمساجد الله تعالى أو لدينه، ولا شأن له بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة: (9 / 17- 18(

وقرنوا وقوعهم فى الشرك العقيدى بارتكابهم الفواحش ،بل الفخر بها واعتبارها جزءا من الدين عندهم حتى لقد نسبوها لأمر لله تعالى، وقد احتج رب العزة على هذا التزوير الديني الذي وقعوا فيه ( 7 /28 )

وإقترن الشرك العقيدى مع إرتكاب الفواحش بالتقاتل بسبب وبدون سبب ، حيث قامت حياة العرب  على السلب والنهب والغارات اليومية ، وفى هذا النمط من الحياة كانت الكلمة العليا للأقوى والأكثر ظلما ، وكانت قريش بجاهها وقوتها الأكثر ظلما والأكثر عتوا. وبهذا جمعت قريش بين الكفر العقيدى والكفر السلوكى .

والمحصلة النهائية أن ملة ابراهيم الاسلامية تحولت الى شرك وكفر عقيدى وسلوكى كان يظلم الناس ورب الناس حين استغلت قريش البيت الحرام لتتاجر باسمه وبدين الله تعالى وملة جدهم ابراهيم. وكان هذا هو التحدى الذى واجهه محمد بن عبد الله القرشى حين بعثه الله تعالى بالرسالة الخاتمة لتصحيح ملة ابراهيم..

 

ثانيا :قريش وإقامة دين أرضى لها على أنقاض ملة ابراهيم قبل نزول القرآن الكريم

واقع الأمر أن قريش التى تنتمى الى إبراهيم عليه السلام  والتى قامت على رعاية المسجد الحرام ورعاية ملة ابراهيم أو دين ابراهيم هى التى قامت باستغلاله فى سبيل مصلحتها الدنيوية ، وبذلك تكون قد أقامت لها دينا أرضيا على أنقاض ملة ابراهيم أو دين ابراهيم. وفى دينها الأرضى هذا كانت تمارس المعصية وتزعم أنها أوامر الاهية (7 / 28 )، وكانت تستخدم سيطرتها على البيت الحرام معتبرة إياه ملكية خاصة لها ، فتصدُّ وتمنع خصومها من الحج اليه، أى أن الحج فى دينها الأرضى كان حجّا الى قريش وليس حجّا الى بيت الله تعالى .

بهذا الكفر العقيدي والسلوكي واجهت قريش النبي محمدا وأصحابه المسالمين المستضعفين.

وبسبب الاضطهاد والتعذيب هاجر بعض المسلمين مرتين للحبشة ثم هاجروا إلى المدينة ومعهم خاتم النبيين عليه وعليهم السلام. تابعت قريش المسلمين في المدينة بالقتال والاعتداء بعد هجرتهم ومنعت المسلمين من الحج إلى البيت الحرام وهم أحق الناس ببيت الله الحرام، مما استوجب تهديد الله تعالى للقرشيين بالعذاب، (8 /34}

 ويؤكد رب العزة فى القرآن الكريم: ( 22 / 25 ) على حقيقة هامة أغفلتها قريش ـ وتغفلها الآن المملكة السعودية الوهابية ـ وهى أن المسجد الحرام هو بيت الله تعالى وحده ، وأن الحج إليه حق لكل الناس المسالين مهما إختلفت عقائدهم وأديانهم ، يستوي في ذلك أهل مكة والقادمون إليها من كل بنى البشر ، لا فرق بين هؤلاء وهؤلاء في استحقاق الحج. أى بغض النظر عن الدين والمذهب والمعتقد والجنس واللون طالما كان القادم للحج مسالما لا يحمل سلاحا فهو مسلم حسب سلوكه ومن حقه الحج ، وان يأمن على نفسه وماله وكل حقوقه ، ولا شأن لنا بعقيدته، وليس لنا أن نقيم محاكم تفتيش واختبارات فى عقيدة كل قادم للحج، وليس لنا أن نشق على قلب كل حاج لنعرف اخلاصه أو تقواه أو سريرته. المطلوب فقط أن يكون مسالما حسب الظاهر ليكون مسلما.

وقبل فتح مكة رأى النبي محمد عليه السلام  مناما أنه يحج البيت، فبادر بالذهاب مع عدة آلاف من أصحابه للحج مسالمين بدون نية حرب ولكن قريشا منعتهم من الدخول. وبعد مفاوضات تم عقد صلح الحديبية ، وأبيح للمسلمين والنبى القيام بالحج. (48 /  25 ـ 27 }.

ونكثت قريش العهد فقام النبى محمد بفتح مكة فاستسلم له معظمهم ، بينما لم يخضع أئمة الكفر من قريش فاستأنفوا اعتداءهم على البيت الحرام  وقطع الطريق على الحجاج، فأعطاهم الله تعالى مهلة للتوبة ، ومنعهم من دخول البيت الحرام أو الاقتراب منه ( التوبة 28 ). وظلوا كذلك الى أن تابوا وفق ما حدده رب العزة فى سورة التوبة التى حفلت باشارات تاريخية غفل عن التعقيب عليها رواة السيرة.

أى ان قريش ناضلت عن دينها الأرضى ما استطاعت إلى أن إنهزم أئمة الكفر والعدوان فيها . فدخلوا فى الاسلام بعد طول عداء ، ثم ما لبثوا أن سيطروا على المسلمين وإستغلوا الاسلام فى إقامة امبراطورية تزعمها الأمويون قادة الكفر السابقون فى مكة وأعدى أعداء النبى محمد والاسلام. وبدأت قريش إعادة انتاج أديان أرضية من أرضية الصراع على السلطة خلال ما يعرف بالتاريخ الاسلامى. وهذا هو تطبيق قريش للاسلام قبل وبعد نزول القرآن الكريم.

 

ثالثا :قريش ونشأة أديان المسلمين الأرضية بعد نزول القرآن.         

قبيلتان دار حولهما أكثرية القصص فى القرآن الكريم ، ترسم ملامحهما العقلية والدينية ، وتعظهما وتحذرهما وتحاورهما. هاتان القبيلتان هما قريش وبنو اسرائيل. وكلاهما ينتمى الى ابراهيم عليه السلام.

أفرد القرآن الكريم لقريش سورة قصيرة حملت إسمها ولخصت تميزها بين العرب بالثراء والأمن بسبب البيت الحرام الذى مكنها من الايلاف ورحلة الشتاء والصيف . وتحدث عنها رب العزة وحاورها فى مئات الآيات القرآنية ، وكان من حواره معها دعوتها للسير فى الأرض لتعتبر من أحوال الحضارات السابقة والأمم السابقة حول الأنهار والتى عتت وتجبرت وفاقت قريش فى عمرانها ( 3 / 137 )( 6 / 11) ( 12 / 109 ) ( 16 / 36 ) ( 27 / 69 ) ( 29 / 20 ) ( 30 /9 ، 42 ) ( 35 / 44 ) (40 / 21، 82 ) (47 / 10 ).

القرآن الكريم ـ الرسالة السماوية الخاتمة ـ لم يركز كل هذا التركيز على قريش وبنى اسرائيل عبثا. لو كانت قريش وبنى اسرائيل مجرد حالة تاريخية إندثرت مثل الأمم السابقة لما كان كل التركيز والاهتمام. المفهوم هنا أن القبيلتين ستستمران طويلا بعد نزول القرآن ،وسيستمر تأثيرهما أطول. ولذلك كان لا بد للقرآن خاتم الرسالات السماوية من التركيز على أهم قبيلتين ورثتا دين ابراهيم او ملةابراهيم وقامتا باستغلاله وإنشاء أديان أرضية منه لتحقيق أغراض سياسية ودنيوية.

المشهور عن قريش انها أقوى قبيلة عربية تنتمى الى العرب المستعربة ، أى ذرية اسماعيل بن ابراهيم عليهما السلام. ، وأنها إكتسبت قوتها من التحكم فى التجارة بين الشرق والغرب عبر رحلتى الشتاء والصيف وعبر تحكمها فى البيت الحرام وسيطرتها على الحياة الدينية للعرب فى الجاهلية ـ أى قبل ظهور الاسلام. وأنها عارضت الاسلام وحاربت المسلمين ثم دخلت فى الاسلام متأخرا بفتح مكة.

غالبا ما ينتهى الحديث عن قريش عند هذا الحد لتصبح قريش مجرد تاريخ مضى وانتهى بانتصار الاسلام وخضوع قادة قريش الأمويين له. هذه الرؤية السطحية تفترض أن المسلمين حين إعتنقوا الاسلام وحتى الآن صاروا ملائكة لا تخطىء ، يطبقون تعاليم الاسلام حرفيا من عهد النبى محمد الى الآن سواء من كان منهم قرشيا أو فارسيا ، وان هذا ينطبق على قريش حين أسلمت بعد طول عداء للاسلام ، وان الشيطان قد قدم استقالته بعد هذا الانتصار الهائل على قريش وفتح مكة.

الحقائق القرآنية تؤكد ان الاسلام شىء والمسلمون شىء آخر، وان هناك فجوة بين تطبيق الانسان للدين وحقائق الدين نفسه .

الحقائق التاريخية تؤكد إن قريش هى القبيلة الوحيدة التى حكمت معظم العالم المعروف أطول فترة فى التاريخ الانسانى والعالمى.

استغلت قريش الاسلام ففتحت به معظم العالم وحكمته من حدود الصين والهند شرقا الى جنوب فرنسا غربا، ومن جزر البحر المتوسط وجنوب إيطاليا وآسيا الصغرى شمالا الى المحيط الهندى والصحراء الأفريقية جنوبا.

أهم عائلتين من قريش هما الأمويون والهاشميون. الهاشميون والأمويون ينتمون معا الى أب واحد هوعبد مناف.وهاشم بن عبد مناف هو توأم عبد شمس بن عبد مناف.

أنجب هاشم أبناء كثيرين منهم عبد المطلب الذى انجب بدوره عشرة أبناء منهم عبد الله والد النبى محمد ، و أبو طالب عم النبى محمد الذى كفله ، أبو طالب هو أيضا والد على بن أبى طالب أقرب الناس لآبن عمه محمد والذى تزوج إبنته فاطمة وأنجب منها الحسن والحسين ، ومنهما تفرع البيت العلوي من الطالبيين. ومن ذرية عبد المطلب الفارس حمزة الذى ناصر محمدا ابن أخيه وقتل زعماء القرشيين فى معركة بدر فى العام الثانى بعد الهجرة فأنتقم الأمويون بقتله فى معركة( أحد ) فى العام التالى. ومنهم أبو لهب العدو الأكبر لابن أخيه محمد والذى مات كمدا بسبب هزيمة المشركين فى معركة بدر. ثم كان منهم العباس بن عبد المطلب الذى تنتمى اليه الدولة العباسية.

أما عن الأمويين ، فجدهم هو أمية بن عبد شمس بن عبد مناف.

كبير الأمويين فى عهد النبى محمد كان  أبوسفيان بن حرب بن أمية ،وكان معه ابن عمه الحكم بن العاص بن أمية ، وكانا من ألد أعداء الاسلام وقادة الحرب ضده ، ثم ركبوا موجة الاسلام بعد موت النبى محمد ، وما لبث أن أقام  معاوية بن أبى سفيان ثم مروان بن الحكم بن العاص  الامبراطورية الأموية العربية باسم الاسلام.  ثم جاء بعدهم العباسيون الهاشميون .

قبل نزول القرآن كانت ذرية عبد مناف ( الهاشميون والأمويون ) هم قادة قريش فى الدين وفى الدنيا. وقد تقاسم أبناء العم السلطة فى قريش. تخصص بنو أمية فى قيادة الحرب ورحلة الشتاء والصيف ، بينما تخصص بنو هاشم فى رعاية البيت الحرام والحجاج.

وبظهور الاسلام كانت رعاية البيت الحرام والحجاج من نصيب العباس بن عبد المطلب عم النبى محمد ، بينما كانت قيادة الحرب والقوافل والتجارة من نصيب أبى سفيان بن أمية.

وخوفا على إرثه الدينى فى مكة والبيت الحرام فقد تحالف العباس مع أبى سفيان ضدالاسلام ومحمد عليه السلام. وفى معركة بدر ـ أول حرب كبيرة بين المسلمين والمشركين ـ كان قائد القافلة التجارية القرشية أبا سفيان ، بينما كان قادة الحرب من أعمدة بنى أمية وكان معهم العباس عم النبى محمد ، وبهزيمة قريش فى تلك الحرب وقع العباس عم النبى أسيرا، وقد إفتدى نفسه ورجع الى مكة مع رفاقه المشركين المعتدين إلى أن أضطر هو ورفيقه أبو سفيان الى الدخول فى الاسلام قبيل فتح مكة بعد أن أدركا أن مصلحتهما تحتم عليها ذلك.

وفيما بعد دار الصراع بين الخليفة على بن أبى طالب ـ  ابن عم النبى محمد وزوج إبنته ورفيقه طيلة عمره ـ ومعاوية الأموى الثائر عليه. فى هذا الصراع كان عبد الله بن عباس مع إبن عمه على بن أبى طالب الخليفة الشرعى ، وأسفر الصراع عن تمهيد الطريق لإنتصار معاوية فإنشق عبد الله بن العباس (ابن عم على بن أبى طالب ، وابن عم النبى محمد ) عن الخليفة على ، وسرق الأموال التى كانت فى حوزته ولحق بأخواله فى الصحراء بعد ان أيقن ان الخليفة إبن عمه لا يستطيع فى محنته ان يسترد منه الأموال المسروقة. وبذلك تمهد الطريق لمعاوية لأن يؤسسس دولة الأمويين ويتوارث فيها آله الحكم بالقوة.

وعاش أبناء عبد الله بن عباس مكرمين فى الدولة الأموية ، ثم جاءتهم فرصة موت حفيد لعلى ابن أبى طالب كان يتزعم دعوة سرية عنقودية لقلب نظام الحكم الأموى ، ولا يعرف شخصيته إلا قلة من كبار الدعاة الذين كانوا يدعون الى إمامة شخص مجهول تحت إسم (الرضى من آل محمد ) دون تحديد إسمه ونسبه . أدرك هذا الرجل الموت مسموما بمؤامرة أموية عشوائية وكان على مقربة من بيت محمد بن على بن عبد الله بن العباس فى منطقة الأردن ، فمات بين يديه بعد أن أفضى اليه بأسرار الدعوة والتنظيم فركب العباسيون هذا التنظيم العنقودى  ووصلوا به الى إقامة الدولة العباسية، وفيها إضطهدوا أبناء عمهم العلويين الطالبيين ـ من ذرية على بن أبى طالب.

المهم ان قادة قريش فى العداء للاسلام من الأمويين والعباسيين هم الذين إستغلوا الاسلام فى إقامة امبراطوريتين نبتت فيها أديان أرضية للمسلمين تناقض الاسلام وتتفق مع تراث تلك العائلتين قبل الاسلام.

الخلفاء الراشدون ( أبوبكر ، عمر ، عثمان ، على ) ينتمون الى قريش ، ومنهم واحد ينتمى للأمويين وهو عثمان ، وآخر ينتمى للهاشميين وهو على بن أبى طالب . وقد بدأت فى عهدهم الفتوحات وتوطدت، ثم أكمل توسعها الأمويون ، وهم من قريش . جاء بعدهم العباسيون وهم أيضا من قريش.

خصوم العباسيين كانوا أيضا من قريش. لم يسيطر العباسيون على كل ما كان فى حوزة الدولة الأموية ، خرج عن طاعتهم الأندلس ( أسبانيا المسلمة ) وقد حكمها عبد الرحمن الداخل ( صقر قريش ) وهو امير أموى هارب من المذابح التى أقامها العباسيون للأمويين عندما هزموهم. وخرج عن سلطة العباسيين المغرب حين تولاه الأدارسة ، وهم أيضا من قريش ينتمون الى نسل على بن أبى طالب. وخرج ـ مؤقتا ـ عن سلطة العباسيين مصر والشام وشمال أفريقيا لصالح الخلافة الفاطمية ، الفاطميون ينتمون الى ذرية على بن أبى طالب. وظل ( الأشراف ) ـ وهم من ينتسب الى ذرية على بن أبى طالب ـ يحكمون الحجاز بعد انهيار الدولة العباسية فى القرن الثالث عشر الميلادى الى سنة 1925 حين استولى عبد العزيز آل سعود على الحجاز وطرد عليا بن الشريف حسين. أبناء الشريف حسين أصبحوا حكاما فى العراق وسوريا والأردن. وأسرة عبد الله بن الشريف حسين هى التى تحكم الأردن حتى الآن.  وفى المغرب أسرة أخرى تحكمه تنتمى الى ذرية على بن أبى طالب ،أو الأشراف. والى عهد قريب كان حاكم ايران هو الشريف محمد خاتمى الذى ينتمى الى الأشراف ، اى هو أيضا قرشى .

فهل هناك قبيلة فى العالم تماثل قريش فى سطوتها وسلطانها السياسى ؟.

لقد عضدت قريش هذا السلطان السياسى باستغلال الاسلام أو ملة جدها ابراهيم. وتمخض هذا الاستغلال عن إنشاء أديان أرضية ، كلها تنتمى للاسلام وتتناقض معه فى نفس الوقت.وراج فى دين قريش الأرضى حديث منسوب كذبا للنبى محمد يقول ( الأئمة من قريش ) وصارت قاعدة فقهية سياسية فى التشريع السنى ، يمنع أن تكون السيادة السياسية لغير قرشى مهما كان.

أى أن قريش تلاعبت مرتين بالاسلام، فى المرة الأولى حين أصبحت لها السيادة على مكة والبيت الحرام فى عهد قصى أقدم زعيم معروف لمكة ، وهو جد قديم للنبى محمد ، ثم حين أصبحت لها السيادة على المسلمين بعد وفاة النبى محمد .

 

رابعا :معارضة قريش لرسالة القرآن فى إصلاح ملة ابراهيم الاسلامية

لم تدخر قريش جهدا فى حرب الاسلام واضطهاد النبى والمسلمين وهم فى مكة، وبعد أن هاجروا منها ظلت تطاردهم وهم فى المدينة. ،ولم  تعط قريش فرصة التطبيق الحقيقى للاسلام إلا فترة بسيطة ، هى عشر سنوات فى حياة النبى محمد فى المدينة. وأثناء تلك  الفترة كانت تتابع المسلمين بالغارات والحروب لارغامهم على الرجوع الى دين الآباء والأسلاف ، أى الى الدين الأرضى القرشى ، او على حد قول الله تعالى ( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن إستطاعوا ) 2 / 217 ). وقد تزعم الأمويون قريش فى هذه الفترة .

 لقد تعرض القرآن الكريم لاحدى الملامح الأساسية للشرك وهى تقديس الاسلاف واتباع ما ساروا عليه ورفض كلام الله تعالى اذا تعارض مع الثوابت المتوارثة بدلا من اصلاحها وتصحيحها بالقرآن الكريم. .ومن هنا كانت الرسالات السماوية تنزل للتصحيح والاصلاح وارجاع الأمور الى نصابها الصحيح بترك الباطل الذى تسامح فيه الناس وتركوه دون نقاش أو اعتراض فاستفحل وتضخم وتورم واصبح متحكما فى الأجيال التالية على أنه من الثوابت وما وجدنا عليه آباءنا.

وقد كان خاتم النبيين عليه وعليهم السلام يدعو قومه الذين حرفوا ملة ابراهيم الى تصحيح عقائدهم بالقرآن، وكانوا يردون عليه بالتمسك بتراث الاسلاف وأنهم وجدوا آباءهم على تقاليد ثابتة راسخة وأنهم بهذه الثوابت متمسكون (31/21 ) ( 5 /104 ). وهو نفس ما يقوله دعاة التطرف الوهابى الآن ، من التمسك بالثوابت وما يسمى باجماع الأمة ، و لايكترثون بتناقض تراثهم وما وجدوا عليه آباءهم للقرآن الكريم.

ومن عجب أن القرآن الكريم سبقهم وجعلها قاعدة عامة فى عقلية المشركين وتدينهم الفاسد فى كل زمان ومكان. فيقول للنبى محمد عن قريش: " بل قالوا انا وجدنا آباءنا على أمة وانا على آثارهم مهتدون" أى انهم على هدى السلف الصالح يسيرون ، وعلى ما أجمعت عليه الأمة يتمسكون ، وتأتى الاية التالية لتجعلها قاعدة مستمرة فى السلوك الاجتماعى اذا سيطرت على المجتمع أقلية مترفة تحتكر الثروة والسلطة وتستعين بكهنوت دينى يحمى مصالحها ويحافظ على أوضاعها الظالمة ضد أى دعوة للعدل ، والاسلام دين العدل كما هو دين العقل. تقول الآية التالية فى تأكيد تلك القاعدة السياسية الاجتماعية " كذلك ما ارسلنامن قبلك فى قرية من نذير ألا قال مترفوها :انا وجدنا آباءنا على امة وانا على آثارهم مقتدون" ( 43 / 22-23 ).

ان من اعجاز القرآن فى مصطلحاته واشاراته الاجتماعية لفظ "المترفون" وهى تلك الطبقة النى تحتكر الثروة والسلطة على حساب الفقراء الجياع ، ويكون وجودهم نذيرا باهلاك المجتمع . وثقافة التقليد وعبادة الأسلاف اذا سادت فهى التى تدل على هذه الحالة المتردية وتبررها وتؤكد استمرارها لأن المترفين حين يتحكمون فى المجتمع يتحول البشر لديهم الى مجرد ارقام ومتاع متوارث ، يتوارثه المترفون فاجرا عن فاجر بمثل ما سارت وتسير علية الحياة السياسية والاجتماعية للعرب والمسلمين منذ الفتنة الكبرى وحتى الآن.

ويأبى المتطرفون المعاصرون إلا ان يتحقق فيهم اعجاز القرآن فى الآية السابقة .اذ تتكرر فى أدبياتهم الحديث عن "الأمة" "وما اجمعت عليه الامة" بمثل ما تشير اليه الآية الكريمة عن قريش، ويضيفون مصطلح السلف كتعبير آخر عن السلف المهتدى لقريش أو السلف الصالح لديهم ، مع انه فى المرة الوحيدة فى القرآن التى أتى فيها لفظ السلف بمعناه المعروف جاء بما بما يدل على الآباء الضالين، وفى نفس السورة فى الحديث عن قوم فرعون: ( 43 /56 )

واذا كانت عادة المترفين اذا سيطروا أن ينشروا عبادة الأسلاف والتقليد فهى أيضا عادتهم فى الكفر بالدين الحق الذى يدعو الى العدل والمساواة والقيم العليا حيث يزعمون أنهم سيدخلون الجنة مهما فعلوا من  آثام لأنهم الأكثر أموالا وأولادا وجاها ونفوذا ( 34 / 34-35")  . أى يسرقون الأموال ويأكلون حقوق الفقراء ظلما وعدوانا ثم يعطون جزءا منها لرجال دينهم للتكفير عن السيئات وشراء قراريط فى الجنة أو قصور فيها حسبما تصل بهم أكاذيب شيوخ دينهم المفترى. واذا كان سهلا عليهم ابتياع الجنة باليسير من بعض اموالهم فلماذا يحتاجون الى الاسلام الذى يتطلب تغييرا جذريا فى بنية المجتمع وعقليته واعادة لهيكلته ستكون على حساب مصالحهم وما صار بمرور الزمن حقوقا مكتسبة لهم ولأولادهم من بعدهم..

لقد نزل القرآن الكريم يصف الملأ القرشى بالمترفين فى الآيات السابقة من سورة الزخرف. وأكّد أنهم يكذبون بالقرآن لسبب اقتصادى بحت(56 /:81-82") هو حرصهم على امتيازاتهم الاقتصادية الهائلة. فاذا تساءلنا عن منبع هذه الثروة عرفنا انه رحلة الشتاء والصيف والايلاف الذى يجعل قريشا تعيش آمنة فى مكة، ويجعلها تنقل التجارة العالمية بين الهند وأوربا والتى تأتى الى اليمن والشام فتنقلها قريش بين اليمن والشام فى رحلتى الشتاء والصيف. تقطع قوافلها الفيافى فى الصحراء دون ان تتعرض لها القبائل التى تعيش على السلب والنهب. والسبب هو أن قريش تقوم على رعاية الحرم فى مكة، وقد أباحت لكل قبيلة أن تضع صنمها الخاص بها فى الحرم المكى لتقوم قريش على رعاية كل تلك الأصنام مقابل حماية تجارتها السنوية وأمن اهلها فى اقامتهم وترحالهم. والملأ القرشى الذى يحترف التجارة والشطارة يعلم ان عبادة الأصنام خزعبلات وان الهدى فى القرآن الذى جاء به محمد الذى أسموه من قبل بالصادق الأمين. ولكن المشكلة أن دعوة محمد بالقرآن تعنى القضاء التام على تجارتهم وجاههم وكهنوتهم. لذا قالوها صراحة أنهم لو اتبعوا  الهدى الذى جاء به محمد لأكلتهم العرب من كل جانب ( 28 /57). أى أنهم إعترفوا بأن القرآن هدى ، ولكنه ضد مصالحهم الاقتصادية والسياسية. ولذلك تركز رفض قريش على القرآن الكريم. كرهت الاستماع اليه ( 8 / 31 ) ( 22 / 72 ) ( 23 / 66 ، 105 ) ، وطالبت محمدا الاتيان بقرآن بديل يتفق مع أهوائهم( 10 / 15 )، وطالبته بمعجزة حسية بديلا عن القرآن ( 29 / 50 ـ )

جاء الإسلام ليهدد كهنوت قريش ودينها الأرضى الذي أضاع ملة إبراهيم أو الدين السماوى الحق، ولكن الحرص على استمرار الترف على حساب الجياع والفقراء هو الذى دفع الأمويين ـ وهم قادة قريش فى الحرب والتجارة ـ الى اضطهاد المؤمنين الأوائل ، ومعظمهم كان من الفقراء والضعاف المسالمين الذين كانوا يطلبون الأمن بالاستكانة للظلم والصبر عليه.

 

الصراع بين قريش والمسلمين فى حياة النبى محمد

              

قريش بزعامة الأمويين  تضطهد المسلمين الأوائل فى مكة وتطاردهم فى المدينة

 

1 ـ روايات التاريخ الاسلامي بدأت شفهية فى الدولة الأموية ثم تم تدوينها واستقر  في عصر الدولة العباسية . لذلك تلونت كتابة تاريخ سيرة النبى محمد وأصحابه بمفاهيم القوة والتسلط أو بمعني اخر بمفاهيم الامبراطوريات في العصور الوسطى ، وبذلك اتسعت الفجوة بين القرآن والتراث في مجالات التاريخ والتشريع.

وفي ما يخص موضوعنا نجد الفجوة واضحة بين حديث القرآن عن المسلمين الاوائل في عصرالنبي و غزواته وبين السيرة النبوية التي تمت كتابتها بعد النبي  فى عصر الامبراطورية العباسية ،فالسيرة النبوية لأبن اسحاق والتى نقل منها ابن هشام والطبري وغيرهم تركز علي شدة بأس المسلمين في حروبهم في عهد النبي وتؤكد بين سطورها ان الاسلام انتشر بالسيف وذلك كي يبرروا ما حدث بعد موت النبي من فتوحات تخالف تشريع الاسلام , ولكن نري في القرآن شئا اخر مختلفا .

2 ـ والبداية هنا تعود الي مصطلح القرآن عن الذين آمنوا وكيف انه يعني اساسا الذين اختاروا الامن والامان والصبر على الظلم في تعاملهم مع الناس حتي لو كان هؤلاء الناس يعتدون عليهم ويضطهدونهم بسبب الدين. وحتي نفهم المعني المراد بالذين آمنوا في خطاب القرآن لأتباع النبي واصحابه نقرأ قوله تعالي لهم (يا ايها الذين أمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل علي رسوله والكتاب الذي انزل من قبل ،ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر فقد ضل ضلالا بعيدا (3 / 136) فالله تعالي يدعو هنا الذين آمنوا الي الايمان بالله ورسله وكتبه السماوية . أي يدعوا الذين اختاروا الايمان السلوكى بمعني الامن والامان ان يضيفوا الي ذلك الايمان القلبي بالله وكتبه ورسله. وعلى هذا النسق فالخطاب للذين آمنوا فى القرآن مقصود به الذين اختاروا السلم و الامن طريقا ،ويأتي الخطاب يدعوهم للايمان القلبي والطاعة واقامة الفرائض , أي يدعوهم الي الايمان القلبي ولوازمه من الطاعات ليتحقق الايمان القلبي مع الايمان الظاهري، او ليتحقق الامن والسلام مع  الايمان بالاله وكتبه ورسله , ويتحقق اخيرا  في الاخرة نعيم الجنة حيث السلام والامان .

وقد كان المسلمون الاوائل ضعافا مسالمين آثروا السلم وتحملوا الاضطهاد والتعذيب ، هاجر بعضهم إلى الحبشة مرتين ؛ ثم أخيرا هاجروا جميعا للمدينة هربا من الإضطهاد . وفى المدينة عاشوا فى حالة رعب  وخوف بسبب الغارات المستمرة التى واصلت قريش ارسالها لقتلهم وارهابهم . ولذا وصفهم القرآن فى بداية عهدهم فى المدينة بأنهم كانوا أقلية مستضعفة تخاف أن يتخطفهم الناس (8 /26) ولذلك وعدهم الله تعالى بأن يستخلفهم فى الأرض ويبدل خوفهم إلى أمن (24 /55 )

وهؤلاء المؤمنون المسالمون الذين اجتمعوا حول النبي في مكة ثم في المدينة اثروا السلم ، ولم يحاول احدهم الدفاع عن نفسه ،وعاشوا يتحملون المطاردة وقتال من المشركين القرشيين الذين يريدون تأكيد جبروتهم بارغامهم أولئك المسلمين المسالمين علي العودة لدين الآباء .وقد وصف القرآن الكريم مشركى قريش بأنهم سيظلون يقاتلون المؤمنين حتى يكرهوهم على الإرتداد عن الإسلام ( 2 /217) أى أنهم لن يكفوا عن قتال المسلمين إلا إذا عاد المسلمون لدين قريش الأرضى وسلطانها السياسى . وإذا تمسك المسلمون بدينهم فالمتوقع ان يستأصلهم المشركون بالقتل والقتال . والحل الوحيد هو أن يدافع المسلمون عن حياتهم وعن حريتهم فى إختيار ما يشاءون من دين أو عقيدة. لذلك نزل تشريع القرآن يبيح لهم الدفاع عن النفس  .

3 ـ وعلماء التراث في العصور الوسطي لا يعطون آيات الاذن في القتال حقها من التدبر لأن التدبر في معناها يعطي حقائق مسكوتا عنها تخالف أديانهم الأرضية.

فالاية الأولى تقول ( إن الله يدافع عن الذين آمنوا ، إن الله لا يحب كل خوان كفور ) (22 / 38 ) فالله تعالى يبدأ هنا بالتأكيد على أنه يحمى ويدافع عن كل مؤمن مسالم يتعرض للعدوان من المعتدين الخائنين .وهنا تشجيع مسبق لكل مظلوم تتعرض حياته لخطر القتل بأن يدافع عن حياته ومعه ربه يؤيده ويدافع عنه. وجاء مزيد من التوضيح فى الآية التالية :

تقول الآية التالية (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وان الله علي نصرهم لقدير ) ( 22 / 39) هنا إذن صريح من الله تعالى لكل من يتعرض للظلم والقتل بأن يدافع عن نفسه بغض النظر عن عقيدته ودينه، اذ يكفي ان يكون مظلوما ومعرضا لاحتمال الابادة بالقتل حينئذ يأتيه نصر الله اذا قاتل دفاعا عن حقه في الحياة .

وقد غفل علماء التراث عن عمومية الآية في تشريعها الالهي لكل مظلوم يفرض الاخرون عليه الحرب ، اى كان من حق الشعوب التى فتحها العرب عنوة ـ باستغلال إسم الاسلام ـ ان يدافعوا عن انفسهم و ان يردوا الاعتداء بمثلة.

 وغفل علماء التراث عن معني آخر أهم ،وهو أن الإيذاء الذي اوقعه المشركون المعتدون بالمؤمنين وصل الي درجة القتل والقتال ، وقد كان أولئك المشركون المعتدون يطاردون ويقاتلون قوما مسالمين لا يردون علي انفسهم القتل ،بل أمرهم الله تعالى بكف أيديهم عن القتال الدفاعى، ومع استمرار هذه المطاردة وذلك القتال من جانب واحد فان الابادة لاولئك المستضعفين حتمية . أي ان القرآن يشير الي حقيقة تاريخية اغفلتها عنجهية الرواة في العصر العباسي الامبراطورى، وهي ان المشركين المعتدين القرشيين بزعامة بنى أمية لم يكتفوا باضطهاد المسلمين المسالمين فى مكة بل أخرجوهم من ديارهم وأموالهم فهربوا الى المدينة ، فلم يتركهم المعتدون فى حالهم بل  قاموا بغارات علي المدينة يقتلونهم فى وطنهم الجديد، ولم يكن بوسع المسلمين الدفاع الشرعى عن أنفسهم لأن الاذن بالقتال لم يكن نزل بعد , فلما نزل التشريع اصبح من حقهم الدفاع عن النفس .

وغفل علماء التراث ايضا عن التدبر في الاية التالية لتشريع الاذن بالقتال .

فالاية تقول (الذين اخرجوا من ديارهم بغير حق الا ان يقولوا ربنا الله، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ) (22 /40 )

فالآية هنا تعطي حيثيات الاذن بالقتال لرد العدوان ،الاول ان اولئك المظلومين تعرضوا للقتل والقتال، والثاني انهم تعرضوا للطرد من بيوتهم ووطنهم لمجرد انهم يقولون ربنا الله .

وهذا ما اشار اليه علماء التراث  لكنهم غفلوا بسبب التعصب الديني في عصر الامبراطورية العباسية في القرون الوسطي عن التدبر في الفقرة الثانية من الاية والتي تؤكد انه لولا حق المظلوم في الدفاع عن نفسه لتهدمت بيوت العبادة للنصاري واليهود والمسلمين وغيرهم حيث يذكر العابدون فيها اسم الله كثيرا .

والاهمية القصوي هنا في تأكيد القرآن علي حصانة بيوت العبادة لليهود والنصاري والمسلمين وغيرهم حيث ذكر الصوامع والبيع والصلوات ،أي كل مكان يعتكف فيه الناس للعبادة من اديرة وكنائس وغيرها ثم جاء بالمساجد في النهاية، وقال عن الجميع انهم يذكرون فيها اسم الله كثيرا ولم يقل طبقا لعقيدة الاسلام في الالوهية (يذكر فيها اسم الله وحده) ( 17 / 46 )حتي يجعل لكل بيوت العبادة لكل الملل والنحل حصانة ضدالاعتداء .

والاهمية القصوى هنا ايضا ان تشريع الاذن بالقتال ليس فقط لرد الاعتداء وانما ايضا لتقرير حرية العبادة لكل انسان في بيت عبادته ،مهما كانت العقيدة والعبادة ،فلكل انسان فكرته عن الله وعقيدته في الله وهو  يقيم بيوتا لعبادة الله و لابد ان تكون هذه البيوت واحة آمنة تتمتع  هي ومن فيها بالامن والسلام ،

وتلك هي مقاصد وغايات الجهاد فى الاسلام ، وهو ما غفل عنه علماء التراث .

4 ـ وكان منتظرا من المؤمنين المسلمين المسالمين حول النبي محمد أن يبتهجوا بتشريع الاذن بالقتال ورد الاعتداء والدفاع عن النفس ، فتلك فرصتهم فى الدفاع عن حقهم فى الحياة ، ولكن حدث العكس، إذ أنهم تعودوا الصبر السلبي وتحمل الاذى ولم يكن لهم طاقة بالقتال أو معرفة به ، ولذلك كرهوا تشريع الجهاد برد الاعتداء وغفلوا انه ضرورى لحمايتهم من خطر الابادة لأنه اذا عرف العدو انهم سيهبون للدفاع عن أنفسهم فسيتوقف عن الاعتداء عليهم ،وبذلك يتم حقن الدماء، وفي ذلك خير للفريقين ، يقول سبحانه وتعالي لهم (كتب عليكم القتال وهو كره لكم ،وعسي ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسي ان تحبوا شيئا وهو شر لكم، والله يعلم وانتم لا تعلمون) ( 2 / 21:67) لقد كرهوا القتال دفاعا عن النفس وهو خير لهم واحبوا الاستكانة والخضوع لمن يحاربهم وهو شر لهم، والسبب انهم تعودوا السلام والصبر الي درجة اصبحت خطرا علي وجودهم ودينهم .

5 ـ الا ان هذا التوضيح القرآني للمؤمنين المسالمين لم يكن كافيا لبعضهم لكي يخرجهم من حالة الخضوع الي حالة الاستعداد لرد العدوان ، ولذلك فان فريقا منهم احتج على تشريع القتال، ورفع صوته لله بالدعاء طالبا تأجيل هذا التشريع , وفي ذلك يقول الله تعالي (الم تر الي الذين قيل لهم كفوا ايديكم واقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ، فلما كتب عليهم القتال اذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله او اشد خشية ،وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا اخرتنا الي اجل قريب قل متاع الدنيا قليل والاخرة خير لمن اتقي) ( 4 /77).

كانوا قبلها مأمورين بكف اليد عن الدفاع عن النفس اكتفاء باقامة الصلاة وايتاء الزكاة فلما فرض عليهم القتال الدفاعي إحتج فريق منهم وطلب التأجيل , وهذا يدل علي عمق شعورهم بالمسالمة وكراهية الدماء .وكانت الغزوات في عهد النبي اكبر دليل علي انحياز المسلمين الأوائل للسلام وكراهيتهم للحرب الدفاعية التي اضطروا اليها.

6  بسبب رفض المسلمين الأوائل فكرة القتال الدفاعى وخوفهم منه أمر الله تعالى رسوله بأن يحرض المؤمنين على القتال الدفاعى ووعد القتلى منهم بالجنة طالما قتلوا فى سبيل الله (8 / 65) ( 3 / 168)، وبدا الأمر بمعارك محدودة قام بها عدد قليل من المسلمين كانوا يتصدون للعدو القرشى يردون إعتداءاته. وكانت المرحلة التالية تحتم الدخول فى مرحلة جديدة هى الدفاع الوقائى.

موقعة بدر :وهنا حدثت معركة بدر التى كانت تجربة نفسية هائلة دخلها أولئك المسلمون المسالمون ، وهم يتصدون إيجابيا مبادرين بالهجوم على قافلة لعدوهم القرشى المتجبر فى تحد واضح له.التحدى هنا ليس فقط لجبروت قريش وقوتها العسكرية ، وإنما أيضا للايلاف.

الايلاف هو ما امتن الله تعالى به على قريش فى سورة" قريش" . والايلاف خارج قريش يعنى تلك المعاهدات التى ابرمتها قريش مع القبائل فى طريق تجارتها بين الشام واليمن فى رحلتى الشتاء والصيف ؛ والإيلاف داخل قريش هى إسهام كل القرشيين فى رأسمال القافلة التى تنقل التجارة بين اليمن والشام ؛ وفى نهاية كل رحلة يصيب كل قرشى من الأرباح بقدر أسهمه فى القافلة .

قلنا إن قريش كانت أشهر وأقوى قبيلة عربية بسبب سيطرتها على الكعبة – بيت الله تعالى الحرام – وسيطرتها على موسم الحج الذى كان يفد اليه العرب فى الأشهر الحرم. وسيطرت قريش على الحياة الدينية لكل العرب اذ كان لكل قبيلة صنمها الخاص الموضوع فى الحرم المكى، وتقوم قريش على رعايته. استغلت قريش الدين فى تأكيد سلطتها السياسية والاقتصادية فنعمت بالايلاف وهو حصانة قوافلها التجارية – رحلة الشتاء والصيف – من النهب والاعتداء ، و لعبت قريش دور الوسيط فى نقل تجارة الهند الآتية الى اليمن فحملتها الى الشام لتصل الى أوربا وروما ، وبالعكس حملت تجارة روما من الشام الى اليمن لتسافر بحرا الى الهند وآسيا. وازدادت قريش ثراء وأمنا فى الوقت الذى عانت فيه القبائل الأخرى من الفقر والتقاتل والسلب والنهب.

هذه التجارة بالدين استلزمت من قريش ان تحافظ على طقوس الشرك الدينى والظلم الاجتماعى فى مجتمعها الرأسمالى القائم على وجود فجوة هائلة بين المترفين الأثرياء والجوعى من الرقيق والفقراء. وحين ظهر الاسلام يدعو الى عدم تقديس البشر والحجر خافت قريش من القبائل المتحكمة فى طريق تجارتها والتى تحيط الكعبة بأصنامها ، لذلك كان القرآن يؤكد  للنبى أن قريشا تعرف أن النبى جاء بدعوة الحق ؛ ولكنها تقف ضده حرصا على مصالحها التجارية ( 28 /57 ) ( 56 / 82) ومن هنا كان إضطهادهم للمسلمين المسالمين إلى أن أجبروهم على الهجرة ثم واصلوا حربهم إلى المسلمين إلى أن نزل الأذن للمسلمين بالقتال الدفاعى حتى لا يستأصلهم المشركون .

وكانت غزوة بدر هى المرحلة الكبرى فى هذا الطريق الدفاعى . وكانت فى السنة الثانية من الهجرة.

 والمسلمون حين خرجوا لأخذ القافلة القرشية التى كان يقودها أبو سفيان الأموى ، لم يكن ذلك قطعا للطريق واستحلالا لأموال الغير بل كان حصولا على حقوقهم المالية الضائعة التى نهبتها منهم قريش ظلما وعدوانا. إن تلك القافلة كانت من إستثمارات اموالهم النقدية التى صادرتها قريش من أسهمهم فى الإيلاف ؛وكانت أيضا حصيلة ممتلكات المسلمين العينية والعقارية والديون التى كانت لهم وتركوها فى مكه. أى أنهم كانوا يردون حقهم المسلوب الذى كانت تتاجر به قريش منذ الهجرة إلى وقت غزوة بدر . هذا الى جانب انه رد على اعتداءات سابقة كانت فيها قريش تطارد المسلمين وتهاجمهم وتسلب اموالهم وهم لا يستطيعون الدفاع عن انفسهم لأن الاذن بالقتال لم يكن قد نزل وحيا من السماء بعد.

وقد وعد الله المؤمنين بالنصر أو غنيمة القافلة. وتزعم الروايات التراثية تسابق المسلمين جميعا فى بدر للفداء والتضحية والخطب الحماسية ، الا إن القرآن الكريم يؤكد على العكس ؛ وهو أن فريقا من المسلمين فى بدر كانوا كارهين للحرب حين تحتم الإصطدام الحربى ؛ وأنهم كانوا يجادلون النبى فى الحق الواضح الذى تبين . فلما لم يكن هناك مفر من الحرب كانوا كأنما يساقون الى الموت وهم ينظرون (8 /5؛6) .

هذا هو حال المسلمين البدريين ـ وهم أعلام الجهاد فى كتب التراث نفسها  ـ كانوا مسالمين خرجوا لاستنقاذ بعض اموالهم الضائعة فلما عرفوا انه يتحتم عليهم دخول حرب حقيقية خافوا وارتعبوا ، وجادلوا النبى ثم اضطروا لخوض الحرب . هذا أيضا هو حال الاسلام الذى يجعل تشريع القتال ليس للهجوم وإنما للدفاع فقط ورد الإعتداء بمثله (2 /190 – 194 ) . 

7 ـ كان إنتصار المسلمين بعددهم القليل (317 رجلا ) على جيش قريش (950  رجلا ) عارا هائلا لقريش وتحديا لمكانتها لذلك سارع أبو سفيان فى العام التالى وزحف بجيش ليحتل المدينة ، فتحمس المسلمون وخرجوا للقائه عند جبل أحد ، وفى البداية انتصر المسلمون ولكن جاء النصر فى النهاية لقريش ، وعاد ابو سفيان وقد ثأر لقريش وللقتلى من زعمائها فى معركة بدر السابقة.

8 ـ وعزم أبوسفيان على استئصال المسلمين عن آخرهم فى المدينة. فجمع كل حلفائه من القبائل العربية وتكون منهم جيش (الأحزاب ) وسميت بغزوة الأحزاب نسبة لذلك التجمع العسكرى الهائل، كما سميت بغزوة الخندق بسبب الخندق الذى حفره المسلمون حول المدينة لحمايتها من من جيش الأحزاب.ونزلت فيها سورة الأحزاب .

وفي غزوة الاحزاب التى حدثت فى السنة الخامسة من الهجرة حوصرت المدينة فبلغ الخوف من المؤمنين غايته ،وادي الخوف ببعضهم الي الهرب وتعويق المقاتلين ونشر الاشاعات ، وفي المقابل ظهر المعدن الاصيل لبعض المؤمنين فازدادوا ايمانا وتسليما. ( 33 / 10،11 ، 18،19،60 ، 22، 23))  

9 ـ وفي غزوة ذات العسرة آخر الغزوات ظل المسلمون حتي ذلك العهد غير متحمسين للقتال ورد الاعتداء مما جعل آيات القرآن اكثر تأنيبا لهم (9 / 13،16، 38 )إذ كانوا يتثاقلون اذا جاءهم الامر بالقتال ،أي ان التثاقل ظل معهم من البداية الي نهاية عهد النبي، هذا بخلاف المنافقين , فنحن نتحدث عن الذين آمنوا لنعرف كيف انهم آمنوا بمعني احبوا الامن والامان وكرهوا الحرب والقتال حتي لوكان الحرب والقتال دفاعا ضد عدوان لا ينتهي .

10 ـ هذا ما كان عليه المسلمون الاوائل ضد مشركي مكة ولكن مالبث ان دخل مشركوا مكة بزعامة الأمويين  في الاسلام بعد فتحها، وسرعان ما تصدروا جيوش المسلمين في حرب الردة بعد موت النبي  ثم تصدروا الجيوش في فتوحات الشام ومصر ثم حكموا البلاد المفتوحة ثم وثبوا على السلطة واقاموا الامبراطورية الاموية بالحديد والنار، وتوارثوا السلطة وبدأ تكوين أديان أرضية جديدة خلال هذا الصراع السياسى والحربى.

 

  تطبيق الاسلام في عهد النبى محمد ودولته الاسلامية ( 622 ـ 632 )

              

مقدمة

1 ـ ولد محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم فى مكة فى  20ابريل سنة 571 بعد الميلاد. وعندما بلغ الأربعين من عمره أعلن نبوته ونزول الوحى السماوى القرآنى له، وباشر الدعوة لتصحيح دين ابراهيم متحديا قريش ودينها الأرضى. وبعد اضطهاد وتعذيب لأصحابه هاجروا الى المدينة فى 20 سبتمبر سنة 622 وبها بدأ المسلمون دورا جديدا فى تاريخهم ، وبها يبدأ المسلمون تقويمهم السنوى. وفى المدينة أقام النبى محمد أول وآخر دولة اسلامية قرآنية مارست الديمقراطية المباشرة وهى تحت خطر الحصار والاستنفار والاستهداف، وظلت هذه الدولة متماسكة حتى رأت قريش نفسها ان مصلحتها تحتم الدخول فى ( دين محمد ). وهذا ما حدث قبيل وفاة محمد فى 8 يونية سنة 632.

2 ـ بدخول قريش وإستكانتها للوضع الجديد عمّ السلام فى شبه الجزيرة العربية ، ورأى النبى محمد عليه السلام قبيل وفاته دخول الناس فى دين الله أفواجا طبقا لما جاء فى سورة النصر . هو عليه السلام رأى دخولهم الاسلام السلوكى الظاهرى اى إلتزام السلام ، وليس الاسلام القلبى الغيبى الايمانى بالله جل وعلا وحده لا شريك له ، لأنه عليه السلام لم يكن يعلم غيب القلوب ولم يكن يعلم أن من بين أصحابه المقربين من مرد على النفاق وذكرهم رب العزة جل وعلا وتوعدهم بعذاب مرتين فى الدنيا وبالخلود فى النار فى الآخرة .( التوبة 101 ). 

ونعطى لمحات تفصيلية عن مدى تطبيق الاسلام فى عهد محمد عليه السلام.

 

  دور الوحي في توجيه حركة النبي وفى تضييق الفجوة بين الاسلام وتدين المسلمين فى عصر النبوة :

 

1 ـ نزلت الرسالة السماوية الاخيرة قرآنا محفوظا من التحريف والتغيير في نصه ولفظه ليكون حجة علي البشر حتي قيام الساعة .وفي القرآن جانب هام يعزف المسلمون عن التدبر به ،وهو العتاب واللوم الذي كان يوجهه الله تعالي الي الانبياء خصوصا خاتم النبيين عليهم السلام ،اذ ان الأديان الأرضية لدى المسلمين تؤلّه الانبياء فضلا عن غيرهم من الصحابة والائمة والاولياء. والتدبر في هذا الجانب يهز ذلك الاعتقاد عند المسلمين .

ويهمنا ان القرآن يؤكد علي بشرية الأنبياء ،ويؤكد علي أن عصمة النبي محمد تكون بالتوجيه الالهي الذي يتابع النبي بالتصحيح ( 34 /50)(4 / 79 )

2 ـ وتصرفات النبي محمد منها ما كان مستوجبا للعتاب واللوم ، ومنها ما كان مستوجبا للمدح والإشادة .مدحه الله تعالي ومدح المؤمنين حين بايعوه تحت الشجرة (48 /18)وحين جاهد وجاهدوا معه بأموالهم و انفسهم (9 /88:89:92). وعاتبه برفق حين سمح للمنافقين بالقعود عن القتال (9 / 43)وعاتبه أحيانا بقسوة قائلا (وتخشى الناس والله احق ان تخشاه ) (33 / 37) .وفي حركته في الدعوة عاتبه كثيرا بسبب حماسه الزائد (10 /99) وأكد علي ان يترفق بنفسه فلا يحزن علي عناد قومه القرشيين (18 /  6 )(35 /  8 ) ( 11 / 12 ) (16 / 127) (15 / 97) ( 3 / 176 ) (5 / 41،) ( 6 / 33). وفي حركته بالدعوة عاتبه الله حين كان يتقرب من المشركين القرشيين اصحاب السطوة املا في هدايتهم ،وقد يطرد المؤمنين الفقراء ليستجيب اليه هؤلاء الاغنياء (80 / 1-،) (20 / 28-) (6 / 52:54).

3 ـ وفي كل هذه التصرفات التي استلزمت المدح او العتاب واللوم كان النبي محمد يناضل  بجهده البشرى لتغيير الواقع الذى يتحكم فيه أصحاب السلطان والهوى والذين لايريدون تغيير المناخ الذي يقوم عليه تراثهم وسلطانهم . وتحول رفض المشركين القرشيين الي اضطهاد للنبى محمد والمؤمنين  ثم الي هجرة ، ثم الي قيام واقع جديد تمثل في دولة للرسول تخالف المألوف في العالم سياسيا واجتماعيا ودينيا .

 

  ملامح دولة النبي محمد عليه السلام: أكمل تطبيق بشرى ممكن للاسلام.

 

هي دولة تقوم علي:

1 :   : السلام ،وهو معنى الاسلام سلوكيا . لذا فالقتال فيها لرد العدوان بمثله دون اعتداء أو استيلاء علي ارض الغير بدون وجه حق (2 / 190،194). والمشركون الخصوم طالما لا يعتدون أو يتحالفوا مع المعتدين فالواجب معاملتهم بالبر والعدل (60 / 9)، فاذا اعتدوا وانهزموا وجب علي المعتدي المهزوم دفع غرامة حربية هي الجزية جزاء اعتدائه (9 / 29).

2  : حرية العقيدة في دولة النبي متاحة بالقول والفعل بدون حد اقصي حيث ان الهداية مسئولية شخصية فمن اهتدي فلنفسه ومن ضل فعليها (17 / 15)وحيث يمارس المنافقون دور المعارضة الدينية والسياسية متمتعين بحريتهم في القول والفعل أينما شاءوا ،وينزل القرآن يحكم بكفرهم العقيدى والسلوكى ولكن يأمر النبي والمسلمين بالاعراض عنهم طالما لم يعتدوا على المسلمين بالسلاح(4 /60:63)(9 / 60:68،79:84،94:96).

  3 ـ  وظيفة الدولة هي اقامة العدل وتوفير الامن .وهي دولة العدل الاجتماعي الذي يقوم علي حقوق اساسية للمحتاجين، وينزل القرآن يلوم الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل (4 / 36 :39 ) ( 47 / 3).

4 ــ الديمقراطية المباشرة أو الشورى الاسلامية القرآنية حيث يستمد الحاكم النبي سلطته من الناس وليس من الله ، ويأمره ربه ان لا يكون فظا غليظ القلب والا انفضوا عنه ،واذا انفضوا عنه فلن تكون له دولة ،لذا امره ان يعفو عنهم وان يستغفر لهم وان يشاورهم في الامر (3 / 159 ). هي دولة ليس فيها حاكم بالمعني المألوف حتي في النظم الديمقراطية النيابية الحديثة لأنها دولة يحكمها أصحابها ،بل ان اولي الامر المشار اليهم في القرآن هم اصحاب الخبرة ، ومصطلح الحكم في القرأن لا يعني الحكم السياسي ، وانما يعني الحكم القضائي بين الناس (4 / 58).ولأنها دولة الديمقراطية المباشرة فان الخطاب فيها يتوجه الي جماعة المسلمين لا الي الحاكم ،فجماعة المسلمين هي التي تقيم الشوري (42 / 38)وهي التي تحكم بالعدل (4 / 58) وهي التي تعد القوة العسكرية لا للاعتداء وانما للردع فقط حقنا للدماء ( 8 / 60).وهي دولة الديمقراطية المباشرة التي لاتعرف الحاكم الفرد او الحاكم الذي يمثل مصالح طبقية أو فئوية .

ولأنها كذلك فان النبي محمدا مات دون ان يعهد بالحكم لأحد من بعده ،لأن لدى المسلمين آليات للحكم الديمقراطي المباشر .هذا بالطبع ان التزموا بسنته الحقيقية وهى الشرع القرآنى فى السياسة والحكم ، المشار اليها فى السطور السابقة.

ولكن ذلك لم يحدث .

ومن هنا بدأت تتسع الفجوة بين اكمل تطبيق بشرى للاسلام فى عهد النبوة (قام به النبى محمد عليه السلام ومعه السابقون فى العمل والايمان من أصحابه البررة ) وبين تطبيق شريعة الاسلام فى عهد الخلفاء (الراشدين) . وكلما مر الزمن ازدادت الفجوة اتساعا الى أن أقامت قريش وغيرها أديانا أرضية تقمصت إسم الاسلام..

 

وجود فجوة بين التشريع والتطبيق فى عهد النبى محمد عليه السلام

 

1 ـ هذا التطبيق فى عهد النبوة لم يخل من وجود فجوة بفعل عجز البشر ـ ومنهم الأنبياء ـ عن بلوغ الكمال. فالله تعالى هو الذى لا يخطىء قط ، وكل البشر خطاءون وخير الخطائين التوابون. ولأن الكمال المطلق لله تعالى وحده فاننا نقول (سبحانه وتعالى ) أى تنزه وتعالى وتقدس وتطهر أن يقع فيما يقع فيه البشر أو أن يوصف بما يوصف به البشر.

2 ـ  كان خاتم الأنبياء ـ عليهم السلام ـ يبذل أقصى جهده فى تعليم المسلمين السمو الخلقى ، وكان منهجه ودليله ومصدره القرآن الكريم. وقد تكرر فى القرآن أن من وظائفه عليه السلام هو تعليم أصحابه الكتاب والحكمة. ومن مراجعة مصطلح الحكمة نجدها مرادفة للكتاب أى القرآن ( 2 / 231ـ ) (17 / 38 ـ ) (33 / 34 ) أى انه كان يعلمهم تطبيق القرآن و تنفيذ شرعه. وتلك هى سنته الحقيقية وخلقه السامى عليه السلام. وقد تردد فى القرآن انه عليه السلام كان مأمورا باتباع وحى القرآن الكريم مثلنا ( 6 / 50 ، 106، 153 ،155)( 7 / 157 ، 158 ،203 ) ( 10 / 15، 109) ( 33 / 2 ) (46 / 9 )(45 /18 ).

 وكان عليه السلام  يبشر وينذر ويذكّر بالقرآن فقط ( 6 / 51 ، 70، 92 ) ( 7 / 2 ) (17 /46) ( 18 /1 : 2 ) ( 19 / 97 ) ( 28 / 46) ( 32 / 3) ( 42 / 7) ( 46 / 12 ) (50 / 45).

2 ـ ومن القرآن الكريم نفهم أن دروس التعليم كانت فى المسجد فى خطب الجمعة وفى مجالس الشورى ( 62 /9 : 11 ) (  58 / 11 ).فى تلك المجالس كان يتم تدارس القرآن مع النبى ( 6 /  105) ( 3 / 79) (34 / 44 ) كما كان يتم تطبيقه فى الواقع المعاش.

3 ـ  والتحدى الأكبر الذى واجه النبى و المسلمين فى المدينة كان وجود المنافقين ، وهم أصحاب سطوة وجاه فى المدينة قبل هجرة النبى والمسلمين اليها. لم يستطيعوا ترك قومهم كما لم يستطيعوا الرضى بالاسلام وقدوم المسلمين المهاجرين للعيش فى ( مدينتهم )، لذا أسلموا ظاهريا مع شدة حقدهم على الاسلام والمسلمين والنبى محمد.

حديث القرآن الكريم عن مكائد المنافقين وفضحه لتآمرهم كان قرآنا يتلى فى الصلاة وفى غير الصلاة، مما أسهم فى تحجيم ضرر المنافقين ، وجعل غلاة النفاق ـ وهم أشد الناس عداء للاسلام ـ يكتمون مشاعرهم ويتحولون الى فريق مرد على النفاق خوفا من افتضاح مشاعرهم وفقدهم لمكانتهم المميزة بين المسلمين وحول النبى محمد عليه السلام ، فاشتدوا فى كتم عقائدهم الى درجة أن  النبى محمد عليه السلام لم يكن يعرفهم.

 أولئك الذين مردوا على النفاق كانوا من الأعراب االذين عاشوا حول المدينة وكانوا أيضا من أهل المدينة . بهم إتسعت الفجوة بين الاسلام والمسلمين . كانت الفجوة ضيقة فى عهد النبوة بين الاسلام كدين والتطبيق البشرى للمسلمين ثم تحولت الى خصومة مُعلنة فى عصر الخلفاء ( الراشدين ) ، بعد موت النبى محمد عليه السلام مباشرة ، إذ إرتفعت رءوس النفاق من قريش والأعراب وتصارعا ، وبصراعهم تشكل تاريخ ( المسلمين فى عصر الخلفاء القرشيين : الراشدين والأمويين والعباسيين ) .

وفى هذا الصراع نشأت أديان المسلمين الأرضية .وتوارثنا منها فى عصرنا السُّنّة والتشيع والتصوف ، بمذاهبها وطوائفها وطُرُقها ومللها ونحلها وشرائعها التى تخالف الاسلام جُملة وتفصيلا .

ونبدأ بعد هذا الفصل التمهيدى نشأة وتطور الأديان الأرضية للمحمديين ، بالفصل الأول عن عصر الخلفاء ( الراشدين ) .

لمحة تاريخية عن نشأة وتطورأديان المحمديين الأرضية : ج1 : من الخلفاء الراشدين الى العثمانيين
هذا الكتاب :
تمت كتابته الأولية عام 2006 ، وتأخر نشره ، وكان بذرة لآبحاث متخصصة تم نشرها فيما بعد مثل ( وعظ السلاطين ) و ( المسكوت عنه من تاريخ الخلفاء الراشدين ) و ( الفتنة الكبرى الثانية ) و ( مذبحة كربلاء ) و ( الحنبلية أم الوهابية وتدمير العراق فى العصر العباسى الثانى ) . بالإضافة الى كتاب لم يكتمل عن مسلسل الدم فى عصر الخلفاء وتقسيم العالم الى معسكرين . هذا الكتاب يقدم لمحة عن الأرضية التاريخية التى نبعت فيها الأديان الأرضية المحمدية من سنة وتشيع وتصوف .ونقسمه الى جزئين : الأول عن عصر الخلفاء من الراشدين الى العثمانيين . والآخر عن نشأة وإنتشار الدين الوهابى الحنبلى السنى الذى ينشر التدمير فى العالم اليوم حاملا إسم
more