هل تمر أميركا بعصر انحطاط؟

اضيف الخبر في يوم الثلاثاء ١١ - يناير - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً. نقلا عن: الجزيرة


هل تمر أميركا بعصر انحطاط؟

 
أوباما (يسار) زار بكين العام الماضي (رويترز)

تناول الكاتب الأميركي غيدعون راشمان حال الولايات المتحدة في العالم بالنقد والتحليل في ظل متغيرات متعددة من بينها الصعود الصيني، وتساءل هل تعيش أميركا عصر انحطاط؟ وقال في مقال بهذا الشأن نشرته له مجلة فورين أفيرز الأميركية:

لقد سمعنا مثل هذا القول عن عصر الانحطاط الأميركي من قبل, ولكن الوضع مختلف هذه المرة, ومن المؤكد أن أميركا كانت تمر في دورات من الانحطاط والتراجع في الماضي, وفي هذا السياق قال جون أف كينيدي خلال حملته الانتخابية الرئاسية عام 1960 "إن قوة الولايات المتحدة قياسا إلى قوة الاتحاد السوفياتي في تدهور وإن الشيوعية تتقدم بخطى راسخة في كل منطقة من العالم". أما كتاب عزرا فوغل "اليابان هي الأولى" الذي نشر عام 1979 فقد تنبأ بعقد من الخوف المتصاعد بشأن التقنيات الصناعية اليابانية والسياسات التجارية.

وفي النهاية, فقد ثبت أن التهديدات السوفياتية واليابانية للتفوق الأميركي كانت وهمية, وعليه يمكن التماس العذر للأميركيين إن هم تحدثوا بصوت عال عن التحدي القادم من الصين وهم يكررون بذلك صياح الولد عن خطر الذئب المزعوم, ولكن تبين أن الحقيقة التي تم استشرافها عن تلك الرواية هي أن الولد كان على صواب, فقد وصل الذئب في نهاية المطاف وكان الذئب هو الصين. ويعتبر التحدي الصيني للولايات المتحدة أكثر خطورة للأسباب الاقتصادية والديمغرافية معا, فقد انهار الاتحاد السوفياتي لأن نظامه الاقتصادي كان غير فعال بدرجة كبيرة, وهذا عيب أو ثغرة قاتلة تم تجاهلها مدة طويلة لأن الاتحاد السوفياتي لم يحاول على الإطلاق التنافس في الأسواق العالمية, لكن الصين وعلى النقيض من ذلك أثبتت قوتها الاقتصادية على المسرح العالمي, فقد كان اقتصادها ينمو بمعدل 9 أو 10% سنويا لمدة ثلاثة عقود تقريبا, وباتت اليوم أكبر مصنع ومصدر في العالم ولديها احتياطي من العملات الصعبة بأكثر من 2.5 تريليون دولار وباتت السلع الصينية تنافس غيرها في كل مكان من العالم, وهذا ليس نموذجا اقتصاديا سوفياتيا.

وأما اليابان فقد شهدت سنوات عديدة من النمو الاقتصادي السريع، وما زالت قوة مصدرة يشار إليها بالبنان, ولكنها لم تكن مرشحة بجدارة لتكون صاحبة المرتبة الأولى, فعدد سكان اليابان أقل من نصف عدد سكان الولايات المتحدة، وهو ما يعني أن الشخص الياباني عليه أن يكون أغنى من معدل ثراء الشخص الأميركي بأكثر من ضعفين قبل أن يتفوق الاقتصاد الياباني على الاقتصاد الأميركي, وهو ما لن يحدث, وعلى العكس من ذلك فإن عدد سكان الصين أكثر من أربعة أضعاف عدد سكان الولايات المتحدة.



"
التقدير الشهير لغولدمان ساكس أشار إلى أن الاقتصاد الصيني سيكون أكبر من الاقتصاد الأميركي بحلول عام 2027، لكنه صدر قبل الركود الاقتصادي عام 2008, وبناء على الوتيرة الحالية فإن الصين ستكون الاقتصاد الأكبر قبل ذلك التاريخ
"

الاقتصاد الصيني
وكان التقدير الشهير لغولدمان ساكس الذي يشير إلى أن الاقتصاد الصيني سيكون أكبر من الاقتصاد الأميركي بحلول عام 2027 قد صدر قبل الركود الاقتصادي عام 2008, وبناء على الوتيرة الحالية فإن الصين ستكون الاقتصاد الأكبر قبل ذلك التاريخ.

ويمكن للقدرة الاقتصادية الصينية الفائقة أن تتحدى نفوذ الولايات المتحدة في كافة أنحاء المعمورة, فالصينيون هم الشركاء المفضلون للعديد من الحكومات الأفريقية والشريك التجاري الأكبر للقوى الناشئة مثل البرازيل وجنوب أفريقيا, كما أن الصين تتحرك لشراء سندات لدول تعاني من مشاكل مالية في منطقة اليورو مثل اليونان والبرتغال.

والصين هي الفصل الأكبر الوحيد فيما يعرف بقصة صعود الاقتصاديات الجديدة واللاعبين السياسيين الجدد ناهيك عن أن حلفاء أميركا التقليديين الأوروبيين مثل بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وحتى ألمانيا يتراجعون على المستوى الاقتصادي, وهناك قوى جديدة صاعدة مثل الهند والبرازيل وتركيا, وهؤلاء لهم أولوياتهم السياسية الخارجية الخاصة بهم التي تحد بمجموعها بقوة من قدرة أميركا على تشكيل العالم, وعليك التفكير في كيف أن الهند والبرازيل انضمتا إلى الصين في محادثات تغيير المناخ على المستوى العالمي، بالإضافة إلى تصويت تركيا والبرازيل ضد أميركا في الأمم المتحدة بخصوص فرض عقوبات على إيران, وهذا نموذج مما سيحصل في الأيام القادمة.

تفتت الصين


لا تراهنوا على تفتت الصين عاجلا أم آجلا، إذ إنه من الصحيح وبشكل مؤكد أن الأميركيين حينما يشعرون بالقلق بشأن التدهور القومي, يتجهون إلى المبالغة في ضعف منافسهم الذي يبدو مخيفا ومرعبا, فمثالب النظامين السوفياتي والياباني تبدو جلية ضمن هذا السياق, حيث يشير الواثقون من توسع الهيمنة الأميركية في المستقبل إلى الإمكانيات القوية للنظام الصيني, ففي مقابلة أخيرة مع صحيفة التايمز اللندنية, قال الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش إن المشاكل الداخلية الصينية تعني أن اقتصادها من غير المرجح أن يشكل منافسا للاقتصاد الأميركي في المستقبل المنظور, وعندما سئل هل يعتقد أن أميركا ستبقى القوة العظمى الوحيدة؟ رد بالإيجاب.

ولكن التنبؤات المتعلقة بالمعجزة الصينية الوشيكة الحلول كانت ترخي ظلالها بانتظام على المحللين الغربيين منذ انطلاقها وتعاظمها منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي, ففي عام 1989 بدأ الحزب الشيوعي الصيني مترنحا بعد مذبحة ميدان تيانامين, وفي التسعينيات أشار المراقبون الاقتصاديون بانتظام إلى الوضع الخطير للمصارف الصينية والمؤسسات المملوكة للدولة, ولكن الاقتصاد الصيني استمر في النمو ليتضاعف حجمه كل سبع سنوات تقريبا.

وبالطبع فإنه من المنافي للعقل القول إن الصين لا تواجه تحديات رئيسية, فعلى المدى القريب هناك العديد من الأدلة على أن فقاعة العقارات تتنامى في المدن الرئيسية مثل شنغهاي, فضلا عن تزايد التضخم, وأما على المدى البعيد فإن الصين ستمر في تحولات سياسية واقتصادية مخيفة, فمن غير المرجح أن يحتفظ الحزب الشيوعي باحتكاره للسلطة إلى الأبد, كما أن اعتماد البلاد على التصدير وعلى عملة مقومة بأقل من قيمتها, يتعرض لانتقادات متزايدة من الولايات المتحدة وغيرها من اللاعبين الدوليين المطالبين بإعادة التوازن في اقتصاد البلاد الذي يعتمد على التصدير, فضلا عن التحديات السكانية والبيئية التي تواجهها الصين, فسكان البلاد يشيخون على ضوء سياسة إنجاب الولد الواحد ناهيك عن أن البلاد مهددة بنقص المياه وبالتلوث.



"
افتراض أن التحدي الصيني للقوة الأميركية سيختفي بسهولة خطأ جسيم, فبمجرد تعلق الدول واعتيادها على النمو, فإنها تفعل كل ما في وسعها للعودة إليه
"

دليل ساطع
ولكن إن راهنت على اضطرابات سياسية واقتصادية مستقبلية, فإنه من الخطأ الجسيم افتراض أن التحدي الصيني للقوة الأميركية سيختفي بسهولة, فبمجرد تعلق الدول واعتيادها على النمو, فإنها تفعل كل ما بوسعها للعودة إليه, ولعل الدليل الساطع على ذلك يكمن في صعود ألمانيا منذ منتصف القرن التاسع عشر فصاعدا, وهي التي مرت بكوارث هزيمتين عسكريتين وتضخم كبير جدا وبالكساد الكبير وبانهيار الديمقراطية وتدمير المدن الرئيسية والبنية التحتية بفعل قصف الحلفاء, ولكن رغم ذلك فقد برزت ألمانيا الغربية في نهاية الخمسينيات ضمن الاقتصادات العالمية الرائدة بالرغم من تجريدها من طموحاتها الاستعمارية.

وفي الحقبة النووية, من غير المرجح أن تخوض الصين غمار حرب نووية عالمية, وعليه فمن غير المرجح أن تواجه اضطرابات وقلاقل على نطاق واسع كما حصل مع ألمانيا في القرن العشرين, وأيا كانت الصعوبات السياسية التي تواجهها الصين, فإن ذلك لن يكون كافيا لوقف صعود الصين إلى مصاف الدولة العظمى, فحجمها الكبير وزخمها الاقتصادي كفيلان بأن يحافظا على مضي الصين قدما بغض النظر عن المصاعب التي تعترض طريقها.


تولي القيادة
وأميركا ما زالت تتولى القيادة، وحتى حينه وكما تبدو الأمور, فإن لأميركا أكبر اقتصاد في العالم, ولديها الجامعات الرائدة على المستوى العالمي والعديد من الشركات الكبرى, كما أن قوتها العسكرية أقوى من أي قوة منافسة لها بشكل لا تمكن معه المقارنة بينهما, فهي تنفق على قواتها المسلحة بقدر ما تنفقه بقية دول العالم مجتمعة فضلا عن الأصول والمقدرات الأميركية غير الملموسة, وقد وفر لها الجمع بين مهارتها وفطنتها في مجال المقاولات والتكنولوجيا الماهرة السبيل لتزعم الثورة التقنية, وما زال المهاجرون الموهوبون يشدون الرحال إلى أميركا, والآن ومع وصول باراك أوباما إلى البيت الأبيض, فقد تلقت القوة الناعمة دفعة كبيرة, ورغم كل هذه المشاكل, فإن استطلاعات الرأي تشير إلى أن أوباما ما زال أكثر زعماء العالم سحرا, وأما الرئيس الصيني هو جينتاو فلا يكاد يقترب منه كما أن لأميركا صناعاتها التي تعزز من فتنتها ومكانتها المغرية (هولي وود وكل ما هو شبيه بها), وكذلك قيمها والطابع العالمي المتزايد للغة الإنجليزية ناهيك عن سحر وجاذبية الحلم الأميركي.

كل هذا صحيح, ولكنه هش أكثر مما تعتقد, فالجامعات الأميركية تبقى ذخرا هائلا, ولكن إن لم يتمكن الاقتصاد الأميركي من إيجاد وظائف, فإن الطلبة الخريجين اللامعين الآسيويين الذين يشغلون دوائر الهندسة وعلوم الكمبيوتر في جامعة ستانفورد وميت سيعودون إلى بلدانهم بأعداد أكبر, ولم يكن في تصنيف فورشين الأخير لأكبر الشركات العشر في العالم سوى اثنتين من الشركات الأميركية هما والمارت في الترتيب الأول وإيكسون موبيل في الترتيب الثالث، في حين كان هناك ثلاث شركات صينية من بين الشركات العشر الكبرى في العالم هي سينوبيك وستيت غريد وشركة بترول الصين الوطنية, وربما تختفي الجاذبية الأميركية إن لم تصبح البلاد مقرونة بالفرص والرخاء والنجاح, ورغم أن هناك العديد من الأجانب الذين يجتذبهم الحلم الأميركي, فإنه توجد مشاعر عميقة من الضغائن والمشاعر المعادية لأميركا التي استغلها تنظيم القاعدة بمهارة في عهد أوباما أو غيره.

 

"
العبرة من حربي العراق وأفغانستان هي أن القوة العسكرية الأميركية أقل تأثيرا وفائدة مما كان يتخيل وزير الدفاع الأميركي السابق دونالد رمسفيلد وغيره, فبعد سنوات من النصر الظاهري ما زالت أميركا عالقة في حرب تمرد لا نهاية لها في أفغانستان
"

العراق وأفغانستان
أما بالنسبة للقوة العسكرية الأميركية, فإن العبرة من الحربين على العراق وأفغانستان هي أن القوة العسكرية الأميركية أقل تأثيرا وفائدة مما كان يتخيل وزير الدفاع الأميركي السابق دونالد رمسفيلد وغيره, فيمكن للطائرات والصواريخ والقوات الأميركية أن تطيح بحكومة على الجانب الآخر من العالم, ولكن توفير الأمن والاستقرار في بلد محتل أمر مختلف, فبعد سنوات من النصر الظاهري, ما زالت أميركا عالقة ومتورطة في حرب تمرد لا نهاية لها في أفغانستان.

ولم يفقد الأميركيون رغبتهم في خوض المغامرات الخارجية فحسب, ولكن من الواضح أن ميزانية القوات المسلحة الأميركية ستقع تحت ضغط في حقبة التقشف الجديدة, فالشلل الحالي في واشنطن لا يقدم سوى أملا ضئيلا للولايات المتحدة بأن تكون قادرة على التعامل مع مشاكل الميزانية بسرعة أو كفاءة, فاستمرار الحكومة الأميركية في الاعتماد على الاقتراض الخارجي يضعف البلاد, وهو ما كشف عنه توسل وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون إلى الصينيين عام 2009 بالاستمرار في شراء سندات وزارة المالية الأميركية, فأميركا تمول تفوق قواتها المسلحة من خلال إحداث عجز في الميزانية، وهو ما يعني أن تكاليف الحرب على أفغانستان تدفع ببطاقات الاعتماد الصينية, والقليل هم من ينتابهم العجب من قول رئيس هيئة الأركان الأميركية الأدميرال مايك مولن إن تزايد الدين القومي هو التهديد الوحيد والأكبر للأمن القومي الأميركي.

وفي نفس الوقت يستمر تزايد الإنفاق العسكري الصيني بسرعة, فالبلاد ستعلن قريبا عن بناء أول حاملة طائرات وتنوي صناعة خمس أو ست منها في المجمل, وربما كان الأكثر خطورة هو تطوير الصين لتكنولوجيا صواريخ جديدة والتقنية المضادة للأقمار الصناعية مما يهدد السيطرة البحرية والجوية التي تبني عليها الولايات المتحدة تفوقها, وفي الحقبة النووية فإن القوات الأميركية والصينية من غير المرجح أن تخوضا حربا. وعوضا عن ذلك ومن وجهة النظر الصينية, فإن الولايات المتحدة ستجد نفسها غير قادرة على الحفاظ على وضعها العسكري في المحيط الهادي, وربما يلجأ حلفاء الولايات المتحدة مثل اليابان وكوريا الجنوبية إلى زيادة الشراكة مع الولايات المتحدة في محاولة لمعارضة ومواجهة القوة الصينية الصاعدة, ولكن إن خفضت الولايات المتحدة من وجودها العسكري في المحيط الهادي لأسباب مالية تتعلق بالموازنة, فإن حلفاءها سيبدؤون في تكييف أنفسهم للقوة الصينية الصاعدة, وسوف يتوسع النفوذ الصيني وستصبح منطقة آسيا والباسيفيك، المركز الصاعد للاقتصاد العالمي, الحديقة الخلفية للصين.

عولمة غربية
والقول إن العولمة تطوع العالم وفقا لما يرتئيه الغرب يعد كلاما غير صحيح، فأحد أسباب شعور الولايات المتحدة بالارتخاء وعدم التوتر بشأن صعود الصين في السنوات التي تلت نهاية الحرب الباردة هو العقيدة الراسخة في أعماق مسؤوليها بأن العولمة تنشر القيم الغربية, وحتى إن بعضهم ذهب أبعد من ذلك ليقول إن العولمة والأمركة صنوان.

ولقد كان مدير تحرير مجلة نيوزويك المفكر فريد زكريا ثاقب الرأي عندما كتب يقول إن "صعود البقية" ويعني بذلك القوى غير الأميركية سيكون من الملامح الرئيسية لحقبة ما بعد الحرب الباردة, ولكن زكريا أيضا قال إن هذا التوجه سيكون لصالح الولايات المتحدة بشكل جوهري وإن انتقال أو تحول السلطة مفيد لأميركا إن تم بطريقة مناسبة وإن العالم يسير على درب أميركا, فالدول باتت أكثر انفتاحا وأكثر تساهلا في موضوع السوق وأكثر ديمقراطية.

وكان كل من الرئيس جورج بوش والرئيس بيل كلينتون قد اتخذ موقفا مشابها عندما قالا إن العولمة والتجارة الحرة يمكن أن تعملا كعربة لتصدير القيم الأميركية, وفي عام 1999 وقبل سنتين من انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية قال بوش إن "الحرية الاقتصادية توفر ممارسات أو عادات الحرية كما أن الممارسات الديمقراطية تعمل على إيجاد توقعات بنشر الديمقراطية وإن التجارة الحرة مع الصين والزمن في صالحنا".

ولكن كان هناك أمران من سوء الفهم مدفونين داخل تلك النظرية أولهما أن النمو الاقتصادي لا بد أن يؤدي إلى الديمقراطية بشكل سريع والثاني أن الديمقراطيات الجديدة ستكون أكثر ودا ومساعدة للولايات المتحدة, ولم يتحقق أي من الافتراضين.

ففي عام 1989 وبعد مذبحة تيانانمين، كانت قلة من المحللين الغربيين تعتقد أن الصين ستبقى دولة الحزب الواحد بعد عشرين سنة من ذلك التاريخ, أو أن يستمر نموها الاقتصادي بمعدلات كبيرة, وكان الافتراض الغربي الشائع والمريح, أن الصين لا بد أن تختار في النهاية بين الليبرالية السياسية والفشل الاقتصادي, وهل من المؤكد أن دولة يحكم حزب واحد فيها قبضته على السلطة في حقبة الهواتف النقالة والإنترنت يمكن أن تنجح؟ وكان بيل كلينتون قد قال خلال زيارته للصين عام  1998 إنه "في عصر العولمة هذا, فإن النجاح الاقتصادي المبني على الأفكار والحرية الشخصية... هو أمر ضروري لعظمة أي دولة حديثة".

وفي الواقع, فإن الصين أفلحت في الجمع بين استمرار النجاح الاقتصادي وبين الرقابة وحكم الحزب الواحد في العقد الذي تلا ذلك, وكانت المواجهة بين الحكومة الصينية وموقع غوغل عام 2010 صارخة ولافتة, فقد هددت غوغل أيقونة الحقبة الإلكترونية بالانسحاب من الصين احتجاجا على الرقابة, ولكنها تراجعت في نهاية المطاف في مقابل رقابة رمزية, وبات من الواضح كليا أن الصين حينما تصبح أكبر اقتصاد عالمي ولنقل في عام 2027 ستبقى دولة الحزب الواحد بزعامة الحزب الشيوعي, وحتى إن اختارت الصين التحول إلى الديمقراطية, فما من ضمانة بأن يسهل ذلك عيش وحياة الولايات المتحدة, ناهيك عن الهيمنة الأميركية على العالم التي طال أمدها.



وها هي فكرة أن الديمقراطيات ستوافق على موقف الولايات المتحدة من القضايا العالمية الكبيرة تتقوض بانتظام, فالهند لم تتفق مع موقف الولايات المتحدة بشأن التغيرات المناخية أو جولة الدوحة بشأن مباحثات التجارة, كما أن البرازيل لم تتفق مع الولايات المتحدة حول كيفية التعامل مع فنزويلا أو إيران, وأما تركيا الأكثر ديمقراطية فهي أكثر إسلامية وكذلك ترفض الآن الموقف الأميركي سواء من إسرائيل أو إيران, ومن منطلق مشابه, فإن الصين الأكثر ديمقراطية يمكن أن تكون أكثر وخزا وإيلاما إن كان يتم الاسترشاد بما تقوله الكتب القومية ذات الشعبية ومواقع الإنترنت في المملكة الوسطى.

"
العولمة ليست لعبة محصلتها صفرية بحيث يكون مجموع الأرباح ناقصا مجموع الخسائر يساوي صفرا, فقد رحب الرؤساء الأميركيون المتعاقبون بوضوح بدءا من بوش الأب وحتى أوباما بصعود الصين
"

محصلة صفرية
فالعولمة ليست لعبة محصلة صفرية بحيث يكون مجموع الأرباح ناقصا مجموع الخسائر يساوي صفرا، فلا تراهن كثيرا على ذلك, فقد رحب الرؤساء الأميركيون المتعاقبون بوضوح بدءا من جورج بوش الأب وحتى أوباما بصعود الصين, وكان الرئيس أوباما قد لخص المقاربة التقليدية قبيل زيارته للصين بقوله إنه لا حاجة لاعتبار القوة لعبة توازن أو "زيرو-سم" (حيث تقاس خسائر أو أرباح طرف بناء على خسائر أو أرباح الطرف الآخر)، وعلى الدول أن لا تخشى نجاح غيرها مضيفا "إننا نرحب بلعب الصين لدور أكبر على الساحة الدولية".

ولكن بغض النظر عما يقوله الزعماء الأميركيون في خطاباتهم الرسمية, فإن الشك بدأ يساورهم، وهم على حق في ذلك, وهناك فكرة مركزية بشأن الاقتصاديات الحديثة مفادها أن التجارة تعود بالنفع المتبادل على كافة الأطراف وأن الجميع يجب أن يربح بدلا من قياس الربح أو الخسارة بمدى ربح أو خسارة الطرف الآخر, ولكن هذا يخفي في ثناياه عدم التلاعب بقوانين اللعبة, وكان كبير مستشاري أوباما للشؤون الاقتصادية لاري سامرز قد تحدث أمام المنتدى العالمي الاقتصادي وأشار إلى أن القواعد العادية بشأن الربح المتبادل لا تسري حينما يمارس أحد الشركاء التجاريين سياسة حمائية, فالحكومة الأميركية تعتقد أن احتفاظ الصين بعملتها المقدرة بأقل من قيمتها هو شكل من أشكال الحمائية الذي أدى إلى خلل في التوازن الاقتصادي العالمي وفقدان الوظائف في الولايات المتحدة, كما أن الاقتصادييْن المرموقيْن الكاتب في صحيفة نيويورك تايمز الأميركية بول كروغمان وفريد بيرغيسون من معهد بيرسون, اتخذا موقفا مشابها بقولهما إن الرسوم الجمركية أو غيرها من وسائل الانتقام يمكن أن تكون ردود فعل مشروعة في عالم يسعى لتحقيق الربح للجميع. ولكن حينما يتعلق الأمر بالصورة الجيوسياسية الأوسع، فإن المستقبل يبدو أكثر شبها بلعبة المحصلة الصفرية، بالرغم من المفهوم الشفاف للعولمة التي رحب بها الجيل الأخير من السياسيين الأميركيين، وحيث إن الولايات المتحدة تتصرف وكأن المصالح المشتركة التي أوجدتها العولمة, قد ألغت أو نسخت واحدا من أقدم قوانين السياسة الدولية، وهو أن اللاعبين الصاعدين سيصطدمون مع القوى المهيمنة قبلهم.

وفي الواقع, فإن المنافسة بين الصين الصاعدة وأميركا التي غشيها الوهن واضحة بشأن كافة القضايا, بدءا من النزاعات على الأراضي في آسيا مرورا بحقوق الإنسان، ومن لطف القدر بنا أن كلا من الصين والولايات المتحدة لن تدخلا في الحرب حقا, ويعود ذلك لكونهما تمتلكان أسلحة نووية وليس لأن العولمة أوجدت حلا لخلافاتهما.



قمة الثماني
ففي مؤتمر قمة الثماني الذي عقد في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي, تقوّضت مساعي الولايات المتحدة للتعامل مع الخلل في التوازن في الاقتصاد العالمي بسبب رفض الصين العنيد والثابت لتغيير سياستها بشأن عملتها. كما انتهت المحادثات التي تمت في كوبنهاغن عام 2009 بشأن التغيرات المناخية نهاية فاشلة بعد مواجهة أميركية صينية.

واقتصاد الصين المتنامي وقدراتها العسكرية يشكلان خطرا على المدى البعيد للهيمنة الأميركية في منطقة الباسيفيك, وقد وافقت الصين على مضض بفرض رزمة من عقوبات الأمم المتحدة على إيران, ولكن ضمان موافقة الصين تم ضمن صفقة ضعيفة من غير المرجح أن تثني الإيرانيين عن المضي قدما في برنامجهم النووي.

كما أن كلا الطرفين الصين وأميركا أجريا محادثات مع كوريا الشمالية, ولكن المنافسة الصينية الأميركية التي لا تطفو على السطح كفيلة وحدها بالحيلولة دون تعاون أميركي صيني فعال, فرغم أن الصين لا تحب نظام الرئيس الكوري الشمالي كيم يونغ إيل, فإنها تشعر بالقلق من إعادة توحيد كوريا على حدودها خاصة إن استمرت كوريا الجديدة في استضافة القوات الأميركية, كما أن الصين تسعى بكل ما أوتيت من قوة للوصول إلى المصادر الطبيعية خاصة النفط الذي يقف وراء ارتفاع الأسعار في العالم.

وحينما يعلن الزعماء الأميركيون عن رفضهم لمنطق لعبة المحصلة الصفرية، فهم على صواب, وما خلا ذلك سيكون مدعاة لعداء الصين الذي لا داعي له ولكن ذلك يجب أن لا يحجب الحقيقة التي لا مناص منها ولا يمكن تجنبها وهي أنه طالما استمرت القوة في الانتقال من الغرب إلى الشرق, فلا مناص من بروز خصومات ومنافسات دولية.


 

وما زالت لدى الولايات المتحدة قوتها الجبارة, فاقتصادها سيتعافى في نهاية المطاف, كما أن قوتها العسكرية موجودة على نطاق العالم ومزودة بتقنية متفوقة بحيث لا يمكن لأي دولة مجاراتها أو منافستها, ولكن لن تحظى الولايات المتحدة إطلاقا مرة أخرى بنفس الهيمنة العالمية التي تمتعت بها خلال سبعة عشر عاما منذ انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 وحتى الأزمة المالية في 2008, فقد ولت تلك الأيام إلى غير رجعة.

اجمالي القراءات 3839
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق