( 1 )
كانت الدولة المصرية تعانى من نهب منظم للثروة المصرية فيما عرف بحركة توظيف الأموال التى أقفرت البنوك بعد اتهامها بالتعامل الربوى مع اغراء الناس بسحب أموالهم ومدخراتهم ـ وأحياتنا بيع عقاراتهم ـ و اعطائها للريان و الشريف و وغيرهم . عملية النهب هذه أسهم فيها متنفذون فى الدولة مع كبار الدعاة وأبرزهم الشيخ الشعراوى و الشيخ عبد الصبور شاهين وكثيرون من شيوخ الأزهر، مع حملات دعائية مكثفة روجت لتوظيف الأموال. فى وجه هذه العاصفة وقفت ومعى د. فرج فودة.رحمه الله. كتب فرج فودة كتابا صغيرا بليغا اسمه ( الملعوب ) ونشر عدة مقالات فى الأحرار حيث عالج الموضوع من ناحية اقتصادية بحتة. وتوليت الجانب الاسلامى الأصولى.لكن نفوذ الشيوخ لم يتح لى إلا نشر مقالات ثلاث ..
كانت جريدة الأخبار المصرية تنشر لى على استحياء بعض المقالات فى صفحة الرأى للشعب تحت عنوان ( القرآن هو الحل )، وذلك بفضل الاستاذ عبد الوارث الدسوقى ، أحد كبار أساتذة الصحافة المصريين فى القرن العشرين ، وأعلم كيف كان يصارع ليتيح لى نشر مقالة كل شهر أو اثنين. وكان منها مقالان عن الربا. أولهما هذا المقال الذى نشرته الأخبار بتاريخ 29 /6 /1989
أيهما الحلال والحرام
.البنوك أم شركات توظيف الأموال
( هناك نوعان من الربا: ربا يقدمه المرابي بديلا عن الصدقة وربا التجارة .
وذلك التقسيم على أساس نوعية المضطر لأخذ الربا ؛هناك شخص جائع مستحق للصدقة يأتي للمرابي وبدلا من أن يتصدق عليه يعطيه قرضا بالربا . وذلك يختلف عن شخص آخر يحتاج للمال في إقامة مشروع أو توسيع تجارة وهو ينتظر ربحا ، ومن حق المرابي إن يشاركه في ذلك الربح الذي كان ماله سببا فيه .
وفى العصر المكي كان التركيز في الوحي على إخلاص الدين لله وتنقية العقيدة من الشرك ومع ذلك نزلت آيات تحث على إعطاء صدقة للمحتاج بدلا من إقراضه بالربا؛ يقول تعالى في تقرير حق المحتاج " فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خيرا للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون " ثم تأتى الآية التالية تقارن بين الصدقة للمحتاج وبين إعطائه قرضا بالربا " وما أتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربوا عند الله وما أتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون : الروم 38 :39 " .
وذلك التلازم بين الحث على إعطاء المحتاج الصدقة بديلا عن إعطائه قرضا بالربا يوضح لنا أن المقصود بذلك الربا هو الربا المقدم بديلا عن الصدقة لمستحقها .
وفى المدينة كان أغلبية الأغنياء من المنافقين الذين كانوا يقرضون الفقراء بالربا فنزلت آيات سورة البقرة تشجب ذلك وتدعو لإحلال الصدقة مكان الإقراض بالربا للمحتاج الجائع .
ويلفت النظر أن حديث القرآن عن تحريم الربا سبقه الحث على إعطاء الصدقة وتوضيح آدابها في ثلاث عشرة آية تبدأ بقوله تعالى ( مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) " وتنتهى بقوله تعالى "الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) " البقرة .
ثم تأتى الآيات عن الربا تهاجم المرابين الذين يستغلون الفقراء الجوعى : " الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) البقرة .
فالآية تدعو للكف عن أكل الربا وأن يأخذ المرابي أصل ماله فقط ، وتتوعده بالخلود في النار إذا عاد للربا ، ثم تحثه الآية التالية على أن يعطى الصدقة بدلا من الإقراض بالربا ، يقول تعالى " يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ : البقرة 276 " ثم تؤكد الآيات التالية الأمر بالكف عن هذه النوعية من الربا " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) : البقرة " ولأن المدين في هذه الحالة دائما ما يكون معسرا لأنه جائع فإن الآية التالية تقول " وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) البقرة " أي تأمر بالصبر على المدين المعسر أو بالتصدق عليه بالتنازل عن الدين أو بعضه . الأمر الذي يدلنا على أن تغليظ التحريم في هذا الربا إلى درجة إعلان الحرب من الله على المرابين ـ لأنه كان استغلالا للفقراء الجوعى . ولذلك نزلت الآيات بالحث على الصدقة قبل وبعد الحديث عن تحريم الربا .
والسؤال الآن هل ينطبق ذلك الحكم على ربا التجارة ؟
إن الحكم القرآني صريح في أن الربا حرام على الاجمال " وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا " والبيع هو سلعة في مقابل مال أما الربا فهو بيع المال بالمال أي شيء يختلف عن البيع المتعارف عليه ، والقاعدة القرآنية أشارت للفرق بين البيع الحلال والربا الحرام ، وقد ألمحت الآيات من خلال الحث على الصدقة بديلا عن إقراض المحتاج بالربا إلى أن هناك استثناء بالنسبة للنوع الآخر من الربا حين يكون المحتاج للربا ليس فقيرا جائعا وإنما تاجرا مستثمرا .وجاء ذلك الاستثناء صريحا في قوله تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) " .فالفوائد المركبة حرام وهى عادة ما تكون في ربا التجارة حيث يكون الأمل كبيرا فى الربح وتعويض الفائدة المرتفعة .
ويقول تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ : النساء 29 " .والربا في التجارة يدخل ضمن أكل أموال الناس بالباطل المنهي عنه إلا أن الاستثناء جاء بتحليله إذا كان عن تراض . ومن الآيتين نعرف أن القرآن استثنى من تحريم الربا ربا التجارة إذا كان عن تراض ولم يكن أضعافا مضاعفة بفوائد مركبة .
ويعزز ذلك أن القرآن ينهى عن اكتناز المال والمسلم مطالب بأن يدير المال وألا يبخل به ولا يكتنزه، فإذا كان ذلك المسلم لا يجد شخصا أمينا يشاركه في استثمار ماله فليس عليه حرج إذا أودعه في البنك بفوائد حيث لا إجبار ولا إكراه بل تراض بين الطرفين ، وسعر النسبة في الأرباح والفوائد يحدده قانون العرض والطلب والحرية في الإيداع والسحب .
لقد غفل الناس عن الحل القرآني لمشكلة الربا لأنهم آمنوا بأحاديث كتبها العصر العباسي الثاني تحرم الربا كله دون تمييز وتتجاهل الاستثناء الذي جاء في القرآن.
واشهرها ذلك الحديث الذي يلعن أكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده ..الخ ،ومعناه أن المضطر للاستدانة بالربا يكون ملعونا، وذلك يخالف الأساس في تحريم الربا، إذ أن الربا حرام لأنه ألحق الضرر بالمحتاج ، فكيف يكون المحتاج ملعونا؟ ثم هو يخالف تشريع القرآن الذي يبيح للمضطر أن يأكل الميتة ولحم الخنزير .
وقد صاغ فقهاء العصر العباسي قاعدة فقهية عامة تقول أن كل قرض جرّ ربحا فهو ربا وكل ربا حرام " وذلك التعميم يخالف الاستثناء الذي جاء في الآيتين، ثم كيف نقول أن كل قرض يأتي بربح يكون ربا حراما إذا كان الله تعالى يقول " إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ : التغابن 17 " فهل هذا الإقراض ربا أيضا ؟
لقد أستغل بعضهم تلك الأحاديث التي تبرأ منها رسول الله عليه السلام وتلاعب بعواطف المسلمين فأقام حملة تشويه ضد النظام المصرفي الذي لا غبار عليه طالما لم يرغم أحدا ولم يتعامل بالفوائد المركبة، وكانت النتيجة إن قامت بنوك وفروع لبنوك ترفع لافتة التعامل الإسلامي بينما هي في الحقيقة جزء من النظام المصرفي القومي والدولي لا يمكن أن تخرج من إطاره .
ثم كانت الطامة حين قامت شركات توظيف الأموال على أشلاء سمعة البنوك المصرية فاستولت على مدخرات المصريين وتلاعبت بها فألهبت الأسعار وأفسدت الضمائر والذمم بما قدمته من رشاوى لبعض المسئولين مما أتاح لها أن تفرض دعايتها على الناس وأن تتلاعب بأموالهم وأحلامهم ثم كانت النتيجة محاكمات لهم وللمسئولين الذين ضعفوا أمام إغراءاتهم .
وشركات توظيف الأموال هذه ينطبق عليها تماما قوله تعالى " وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) البقرة "
إن حديثا أو اثنين كانا الأساس لقيام شركات توظيف الأموال وكانا الأساس في ضياع مئات الملايين من عرق المسلمين !!
ألا ينبغي أن نقرأ القرآن جيدا لكي نحكم به على كثير من الأقاويل التي ظلمت رسول الله وسببت في تأخر المسلمين قرونا . )
( 2 )
بعد نشر هذا المقال فوجىء الاستاذ عبد الوارث الدسوقى بخطاب رسمى مرفق بمقال جاءه من مكتب الدكتور عبد المعطى بيومى ـ عميد احدى الكليات الأزهرية وقتها ـ يطلب نشره بطريقة لم تعجب الاستاذ عبد الوارث ، وكنت معه وقتها ، ورأيته مكفهر الوجه عندما طالع الخطاب المرفق بالمقال، غضب ـ وهو المشهور بالحلم ـ ورفض نشر المقال. قام الدكتور عبد المعطى بيومى بارسال المقال الى جمال بدوى فى الوفد فنشره على الفور . و قد كانت بينى وبين الاستاذ جمال بدوى خصومة معلنة من قبل. بعد ظهور مقال الدكتور عبد المعطى بيومى (احذروا أراجيف هذا الرجل المنشورة في الأخبار ) فى الوفد لم يسترح الاستاذ عبد الوارث الدسوقى لما فى المقال من تكفير وسب لشخصى فطلب منى الرد, قلت له أننى عادة أقول كلمتى وأمضى ولا أرد على من يشتمنى، ولكن صمم الاستاذ عبد الوارث على أن أرد حتى لا يضيع الأثر الطيب لمقالى السابق. و فى اليوم التالى كان أمامه مقالى التالى فى الرد على الشيخ عبد المعطى فنشرته الأخبار بتاريخ 6/9/1989:
اتق الله يا شيخ عبد المعطى
( قفز الشيخ عبد المعطى بيومي إلى ذاكرتي مرتين :
في المرة الأولى حين هاجمني في مجلة منبر الإسلام عدد يناير 1988 داعيا إلى سحقي وقتلى في نفس الوقت الذي يدعو فيه للترفق والتسامح مع الجماعات الدينية التي تستبيح الدماء، وأفلح الشيخ عبد المعطى وقتها في أن يجعلني أبتسم، وتذكرت قول المتنبي :
وكم ذا بمصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكى .
وفى المرة الثانية، حاول الشيخ عبد المعطى أن يرد على مقالي عن الربا وقد وضح في رده المنشور في الوفد في 28 /7/89 أنه لم يقرأ مقالي، أو ربما قرأ مقدمة المقال ثم شرع في الهجوم قبل أن يتم القراءة .
وفى مقالي عن الربا المنشور فى جريدة الأخبار في 29/6 قررت القاعدة القرآنية القائلة بأن الربا حرام ، إلا أن القرآن استثنى من الربا الحرام ربا التجارة إذا كان عن تراض وبدون فوائد مركبة واستشهدت بقوله تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ : النساء 29 " وبقوله تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً : آل عمران 130 " .
وأثبت بطلان الحديث الذي يلعن أكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه لأنه يخالف القرآن صراحة حين يلعن المضطر المحتاج للاقتراض بربا مع أن القرآن يبيح للمضطر أن يأكل لحم الميتة ولحم الخنزير فكيف يكون ذلك المضطر ملعونا إذا أحتاج للاقتراض بربا ؟؟!! .هذا مع أن تحريم الربا سببه هو الظلم الذي حاق بذلك المضطر فكيف يكون ملعونا ؟ ونزيد على ذلك أن القرآن يبيح للمكره أن يقول الكفر عند الاضطرار طالما ظل قلبه مطمئنا بالإيمان " النحل 106 " ثم إن ذلك الحديث يلعن الشاهد والكاتب في الربا مع أن القرآن أعطى حصانة للشاهد والكاتب حين قال على وجه العموم " وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ : البقرة 282 " .
استشهدت في المقال بنحو سبع وعشرين آية قرآنية وكان رد الشيخ عبد المعطى على هذه الآيات قوله " احذروا أراجيف هذا الرجل المنشورة في الأخبار" أي أنه اعتبر القرآن " أراجيف".
ثم وجه الشيخ عبد المعطى للقرآن اتهاما آخر حين ردد ما ردده السابقون من أن التشريع القرآني نزل بالتدريج فيقول: " إن الربا حرم على مراحل كالخمر " والقول بالتدرج في تشريع القرآن يعنى أن هناك تناقضا في آيات القرآن حين يأتى التشريع بالإباحة ثم تشريع بالتحريم الجزئي تم تشريع آخر بالتحريم القطعي. والذي أؤمن به أن القرآن لا عوج فيه ولا اختلاف ولا تناقض،وأن القول بالتدرج في التشريع إنما هي إشاعة نبتت في العصر العباسي ثم اكتسبت قداسةلأن أحدا لم يجرؤ على مناقشتها فعاشت تحظى بالتصديق بين أنصاف العلماء .
ليس في القرآن تدرج في التشريع فيما يخص الحلال والحرام وإنما فيه إيجاز في التشريع المكي ثم تفصيل في التشريع المدني .
في مكة كان التركيز على إخلاص العقيدة لله ونزلت عموميات في التشريع ، وفى المدينة كان التفصيل والتبيين . نزل تحريم الخمر في مكة ضمنا وإيجازا في قوله تعالى " قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ : الأعراف 33 " والخمر من الإثم الذي حرمه ربنا سواء كان قليلا أم كثيرا ،وحين سئل النبي عن حكم الخمر نزل قوله تعالى "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا: 219 البقرة " وإذا كان في الخمر أثم كبير فهي حرام نزل تحريمها في مكة موجزا ثم جاء التفصيل في المدينة في عدة آيات " البقرة 219 والمائدة 90 ، 91 .
ونفس الحال مع الربا نزل التحريم موجزا في مكة " الروم 39 " ثم جاءت التفصيلات فى المدينة تشرح القاعدة وتقرر الاستثناء بشروطه " البقرة 261 ، 281 ، وآل عمران 130 والنساء 29 ".
ثم يلتفت لنا الشيخ عبد المعطى فيتهمنا بالكفر محتجا بقول السيوطى : " فأعلموا رحمكم الله أن من أنكر كون حديث النبي صلى الله عليه وسلم ـ قولا كان أو فعلا بشرطه المعروف فى الأصول ـ حجة كفر وخرج عن دائرة الإسلام " ولا يدرى الشيخ عبد المعطى أنه يتهم معي أئمة الحديث والفقه .
فهو يتهم بالكفر الإمام أبا حنيفة الذي لم يصح عنده إلا بضعة أحاديث عند أكثر المتفائلين .
ويتهم بالكفر الإمام أبن حنبل الذي ألغى بجرة قلم أبوابا ثلاثة من الأحاديث حين قال : " ثلاثة لا أصل لها: التفسير والملاحم والمغازى " .
ويتهم بالكفر الإمام البخاري الذي أثبت أربعة آلاف حديث في صحيحه من بين ستمائة ألف حديث في عصره .. أي أنه كذب خمسمائة ألف حديث وستة وتسعين ألف حديث .
ويتهم بالكفر الإمام مسلم الذي أثبت أحاديث في صحيحة لم يأت بها البخاري وكذب بأحاديث أثبتها البخاري فلم ترد في صحيح مسلم .
ويتهم بالكفر أئمة علم الحديث الذين انتقدوا البخاري ومسلم وهاجموا ثمانيين من رواة البخاري ومائة وستين من رواة مسلم .
ثم هو في النهاية يتهم بالكفر علماء أهل السنة جميعا الذين يشككون في رواة الشيعة، ويتهم بالكفر محققي الشيعة الذين يتهمون علماء أهل السنة، إذ لم يتفق علماء الحديث كما يقول الذهبي في ميزان الاعتدال على توثيق ضعيف أو تضعيف ثقة . وما كان أغنى الشيخ عبد المعطى عن فتح هذا الباب الذي يثير الشجون !!.
ثم من هو هذا السيوطى الذي تحتج به علينا يا شيخ عبد المعطى .؟
دعنا نتعرف على السيوطى من واقع ما كتبه عنه معاصروه من العلماء .
فالإمام الشعراني ترجم للسيوطى في الطبقات الصغرى وأثبت أن السيوطى كان يدعى أنه يرى النبي عليه الصلاة والسلام في اليقظة وأن النبي كان يسعى إليه ليتلقى عليه العلم ويقول له : هات يا شيخ السنة أو هات يا شيخ الحديث .
والإمام السخاوى ترجم للسيوطى في سفره الضخم " الضوء اللامع " واتهم السيوطى أنه انتحل مؤلفات الآخرين ونسبها لنفسه.ومن يتفرغ مثلي لفحص مؤلفات السيوطى المطبوعة والمخطوطة يتحقق من صحة اتهام السخاوى له بانتحال مؤلفات الغير، فشتان بين أسلوب كاتب "الهمع " وأسلوب السيوطى في مؤلفاته الصغيرة التي لم تجد من يتصدى لنشرها لنعرف عقلية السيوطى الحقيقية .وتعج المخطوطات في دار الكتب بالكثير من هذه المؤلفات الصغيرة للسيوطى التي ملئت بأحاديث لم يرد لها ذكر قبل العصر المملوكي، وكلها مما يسيء للنبي عليه السلام، بالإضافة إلى ما فيها من تناقض وخرافات وبذاءات نعتذر عن إيراد شواهد منها ، ونكتفي بذكر عناوين بعضها مثل " الطرثوث في فوائد البرغوث "، "القول الجلي في تطور الولى " وهو عن تشكل الولي الصوفي في صور مختلفة ووجوده في آماكن متفرقة في نفس الوقت " ورشف الزلال من السحر الحلال " وهو وصف تفصيلي للعملية الجنسية ليلة الزفاف ، ومثله " شقائق الأترج في دقائق الغنج " والمفجع أن هذه المؤلفات وغيرها ملأها السيوطى بأحاديث نسبها للنبي عليه الصلاة والسلام .
أبعد هذا أقول " قال الله " فتقول لي يا شيخ عبد المعطى : "قال السيوطى " .
اقرأ كثيرايا شيخ عبد لمعطى فعسى أن يفتح الله عليك بابا من أبواب العلم فتستريح ونستريح .
واجتهد يا شيخ عبد المعطى في فهم ما تقرأ بدلا من التطاول على العلماء المجتهدين .
واتق الله يا شيخ عبد المعطى . )
(3 )
أحدث مقال ( اتق الله يا شيخ عبد المعطى) دويا هائلا فى جامعة الأزهر وخارجها.وبعض ما كان يحدث داخل أروقة الجامعة كان يصلنى عن طريق الزملاء القدامى. بعضهم غضب منى من حدة المقال ، وبعضهم رآه تأديبا للشيخ عبد المعطى يستحقه ، ولكنهم فيما بلغنى أجمعوا على أن المقال جاء لطمة قوية للشيخ عبد المعطى ، وقيل لى انهم عقدوا اجتماعات يفكرون فى طريقة بليغة للرد. وجاء الرد سريعا فى مقال للشيخ عبد المعطى نشرته الوفد بعنوان يقول لى فيه ( بل أنت اتق الله واقرأ ما قرأناه )
ضحك الاستاذ عبد الوارث الدسوقى عندما قرأ مقال الشيخ عبد المعطى ، وقال لى : ما رأيك ؟ قلت له : إنه رسب فى امتحان الايمان لأن المؤمن اذا قيل له : اتق الله ، فعليه أن يرد بالاستغفار لا أن تأخذه العزة بالاثم . الشيخ عبد المعطى برده هذا حكم على نفسه بما جاء فى قوله تعالى ( واذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالاثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد) طلب منى الاستاذ عبد الوارث أن أكتب مقالا آخر فى الرد عليه بعنوان ( الشيخ عبد المعطى لم يتق الله )ولكننى فى هذه المرة رفضت باصرار. كانت وجهة نظرى أن عبد المعطى بيومى سيستفيد من هذه المعركة وسيصبح زعيما مشهورا، وتتحول الى قضية عداء شخصى لا أرغب فيه .
ولذلك أهملت الشيخ عبد المعطى ، وكتبت المقال التالى فى موضوع الربا فنشرته الأخبار:
قضية الربا وأزمة الاجتهاد
1 ـ في أحد البلدان الإسلامية أراد رجل أن يبنى طابقا ثانيا فوق داره ، ذهب للبنك فعرض عليه البنك فائدة 10 % على القرض الذي يبلغ مائة ألف ، رفض الرجل هذه النوعية من الربا ، وذهب إلى أحد بيوت المال "الإسلامية ". قال له المسئول هناك : نحن لا نتعامل بالربا الحرام ولكن نبيع ونشترى .. وانتهت الصفقة بأن اشترى بيت المال من الرجل داره بمبلغ المائة ألف ـ شراء صوريا ـ على أن يعيد للرجل بيع نفس الدار بعد عام بمبلغ 150 ألفا .. وذهب الرجل سعيدا بالنتيجة ، ولكنه بعد أن فكّر عرف خسارته .. فقد باع داره التي يملكها مقابل القرض الذي يريد أن يبنى به الطابق الثاني ، وحين يسدد بعد عام نفس القرض سيدفع فائدة قدرها 50 % ، وبيت المال ضمن حقه بشرائه للبيت الذي يقيم فيه الرجل. ولكن كان الأوان قد فات، كان البنك سيأخذ منه فائدة 10 % فقط ، ولكن تحولت الفائدة إلى بيع صوري وفائدة حقيقية لبيت المال الإسلامي قدرها 50 % .
تتكرر القصة في دول البترول، وصفقاتها تعقد في المساجد حيث يحرصون على عدم النطق بكلمة الفائدة والربا ، ويتلاعبون بالألفاظ والحيل والشراء الوهمي والبيع الصوري، وتكون المحصلة خداع البسطاء المتدينين وأكل أموالهم بالباطل ، ولكن المعنى الباقي من هذا التصرف ـ الذي لا شأن للإسلام به ـ هو التحايل على شرع الله والاجتهاد في التلاعب بالألفاظ .
ومظاهر هذه النوعية من الاجتهاد كثيرة تجدها في المصطلحات السائدة في فروع البنوك التي ترفع لافتة التعامل الإسلامي وفى شركات التوظيف ، وهم دائما يتمسحون بقوله تعالى " وأحل الله البيع وحرم الربا " وبعدها يجعلون المتعامل معهم يدخل في متاهة وشروط في العقد صيغت بمهارة لتجعل المتعامل معهم يخرج في النهاية مغبونا مخدوعا .
2ـ وما كان أغنانا عن هذا كله لو اجتهدنا في فهم القرآن ، وتلك فريضة إسلامية، يقول تعالى " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها : محمد 24 " وقد استثنى القرآن من الربا المحرم ما كان منه تعاملا تجاريا بفوائد غير مضاعفة ، يقول تعالى " يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة : آل عمران 130 " " يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم .. النساء 29 "، وباقي الآيات في تحريم الربا كان السياق فيها واضحا أنه في الربا المقدم للمحتاج الذي يستحق الصدقة فيعطيه المرابي قرضا بربا على نحو ما فصلناه في مقالنا السابق في الأخبار " أيهما الحلال والحرام البنوك أم شركات توظيف الأموال " .
3ـ وقوله تعالى " يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم " .يضع قاعدة شرعية تبيح شتى أنواع التعامل التجاري القائم على التراضي بين البائع والمشترى أو القائم على ما أقرته القوانين الوضعية وما تعارف عليه المجتمع وسار عليه حتى لو لحقته الشكوك وشبهات الفقهاء . فأين تلك الشبهات في تعبير " أكل أموال الناس بالباطل " الذي أحله القرآن إذا كان عن تراض بالنص الصريح في الآية الكريمة، وهى تبيح الفائدة في البنوك سواء كانت ثابتة أم متغيرة بشرط ألا تكون مضاعفة ، وتبيح سائر صنوف التعامل التجاري التي استحدثها عصرنا مثل شهادات الاستثمار والبيع بالتقسيط والتأمين على الحياة والممتلكات والأسهم والسندات وكل صنوف الشركات ، مادام هناك تراض ومعرفة تامة بين الطرفين بالشروط والبنود حيث لا تحايل ولا تلاعب بالألفاظ والشعارات .
4ـ وقد أفتى بعض المجتهدين من العلماء والفقهاء بجواز الفائدة في البنوك وكانت لهم أدلتهم الوجيهة وشجاعتهم المحمودة بينما تمسك الآخرون بالنصوص الفقهية المكتوبة من قرون وأشعلوها حرب إرهاب وتخويف وتكفير ، أي كان لهم اجتهادهم في التطاول على من اجتهد وتدبر وهو يعلم أنه سيكون مسئولا أمام الله تعالى يوم الحساب على ما أفتى به . وأسفرت تلك الحرب عن سؤال يفضح المستور ويضعنا على مفترق الطرق: ماذا لو حدث ـ لا قدر الله ـ وقامت دولة دينية يكون مصدرها التشريعى فتاوى أولئك الأشياخ ؟
النتيجة أنهم سيرفعون كتبهم الصفراء في يدّ وحدّ الردة والتكفير في اليد الأخرى ، وتقام للمجتهدين مذابح جماعية في ميدان التحرير الذي ربما يغيرون أسمه إلى ميدان" الحجاج بن يوسف " . وبعد مذابح المجتهدين تقام مذابح أخرى لليساريين والأقباط .. والبقية تأتى .
5ـ صدقوني أن دكتاتورية العسكر سيئة ولكنها لا شيء بالمقارنة بالدولة الدينية التي لن تبقى ولن تذر .. وتلك قضية أخرى ربما نعود لها .)
( 4 )
تفاعلت قضية الربا بأكثر ما كنت أتوقع بسبب هذا المقال الذى اعتبره شيخ الأزهر وقتها ـ الشيخ جاد الحق ـ ضربة موجهة له تحت الحزام والجبة والقفطان. لذا سارع بالتدخل لدى النظام لاغلاق الموضوع. وتم الآتى حسبما علمت وجرى معى بعدها :
1ـ الاتفاق على ان يقوم المفتى ـ وقتها ـ وهو الدكتور محمد سيد طنطاوى باصدار فتوى تجيز التعامل مع بعض فئات شهادات الاستثمار توطئة للافتاء فيما بعد بتحليل التعامل مع فوائد البنوك ، وفى هذا السياق صدرت فتوى الشيخ طنطاوى مع مقالات أخرى لوزير الأوقاف وقتها الدكتور محجوب .وقد اعتمد الدكتور محجوب فى جداله مع المعارضين على نفس الآيات القرآنية التى جاءت فى مقالاتى. وحدث فعلا أن انتهى الموضوع باباحة التعامل مع البنوك بالتدريج . وتحقق ما كنت أريده ولكن ..
2 ـ فى مقابل هذا التنازل منهم اتفقوا مع نظام الحكم على احالتى أنا و الدكتور فرج فودة للتحقيق أمام النيابة العليا فى وقتين مختلفين. فى التحقيق مع فرج فودة والذى نشرته جريدة الأهالى كان التركيز على علاقته بمنكر السّنة أحمد صبحى منصور ، لارهابه وتخويفه حتى يقطع علاقته بى.
حقق معى المستشار ياسر الهوارى بسبب المقالين السابقين, وقد طلبت منه أن يأتى شيخ الأزهر بنفسه متهما معى لأنه يأخذ مرتبا من الدولة من الجنيهات المصرية التى يصدرها البنك المركزى المصرى وهو بنك ربوى حسب زعمهم ، وإذن فكيف يتعامل بالجنيه المصرى الربوى ثم يتهمنى ، ثم اننى لا يوجد لدىّ أى حساب فى البنك ليس لأننى أحرم التعامل مع البنوك ولكن لأننى أفقر من أن أتعامل مع البنوك، ولكن شيخ الأزهر له حسابات بالعملة المصرية وغيرها فى بنوك مصرية وأجنبية. أطلقوا سراحى ، وكان واضحا أن النظام عقد صفقة مع الشيوخ ، هى الضغط علىّ لارهابى لأسكت مقابل أن يحصلوا من الشيوخ على تحليل فوائد البنوك .
3 ـ لم أستسلم فجهزت مقالة أخرى ساخرة وبشكل قصصى للرد عليهم بعنوان (قضية الربا وأزمة الأخلاق) ، ولكن فوجئت بأن لدى الأخبار تعليمات بعدم النشر لى. وظللت فترة طويلة ممنوعا من النشر فى الأخبار. ثم أتيح لى بعد سبع سنوات أن أنشر المقال الذى رفضته الأخبار .. نشرته جريدة الميدان فى 15 / 9 / 96 ..
وها هو المقال:
قضية الربا وأزمة الأخلاق
الأستاذ ممدوح رجل مسلم ملتزم ، ورث ثروة ضئيلة قدرها عشرة آلاف من الجنيهات دخل بها شريكا مع بعض من يثق فيهم وانتهت الشركة بخسارة مؤكدة؛ خسر صداقة صديقه وخسر من ماله ألفين من الجنيهات وعاد ممدوح بما تبقى من ماله حائرا لا يعرف كيف يتصرف فيه ؛معه ثمانية آلاف من الجنيهات تفيض عن حاجته ، وهو موظف لا وقت لديه ولا علم له بشؤون المال والأعمال ، ثم هو مسلم متدين يحفظ القرآن ولا يريد أن يغضب الله بسبب هذا المال الذي معه ولا يعرف كيف يديره ولا يجد شخصا يأتمنه على استثماره !
فكر ممدوح طويلا ..
إنه إن وضع المال تحت البلاطة كان مصيره أن يلقى الله بجريمة الذى يكتنز الأموال وقرأ لنفسه قوله تعالى " وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) : التوبة " واقشعر بدنه وهو يتذكر مصيره إذا كنز ماله ومنعه من الاستثمار.
ثم إنه لا يريد انفاق هذا المال على كماليات لا ضرورة لها . وهو يعتبر أنه إن أنفق هذا المبلغ في شراء سلع غير ضرورية كان مبذرا ، وتذكر قوله تعالى " وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) : الإسراء " .
واستعاذ الأستاذ ممدوح من الشيطان الرجيم ..
وطرأ له أن يتبرع بالمبلغ كله في سبيل الله ، ولكنه يعرف أن القرآن ينهى عن ذلك مراعاة للتوسط في الإنفاق في سبيل الله، وهو يردد قوله تعالى " وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) الفرقان " " وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) : الإسراء " . ثم من أدراه ان من سيعطيهم التبرع سيكونون أمناء على الأموال ؟
الأستاذ ممدوح يخرج من مرتبه ودخله العادي حق الله في الصدقة والزكاة ومعنى ذلك أن مبلغ الثمانية آلاف جنيه سيظل مشكلة لا يجد لها حلا . كان الحل المتاح أمامه أن يضع هذا المبلغ في البنك ولكن الحملة التترية على البنوك المصرية شوهت سمعتها أمام عينيه، خصوصا والفتاوى تترى تحرم الفوائد البنكية ، والأستاذ ممدوح رجل متدين يتقى الشبهات، لذا آثر الابتعاد عن هذه البنوك إيثارا للسلامة في دينه وآخرته .
إلا أن الأستاذ ممدوح قرأ رأيا جديدا مدعما بالآيات القرآنية يبيح التعامل مع البنوك التجارية على أساس أن القرآن استثنى من الربا المحرم ما كان منه تجارة عن تراض وبدون فوائد مضاعفة وكان الدليل قوله تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً : آل عمران 130 " و" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ : النساء 29 " .والأستاذ ممدوح يحفظ الآيتين ، وإن لم يفكر فيهما على هذا النحو من قبل .
زادت حيرة الأستاذ ممدوح.. ومع أن عقله يستريح للرأي الجديد الذي قرأه مدعما بالقرآن ، وهو يجد فى ذلك الرأي الجديد حلا ملائما لمشكلة المال الفائض الذي لديه الذي لا يرضى باكتنازه ولا بتبذيره إلا أن الحملة الصحفية من الشيوخ زادت ضد البنوك المصرية تتوعد المتعاملين معها بالجحيم وتتهم صاحب الرأي الجديد بالردة والكفر ، والأستاذ ممدوح يريد أن يصل إلى بر الأمان وإلى الرأي الفصل حتى يستريح باله وتختفي شكوكه. لذا ذهب الأستاذ ممدوح إلى فضيلة الشيخ الذى يتزعم حملات التكفير والارهاب الفكرى ويتوعد من يتعامل مع البنوك بالويل والثبور وعظائم الأمور. جلس أمامه فى خضوع وأفضى إليه بهمومه وشكوكه وطلب منه الحل . تحدث فضيلة الشيخ طويلا وأنصت إليه الأستاذ ممدوح كثيرا، وبعد ساعات من الصداع والصراخ والتحذير والترهيب والتخويف والتكفير خرج الأستاذ ممدوح وهو متيقن تماما أن فضيلة الشيخ لا يجيد الحديث ولا يجد الحجة والبرهان إلا عندما يتحدث عن نواقض الوضوء وموجبات الغسل والتقاء الختانيين .
في خلال الساعات التي تحدث فيها فضيلة الشيخ لم يسمع الأستاذ ممدوح دليلا ساطعا أو حجة معقولة ، وإنما أدخله فضيلة الشيخ في متاهات من الصور الفقهية واختلافات الفقهاء والمحترزات والأسانيد والحديث المنقطع والحديث المرسل .. والشيخ يلهث بين الكتب الصفراء ليؤكد أن فوائد البنوك كلها حرام بلا استثناء ، والأستاذ ممدوح يعلم أن مؤلفي هذه الكتب الصفراء قد ماتوا منذ قرون مضت وهم لا يعرفون شيئا عن البنوك وفوائدها . ولو قدر لأحدهم أن يعود للحياة وسار في شوارع القاهرة لمات ثانية من الرعب والهلع مما سيراه من مظاهر الحضارة في القرن العشرين ..
خرج الأستاذ ممدوح من عند فضيلة الشيخ وقد تيقن أنها المرة الأخيرة التي يزوره فيها فقد أحس أنه فقده للأبد ، فقد عرف أن فضيلة الشيخ يعيش الماضي ويحاول فرضه على عصرنا ، أو ربما جاء إلى زماننا على سبيل الانتداب الوظيفي ليضيف نسخة جديدة من كتب التراث الصفراء !!
وفى طريق عودته أحس بحنين جارف للقاء صديقه الأستاذ سامح صاحب النظرة الجريئة في التفكير الديني وهو مع جرأته ، التي يعانى منها ممدوح أحيانا ـ تراه مسلما عاقلا ملتزما يجيد النقاش ، ولا يتردد في أن يستفتى القرآن في مشاكل عصره والتي يعجز الشيوخ عن الخوض فيها ، والأستاذ سامح مع تدينه الشديد لم يأبه بما يقال عن البنوك بدليل أنه يعمل في أحد البنوك مثل بقية المسلمين المتمسكين بدينهم ، فالأستاذ سامح مع تدينه ولحيته يعلم أن رحمة الإسلام أرحب من ضيق الأفق الذي يحاول بعضهم فرضه على الناس باسم الإسلام .
وفى ساعة الراحة جلس الصديقان سامح وممدوح يتحاوران وقد أقتنع ممدوح بأن الحل القرآني لمشكلته هو أن يضع فائض ماله في البنك الذي يعمل فيه صديقه سامح ..
وعاد الصديقان لاستكمال الحوار ..
قال له سامح : أتدرى أنك لو أنفقت ذلك الفائض من مالك في شراء سلعة تافهة لا تحتاجها ربما أصبحت سفيها في نظر القرآن ينبغي الحجر عليك لصالح المجتمع .
وابتسم ممدوح : أبعد هذا العمر وهذه المكانة أكون سفيها ؟؟ وقرأ سامح الآية التي تتضمن المعنى " وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5) : النساء " .
وسرح عقل ممدوح يتفكر في الآية كأنما يسمعها لأول مرة ..وقال سامح : من الآية نفهم ان المال الذي معك هو مالك طالما أنت تحسن التصرف فيه ، أما إذا أسأت التصرف فيه وأصبحت به سفيها فالمال حينئذ يعود للمجتمع من خلال الوصي الذي يقوم على استثمار ذلك المال، وليس لك في ذلك المال ـ والذي كان لك ـ إلا الربح الذي يأتي من خلال استثماره ، لذا تقول الآية " وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا " أى من ربحها ولم تقل " وارزقوهم منها "أي من أصل المال . ومعناه أن استثمار المال واجب اجتماعي يفرضه القرآن الذي يبيح كل أنواع الاستثمار القائمة على التراضي بلا ظلم وبلا فوائد مضاعفة تعوق التنمية .
وأثناء حديث الصديقين همس سامح إلى رفيقه : أنظر من القادم هناك ؟!!
وفوجئ ممدوح بشخصية القادم الجديد والذي لقي الترحيب من كل المسئولين فى البنك باعتباره عميلا على درجة كبيرة من الأهمية .. وهمس ممدوح كأنه لا يصدق عينيه : إنه فضيلة الشيخ بشحمه ولحمه..!!
والتفت لصديقه يمسح عينيه من الدهشة : هل جاء فضيلته هنا ليحكم بكفركم ولعنكم ؟
وضحك سامح " إن لفضيلته حسابات لدينا بالعملات الصعبة والعملة المحلية وتنهال على فضيلته الشيكات من سائر أنحاء المعمورة بالدولار والدينار والريال والدرهم وبها يتضخم نصيب فضيلته وتتعاظم فوائده التي يدفعها له البنك ..
وفرك ممدوح في عينيه : لكنك لم تره وهو يصرخ معي بلعن الفوائد البنكية وكيف أنها رجس من عمل الشيطان ، ومن لم يبتعد عنها فمصيره جهنم ويئس المصير ..
وضحك سامح : لو كان صادقا مع نفسه ما أمسك بالعملة المصرية في يده وهى مكتوب عليها إن الذي يصدرها هو البنك المركزي المصري ، وهو في نظره بنك ربوى ..
وكان فضيلة الشيخ قد أنهى مصالحه وغادر البنك وسط الاحترام المعهود ..
وقهقه سامح قائلا : أنهم على مذهب الإمام ابن حنش القائل : هذه نقرة وهذه نقرة ..
وضحك الصديقان بمرارة..
وقال سامح : وكم ذا بمصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكا ..)
(كاتب المقال أستاذ سابق بجامعة الأزهر ويعلن أنه ليس له أي رصيد في أي بنك مصري أو غير مصري ..)
( 5 )
هذا ما كتبته ونشرته فى القرن الماضى ولم يكن لدى وقتها أى رصيد فى أى بنك .
ولكن السؤال الهام يظل مطروحا ..
الى متى يظل تطور المسلمين مرتبطا بفتاوى أشياخ يعيشون فى الماضى ويريدون فرضه على الحاضر والمستقبل ؟ وكم من الأموال والجهد نفقده انتظارا لأن يفهم أولئك الأشياخ؟ وهم لا يفهمون ولا يعقلون ؟
والى متى يظل العالم يتقدم كل دقيقة ونحن نربط رءوسنا باقدام أشياخ يعيشون فى العصور الوسطى خلف الحجاب والنقاب ؟؟
اجمالي القراءات
66665
ارى ان معركة الربا مازلت مستمرة عند بعض الشيوخ والعلماء وقد يثتشهدون بأية واحدة فقط وهى ( واحل الله البيع وحرم الربا ) ولكن الايات الى اتيت بها فى هذا المقال تدل على ضعف هؤلاء العلماء فى التفكير فى معنانى القرآن الكريم واتمنى من الله ان يراجعوا انفسهم قبل ان يصدروا اى فتوا بتحريم الربا وان يتدبروا معنى القرآن الكريم جيدا