إبراهيم درويش: تعديل المشروع لا يغير من قبحه ومرعي «خلاها سَلَطة خالص»
جاءني صوته عبر الهاتف هادئا للغاية، بعكس ما توقعت، بسبب سخونة القضية والأحداث، والتي لا شك لدي في أن له فيها رأيا مهما، لدوره القانوني البارز، وخبرته التاريخية الكبيرة بصناعة القوانين وصياغتها، خصوصا أنه أحد واضعي دستورنا الحالي سنة ١٩٧١، كما أنه صاغ مواد عديدة تتعلق بالقضاء والسلطة القضائية والمحكمة الدستورية العليا.
أكد الدكتور إبراهيم درويش الفقيه الدستوري الكـبير أن مشروع قانون مجلس الهيئات القضائية الذي أعده المستشار ممدوح مرعي وزير العدل هو حلقة معادة ومكررة في مسلسل العدوان علي استقلال القضاء، وهو المسلسل الذي بدأ عقب ثورة يوليو ولايزال مستمرا إلي الآن، وربما يلغي هذا المشروع ويصدر مشروعاً آخر «أنقح منه»..
وهكذا فالمسلسل مستمر. أعتبر درويش التعديل الذي أجرته وزارة العدل، لايعدوأن يكون تغييرا محدودا وليس تعديلا، فهو لا يمس جوهر القضية وهو الاستماتة في اغتيال القضاء تماما. ووصف درويش في حواره لـ «المصري اليوم» مشروع القانون الأخير بـ «جريمة اغتيال القضاء مع سبق الإصرار والترصد»، وإعدام ما تبقي من استقلاله، وما حدث مجرد رتوش لا تغير من القبح الموجود في المشروع، مشيرا إلي أن ذلك مجلس أصلا يتصادم مع نصوص الدستور.
وقال درويش: «الوزير يريد من وراء المشروع دمج السلطة القضائية وتبعيتها له، ودمجها مع هيئتي قضايا الدولة والنيابة الإدارية التابعتين له بصورة مطلقة، جوهر القضية هو القضاء علي البقية الباقية من استقلال موجود في ضمائر وقلوب القضاة الشرفاء فقط، والمجلس يجب أن يلغي، حتي وإن كان من مادة واحدة فقط، والدستورية العليا يجب ألا توضع في مجلس من أي نوع.. القضاء هو القلعة والحصن الوحيد الباقي التي يحج إليها المصريون عندما تحدث لهم انتكاسة في حرياتهم وحقوقهم،
وعندما يتم العدوان عليه مثلما يحدث، فقل علي البلد السلام، تتكلم عن بلد انتهي فيها القانون، ولاتتكلم عن القضاء انتهت فيها السلطة القضائية فلايزال الخطر موجودا في مشروع (قانون مرعي)، وهذا الوزير (خلاها سلطة خالص)، عندما ضم من هم قضاة إلي من هم غير قضاة، كما نصب نفسه نائبا لرئيس المجلس، ليتولي فعليا رئاسته في حالة غياب الرئيس،
وهناك حكم شهير بخصوص الانتخابات، أصدرته دائرة المستشار حسام الغرياني بمحكمة النقض، قالت فيه هذا الكلام إن هيئة قضايا الدولة والنيابة الادارية ليست هيئة قضائية، ما استحدثه ليس جديد ولا يغير من الأمر شيئا، سواء سلب الحصانة والموازنة أو أبقي عليهما، فالقضية ليست موضوع حصانة أو موازنة فقط، القضية أن هناك عداء مستمرا لهدم استقلال القضاء وتبعيته للسلطة التنفيذية، والعداء للسلطة القضائية كان موجودا في عهدي عبد الناصر والسادات وكان يأخذ شكل بشع وظاهرا، وفي العهد الحالي أصبح يأخذ شكلا بشعا لكنه مستتر وجبان»،
وأضاف الفقيه الكبير: «أؤكد أن القضاء غير مستقل، وسأظل أقول ذلك حتي أموت»، مشيراً إلي أن النظام الحاكم أصبح متيما ومغرما بإثارة مشاكل وتخليق أزمات مع كل فئات المجتمع.
وأكد درويش أن الوزير يستخدم كأداة ومخلب قط لنهش استقلال القضاء والنيل منه، موضحا أن مشروع قانون ما يسمي مجلس الهيئات القضائية كشف بجلاء عن كره ومعاداة مرعي لقضاة مجلس الدولة، لأنهم «لابدين في الدرة»، فهناك قضايا مثارة بينه وبينهم.
وقال: «المشروع في رأيي لايزال يمثل مهزلة قانونية تعصف بكل ذرة باقية من استقلال القضاء، مشيرا إلي أن القضاء المصري «مخترق بأكمله ومنكفئ، وجري كسره منذ سنوات طويلة والسيطرة عليه بوسائل عدة»، وقال درويش: «الهجمة الشرسة الأخيرة علي القضاء بدأت بإنشاء ما يسمي مجلس رؤساء الاستئناف مؤخرا، وهو مجلس غير قانوني وغير شرعي ولا أصل أو سند له»، مضيفا أنه «لا ولن تنتهي تلك الهجمة بإعداد مشروع قانون بإنشاء مجلس للهيئات القضائية»،
وتابع: «مشروع قانون مرعي هو بمثابة رصاصة الرحمة علي القضاء، وليس علي استقلاله لأن القضاء غير «مستقل»، ولفت درويش إلي أن القضاء فـقد استقلاله بعد ثورة يوليو ١٩٥٢، وبدأ مسلسل الاعتداء علي القضاء في واقعة ضرب المستشارعبد الرازق السنهوري رئيس مجلس الدولة وشق جبهته سنة ١٩٥٤، ثم تلاه الاعتداء الثاني علي استقلاليته بحل مجلس الدولة، وإعادة تشكيله في مارس ١٩٥٥، ثم كانت المذبحة القضائية الشهيرة في سنة ١٩٦٩ ليتكرر ما حدث مع مجلس الدولة مع السلطة القضائية بسحقها وإعادة تشكيلها من جديد،
وإصدار قرارات وقوانين المذبحة وفصل القضاة وإنشاء مجلس أعلي لرؤساء الهيئات القضائية»، وقال درويش: «لقد قمت بإعداد وصياغة عدد من المواد في دستور١٩٧١ هي مواد ١٧٤ و١٧٥ و١٧٦ و١٧٧ و١٧٨، وقد طمس الله علي القائمين علي الدستور، ولم يلتفتوا إليها وهي الخاصة بالمحكمة الدستورية بالرقابة علي القوانين، ثم رأوا فيما بعد أنها خطيرة».
وأكد الفقية الدستوري أن ما يحدث الآن هو ما حدث في ١٩٧٨ بالضبط، ووزير العدل وقتها عمل مشروع قانون خطيراً للمحكمة الدستورية العليا، جعل منها هيئة قضائية خاضعة لمشيئة الوزير له الحق في الطعن في أحكام النهائية لمحكمتي النقض والإدارية العليا أمام الدستورية العليا، وجعل الدستورية تابعة له بصورة مطلقة بهدف إخضاع كل السلطة القضائية له، وكان يتعمد أن يقضي النظام علي الباقية من استقلالية القضاء،
وحدث اعتراض شديد علي المشروع وتكونت لجنة من أساتذة القانون د. محمد حلمي مراد ود. محمد عصفور وأنا، واعترضنا كما اعترض القضاة في مجلس الدولة والجمعيات القانونية، وقدمنا ٢٠ مذكرة إلي الرئيس السادات، فألغي المشروع بعد عناء شديد، بعدها نجحنا في إنشاء قانون السلطة القضائية الحالي الذي يحافظ علي بعض الاستقلال القضائي.
وجدد درويش تأكيده أنه يردد دائما مقولة: «لدينا قضاة مستقلون ولكن ليست لدينا سلطة قضائية مستقلة»، وأكد أن هيئتي قضايا الدولة والنيابة الادارية ليست لهما أي علاقة بالقضاء ولا يجوز أن يطلق عليهما هيئات قضائية، وهذا بحسب الدستور، والسلطة القضائية هي التي يفصل قضاتها في منازعات قضائية ويصدرون أحكاما وهم قضاة المنصة،
والبعض في مجلس الدولة «يزعل مني» عندما أقول إنه حتي أعضاء قسمي الفتوي والتشريع ليسوا سلطة قضائية، والقضاة هي القسم القضائي فقط داخل مجلس الدولة لأنهم هم من يحكمون ويفصلون في الدعاوي القضائية.
واعتبر درويش أن المادة الخامسة التي تم إلغاؤها أخيرا تم إقحامها في مشروع القانون للتحقيق مع القضاة واتخاذ إجراءات قضائية ضدهم ولو تم إقرارها لسلبت جوهر تعديل قانون السلطة القضائية العام الماضي،
وقال: «في قضية المستشارين هشام البسطويسي ومحمود مكي بإحالتهما بقرارمن وزيرالعدل إلي المحاكمة التأديبية قلنا للمستشار فتحي خليفة نفسه إنها محاكمة باطلة وخاطئة من الأساس لأنها تتعارض مع المادتي ٦٧ و٦٨ من الدستور حيث تحرم عليهما حق الدفاع عن أنفسهما كما أن محاكمة القضاة كانت تتم علي درجة واحدة ثم أجريت تعديلات قانون السلطة القضائية العام الماضي وجعلت التقاضي علي درجتين،
لكن جاء مشروع قانون مجلس الهيئات ليجعل الطعن في إجراءات التحقيق مع القضاة أمام لجنة إدارية وغيرها من العورات في المادة الغريبة».
وأضاف درويش أن الوزير الحالي يعيد نفس فصول مسرحية سنة ٧٧ و٧٨ في محاولته اخضاع كامل للسلطة القضائية له، حيث كان وزير العدل وقتها يحاول إخضاع القضاء لسيطرته،
كما كان يريد أن يجعل له الحق وحده في الأحكام النهائية الباتة في الطعن عليها أمام المحكمة الدستورية، وهو نفس ما يعيده مرعي حاليا، فالمشروع المقدم منه محاولة جديدة من محاولات العدوان وإنهاء ماتبقي من استقلال القضاء، وهدفه في رأيي إنهاء أي ذرة يمكن أن يتمتع بها القضاء من استقلاله المفقود أصلا، والمشروع المقدم لا شرعية له من قانون أو دستور كما أنه يتصادم مع نصوص الدستور ومبادئه».
وأوضح درويش بقوله: «طالب نادي قضاة مصر منذ مؤتمر العدالة الأول والأخير سنة ١٩٨٦،إبعاد يد وهيمنة وزير العدل عن السلطة القضائية، ومع ذلك ورغم مرور كل هذه السنوات ماتزال هناك أكثر من ٢٠ مادة في القانون تعطي سلطات واسعة للوزير علي شؤون القضاء، وأكد الفقيه الكبير أن مشروع مرعي المقترح يترجم الـ ٢٠ مادة، ويضعهما في قانون متكامل جديد لإحكام سيطرته علي القضاء والقضاة وبشكل فاضح ومفضوح».
واعتبر درويش أن المشروع هو حلقة في مسلسل إهدار استقلالية القضاء وحصانة القضاة، والتي تسرع الحكومة بالقضاء عليها، بحيث ألا تكون هناك سلطة قضائية أصلا، ومجلس الهيئات القضائية مؤثم لأنه يضم إلي جانب القضاء ما ليس له علاقة بالقضاء مثل النيابة الادارية وقضايا الدولة.
وقال درويش: «مشروع قانون مرعي مبني علي اعتبارات شخصية والقاعدة القانونية تقول إن القانون يكون مبنياً علي اعتبارات مجردة وموضوعية وعامة، كما أن هذا الوزير أباح لنفسه أن يعد قانونا لالحاق السلطة القضائية له، لكي ينتقم منها وهي التي وقفت ضد ما يفعله».
وأضاف: «النظام السياسي مصر قائم علي نظام واحد، لا يستطيع أي وزير أن يفعل شيئا دون استئذان، لأن البلد كله قائمة علي نظام الحزب الواحد والرئيس الواحد، بمنطق one
man show ، فليس لدينا رئيس الوزراء يفعل
أو يقرر شيئا إلا فيما يفوضه فيه الرئيس، كما لا يملك أي وزير ذلك، وجميع الوزراء عبارة عن موظفين بحكم الدستور نفسه، وبالتالي لا يستطيع وزير العدل أيا كان اسمه ـ أن يعد مشروع قانون بهذه الصورة، إلا بموافقة الرئيس وعلمه، وعندما يعلو صوت القضاة، فإن الرئيس سيتدخل للحل، مثلما فعل الرئيس مبارك مع الصحفيين بتأكيده منع الحبس في قضايا النشر، ومع ذلك فربع رؤساء التحرير تقريبا علي ذمة السجن حاليا».
اجمالي القراءات
3363