رمضان بين سطور التاريخ (2 )
أولا :
موائد الرحمن يقيمها وزير الخليفة المقتدر بالله العباسى
سنة 306 هـ أصدر الخليفة المقتدر بالله مرسوماً بتعيين حامد بن العباس وزيراً ، وكان حامد مشهوراً بالثراء وبالكرم .. وكان يتفنن في الإنفاق في رمضان، حتى أنه كان يقيم ولائم للناس في داره ويجعلها عامة لكل من أراد الدخول، وكان عدد الموائد يبلغ أحياناً أربعين مائدة ، وقد غضب على القائمين على الموائد حين رأى قشراً في مخلفات الطعام فظن أن ضيوفه يأكلون البقول دون اللحوم، وهدأ غضبه حين تأكد أن الضيوف عنده يأكلون أطيب الطعام ويحملون الفائض إلى بيوتهم .
وحدث وهو يتفقد الآكلين في تلك الموائد الرمضانية أن وقفت له امرأة وشكت له الفقر، فكتب لها ورقة بمائتي دينار ، فلما ذهبت للصراف لتصرفها استنكر الصراف كلمة دينار وذهب للوزير وعرض عليه الورقة، فضحك الوزير وقال والله ما كان في نفسي إلا أن أعطيها مائتي درهم ولكن شاء الله أن كتبت دينار مكان درهم، فأعطها المكتوب كما هو.
وفي اليوم التالي كان عند الإفطار يتفقد الضيوف على عادته فوقف له رجلاً وشكا له أنه زوج تلك المرأة وأنها أصبحت تتغطرس عليه وتطلب منه الطلاق بعد أن أعطاها الوزير مائتي دينار، وطلب الزوج من الوزير أن يجعلها تكف عنه، فضحك الوزير وأمر له بمائتي دينار وقال له : قد صار لك الآن مثل مالها فلن تتغطرس عليك ولن تطالبك بالطلاق.
ثانيا : فى العصر المملوكى :
كثيراً ما كان رمضان ينجح في إلانة القلوب المتحجرة للحكام الظلمة وما كان أقسى قلوب المماليك والعسكر عموما عندما يحكمون ..ولكن رمضان كان ينجح أحيانا فى أن يدفع بعض المماليك إلى عمل الخير بالإفراج عن المساجين والبر بالمساكين ويأتي المؤرخون فيبتهجون بذلك العطف السامي والكرم النادر ويسارعون بتسجيله في الحوليات التاريخية ، مع بقية الأحداث الأخرى التي تعطينا فكرة عن الواقع الحقيقي الذي جعل ذلك الحاكم الظالم يفعل الخير .
* الأمير الكبير برقوق قبيل أن يعلن نفسه سلطاناً ــ أمر بالإفراج عن المساجين بسجن الديلم وسجن الرحبة ــ وكان من بين المساجين من هو محبوس على ديون فسددها عنهم ،وكان ذلك في رمضان 874هـ ، وبعدها أعلن نفسه سلطاناً يوم الأربعاء 19رمضان 874هـ إذن كان السبب هو تهيئة الجو له ليتقبله الناس سلطاناً وينهي حكم أسرة قلاوون .
ولاقى السلطان برقوق عنتاً من إختلاف الأمراء عليه فعاد في رمضان التالي 785هـ يسدد ديون المسجونين في سجن القضاء ويوفي عنهم ديونهم على يد الأمير جركس الخليل، وبذلك أفرج عنهم.
*وحدثت محنة للأمير شيخ وهو أمير فى دمشق على الشام التابع وقتها للدولة المملوكية ــ وكان ذلك قبل أن يصير الأمير شيخ سلطاناً للدولة المملوكية. لذا بعد أن جاءه الفرج خرج من منزله بدار السعادة ماشياً إلى جامع بني أمية وهو حافٍ بلا حذاء متواضع لربه تعالى حتى دخل الجامع وتصدق باقراص محشوة بالسكر فأطعم الفقراء والقراء ــ أي الطلبة ــ وسدد ديون المحبوسين المعسرين عن السداد وذلك في ليلة 21رمضان 811هـ .
*وتسلطن الأمير شيخ تحت لقب المؤيد شيخ ،وكانت لديه نزعة خير تظهر أحياناً خصوصاً في رمضان،وكانت خزانة شمايل من أسوأ السجون المملوكية ، وقد تم هدمها ولكن أقيم بعدها سجن ضيق قاسى فيه المساجين غماً وكرباً بسبب ضيق مساحته وكثرة عددهم فاختار لهم قصر الحجازية ليكون سجناً واستأجره من صاحبه بعشرة الآف درهم لمدة سنتين وأعده ليكون سجناً . ثم أهمل الموضوع ، وكان ذلك في رمضان سنة 820هـ .
* أما السلطان الأشرف برسباي فقد أصابه المرض الذي مات فيه،وأثناء هذا المرض في رمضان 841هـ أصدر السلطان قراراً بالإفراج عن جميع المساجين وأمر بغلق السجون كلها وألا يسجن أحدُ ، فأغلقت السجون ولكن ترتب على ذلك كما يقول المقريزي "انتشار اللصوص والمجرمين والمفسدين في البلاد ، وامتنع من عليه أموال أن يسددها لأصحابها لأن السلطان اطلق المحبوسين الذين كانت عليهم ديون، ومنع أن يحبس أحد بسبب ما عليه من دين.
*وفي يوم الخميس 22رمضان 875هـ أصدر الأمير الكبير يشبك ــ الرجل الثاني في عهد السلطان قايتباي ــ قراراً باطلاق سراح الفلاحين المحبوسين بسبب ما عليهم من ديون واطلاق سراح من صودرت أمواله ودخل السجن ، وبذلك القرار تم الإفراج عن مائة وسبعين مسجوناً ، ودفع الأمير يشبك ما عليهم من ديون للدولة , والسبب في ذلك الكرم المفاجئ الذي انتاب الأمير يشبك المشهور بقسوته وظلمه ،أنه كان على وشك السفر في حملة عسكرية لتأديب شاه سوار الثائر على الدولة المملوكية في العراق ،وقد قصد الأمير يشبك أن يتقرب إلى الله تعالى بهذا البر في رمضان حتى يمن الله عليه بالنصر ، وحدث أن لقي ذلك الأمير حتفه في تلك الحملة..!!
*وأصاب الفقراء والمساكين خير كثير في رمضان من نوبات الكرم التي كانت تصيب المماليك ، فالأمير بيدرا مرض حتى أوشك على الموت وقيل أنه شرب السم ثم عوفي في رمضان سنة 691هـ فتصدق بصدقات جمة ورد أملاكاً كان قد اغتصبها من أصحابها،وأطلق كثيراً من المسجونين في سجونه وجمع الناس في 10رمضان بجامع بني أمية في دمشق وعملا حفلاً لختم القرآن وزع فيه الصدقات!!.
*وفي الشام أيضاً كان الأمير هو (شيخ) الذي ارتبط بالشوام فترة طويلة وحدث أن جاء غلاء ضخم في رمضان 808هـ في سلطنة فرج بن برقوق حين كان شيخ نائباً للسلطان في دمشق ، فقام الأمير شيخ بجمع الفقراء وتفريقهم على الأغنياء ليقوموا باطعامهم ، واختص نفسه بعدد كبير منهم يقوم على اطعامهم بنفسه ، وحدثت مأساة في بعض الليالي إذ تكاثر الفقراء لأخذ الطعام فمات في الزحام أربعة عشرشخصاً..!! ولك أن تتخيل عدد الفقراء وقتها ..
*وتولى شيخ السلطنة في القاهرة ولم يشهد صلاة الجمعة في أول رمضان 819هـ بسبب مرضه ، وحتى يشفيه الله تعالى فأنه فرق مبلغاً من المال في الخانقاه التي أنشأها ــ وهي الخانقاه المؤيدية ــ وجهز عدة أبقار فذبحت في مواضع متعددة، وفرق لحمها، وكانت تلك عادة للظاهر برقوق من قبل !! .
*وأثناء توليه السلطنة زار المؤيد شيخ الشام الذي عاش فيه أميراً سنين طويلة وتصادف أن كان ذلك يوم الجمعة 25 رمضان 820هـ فزار بيت المقدس وفرق في أهله مالاً جزيلاً وصلى الجمعة وجلس بالمسجد ، وقرأ الفقهاء صحيح البخاري ـ كتابهم المقدس ـ بين يديه ، وقام المداحون بعدهم ينشدون، فانتشى السلطان وأنعم عليهم بالأموال ، ثم ذهب الى مدينة الخليل حيث زار مشهد أو ضريح ابراهيم الخليل وتصدق هناك .. مع أن المعروف أن ذلك الضريح مزور ، أقيم للاسترزاق .
وبويع الأمير ططر سلطاناً للدولة المملوكية ، وكان وقتها في دمشق وذلك في يوم الإثنين 17رمضان 824هـ . واستبشاراً بتوليه السلطة وتقرباً للناس وقبل ان يرتحل الى القاهرة عاصمة الدولة المملوكية أصدر السلطان الجديد (الظاهر ططر ) قرارات للتخفيف عن أهل الشام ،منها أن المحتسب كان يجمع لوالي دمشق 1500 ديناراً يجمعها من الناس ظلماً فأمر ططر بإعطاء الوالي ضيعة في نظير أن يستغني عن ذلك المال الذي يجمعه له المحتسب ، وأذاع بياناً في دمشق يقول فيه : إن طلب منكم المحتسب يا أهل دمشق شيئاً فارجموه.. ونقش هذه الحادثة على حجر في المسجد الأموي .. وأثناء عودته لمصر وفي طريقه للقدس عرف أن والي القدس يأخذ ضريبة سنوية من الفلاحين قدرها أربعة آلاف دينار زيادة عما هو مقرر فأمر بتعويض الوالي عن هذه الضريبة وأبطلها ، ونقش ذلك على حجر بالمسجد الأقصى .. وفعل كل ذلك الخير في رمضان 824هـ .
وحدث ما أراده السلطان إذ استبشر الناس بولايته خيراً..!! .
وأخيرا ..
ولا تزال نوبات الخير تؤثر أحيانا فى الحكام المستبدين خلال شهر رمضان .. حتى لو كان أولئك المستبدون من العسكر..وانظر الى ما يفعلونه أحيانا فى شهر رمضان بدءا من الفوازير إلى اطعام الناس لحوم الحمير ..
*****************
اجمالي القراءات
17621
هذه حقيقة لا يدركها إلا من يعيش على أرض مصر المحروسة ، يوجد على أرض مصر عدد غير قليل يحتاج لمائدة الرحمن طوال أيام السنة ، حيث لا مال ولا عمل ولا صحة ولا سكن ، ولا أي شيء فهم أسماء مسجلة في سجلات الدولة ليس إلا ، منهم من يسكنون الشوارع وتحت الكباري ، ومنهم من يسكنون العشش الخشب أو الصفيح ، ومنهم من يسكنون المقابر ، وهؤلاء جميعا في أمس الحاجة للقمة العيش التي تبقيهم على قيد الحياة وهم بحاجة إليها طوال أيام السنة ..