هل من حق العالم أن يشارك في الانتخابات الأمريكية؟
دأبت شبكات التليفزيون الأمريكية في الأسابيع الأخيرة، أي في المرحلة الأولي من الانتخابات التمهيدية للرئاسة الأمريكية، علي استطلاع عينات من مواطني البلدان الأوروبية في سباق الرئاسة الأمريكية. وركزت بعض هذه الشبكات علي الرأي العام في ألمانيا، وبريطانيا، وفرنسا. وأبدي أحد مراسلي شبكة ال CNN، أن اهتمام الألمان خاصة يكاد يفوق اهتمام أصحاب الشأن (الأمريكيين) أنفسهم. وكان ضمن ما قاله أحد هؤلاء الألمان، أنه من حق الناس في العالم اجمع أن يشاركوا، بشكل أو آخر في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، حيث إن الرئيس الأمريكي، يملك سلطات تنفيذية هائلة، في أقوي دولة في العالم، بل وفي التاريخ كله! . وبهذا المعني، فإن رعونة أو حكمة من يتبوأ هذا الموقع ينبغي أن يكون شأناً عالمياً، بقدر ما هو شأن أمريكي.
فما صحة هذا التقييم؟ وإذا كان التقييم صحيحاً، فكيف للعالم أن يشارك؟
لقد كانت مناسبة هذا الحوار الجانبي علي هامش موسم الانتخابات الأمريكية، هو قيام بعض الاتحادات الطلابية الأوروبية في الثانويات والجامعات بإجراء ما يشبه الانتخابات الأولية. وتركز اهتمام الأوروبيين في هذا الصدد علي سباق الحزب الديمقراطي، وتحديداً في المفاضلة بين هيلاري كلينتون وباراك أوباما. وفي معظم هذه الاستطلاعات الأوروبية، في أواخر ديسمبر 2007 وبداية يناير 2008، جاء أوباما في المقدمة، بفارق تراوح بين 5 في المائة في استطلاعات فرنسا و10 في المائة في استطلاعات ألمانيا. ولا أدري ما إذا كانت الصورة قد تغيرت بعد فوز هيلاري كلينتون في الانتخابات الأولية بولاية نيو هامبشاير ، بفارق نقطتين (38 إلي 36%).
إن هذا الانشغال الأوروبي بالانتخابات الأمريكية يمكن تفسيره بالعلاقات التاريخية والاستراتيجية والثقافية والحضارية الخاصة علي جانبي الأطلنطي. فالأمريكيون المعاصرون هم في أغلبيتهم الساحقة من أصول أوروبية، هاجروا إلي العالم الجديد، بدءاً من القرن السادس عشر. واللغات السائدة في القارتين الأمريكيتين هي لغات أوروبية (الإنجليزية والأسبانية والفرنسية). وكذلك معظم أسماء المدن والقري هي أسماء أوروبية، مسبوقة عادة بكلمة نيو (New) أي جديد . من ذلك أن أكبر مدينة أمريكية، وهي نيويورك ، سميت مرة علي اسم مدينة هولندية وهي أمستردام ، فسميت لحوالي قرن باسم نيو أمستردام . ومع غلبته المستوطنين الإنجليز بدءاً من القرن السابع عشر، غيروا الاسم تيمناً بأحد الموانئ الإنجليزية التي كانت تُبحر منها السفن المتجهة إلي العالم الجديد، وهو ميناء يورك ، فأصبحت نيو - يورك .
وربما هذا الإرث هو الذي جعل أهم دول الأمريكتين فيما بعد، وهي الولايات المتحدة، تسارع إلي نجدة أوروبا، كلما احتاجت هذه الأخيرة إلي من ينجدها، سواء في حروبها أو في اقتصادها، وقد وصلت هذه النجدة إلي أقصاها في الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، ثم بعد الحرب مباشرة، بمشروع مارشال ، الذي أعاد تعمير وبناء أوروبا، التي كانت الحرب قد دمرتها تماماً.
ولكن هذا الإرث المشترك، لم يمنع المنافسة بين أوروبا وأمريكا في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، ولكنها ظلت منافسة سلمية، وتنطوي علي علاقة معقدة من الحب والغيرة في الاتجاهين. وظل التأثير المتبادل قائماً وكثيفاً. فكانت الثورة الإنجليزية في أواخر القرن السابع عشر، مصدر إلهام للثورة الأمريكية في أواخر القرن الثامن عشر وكانت هذه الأخيرة مصدر إلهام للثورة الفرنسية. وكذلك الشأن في التأثير الاقتصادي والتكنولوجي المتبادل. فالثورة الصناعية بدأت في أوروبا في أواخر القرن الثامن عشر. ولكن في خلال قرن، كانت هذه الثورة تثمر في أمريكا علي مستوي هائل فاق كل أحلام وتصورات واقتصاديات أوروبا. ومنذ أواخر القرن التاسع عشر والاقتصاد الأمريكي هو الذي يقود الغرب، والعالم كله. ومن هنا العبارة الشهيرة التي أطلقها الاقتصاديون، أنه إذا أصيبت أمريكا بزكام اقتصادي ، فإن العالم كله يصاب بالكساد .
وربما لهذه الأسباب وغيرها انشغل الأوربيون بالشأن الأمريكي عموماً، والانتخابي خصوصاً. ولكن انتخابات 2008 تمثل بالنسبة لكثير من الأوربيين تجربة خاصة ومثيرة. فهي أول انتخابات أمريكية منذ الاستقلال (1776)، يتنافس فيها علي مقعد الرئاسة، أمريكي زنجي، وامراة أمريكية. فقد كانت هاتان الفئتان الزنوج والنساء هما آخر الفئات الأمريكية حصولاً علي حقوقهما المدنية والسياسية. وبالنسبة للزنوج خصوصاً كان الحصول علي هذه الحقوق دموياً . فقد خاضت الولايات المتحدة واحدة من أبشع وأطول الحروب الأهلية بين الشمال والجنوب، من اجل تحرير الزنوج، الذين كان قد تم جلبهم عنوة من إفريقيا وبيعهم كعبيد في الأسواق الأمريكية، للعمل في مزارع القطن والقصب عند كبار الملاك في الولايات الجنوبية. ولكن حركة تحرير الإنسانية من الرق خلال القرن التاسع عشر، مسّت أمريكا في النصف الثاني من نفس القرن، وطالبت الولايات الشمالية بإزالة وصمة العبودية من المجتمع الأمريكي كله. وقاد الرئيس الأمريكي آنذاك، وهو أبرهام لنكولن هذه الدعوة، ولكن الولايات الجنوبية، اعتبرت هذه الدعوة من جانب الحكومة الفيدرالية، والرئيس لنكولن، تدخلاً سافراً في شئونها. ورفضت تنفيذ القوانين والقرارات الفيدرالية القاضية بإلغاء الرق. فأمر الرئيس لنكولن القوات الفيدرالية بالتدخل لتنفيذ القانون بالقوة. وهو ما قاومته القوات المحلية في 13 ولاية جنوبية. وكان ذلك إيذاناً بانفجار حرب أهلية طاحنة، استمرت حوالي خمس سنوات، وراح ضحيتها حوالي مليون نفس، في ستينات القرن التاسع عشر. وانتهت الحرب، بانتصار الشمال. وإلغاء نظام الرق، وتحرير الزنوج من عبودية ثلاثة قرون. وهاجر ملايين الزنوج من الجنوب إلي الشمال، لبدء حياة جديدة، كمواطنين أحرار.
لقد كان الرئيس لنكولن أصلاً من ولاية الينوي. وهي نفس الولاية التي وفد إليها أسلاف باراك أوباما، سعياً وراء الحرية. ولكن مسيرة السعي للحرية لم تكن مسيرة سهلة أو قصيرة، ولا يكفي إصدار القوانين والقرارات لتحقيقها. فقد ظلت الممارسات اليومية والمعاملة، الاجتماعية للزنوج تنطوي علي تفرقة عنصرية، من النوع الذي لا يمكن التغلب عليه بالقانون وحده. لذلك ظهرت حركات اجتماعية أخري، بعد الحرب الأهلية، لنشر الوعي بأهمية نبذ المعاملة العنصرية بين المواطنين البيض ضد الزنوج الذين أصبحوا أحراراً بقوة القانون. كذلك سعت هذه الحركات لتوعية الزنوج أنفسهم بمبادئ وسلوكيات المواطنة، وأهمية ممارساتها كحقوق في التعليم والمشاركة المدنية، وفي مقدمتها المشاركة في الانتخابات. وقد استغرق ذلك قرناً آخر بعد الحرب الأهلية. ثم استغرق الأمر نصف قرن آخر حتي شعر بعض الزنوج بالثقة بأنفسهم، لا فقط كناخبين ، ولكن أيضاً كمرشحين ، للبلديات ثم للكونجرس. وها هي المسيرة تكاد تكتمل بترشيح احدهم، وهو باراك حسين أوباما، لمنصب الرئاسة. وهو الأمر الذي وجد صدي إيجابياً واسعاً بين الشباب الأمريكي، الأبيض منهم والأسود علي السواء. وها هم الشباب الأوربيون يبدون نفس الحماس للمرشح الأمريكي الأسود. لا فقط تعبيراً عن مبدأ المساواة الإنسانية، وليس فقط لأهمية أمريكا ورئيسها في حياتهم ومصير العالم، ولكن ربما أيضاً لشعور جماعي بالذنب . فقد كان أجدادهم الأوروبيون، هم الذين استعمروا أفريقيا وأمريكا، وهم الذين أداروا تجارة الرقيق عبر الأطلنطي، وحققوا منها أرباحاً طائلة.
ولكن الدراما التاريخية لا تنتهي عند ترشيح أحد أحفاد العبيد للرئاسة الأمريكية. بل يصل الصراع الدرامي منتهاه، بترشيح امراة، وهي هيلاري كلينتون، لنفس الموقع، وعن نفس الحزب. لقد كانت النساء، مثل الزنوج، يُعاملن لقرون طويلة كمخلوقات ناقصة عقلاً (وربما ديناً)، وغير مؤهلات لدور المواطنة الكاملة. ومن ثم لم يحصلن علي حقوق المواطنة (أي المشاركة المتساوية في الحقوق والواجبات)، إلا في القرن العشرين. وبدأت مسيرة نضال المرأة عموماً، والأمريكية خصوصاً، مع مسيرة تحرير الزنوج من العبودية. وهذه قصة تحتاج إلي مقال آخر في أسبوع قادم.
اجمالي القراءات
11142