الفصل الأول الفتح الإسلامي والاستراتيجية السياسية لمصر بعد الفتح
سادسا – مصر الأيوبية ( 546 – 648 هـ )
صلاح الدين يوطد نفوذه في مصر:
كان تولي ( صلاح الدين ) للوزارة الفاطمية بداية لعهد جديد في تاريخ مصر والشام إذ إن طموح ( صلاح الدين ) وخبرتة بأحوال المنطقة وعزمه على مواجهة الخطر الصليبي كل ذلك حدد هدفه في توحيد مصر والشام تحت قيادته ليتمكن من دحر الصليبين .
ولتحقيق هدفه في توحيد الشام ومصر تحت قيادته اتبع ( صلاح الدين ) الخطوات التالية :
أولا : تأكيد وضعه الجديد في مصر على حساب الدولة الفاطمية المحتضرة في القاهرة.
ثانيا : تحديد موقفه من قائده ( نور الدين ) الذي يحكم الشام والذي لا يسمح بأن يعلو نفوذ تابعه ( صلاح الدين ) على حسابه.
ثالثا: أن يواجه الصليبين في أكثر من موقع وهم بالتأكيد لن يسمحوا له بتحقيق أغراضه فى مصر أوالشام , ثم إن وجودهم في الشام خطر عليه وهو في مصر , كما إن وجوده بمصر خطر عليهم وهم بالشام .
وهكذا فأن توطيد صلاح الدين لنفوذه في مصر معناه بكل بساطة أن يطمح ببصره لتأمين وضعه المصري بتأكيد نفوذه في الشام .. ومعناه من الناحية المقابلة أن القوتين المتصارعتين في الشام ( نور الدين والصليبيين ) لن يسمحا معا له بأن يهددهما من مصر وهما ( أي نور الدين والصليبيون ) مع عراكهما متفقان على مناهضة طموح ( صلاح الدين ) في مصر تلك هي الظروف التي تفرض أثقالها على من تحكم في الشام أو في مصر ..
ومن الطريف أن الخليفة الفاطمي – ( العاضد ) – كان يؤيد تولية ( صلاح الدين ) في الوزارة خلفا لعمه ( شيركوه ) – مع أن بعض القادة في الجيش الزنكي كان ينظر بامتعاض لتولية ( صلاح الدين ) هذا المنصب وهو حدث السن .. إلا إن الخليفة ـــ وهنا تكمن الطرافة – كان يأمل في نوع من النفوذ على حساب ( صلاح الدين ) على أساس انه صغير السن وقليل الخبرة وبتوليته لن ينجوا من حقد الكبار في الجيش .. وفي نهاية الأمر فإن التنافس بين صلاح الدين وكبار القادة معه – لن يكون إلا في صالح الخليفة الفاطمي المغلوب على أمره
ولم يدر الخليفة الفاطمي أن (صلاح الدين) هو الذي أغري عمه (شيركوه) بقتل (شاور) ليس فقط للاستراحة من مكائده وغدره وتقلبه ولكن أيضا لاحتلال مركزه في الوزارة, وأن (صلاح الدين ) هو الذي خطط لقتل (شاور) وقام بتنفيذ ما خطط , وأن شيركوه لم تكن له أطماع فهو لم يعدُ أن يكون قائدا ماهرا نشيطا وفيا لسيده (نور الدين زنكي) , أما (صلاح الدين) فيطمح ببصره إلى أبعد من ذلك ولن تكون بداية طموحه إلا على حساب (العاضد) نفسه ودولته الفاطمية .
والحقيقة أن (العاضد) استراح بموت (شيركوه) إذ رأي فيه خطرا على دولته ولم يدرك أن الخطر الحقيقي يكمن في ابن أخيه الهاديء الطموح (صلاح الدين) .
وكان البلاط الفاطمي مدرسة للدسائس والمؤامرات .. ففيه تخرج كبار الوزراء الذين تحكموا في الخلفاء ودارت بينهم أخس الوسائل للوصول للحكم أو الاحتفاظ به وكانت الاستعانة بالصليبين بعض هذه الوسائل كما رأينا من ( شاور ) .
وكان السودان يكونون جانبا هاما من البلاط والحرس الفاطمي , وكانت لهم يد في تدبير المؤامرات .. وقد رأى كبيرهم مؤتمن الخلافة- وهو كبير الطوايشة – الخطر في( صلاح الدين ) كامنا فبادر وبعث من لدنه رسالة سرية إلى (عموري ) الصليبي يعده بالمساعدة إذا غزا مصر وطرد منها ( صلاح الدين ) .
وكان ( صلاح الدين ) قد زرع قصر الخلافة وما حوله بجواسيسه , وقد رأى احدهم أحد أعوان القصر يسير بحذاء أكبر من المعتاد فشك فيه , وقبض عليه فاكتشف الرسالة مخبأة في النعل . وأمر صلاح الدين باعتقال مؤتمن الخلافة وأعدمه وعزل كل موظفي القصر الفاطمي الموالين للخليفة وأحل مكانهم صنائعه .
ولم يكن منتظرا أن يسكت الخليفة الفاطمي على ما فعله ( صلاح الدين ) , ولم يكن حرسه من السودان ليسكتون عما حل بكبيرهم المؤتمن . ولم تكن تحركاتهم لتخفى عن عيون ( صلاح الدين ) وهكذا فإنهم بمجرد أن هجموا على معسكر ( صلاح الدين ) كان أخوه (توران شاه ) يحرق بيوتهم بمن فيها من أطفال ونساء .. فتركوا المعسكر وهرعوا لإنقاذ بيوتهم فانقض عليهم الجيش وأفناهم عن أخرهم .. وكان الخليفة يشهد هذه المعركة من قصره فأسرع لصلاح الدين يؤكد له الولاء والطاعة .
ولم يكتف صلاح الدين بما فعل بل عول على القضاء على الحرس الارمني الذي لم يشترك في القتال فأحرقه في ثكناته [1] .
وهكذا أخمد صلاح الدين المعارضة الفاطمية وأراح نفسه من دسائس البلاط الفاطمي ولم يبق أمامه إلا الخليفة العاضد نفسه .
وكان العاضد شابا في السابعة والثلاثين من عمره .. إلا إنه ما لبث أن أصيب بمرض غامض بعد القضاء على حرسه وتقليص نفوذه – وفي أثناء تلك الوعكة الطارئة – اسقط صلاح الدين ذكره من الخطبة وخطب للخليفة العباسي . ومات العاضد وانتهت الدولة الفاطمية بهدوء [2] . وموت (العاضد ) يرفع علامة استفهام عن حقيقة مرضه المفاجىء وموته السهل , وقد نفهم ذلك إذ أعدنا قراءة الموضوع من أوله وبدايته وعنوانه .
ثانيا : صلاح الدين يستولى على الشام :
( أ ) علاقة صلاح الدين بنور الدين زنكي :
كان ( نورا لدين ) يثق في ( شيركوه ) غير إنه ارتاب في إطماع ( صلاح الدين ) , وحاول ( صلاح) أن يزيل شكوك سيده ( نور الدين ) فأرسل إليه أباه ( نجم الدين أيوب) مع بعض الأجناد في قافلة كبيرة ليدلل على ولائه له , إذ عرف عن والد ( صلاح الدين ) بالإخلاص ( لنور الدين ) وكان صمام الأمان لطموح ابنه وخير من يزيل سوء الفهم بينهم ..
ومع ازدياد سطوة ( صلاح الدين ) بمصر وتحركاته ضد الصليبين فإنه تخوف من ( نور الدين )الذي كان في صراع مستمر مع المرض , وتنفيذا لنصيحة( نجم الدين ) فقد كان ( صلاح الدين ) يتحاشى لقاء ( نور الدين ) لأنه يعرف أن الجنود الذين يحاربون إلى جانبه هم في الأصل جنود ( نور الدين) وولاؤهم له فإذا أمرهم ( نور الدين ) في حضرة ( صلاح الدين ) باعتقاله سارعوا بتقديم ( صلاح الدين ) إلى سيدهم , وهكذا فلن يجد من يحميه إذا أراد به ( نور الدين ) شرا فالحل الامثل هو في التهرب من لقاء ( نور الدين ) . ( ونور الدين ) من ناحيته كان يحرص على الالتقاء ( بصلاح ) حين يأتي للشام .. فحين كان ( صلاح الدين ) يحاصر الصليبين في حصن الشوبك وأوشك الحصن على التسليم ظهر ( نور الدين ) فجأة على الطريق المؤدي للكرك فأسرع ( صلاح الدين ) بالرحيل واخطر ( نور الدين ) بأن هروب إخوته بالصعيد أرغمته على التعجيل بالعودة . ولم يكن ( نور الدين ) ليقتنع بهذا العذر .. فاعتبرها خيانة من تابعه تستوجب العقاب . وتكرر نفس الموقف حين كان ( صلاح الدين ) يحاصر حصن الكرك وهبط إليه ( نور الدين ) بجيشه من دمشق فرفع ( صلاح الدين) الحصار ورجع قبل وصول ( نور الدين ) متعللا بمرض أبيه ( نجم الدين ) , فاشتد غضب ( نور الدين ) واقسم أن يغزو مصر لتأديب صلاح الدين . ولكن ( نور الدين ) مات فاستراح ( صلاح الدين ) وخلا له الجو في مصر وفي الشام أيضا [3] .
صلاح الدين يستولي على ممتلكات أبناء نور الدين زنكي :
في نفس العام الذي توفي فيه (نور الدين) توجه (صلاح الدين) للاستيلاء على (حلب) حاضرة الدولة الزنكية . وفي طريقة إليها ترك فرقة تقوم على حصار (حمص) .. ووصل إلى أسوار (حلب) فاستنجد حاكمها بالصليبين والباطنية , فحاول بعض الباطنية اغتيال صلاح الدين في عسكره فقتلوا .. وهرع الصليبيون للهجوم على جيش (صلاح الدين ) المقيم على حصار (حمص) فحصره بين حاميتها وبينهم , فاضطر ( صلاح الدين ) للانسحاب من (حلب) واتجه للصليبين الذين يحاصرون جيشه عند (حمص) فانسحب الصليبيون قبل وصوله إلى (حمص) فأقام على حصارها حتى استسلمت له ثم أتم فتح الشام الزنكي حتى خضع له جميع أطراف الشام الداخلية حتى حماه- بدون حلب ..
وأوقع (صلاح الدين ) بجيش (سيف الدين زنكي) صاحب الموصل وقد حاول نجدة حلب حين حصارها واتخذ (صلاح الدين) لقب ملك مصر والشام واعترف له الخليفة العباسي بذلك .
وتوفي (سيف الدين زنكي ) صاحب الموصل ثم توفى (الصالح إسماعيل زنكي) صاحب حلب .. وتولى (عز الدين زنكي ) آمر الموصل وحلب إلا أنه وقع في خلاف مع أخيه (عماد الدين زنكي) صاحب سنجار وتمكن ( صلاح) من استغلال فرصة الخلاف بين ورثة (نور الدين زنكي) فامتد ملكه إلى حلب والموصل وأصبح ورثة ( نور الدين ) من أتباعه فحكم ( عماد
الدين زنكي) سنجار ونصين وسروج باسم ( صلاح الدين ) بينما ولى ( صلاح الدين )( عز الدين زنكي) على إمارته الأصلية الموصل بعد أن افتتحها وأخذها منه ثم اتفقا على أن يحكمها باسمه [4] .
وهكذا امتد ملك ( صلاح الدين ) من الموصل وحلب إلى دمشق ومصر .. ولم يبق أمامه إلا الصليبيون .
( ب ) صلاح الدين والصليبيون في مصر والشام :
لم يدع الصليبيون ( لصلاح الدين ) وقتا يوطد فيه مركزه في مصر , إذ أن (عموري) أسرع بالتوغل إلى الفرما (وصلاح الدين ) وقتها كان يواجه مؤامرات حاشية الفاطميين .. وقد تحصن في بلبيس إلا أنه لم يترك مكانه في القاهرة خوف مؤامرات (العاضد) , إلا إن الفرنجة اجتازوا الفروع الشرقية للنيل على سفن بيزنطية ووصلوا إلى دمياط فأرسل (صلاح الدين ) بالإمدادات إلى دمياط واستغاث ( بنور الدين ). ولم يستطع الصليبيون احتلال دمياط وتناقصت مؤنهم في الوقت الذي يمد فيه الأسطول المصري دمياط بالمؤن وهطلت الأمطار فتحول المعسكر الصليبي إلى مستنقع فاضطروا للجلاء في نظير أن يؤدوا لصلاح الدين تعويضا ماديا , وأغرقت العواصف السفن الصليبية في طريق العودة .
ثم عقدت هدنة بين ( صلاح) والصليبين إلا أن (رينالد شاتيون) (ارناط) أغار على قافلة إسلامية ضخمة كانت تمر بالقرب من حصنه بالكرك محتمية بالهدنة فطالبه ( صلاح) بإطلاق الأسرى والتعويضات فرفض استقبال رسل (صلاح الدين ) , فتوجه الرسل إلى بيت المقدس وكان يتولاه الملك (جاي لوزنجيان) الذي تهاون بسبب صلاته مع ( رينالد ) . وكان معسكر الصليبين منقسما على نفسه ومع أنهم بادروا بالاتحاد إلا أن أسس الخلاف فيما بينهم لم تنته .. فقد كان ( ريموند ) صاحب طرابلس والخليل وثيق الصلة ( بصلاح الدين ) وعلى خلاف مع (جاي) ملك بيت المقدس لان الأخير اغتصب منه أحقيته في عرش بيت المقدس ... وتمكن جيش ( صلاح الدين ) من عبور الجليل بموافقة ( ريموند) وذبح الفرسان الداوية والاسبتارية في معركة كريسون فاضطر( ريموند ) لقطع الهدنة مع ( صلاح الدين ) والانضمام إلى ( جاي ) (ورينالد ) وانضم ( بوهميند ) صاحب إنطاكية إليهم .. وحشد الصليبيون كل قواتهم في عكا وكان أساسها من الاسبتارية والداوية ..
موقعة حطين :
وفى ذلك الوقت تجمعت جيوش (صلاح الدين) في حوارن وأتته الإمدادت من الشام وتجمعت لديه أخبار الصليبين فتحرك نحو طبرية ليستدرج الصليبين من عكا . ورأى ( ريموند) صاحب طبرية أن الأصلح البقاء وعدم التحرك فاتهمه خصومه بالجبن – وممالأة المسلمين وتحركوا – كيفما يريد ( صلاح الدين ) – إلى طبرية ..
وعسكر الصليبيون في موقع ممتاز .. فكان أن حاصر المسلمون طرابلس وفيها زوجة (ريموند) فاستنجدت بزوجها والصليبين , ورفض (ريموند) إخلاء الموقع الممتاز في صفورية إلا إنهم في المرة الثالثة عصوه وتحركوا نحو إنطاكية وطرابلس وحققوا غرض (صلاح الدين ) . وكانت عيون ( صلاح الدين ) ترقبهم على امتداد الطريق الشمالي حتى وصلوا حطين .. وحينئذ رفع (صلاح الدين ) حصاره عن طرابلس وتوجه إلى حطين ..
وتولى ( ريموند) قيادة الجيش وظل جاي في القلب و ( رينالد) والفرسان الرهبان في المؤخرة .. وكان ( صلاح الدين ) قد استولى على الموقع المناسب وحرم الصليبيون من الماء وقاسوا من العطش مع قسوة الحرارة وشدة الإجهاد من المسير وحين توقفوا تعبا وعطشا كانت جيوش ( صلاح الدين ) تطوقهم من كل الجهات وهكذا تحددت نتيجة المعركة مقدما .. وقد أحس بذلك (ريموند ) إذ صاح ( يا الله لقد انتهت الحرب وهلكنا وزالت المملكة ) ..
وبدأ هجوم صلاح الدين ولم يكن لدى الصليبين مطمع إلا في الوصول للماء . فأباد المسلمون من حاول الوصول منهم للآبار .. فاشتد إجهادهم من الجوع والعطش والحرارة ثم أشعل المسلمون النار في الأعشاب الجافة المحيطة بمعسكر الصليبين .. فاستحر فيهم القتل حرقا وعطشا وقتلا ..
وبقيت بعض فلول الصليبين في أعلى التل لتحمي الملك وحين أشتد بهم التعب رقدوا على الأرض ولم يستطيعوا تسليم سيوفهم .. وتم أسرهم وكان من بينهم الملك (جاي) و (رينالد) (ارناط) .. بينما تمكن (ريموند) من الهرب .. وقتل (صلاح الدين )(ارناط) بيده وفاء لندره .. وأكرم الملك(جاي) وأمر بإعدام الأسرى من الفرسان الرهبان (الداوية والاسبتارية) .. وأبقي (صلاح الدين) على حياة البارونات العلمانيين .. وتحرك المنتصرون إلى دمشق حيث بيع الأسرى وقد انخفض سعرهم حتى أصبح في إمكان المسلم أن يشتري أسرة كاملة بثمانين ديناراًً ..
وهكذا أباد صلاح الدين أقوي جيش صليبي واستولى على أقدس مقدساتهم (صليب الصلبوت ) ..
بعد حطين :
استسلمت طبرية وعكا وباليان وتبين ويافا وصيدا وبيروت وعسقلان وغزة ثم توجه إلى بيت المقدس فحاصره وكان اللاجئون الصليبيون من المدن السابقة قد ملأوا القدس وأصبحوا عالة عليها مع تناقص القوة الحربية والمؤن , فلم تصمد المدينة للحصار فاستسلمت على أساس دفع الفدية .. وكان صلاح الدين كريما فعفى عن كثير من الفقراء [5] ..
( بعد صلاح الدين ) 589 – 648 هـ
وحين مات (صلاح الدين) ترك دولة قوية تسيطر على مصر والشام عدا بعض المدن الساحلية الصليبية وكان ممكنا أن ينتهي ذلك الوجود لو كان خلفاء صلاح الدين على شاكلته من قوة .. إلا إن أبناء صلاح الدين في مصر والشام اختلفوا فيما بينهم واستغل أخوه العادل ذلك الخلاف بين أبناء أخيه ليأكل التركة فاستولى على مصر والشام وحين مات زرع أولاده حكاما في المنطقة , وهم بدورهم قضوا حياتهم في تنافس , فأحدهم إذا حكم في جنوب الشام طمع في مصر , وإذا حكم الأخر مصر طمع في الشام , ولأنهم جميعا ضعاف فقد أطعموا فيهم الصليبين الذين استردوا معظم ما فقدوه أمام (صلاح الدين). بل لم يتورع بعضهم في خلافه مع إخوانه عن الاستعانة بالصليبين ..
وشهدت هذه الفترة توافد حملات صليبية على مصر . إذ إن الصليبين تأكدوا أن مفتاح النصر وتأمين وجودهم في الشام لا يكون إلا بالاستيلاء على مصر وهكذا مع عدم وجود الشخصية القوية بعد (صلاح الدين) انتهت الوحدة الاستراتيجية بين مصر والشام وعاد التنازع بين الملوك الصغار في مصر والشام وقد شارك الصليبيون في ذلك النزاع تحالفا مع هذا ضد ذلك أو هجوم على مصر .
وذلك ملخص التاريخ الأيوبي بعد (صلاح الدين ) إلى أن استولى مماليكهم على دولتهم .
ثالثا : خلفاء صلاح الدين في مصر والشام
الخط الأساسي لتاريخ خلفاء صلاح الدين هو الصراع فيما بينهم وتدخل الصليبين في ذلك الصراع . لصالح البعض دون البعض , مع اتجاه الحروب الصليبية نحو مصر (دمياط) لتأكيد الوضع الصليبي في الشام ..
الصراع بين أبناء صلاح الدين في مصر والشام
توفى (صلاح الدين) سنة 589 وقد خلف سبعة عشر ولدا ذكرا . وكان ( صلاح الدين ) قد اعتمد في تأسيس ملكه على إخوته وأظهرهم ( العادل ) فلما شب أولاده أخذ في احلالهم محل إخوته . حتى إذا مات كان ( الأفضل بن صلاح الدين ) يحكم دمشق والساحل وما يتبعه . وعهد ( لابنه عبد العزيز عثمان ) بحكم مصر وابنه ( غازي ) يحكم حلب .. ونقل أخاه ( العادل ) إلى الكرك والشوبك وشرق الفرات وكان ( الملك الأفضل ابن صلاح الدين ) أكبر أولاده والمعهود له من بينهم بالسلطنة .
وحين قدم ( صلاح الدين) مصر مع عمه ( أسد الدين شيركوه ) كان يؤيده مماليك (شيركوه ) الذين عرفوا بالمماليك ( الأسدية ) وحين وطد ( صلاح الدين ) نفوذه إشترى لنفسه مماليك آخرين عرفوا بالمماليك ( الصلاحية ) نسبة إليه .. وقد علا نفوذهم في عهده على حساب نفوذ الأسدية .
وبموت ( صلاح الدين ) أزداد نفوذ المماليك ( الصلاحية ) فازدادت شقة الخلاف بينهم وبين المماليك ( الأسدية) وساعد على تحويل التنافس إلى صراع ضعف شخصيات ( الأفضل ) و( العزيز ) و( غازي ) كبار أبناء صلاح الدين المتحكمين في دمشق ومصر وحلب إلى جانب تعدد العصبيات التي يتكون منها الجيش الأيوبي من أكراد وأتراك وخوارزمية وعرب وهذه العصبيات لا تخضع إلا لسلطان قوي على مثال ( صلاح الدين ) كما ينبغي ألا نغفل دور الكتاب المستشارين كالقاضي الفاضل وضياء الدين بن الأثير في ازدياد الشقاق بين الإخوة .
العادل يستغل الصراع لصالحه
واستغل (العادل الأيوبي ) هذه الظروف فلعب بأبناء أخيه ليمهد لنفسه فبدا بالاتصال بالمماليك الأسدية المتذمرين , وعمل على أن يصل النزاع بين أبناء صلاح الدين إلى درجة الحرب خاصة بين (الأفضل) صاحب دمشق والشام (والعزيز عثمان ) صاحب مصر .. فلما نضجت المؤامرة استعان (بالأسدية ) فاختاروه أتابكا للطفل الصغير (المنصور بن العزيز عثمان ) صاحب مصر وما لبث أن عزله وتولى مكانه وأصبح بعد القضاء على (الأفضل والعزيز ) يتحكم في دمشق ومصر بالإضافة إلى شرق الفرات .. وهكذا توحدت مصر والشام تحت قيادته ولم يبق خارجا عنه إلا حلب التي يتحكم فيها أبناء الملك ( غازي بن صلاح الدين ) .. ويقول (العادل) مبررا استئثاره بالملك دون أبناء أخيه ( أنه قبيح بي أن أكون أتابكا لصبي مع الشيخوخة والتقدم , مع أن الملك ليس هو بالميراث وإنما هو لمن غلب . ولقد كان يجب أن أكون بعد أخي السلطان الملك الناصر رحمه الله صاحب الأمر غير أني تركت ذلك إكراما لأخي ورعاية لحقه ) . إلا أن ذلك مجرد تبرير حاول به العادل أن يمتص الغضب من معاصريه ودليل ذلك أنه تمسك بمبدأ الوراثة فقسم ملكه بين أولاده الثلاثة: الكامل والمعظم والأشرف قبل وفاته .. وظل ملك مصر وراثيا في عقبه إلى أن انتهت الدولة .. و (الكامل) حكم مصر و(المعظم) حكم دمشق و ( الأشرف) في الشرق [6] .
وكان (العادل) – قبلا- يحكم تابعا لأخيه ( الناصر صلاح الدين ) الذي استقر في دمشق متابعا لحروبه الصليبية وبذلك أدرك (العادل) أهمية موقع مصر والتحامه بالشام فعمل على إضافتها إلى ملكه شرق الفرات .. وفي سبيل ذلك حرص على تأكيد الهدنة واستمرارها مع الصليبين في الشام .. وعموما فقد عرف (العادل) بتسامحه الزائد مع الصليبين وحب السلم معهم . حتى إبان حكم أخيه فقد كان يتولى المفاوضات ممثلا لأخيه مع (ريتشارد) قلب الأسد وحين فتح بيت المقدس استوهب أخاه ألفا من الأسرى فأعطاهم له فأطلقهم تطوعا .
وساعد على استمرار العادل في سياسته السلمية أن الصليبين في ذلك الوقت كانوا يعانون الانهيار والشقاق الداخلي إثر كسرهم في حطين إلا إن الحملة الصليبية الخامسة الآتية من أوربا سنة 615 / 1217 قطعت أحلام العادل في السلام والهدنة .
الحملة الصليبية على مصر – الحملة الخامسة
كان الصليبيون – (كالعادل) – يدركون أهمية موقع مصر لتأمين الإمارات الصليبية المتداعية في الشام وكان ( العادل ‘ قد أقام ابنه ( المعظم عيسي ) في دمشق – وأقام في مصر ابنه الآخر ( الكامل محمد ) وفي هذه الآونة تآزر الأخوان ( المعظم والكامل ) في مواجهة الصليبين .. فوصل جيش من سوريا وسير ( الكامل) جيشا من القاهرة ..
وقد وصلت الحملة الصليبية إلى دمياط وهاجمتها بر وبحرا فاستولت عليها وكان العادل لا يزال حيا , وحين علم العادل بسقوط دمياط انهارت أحلامه ومات حزنا سنة 615 , إذ إنه بسقوط دمياط أمكن للصليبين التقدم عبر النيل للقاهرة وإذا ضاعت القاهرة ومصر فقد ضاعت دمشق وانهارت الدولة التي أقامها مع أخيه صلاح الدين واستأثر بها بعده ..
وفشل الكامل في هجوم بحري عبر النيل على الصليبين .. في وقت قدمت فيه الإمدادات للصليبين يقودها الكاردينال بيلاجيوس إلا إن العواصف وفيضان النيل أغرقت معسكر الصليبين وحطمت سفنهم وأهلكت سدس الجيش وكان الصليبيون في ذلك الوقت قد استولوا على حصن دمياط دون المدينة نفسها ولم يستطع الكامل استغلال الفرصة بسبب تآمر ابن المشطوب عليه فانسحب العادل من العادلية حيث تمركز فاحتلها الصليبيون .. وأنقذ العادل مجيء المعظم عيسي بجيشه فاخضع المتآمرين وقتل ابن المشطوب .
وتقاسم الفريقان المعاناة .. فالمسلمون في مدينة دمياط محاصرون جوعي مرضي والقنوات والخلجان استحال معها أن ينتصر أحد الفريقين نصرا حاسما فالصليبين فشلوا في هجوم على مدينة دمياط , ووقع الخلاف بين الملك حنا برين ملك بيت المقدس والكاردينال بيلاجيوس قائد الإمدادات ومندوب البابا .. وصد المسلمون هجوما صليبيا بريا فلاذوا بالفرار إلى معسكرهم .. إلا إن الأشرف هدد ممتلكات أخيه المعظم في الشام وعاني الكامل من انخفاض النيل وخطر المجاعة مع معاناة المسلمين في دمياط .. وفي هذه الظروف تحتم عقد هدنه فعقدت إلا إن الإمدادات الصليبية نقضتها , ومع ذلك كان الأفضل يأمل في الصلح فعرض عليهم الجلاء عن دمياط مقابل إعادة صليب الصلبوت وبيت المقدس وقلب فلسطين والجليل وأن يؤدي جزية لحصون ما وراء الأردن .. أي يتنازل لهم باختصار عن كل ما فتحه صلاح الدين , وتحت ضغط بيلاجيوس والفرسان الرهبان رفض الصليبيون ذلك العرض المغري ..
وازداد المرض والموت في دمياط فتمكن الصليبيون من اقتحامها بسهولة واختلفوا في أحقية كل منهم في أخذها فتأخروا في زحفهم جنوبا وفي ذلك الوقت عاد المعظم عيسي إلى دمشق وحاصر حصن عثليت معقل الداوية الصليبية فأجبر فريقا منهم على الانسحاب من مصر , وازداد الخلاف بين الصليبين برحيل حنا برين وعصيان جنده بيلاجيوس .. ثم استعاد الكامل قوته فانتصر جنده على فرقة صليبية أغارت على البرلس ودمر أسطول الصليبين في قبرص إلا إن الكامل رغم ذلك أعاد عرضه الأول بالتنازل عن بيت المقدس ورفض بيلاجيوس إذ كان يأمل في وصول حملة الملك فريديريك الثاني وقد وصلت طلائع من تلك الحملة فاستدعى بيلاجيوس حنا برين وتحركت جموعهم إلى فارسكور في ستمائة وثلاثين سفينة محملة بالجنود , وخلفوا في دمياط حامية ضخمة .. وتقدم جيش الكامل للقائهم إلا إنه انسحب حين وقف على تفوقهم العددي , واستولى الصليبين على شر مساح وأصر بيلاجيوس على التوغل بعدها حتى وقف قبالة الجيش المصري على امتداد البحر الصغير , وفى هذه الأثناء أتت قوات الأيوبيين يقودها المعظم عيسي وأخوه الأشرف – بعد تصالحهما – فحصروا الصليبين بينهم وبين الكامل وقطع الكامل بأسطوله عليهم طريق العودة ..
ونفذت المؤن من الصليبين وهم محاصرون , فتراجعوا في غير انتظام ففتح عليهم الكامل القناطر فأغرقت طريقهم بالأوحال ولم ينج منهم في المعركة إلا شراذم يقودها بيلاجيوس الذي هرب إلى دمياط ومنها طلب الصلح , وتم الصلح وفق شروط الكامل بالجلاء عن دمياط وعقد هدنة ثماني سنوات يصدق عليها الإمبراطور .. وإعادة صليب الصلبوت وتبادل الأسرى [7] ..
وهكذا فشلت الحملة الصليبية الخامسة بإتحاد أبناء العادل . ولكنهم لم يعوا الدرس وكانت ظروف المنطقة أقوى منهم فأخضعتهم لمؤثراتها ولم يخضعوها لواحد منهم , إذ إن المنطقة تتطلب قائدا فذا يستطيع أن يحكمها منفردا ويخضع له الجميع .. ليتمكن من مواجه الصليبين , وإذ لم يوجد ذلك القائد الفذ في أبناء العادل . كان لابد أن تتعدد بينهم المنافسات الصغيرة , وكان لابد أن يستفيد منها الصليبيون وتجلى ذلك في التنازل عن بيت المقدس سلميا لإمبراطورية فريدرك الثاني ..
(استفادة الصليبين من تنافس أبناء العادل )
حملة فريدريك الثاني والتنازل عن بيت المقدس:
تثاقل الإمبراطور فريدريك الثاني في تجهيز حملته الصليبية فأعلن البابا جريجوري التاسع حرمانه وقطعه من الكنيسة , وأدى ذلك لإسراع الإمبراطور في تجهيز حملته للبابا ولم يرحب الصليبيون بقدومه إليهم – وكانت حملته قليلة العدد , وفي ظروفه تلك اضطر أن يتجه اتجاها دبلوماسيا لا حربيا وببراعته استطاع اللعب على الخلافات الأيوبية حتى حقق هدفه سلميًا , فقد عاد الخلاف بين ( الإخوة الأعداء ) الكامل والمعظم والأشرف . وكأنه بندا مقررا في سياستهم الخرقاء أن يتحالف اثنان ضد الثالث , ويصبح حليف اليوم عدو الأمس وتتغير الأدوار من يوم لآخر .
وفي هذه الأثناء كانت الدولة الخوارزمية في الشرق تضغط على الدولة العباسية نتيجة للضغط المغولي عليها من الشرق , وقد تحالف المعظم عيسى مع جلال الدين الخوارزمي ليغيظ أخويه الكامل والأشرف ومعني ذلك أن تتهدد أملاك الأيوبيين في الشام بالخطر الخوارزمي المتجه غربا , فأرسل الكامل للإمبراطور فريدريك يتحالف معه ضد الخطر القادم في نظير أن يعطيه بيت المقدس وهو تابع لأخيه المعظم عيسي ..
وحدث أن مات المعظم عيسي وتولى ابنه داود فتجهز الكامل للقضاء عليه والاستيلاء على دمشق وجنوب الشام .. فاستنجد داود بعمه الاشرف ضد عمه الكامل , فما كان من الاشرف والكامل إلا أن اتفقا معا على اقتسام أملاك ابن أخيهما داود – وحاصراه في دمشق .
وكان لابد أن يحصل فريدريك على نصيب من الغنيمة . وهو في سبيل استحقاقه المنتظر قام بحركات مسرحية ومظاهرات عسكرية , وتم الاتفاق بينه وبين الكامل بحصوله على بيت المقدس وبيت لحم وشريط من الأرض بين اللد إلى يافا على البحر مع الناصرة وغرب الجليل , على أن يظل للمسلمين قبة الصخرة والمسجد الأقصى وحريتهم في التردد والعبادة وإطلاق سراح الأسرى من الجانبين وهدنة عشر سنوات [8] ...
وبذلك تمكن فريدريك المحروم من الكنيسة من استعادة بيت المقدس للكنيسة وإن لم يستطيع بذلك كسب البابا أو متطرفي الصليبين والمهم أن صغار الأيوبيين أ ضاعوا بتنافسهم ما حققه الكبار ..
هذا وإذ كان للخوارزمية دخل في ضياع بيت المقدس حين تحالفوا مع المعظم عيسي فجعلوا الكامل يفاوض فريدريك ويتخلى في النهاية عن بيت المقدس .. فان الخوارزمية بعد سقوط دولتهم وفدوا للمنطقة وتمكنوا من انتزاع بيت المقدس نهائيا من يد الصليبين وأفنوهم في المدينة ودمروا مقدساتهم .. وتحالفوا مع الأيوبيين في مصر ..
التحالف مع الصليبين بعد الكامل
صار التحالف مع الصليبين سمة أساسية في سياسة الأيوبيين طبقها الكامل حين تحالف مع فريدريك لينقض على سلطان ابن أخيه الناصر داود ابن المعظم عيسي وفي سبيل ذلك أعطاه بيت المقدس سلما .. وتقلصت أملاك الناصر داود إلى مجرد احتفاظه بالكرك ولكنه طبق سياسة أعمامه فتحالف مع الصليبين وقدم لهم خدمات جليلة من ذلك أن الخوارزمية حين وفدوا للمنطقة واستولوا على بيت المقدس استغاث الصليبيون بالمدينة به فتوسط الناصر داود بينهم وبين الخوارزمية على أساس تسليم المدينة مقابل رحيلهم عنها بأمان ..
وتحالف مع الصليبين أيضا حاكم حمص الأيوبي , إلا إن أبرز من أخلص في تحالفه معهم كان الصالح إسماعيل صاحب دمشق .
وفي مصر مات الكامل سنة 635 . ووقع النزاع بين ولديه العادل الثاني والصالح أيوب وكان النفوذ في مصر لأم العادل الثاني فتمكنت من إبعاد الصالح أيوب إلى الفرات , وعهدت لابنها بحكم مصر مع أنه الأصغر سنا والأقل شأنا , ورفض الممالك الكاملية توليته وانتهزوا فرصة خروجه لحرب أقاربه فاعتقلوه في بلبيس وخلعوه سنة 637 واستدعوا الصالح أيوب لتولى السلطنة في مصر . وقد استكثر الصالح أيوب من شراء الممالك ليستعين بهم على أقاربه , وتحالف في نفس الوقت مع ( الخوارزمية ) [9] .
الصليبيون والصدام بين الأيوبيين في مصر والشام
وكان لابد أن يقع الصدام بين الصالح أيوب في مصر وابن عمه الصالح إسماعيل في دمشق وهو زعيم الأيوبيين المتحالفين مع الصليبين , ويذكر أن الصالح أيوب عرض التحالف مع الصليبين إلا إنهم فضلوا التحالف مع إسماعيل نظرا لعمق صلتهم به ونفوذه في المنطقة وتأكد تحالفهم مع الناصر داود في الكرك وحاكم حمص الأيوبي .
قاد الجيش المصري ركن الدين بيبرس وانحاز له الخوارزمية تنفيذا لتحالفهم مع الصالح أيوب وعقد الحلفاء من الصليبين والأيوبيين مجلسا اتفقوا فيه على القيام بهجوم مباشر على المصريين , وبينما كانت العساكر المصرية تصد هجوم الفرنجة حمل الخوارزمية على المسلمين المتحالفين مع الصليبين فولوا الإدبار فتحول الخوارزمية عنهم إلى الصليبين فحصروهم بين المصريين وأفنوهم عن أخرهم بحيث لم ينج من الصليبين إلا القليل , وتلك هي معركة غزة , وتخوف الصالح أيوب من أطماع الخوارزمية بعد انتصارهم في بيت المقدس وغزة , فأعطاهم الحرية في الشام ومنعهم من دخول مصر , ودار صراع بينه وبينهم تمكن فيه من الانتصار عليهم [10] , وارتفع شأنه في مصر إلا إن الصليبين لم يدعوه وشأنه فكانت حملة لويس التاسع
حملة لويس التاسع ( 647 – 648 هـ, 1249 – 1250 م )
أتي لويس التاسع بحملة وفاء لنذره إذ اشتهر بالتقوى والتقشف حتى لقب بالقديس وقد وصلت جموعه إلى قبرص وشتتت العاصفة سفنه أثناء رحلته من قبرص إلى مصر , فوصلت الحملة على دفعات . وكان الصالح أيوب يحاصر ابن عمه في حمص وحين علم بالحملة الصليبية رفع الحصار وعجل بالعودة , ولأنه كان يعاني مرض السل فقد عهد لفخر الدين بن شيخ الشيوخ بمهمة الدفاع عن دمياط وحشدها بكميات ضخمة من المؤن والسلاح والرجال وفيهم عرب بني كنانة المشهورين بالشجاعة .
وأسرع لويس بالنزول إلى دمياط رغم أن جموعه لم تكتمل بعد , واستطاع التغلب على المدافعين فتراجع فخر الدين إلى دمياط التي سادها الفزع فجلا عنها فخر الدين وهرب معه كل من فيها فدخلها الصليبيون بسهولة , واستراح لويس في دمياط وقرر البقاء فيها لحين قدوم أخيه كونت بواتو بالإمداد وحول دمياط إلى مدينة صليبية ووزعها إقطاعات على أمرائه وفرسانه .
وعرض الصالح أيوب على لويس استرداد دمياط في مقابل التنازل عن بيت المقدس الذي أعاده الخوارزمية إليه , وهو نفس العرض الذي تقدم به أبوه الكامل في الحملة الصليبية السابقة التي استولت على دمياط قبلا , وقد رفض لويس التاسع لأنه أساسا يرفض التعامل مع مسلم , وكان الصالح قد أعدم قبلا أمراء بني كنانة وعزل فخر الدين لهروبهم وثار بعض الممالك لعزل فخر الدين إلا إنه رفض ثورتهم وتقديرا لموقفة فقد أعاده الصالح لمنصبه , وانسحب الصالح بجيوشه إلى جوار طلخا في موقع مدينة المنصورة الحالي حيث شيد تلك المدينة واتخذها معسكرا وبعث بالعصابات تجوب تخوم دمياط تتخطف الصليبين التائهين فاضطر لويس لأن يحمي منطقته بالحواجز والخنادق .
ووصل شقيق لويس كونت بواتو بإمداد فرنسا وقرر لويس الزحف على الإسكندرية ليفا جيء المصريين وليسيطر على البحر المتوسط , إلا إن كونت بواتو أصر على الزحف للقاهرة أولا , فاتجه الفرنسيون جنوبا بعد أن تركوا بدمياط حامية مع الملكة وبطريرك بيت المقدس . وفي هذه الأثناء مات الصالح أيوب وكان وريثه توران شاه في الجزيرة فأخفت ( شجرة الدر) نبأ الوفاة حتى أخذت البيعة لتوران شاه وحين شاع خبر موته كانت الأمور توطدت لشجرة الدر بمعونة الطواشي جمال الدين محسن . وتشجع الفرنجة بأنباء موت الملك . فواصلوا زحفهم على طريق دمياط المنصورة .
وعلى ذلك الطريق الذي تعترضه الترع والقنوات دارت معارك صغيرة كثيرة جعلت الصليبين يتقدمون في بطء وحذر حتى عسكروا تجاه الجيش المصري عبر البحر الصغير , وحاول لويس إقامة كوبري يستطيع العبور عليه إلى الجيش المصري في الضفة الأخرى فكانت النار المصرية تهدم كل ما يبنيه الصليبيون حتى اضطر لويس إلى إيقاف العمل .
وسنحت للصليبين فرصة العمر إذ أرشدهم خائن لمخاضة يمكن العبور عليها فشرع الصليبيون في عبورها بعد أن أبقوا فرقة في معسكرهم ليشغلوا المصريين , وفوجيء المصريون بهجوم الصليبين عليهم من الخلف فأخذتهم المفاجأة حتى قتل فخر الدين وهو بملابس الحمام وفر معظم الجيش إلى المنصورة , وكان لويس قد حذر أخاه كونت أرتو من الهجوم بدون إذن إلا إن الكونت المتهور هاجم المعسكر قبل أن يأذن له الملك وإذ تشجع بانتصاره فقد طور هجومه ونقله للمنصورة حيث المعسكر السلطاني والحاشية والحريم , وكان المماليك السلطانية بقيادة بيبرس يتولون الدفاع عن المنصورة وقد أخذوا مواقعهم في تقاطع الشوارع انتظروا خيالة الفرنجة وهى تتدفق على المدينة حتى بلغوا أسوار القلعة وفوجيء الصليبيون بهجوم المماليك يتخطفهم من الشوارع الضيقة التي لا يتيح لهم مجالا للمناورة فوقعت بينهم الفوضى ولم يفلت منهم إلا القليل وهذا القليل غرق في النيل .
وحين علم لويس بالكارثة ومقتل أخيه حصن معسكره لدفع الهجوم المتوقع وبدا فعلا هجوم المماليك بوابل من السهام وصد الفرنجة الهجوم فتراجع المماليك بنظام , وأصبح الصليبيون في موقع لا يمكنهم إلا من الدفاع فقط ضد الهجوم المصري المتزايد , وبدا الهجوم المملوكي الشامل بعد أن وصلت الإمدادات واتخذ لويس طريقة الانتظار فتحمل رجاله الهجوم المركز بالسهام إلا إن السهام زعزعت ميمنته وقتلت مقدم الدواية , وبعد أن أوقع المصريون بميمنة الصليبين انسحبوا إلى مواقعهم بنظام رائع , ثم وصل توران شاه فأمر بصنع السفن وحملها على ظهور الإبل إلى شمال المنصورة حيث أنزلت في القنوات وأخذت تعترض سفن الفرنجة ومنعت عنهم المؤن فتعرض لويس ومعسكره للجوع وتفشى بينهم المرض , وأضطر لويس للانسحاب وعرض على توران شاه أن يترك دمياط مقابل بيت المقدس فرفض توران شاه إذ علم بضعف موقف خصمه , وأخذ الصليبيون في الانسحاب شمالا , وطاردهم المماليك وأحاطوا بهم من كل جانب وأسر الجيش الصليبي بأكمله ومعه لويس , ولكثرة الأسرى فقد أعدم المرضي منهم واعتقل لويس في دار لقمان واعتقل كبار الأمراء في قصر كبير .
وفرض على لويس أن يفتدي نفسه بمبلغ كبير وتسلموا دمياط وانتصر المصريون على حملة لويس [11] .
بعد هزيمة لويس
علا شأن المماليك فقد تم إحراز النصر بجهودهم , وكان منتظرا أن يقابل توران شاه جهدهم وجهد شجرة الدر بالشكر , إلا إنه قابله بالجحود فأخذ في مقاهرة أرملة أبيه, ونمي إلى علم المماليك البحرية أن توران شاه ينوي الإيقاع بهم , فاتفقوا مع شجرة الدر على اغتياله , وهجم عليه بيبرس في برجه فقتله [12] .
وتمت سلطنة شجرة الدر وحولها رؤس المماليك ( أقطاي زعيم البحرية وأيبك رأس المماليك السلطانية في القصر الأيوبي ) , وبدأ عصر جديد هو العصر المملوكي .
[1] تاريخ ابن الأثير 11 /155 : 156 .
[2] تاريخ ابن الأثير 11/ 164 : 165 .
[3] تاريخ ابن الأثير 11 /158 , 166 , 176 , 180 : 182 .
[4] تاريخ ابن الأثير 11/187 , 188 , 189 , 190 , 194 , 195 , 218 , 222 , 224 .
[5] تاريخ ابن الأثير 11/157 , 163 , 191 , 198 , 212 , 215 , 221 , 228 , 238 , 239 , 240 , 241 : 253 .
[6] تاريخ ابن الأثير : 11/236 , 12 / 44 , 45 , 51 , 55 , 65 , 67 , 72 , 75 , 161 ,
ابن واصل : مفرج الكروب – تحقيق الشيال 2 /10 : 14 , 28 : 33 , 41 : 55 , 61 : 65 , 68 : 70 , 75 : 77 , 82 : 83 , 87 : 101 , 108 : 114 .
[7] تاريخ ابن الأثير 11 / 147 : 150, 162 . مفرج الكروب : 3 /254 : 256 , 258 : 261 , 265 . المقريزي, السلوك تحقيق زيادة : 1 /1 /221 : 226 , 230 : 234 , 237 : 246 .
[8] تاريخ ابن الأثير : 11/ 213 , 218 , 220 , 221 , 223 , 225 , السلوك 1 / 1 : 250 : 253 , 256 : 260 , 261 : 265 , 266 : 270 .
[9] السلوك : 1 / 1 / 277 : 279 , 294 , 295 : 299 , 302 : 303 , 1 / 2 / 269 : 271 , 275 : 299 .302 : 303، 1/ 2 / 333 : 339 ، 346 : 351 ، 353 : 356 ، 362 : 363 .
[10]السلوك 1 / 2 / 302 : 305 , 314 : 317 , 322 : 325 .
[11] السلوك : 1 / 2 / 333 : 339 , 346 : 351 , 353 : 256 , 362 : 363 .
[12] السلوك : 1 / 2 / 358 : 361 .
مقدمة
الفهرس
مقدمة الطبعة الأولى
الفصل الأول
الفتح الإسلامي والاستراتيجية السياسية
الفتح الإسلامي والاستراتيجية السياسية
الفتح الإسلامي والاستراتيجية السياسية
الفتح الإسلامي والاستراتيجية السياسية
الفتح الإسلامي والاستراتيجية السياسية
الفصل الثاني :الفتح والحياة الدينية
ثانيا : الإسلام ومصر بعد الفتح الإسلامي
الخاتمة
دعوة للتبرع
النبات والحيوان: قرآني ا : ما هو الفرق بين ( النبا ت ) في الأرض...
القرآن وفقط .!: أحمد الله تعالى أن هداني على يدكيم منذ سنتين...
مراءون منافقون: منذ قليل شاهدت فيديو على الفيس بوك يعرض مشهد...
الحور العين : من هن الحور العين اللائ ى لم يطمثه ن انس ولا...
اطلاق اللحية : -هل اطلاق اللحي ة واجب في الاسل ام استنا دا ...
more