رمضان بين سطور التاريخ (7 ) صوم حواء فى مصر المملوكية
قبل أن نتعرض لصيام حواء فى العصر المملوكي نتوقف قليلا مع قوام حواء المملوكية . هل ينتمي إلى فصيلة غصن البان ، أم فصيلة الجميز ؟إن الصور المرسومة للعصر المملوكي على قلتها ـ تظهر فيها بعض الفتيات النحيفات ، ولكن ذلك ليس مقياسا ، المقياس فى نوعية الأكل ، وهذا ما نعرفه مما أورده الفقيه ابن الحاج فى كتابه " المدخل " الذي ينتقد فيه مظاهر الحياة الاجتماعية فى العصر المملوكي من وجهة نظره كفقيه ناقم يحاول اصلاح عصره من وجهة نظر فقهية صوفية ..
ونأخذ من كتابه إشارة هامة ، إنه ينتقد الجزارين ويقول : إن بعضهم كان يغش اللحم ، فإذا كانت الذبيحة قليلة الشحم فإنه يجعل معها شحم غيرها لكي يرغب الناس فى شراء اللحم لكثرة الدهن فيه، أى أن المفهوم عند الناس فى العصر المملوكي كان رفض اللحم الأحمر ( البروتين ) ويفضل عليه الدهون واللحم الأبيض السمين .. وكان ذلك عاما فى الرجال والنساء . وبالتالي فإن القوام الأنثوي كان يميل للسمنة .. وذلك مجرد استنتاج .
أما الدليل الحاسم فهو ما أورده ابن الحاج من معلومات غريبة عن حواء المملوكية تحت عنوان عجيب يقول " فصل فيما يتعاطاه بعض النسوة من أسباب السمن ".
يقول إن بعضهن " اتخذن عادة مذمومة ، وهى أنها قبل النوم وبعد طعام العشاء تأخذن لباب الخبز وتجعله ثريدا تضيف إليه أشياء أخرى ، ولأنها لا تستطيع ابتلاعه بعد شبعها فترغم نفسها على ابتلاعه بالماء .. وربما تعود إلى تجرع نفس الوصفة بعد النوم وقبل الفجر .."
ويحكى ابن الحاج أن بعضهن كن يتعاطين وصفة بلدية تجعلهن أكثر سمنة ، وهى أكل الطين والطفلة الطينية مع بعض أدوية من العطار .. حتى يقل شبعها ويكثر التهامها الطعام ويزيد وزنها وتصبح أجمل الجميلات وفق مقياس العصر المملوكي ..
وقد أدى هذا الشحم الزائد إلى ظهور نماذج فريدة من المرأة المملوكية كان بعضهن لا تستطيع أن تتوضأ أو تغتسل لأن ذراعيها أقصر من أن تصل إلى مواضع الطهارة ،وكانت إحداهن لا تستطيع الصلاة وهى قائمة فتضطر للصلاة جالسة ..
وبالتالي كان صوم رمضان فريضة ثقيلة عليهن لذلك استنكر ابن الحاج أن بعضهن ـ وبعضهم ـ كان يفطر فى نهار رمضان جهارا.. لأن البدانة فى العصر المملوكي كانت عادة سيئة للرجل والمرأة ..
وأصبح من العادات المذمومة ـ فيما يحكيه ابن الحاج ـ أن النساء البدينات يفطرن فى شهر رمضان حتى لا يفقدن بعض سمنهن ، وامتد ذلك إلى الفتيات الأبكار ، إذ كان أهلهن يرغموهن على الإفطار فى نهار رمضان " خيفة على تغير أجسامهن عن الحسن والسمنة " بتعبير ابن الحاج الذي يربط الحسن بالبدانة والسمن .
وبعض النساء كن يحافظن على صيام رمضان ، ومع ذلك فلم يسلمن من انتقاد ابن الحاج .. فبعضهن كانت إذا أتتها العادة الشهرية فى رمضان فإنها تصوم ولا تفطر ، ثم لا تقضى تلك الأيام التى كانت فيها حائض ، ويعللن ذلك بأنهن يصعب عليهن الصوم أو قضاء الصوم فى أيام الإفطار حين يأكل الناس وهن يصمن .
وبعضهن فى أيام الدورة يفطرن ثلاثة أيام فقط ، ويصمن المدة الباقية حتى مع استمرار الدورة ، بل إن ابن الحاج ينتقد النساء اللائي يصمن مدة الحيض ويقضين المدة صياما أيضا . ويراهن آثمات ومنهن من يفطرن فى تلك الأيام ولكن يكتفين فى الإفطار بتمرة أو أقل القليل من الطعام ، أى كأنها صائمة ، وذلك تجويع وتعذيب لا مبرر له .
ومن المفيد أن نذكر أن الفقه التراثي جرى على اعتبار الحيض من الأسباب التى توجب الإفطار فى رمضان ، ويتعين قضاؤه .. إلا أن القرآن يحصر الأعذار التى تبيح الفطر فى رمضان فى شيئين فقط وهما السفر والمرض " فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر " وللمريض والمسافر أن يصوم إذا استطاع لأنها مجرد رخصة ، والله تعالى يقول " فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم " .. " البقرة 184 " .
إن الوضوء شرط فى الصلاة ، لذلك فإن الحيض يقطع الوضوء فقط ، ولا بد من الاغتسال والتطهر .. أما الصيام وباقي فرائض الإسلام من حج وزكاة وقراءة القرآن فليست الطهارة شرطا فيها ، وعليه فإن على الحائض ـ وفقا لتشريع القرآن ـ أن تصوم .وقد نتعرض لهذا بالتفصيل فى باب التأصيل .
ونعود إلى ابن الحاج وانتقاده لصيام حواء فى العصر المملوكي .. وهو يستنكر قيام بعضهن بالصوم فى رمضان ولكنهن يتركن الصلوات الخمس بدون عذر شرعي ، ويقول : إن بعضهن اعتدن ترك الصلاة ويعتقدن أن الصلاة لا تجب إلا على النساء المتقدمات فى السن ، فإذا نصحتهن أحد بالصلاة تقول : أعجوزا رأيتني !! يقول ابن الحاج " فكأن الصلاة ليست بواجبة على الشابة .."
ولقد كان صوم رمضان فى العصر المملوكي ـ ولا يزال ـ عادة اجتماعية مرتبطة بالسهر والمواسم الدينية وإحياء الليالي فى الأضرحة ولدى الأولياء مع الأطعمة المشهرة والسحور ومدفع الإفطار ورؤية الهلال ..
لذلك فإن من اعتاد إهمال الصلاة نراه متمسكا بعادة الصوم فى رمضان .. وذلك ما استنكره الفقيه ابن الحاج على من يصوم ولا يصلى .
ولا يزال بعضنا يصوم ـ كعادة اجتماعية ـ بدليل أنه لا يصلى .
هل نحتاج للفقيه ابن الحاج فى عصرنا؟
كل عام وانتم بخير ..
اجمالي القراءات
15432
أعتقد ان العصر المملوكي قد ترك بعض البصمات على سلوكيات المصريين وثقافتهم الغذائية من ناحية ، ويتمثل هذا في انتشار عربات لبيع سندوتشات (السمين) ولقد رأيتها بعيني في بعض الأحياء الشعبية ، وهذه العربات تشبة عربة الفول المدمس ، ولكن نوعية الطعام تختلف فيباع فيها سندوتشات عبارة عن بقايا الذبيحة من دهون وشغت وكل ما له علاقة بالسمنة يوضع كل هذا في إناء معدني على النار مع قليل من الزيت ويصنع منه سندوتشات السمين ، وحين ينادي أصاب هذه العربات حين دخلوهم إحدى الحارات او الشوارع في الأماكن الشعبية ينادي قائلا (عربية السمين وصلت) أو (بتاع السمين وصل) ، وأعتقد أن هذه إحدى بصمات العصر المملوكي .
ومن ناحية أخرى ترك العصر المملوكي بصمة لا تقل أهمية عن سابقتها ، ولكنها تخص الثقافة الغذائية والتدين الصوفي معاً ، حيث ارتبط التصوف بإقامة الولائم والذبائح على النصب ، واليوم أشاهد الليالي التي تقوم في الأساس على الأكل ومليء البطون اولا ، حتى يتسنى للرجال القيام بالمجهود العضلي الرهيب فيما يسمونه الذكر حسب مفهومهم ، وهو لا علاقة له بالذكر من قريب أو بعيد ، والمهم أن هذه الولائم وهذه الليالي التي تقام على شرف أحد المشايخ يقوم بدعوة مريديه للأكل والشرب ومليء البطون حتى يدعون له بطول العمر والصحة والعافية ، ونظرة عابرة على الرجال الذين ألاحظ اهتمامهم بمتابعة تلك الليالي والاهتمام بها على الدوام جميعهم يعانون من مرض السمنة ، والكرش ، إلا من رحم ربي ، وكان مريضا بمرض النحافة ، ولا يمكن أن يصاب بالسمنة مهما اكل أو شرب ، فهذه كانت رؤية من واقع المجتمع المصري الذي يعج بالسلوكيات الخاطئة دينيا وصحيا ..
والله جل وعلا هو المستعان
رضا عبد الرحمن على