اضحك فرئيسك يبتسم!
في عالمنا العربي الكبير الممتد من جزيرة طنب الكبرى شرقاً إلى جزيرة ليلى غرباً، ومن لواء الإسكندرونة شمالاً إلى ميناء القراصنة جنوباً لا يستطيع مرؤوس صغير أن يحرك فكيه قبل أن يبتسم رئيسه، ولا يمتنع عن الضحك إذا ألقى رئيسه نكتة سخيفة ، أو مزحة باهتة.
الناس على دين ملوكهم، والشفاه تتحرك حسبماً يتسع أو يضيق فكــَّـا الزعيم، والظهر ينحني، والركبتان تصطحكان، واليدان ترتعشان، ورغم أن عقد العمل بين السيد والخادم لا يشير إلى هذه الشروط، إلا أن العُرف أقوى من الوثيقة، وقراءة حُلم الرئيس واجب على المرؤوس، وتحقيق رغباته هي المادة الأولى، وإذا لم يُشر إليها أحد، فعلى الخادم أن يبين للمخدوم انحناءات الجسد ، ومواطن الضعف فيه.
راقب بتأمل حواراً بين رئيس ومرؤوس في العمل أو المدرسة أو الكلية أو المستشفى أو المصنع أو القصر أو المؤسسة وستصيبك دهشة عجيبة، فالتماثل يبدو كتقليد لا يستطيع أحد أن يغير فيه طرفة عين، فإذا ضحك الوزير فإن مساعديه ورجاله ووكيل الوزارة والحراس وكل من أتعسه أو أسعده الحظ ووقف على مقربة من معاليه ينبغي له نسخ تعابير وجه الوزير، ثم يحرك رأسه علامة الموافقة حتى لو لم يسمع كلمة واحدة، وأن يلتفت يمينا ويســاراً ليرى مجاوروه أن بذرة الطاعة لم تتركه، وأن العبودية المختارة أضحت واجباً عقدياً يقوم بحمايته من الطرد أو .. التفنيش.
عندما يخطيء السيد، يتبرع كل الذين حوله بالدفاع الطوعي عنه، بل إن بعضهم يحمّـــل نفسه تبعة ما حدث، ويلومها، ويتألم لذنب لم يرتبكه، وجريمة لم يعرف عنها شيئاً من قبل.
العبد لا يختار عبوديته قبل أن يشير السيد إليه، ولكن ماذا لو لم يُشر السيد بكرباجه أو سطوته أو رجاله أو مركزه أو منصبه؟
قضية معقده ظاهرياً، لكنها في عمقها مازوخية الإذلال، وجين يضرب في عُمق النفس غير السوية، فأكثر المرؤوسيين يحملون بين جنباتهم فلسفة ( إحنا أسفين يا ريــس) ، حتى لو كان الرئيس أو الزعيم أو الطاغية أو الملك أو الأمير أو الشيخ أو الدرويش أو السجان!
قال لي ضابط شرطة في عهد مبارك، وكنت قد دعوته على الغداء في بيتي في أوسلو، بأنه ضرب أحد المتهمين ، فجاءه المتهم مرة أخرى في نفس اليوم طالباً منه أن يكرر صفعه وركله وإيذاءه لأنه يشعر أن هذا شرف له!
قليلا ما أشاهد ابتسامة موظف لا تتماثل مع نظيرتها لدى المدير أو الرئيس أو صاحب العمل، فهناك رباط مقدس من العبودية والخوف والجبــن وضرورة الحفاظ على مصدر الرزق ، فكل مرؤوس هو الشعب، وكل رئيس هو السيد.
الابتسامة الباهتة الصادرة من عُمق النفاق هي سمة بارزة في كل مؤسسات الدولة بالعالم الثالث، فالسوط ليس بالضرورة حاضراً، وتكفي الإشارة إليه. والمسكنة من المرؤوس نوع من الحماية، خاصة إذا تكاثر الأسياد، وأضطروا لتقسيم العبيد!
الرعية لاتعطي قفاهاً مرغمة في كل الأوقات، والسيد لا يهوي بسوطه فوق ظهرها مرغماً، ففي الحالتين يختلط المازوخي بالسادي لكي يعيش الاثنان!
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو في 20 ابريل 2015
اجمالي القراءات
6611