سامر إسلامبولي Ýí 2007-11-05
النّـفــــس غير الجسم إن النّفس هي الكائن الرّوحي المنفوخ في الكائن البشري ،التي جعلته كائناً واعياً له استقلال في وُجُوده عن جنسه ،مدركاً لوُجُوده الواعي، ومدركاً لوُجُود غيره.
فالإنسان منذ أن تفعل عنده السّمع والبصر والفؤاد ،أدرك وُجُود نفسه ككائنة روحية منفوخة في دماغه، وذلك من خلال الإدراك الحضوري( ) لها الذي يعني أنَّ الإنسان يدرك وُجُود نفسه ككائنة واعية مستقلة عن الجسم من حيث الخلق ،وملتحمة معه من حيث الحياة والفاعلية قبل أن يقع حسه على آثا&edil;رها.
وكذلك يدرك الإنسان وُجُود نفسه من خلال إدراك آثارها بواسطة الإدراك الحصولي نحو قول ديكارت: أنا أفكر إذن أنا موجود. فقد حكم على وُجُود النّفس من خلال أحد وظائفها وهي عملية التّفكير. والنّص القرآني أثبت هذه الحقيقة من حيث أنَّ النّفس هي كائن غير الجسم
قال تعالى: (الله يتوفى الأنفس حين موتها ) الزّمر 42.
وقال: ( ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون ) الأنعام 93.
فالنّفس هي التي تملك الوعي والإدراك، وهي التي تحدد شخصية الإنسان، أما الجسم فهو كائن رحمادي حيوي نهايته إلى التّحلل والرّجوع إلى عناصره الأولى التي رُكِّبَ منها، بخلاف النّفس فإنها تبقى موجودة بصُورة سرمدية لا تفنى، هكذا أرادها الخالق، لأنَّ الفناء لها هو نقض لوجودها ابتداء على صفة الوعي والإدراك، فهي خلقت لتدوم، بخلاف الأشياء الأخرى. لذا لا يصح نقاش مسألة هل الخالق قادر على إفناء النّفس، أو ممكن أن يفنيها لاحقاً؟!!
وذلك لأنَّ السّؤال سفسطائي في ذاته، ومجرد تصُور الجواب على السّؤال هو ضرب من الوهم، وذلك لأننا إذا قلنا: نعم الخالق قادر على إفناء النّفس أو ممكن أن يفنيها لاحقاً. لوقعنا في تناقض مع صفة العلم والحكمة الإلهية، فالخالق العليم الحكيم ابتداء عندما توجهت إرادته نحو خلق النّفس أعطاها صفة السّرمدية، وعملية إفنائها هي رجوع عن إرادة سابقة ونقص في العلم ونقض للحكمة، وهذه إذا اجتمعت نقضت صفة الكمال الإلهي. لذا السّؤال من أصله غير وارد، والنّفس خلقت لتدوم بإرادة من الخالق تبارك وتعالى. وصفة السّرمدية للنّفس هي من أحد أهم البراهين على وُجُود اليوم الآخر والحساب وأبدية الثّواب والنّعيم دون العقاب والجحيم. ( )
لنر الآن كيف أتى استخدام كلمة النّفس في القرآن. إن المتتبع لكلمة (نفس) في النّص القرآني يجد أنها مستخدمة لتدل على ذات الله وذلك بقوله تعالى:
1 ـ (ويحذركم الله نفسه ) أل عمران 28.
2 ـ (فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة ) الأنعام 54.
3 ـ ( تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما نفسك ) المائدة 116.
وأتت لتدل على الإنسان (الكائن العاقل) قال تعالى:
1 ـ ) كل نفس بما كسبت رهينة ) المدثر 38.
2 ـ ( لا يكلف الله نفساً ًإلا وسعها ) البقرة 286.
3 ـ ( واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ) الأعراف 205.
بينما لا نجد في النّص القرآني استخدام لكلمة (نفس) على الحيوانات أبداً، وإنَّما يُوجد قرائن تدل على نفي وُجُود نفس لهم. نحو قوله تعالى:
1 ـ ( كل نفس بما كسبت رهينة ) المدثر 38.
2 ـ ( ليجزي الله كل نفس ما كسبت ) إبراهيم 51.
3 ـ ( يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها ) النّحل 111.
نلاحظ من هذه الآيات أنَّ النّفس محل للتّكليف والخطاب الإلهي، فهي كائن عاقل، والنُّصُوص تخاطب كل النّفوس دون استثناء، والحيوانات لا تجادل عن ذاتها ولا يُوجد لها عمل حتَّى تُوفاه، وليست هي محل تكليف، ممَّا يُؤكِّد أنَّ الحيوانات لا نفوس لديها، والنّفوس إنَّما هي خاصَّة للكائنات البشرية لأنَّ النّفخة من الرّوح كانت لهم فقط.
أما قوله تعالى: ( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون ) الأنعام 38.
فهذه الكائنات مشتركة مع الكائن البشري من حيث أصل الخلق أي من تراب وماء، فجميع الكائنات الحية هي كائنات رحمادية ممزوجة بطاقة حيوية، والحشر لهم إنَّما هو عودتهم بعد الموت إلى التّربة وتحلل أجسادهم إلى عناصرها الأولى. والحيوانات أشبه بكمبيوتر وضعنا له مجسات تنفعل بالواقع من حيث الحرارة والبرودة، والصّوت والصّورة...الخ بحيث إذا تعرض لحرارة باردة يصدر منه حركة معينة، وإذا تعرض إلى صوت يصدر منه حركة معينة، وهكذا بالنّسبة إلى باقي الأمور. فهل نستطيع أن نقول أن جهاز الكمبيوتر قد صارت له نفس؟ والجواب قطعاً لا. والصّواب أنَّ الجهاز منفعل نتيجة البرمجة التي برمج عليها لا يتجاوزها أبداً، وهكذا الكائنات الحية غير الإنسان فهي كائنات منفعلة بالواقع لا تملك نفوساً، وبالتّالي لا شُعُور لديها، وإنَّما تملك إحساساً بالواقع ينطبع في دماغها ويتم استرجاعه بصُورة انفعال حينما يتم عرضه أو إثارته مرة ثانية. إذاً النّفس مخلوق آخر غير الجسم لا تخضع للمقاييس المعرفية التي يملكها الإنسان إلى الآن، فهي ليس لها وزن أولون أو طول أو عرض…الخ ومع كل ذلك فهي موجودة لا يشك أحد في وُجُودها، لأنَّ الوُجُود الحقيقي الواعي للإنسان إنَّما هو لنفسه وليس لجسمه، فالجسم يتعرض للأذى وحتَّى لقطع بعض أطرافه، ومع ذلك تبقى النّفس موجودة ما دام الجسم صالحا للحياة، فالجسم بالنّسبة للنّفس أشبه باللّباس بالنّسبة للجسم، فإذا بلي اللّباس ولم يعد يصلح للاستخدام تركه الإنسان، وكذلك إذا بلي الجسم من خلال انتهاء عمره الافتراضي أو بفعل فاعل تقوم النّفس بمغادرة الجسد لعدم صلاحيته في استمرارها فيه، لأنها تفقد عملية الاتِّصال والتّواصل مع الواقع، وبالتّالي لم يعد لوُجُودها في الجسد البالي أي مبرر، فالنّفس مخلوق آخر غير الجسم لها صفات خاصَّة بها، ولها مادَّة خلقت منها غير مادَّة الجسم.
وصدق من قال:
انهض بنفسك واستكمل فضائلها...... فأنت بالنّفس لا بالجسم إنسان
والنّفس كائنة مستورة عن الأعين تَغيبُ في الجسم وتسيطرُ عليه وتُسيّره حسب ما تريد، فمن الممكن أن تهلك الجسم من خلال استخدامه بصُورة سيئة. نحو تعاطي الخمر والمخدرات والدّخان..الخ فتقضي عليه، وبقضائها عليه يتم موتها أيضاً لأنها تفقد عملية الاتِّصال والتّواصل مع الواقع. وقد أخبر الخالق أنَّ الكائن البشري قد خلقه ابتداء من تراب وماء (الطّين) ومن ثم جعل نسله من ماء مَهين، فهل يعقل أن لا يخبرنا عن أصل خلق النّفس شيئاً؟ مع العلم أنَّ القيمة الحقيقية للإنسان إنَّما هي لنفسه إذ هي مناط التّكليف ومحل الخطاب، ومحل المسؤولية، والوُجُود الواعي العاقل إنَّما هو لها وليس للجسم!!.
إن القرآن قد أخبرنا عن أصل خلق النّفس وحَدَّدَ المادَّة التي خلقت منها، ولكن اختراق ثقافة أهل الكتاب للثّقافة الإسلامية ترتب عليه في واقع الحال وُجُود حالة ضبابية منعت علماء المسلمين من أن يبصروا الحقيقة، وذلك لأنهم تعاملوا مع القرآن من خلال التّوراة فكانت مادَّة التّوراة بمثابة العدسة المكبرة التي ينظر العلماء من خلالها إلى القرآن، وترتب على هذه الرّؤية التّوراتية تغييب وزحزحة مفاهيم وحقائق قرآنية لصالح مفاهيم وأخبار وأساطير أهل الكتاب، فالقرآن كنص لم يتحرف أبداً، وإنَّما تحرف كتأويل ودراسة، وقد نجح بذلك المغرضون من الثّقافات الوافدة إلى الثّقافة الإسلامية.
ومن المفاهيم الوافدة التي دخلت إلى الثّقافة الإسلامية واندرجت تحت نُصُوص قرآنية مستغلين دلالات لغوية قاموا بتعبئتها حسب احتمالها اللُّغوي هو مفهوم الكائن الجني الشّبحي، ومرروا هذه الأسطورة التّاريخية التي تم نسجها في الخيال الشّعبي منذ آلاف السّنين نتيجة غياب العلم والوعي وعدم استطاعة الإنسان حينئذ من معرفة أسباب الظّواهر التي تحدث له ولغيره، ومن حوله مع وُجُود طبقة من النّاس لهم مصلحة في تكريس مثل هذه المفاهيم، فقاموا بتعزيزها في أذهان النّاس حتَّى صارت عقيدة يتوارثها الأجيال، ولم تسلم منها الرّسالات الإلهية، وذلك لاستمرار وُجُود هذه الطّبقة النّفعية المستغلة، فأدخلوا هذه العقيدة إلى مضمون الرّسالات الإلهية من خلال استخدام دلالات الكلمة وسلطة النّص الإلهي. فقاموا ببناء مفهومهم من أهداب الكلمات، وجعلوها تنطق بما يريدون إيجاده في أذهان النّاس مستغلين القابلية لهذه المفاهيم في المخيال الاجتماعي المتوارث بين مجتمعات أهل الأرض قاطبة!!.
لذا ،ينبغي استبعاد تأثير هذه الطّبقة الهامانية من الثّقافة الإسلامية، واستبعاد الأسطورة الشّعبية من الأذهان، وتغيير طريقة دراستنا للمفاهيم التي كانت من الكلمات إلى الواقع، وجعلها من الواقع إلى الكلمات، فالواقع هو محل الخطاب، وبالتّالي هو الذي يوجه دلالات النّص، وتُعبَّأ الكلمات بالدّلالات حسب ما يملي عليها الوُجُود الموضوعي، لأنَّ المسميات توجد قبل أسمائها. ( )
لننظر الآن بتجرد موضوعي إلى كلمة (الجن) في الاستخدام القرآني كيف أتت دلالتها مختلفة عن الموروث الثّقافي الشّعبي، وكيف أن دلالتها في القرآن ليست واحدة،رغم أن مفهومها اللساني واحد، و تختلف حسب اختلاف محل الخطاب من الواقع.
1 ـ أتت كلمة (الجن) تدل على نوع من الأفاعي. قال تعالى:( فلما رآها تهتز كأنها جان ولّى مدبراً ولم يعقب) النّمل 10.
2 ـ أتت كلمة (الجن) تدل على الكائن البشري في بطن أمه كونه غائبا عن الأعين.
قال تعالى: ( هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وأنتم أجنة في بطون أمهاتكم ) النّجم 32.
3 ـ أتت كلمة الجن تدل على الملائكة كونها مخلوقات غائبة عن الأعين.
قال تعالى: ( وجعلوا بينه وبين الِِجنَّة نسباً ) الصّافات 158.
وذلك عندما قال الكافرون إن الملائكة هي إناث وهي أولاد الله عز وجل، راجع سياق الآية.
4 ـ أتت كلمة الجن تدل على شدة اسوداد اللّيل وحجبه للأشياء.
قال تعال ( فلما جنَّ عليه الليل رءا كوكباً قال هذا ربي ) الأنعام 76.
5 ـ أتت كلمة الجن تدل على غياب العقل والإدراك.
قال تعالى: ( إن هو إلا رجلٌ به جِنَّة فتربصوا به حتى حين ) المؤمنون 25.
6 ـ أتت كلمة الجن تدل على المكان المليء بالأشجار الكبيرة التي تظلل الأرض وتخفيها.
قال تعالى:( فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب ) المؤمنون 19.
7 ـ أتت كلمة الجن تدل على مكان الثّواب الذي أعده الله عز وجل في اليوم الآخر.
قال تعالى: ( بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار ) الحديد 12.
8 ـ أتت كلمة الجن تدل على الاحتجاب والاختباء والتّحصن وراء الشّيء.
قال تعالى: (واتخذوا أيمانهم جُنَّة فصدوا عن سبيل الله ) المنافقون 2.
9 ـ أتت كلمة الجن تدل على القوم الغرباء المجهولي الهوية.
قال تعالى: ( قل أوحي إلي أنه أستمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً) الجن 1.
والذي يريد أن يدرس مفهوم الجن في القرآن يجب أن ينتبه لعدة أمور ويأخذها بعين الجدية ويعتمد عليها في دراسته لتحديد مفهوم الجن في القرآن وهي:
الأمر الأول: النّص القرآني لم يتوجه بالخطاب التّشريعي لغير الإنسان، فلا يُوجد تشريع لجنس آخر في القرآن، ومن المعلوم أنَّ القرآن خطاب للإنس والجن بدليل التّكليف والحساب لهم.
الأمر الثّاني: أنَّ الجن والإنس يُوجد بينهما تداخل في العلاقات الاجتماعية والثّقافية ويؤثرون في بعضهم بعضاً أي أنهم يعيشون في عالم واحد.
الأمر الثّالث: أنَّ الرّسل لا يبعثها الله إلا من جنس قومها، والرّسل للبشر، هم من البشر، ولا يُوجد رسل من الجن للجن.
قال تعالى: ( يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم ) الأنعام 130.
قال تعالى: ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ) إبراهيم 4.
الأمر الرّابع: أن رسالة الإسلام موجهة للنّاس فقط.
قال تعالى: ( وما أرسلناك غلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ) سبأ 28.
قال تعالى: )يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً ) الأعراف 158.
إذاً ، الكائنات الجنية العاقلة التي ذكرها القرآن إنَّما هي من بني آدم كجنس أي مخلوقة من التّراب والماء (الطّين) وداخلة في الخطاب الإلهي (يا أيها النّاس) وبالتّالي فكلمة الجن ليست اسماً لجنس وإنَّما تدل على كائنات توصف بالجن (الاختباء والغياب والمجهولي الهوية وما شابه ذلك)( )، ومن هذا الوجه ظهر في الأدب العربي ما يسمى بشعر الجن وأدبه، ويقصد بذلك الشّعر المجهول قائله.
وبناء على معطيات الواقع ودراسة النّص كمنظومة واحدة منسجمة مع الواقع نصل إلى أنَّ النّفس هي الكائن الجني الموجود في الجسم البشري، وهي المسؤولة عن قيادة وإدارة هذا الجسم، وهي التي تتمتع بوُجُود واعي عاقل، وهي التي تميز شخصية الإنسان وهويته عن الآخر. فيكون القرآن قد ذكر المادَّة التي تم خلق البشر منها، وذكر المادَّة التي تم خلق النّفس منها وذلك في سياق واحد.
قال تعالى: ) خلق الإنسان من صلصال كالفخار ، وخلق الجان من مارج من نار ) الرّحمن 14 ـ 15.
وذكر كلمة الإنسان في النّص من باب الأصل لأن من المعلوم أنَّ الإنسان تم وُجُوده من خلال التّكاثر والولادة من ماء مَهين وليس من طين.انظر قوله تعالى: ( وبدأ خلق الإنسان من طين ، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ) السّجدة 7 ـ 8.
إذاً ، القرآن لم يهمل أصل مادَّة خلق النّفس، ولقد ذكر ذلك صراحة بأنها مخلوقة من مارج من نار، أي من خلاصة اختلاط واضطراب ألسنة النّار الصّاعدة الملتهبة.
ولأهمية موضوع خلق الجن وحتَّى لا يكون المفهوم التّراثي عقبة يمنع القارئ من قَبول ما ذكرت عن خلق مادَّة النّفس وأنها هي المعنية بكلمة الجانَّ في النص، وبالتّالي فهي مخلوقة من مارج من النّار كما أخبر الرّب في كتابه اقتضى ذلك منّا التّطرق إلى النّص القرآني التّالي:
) قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين، قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ) ص 75 ـ 76.
وذلك لمساعدة القارئ في عملية الفهم الكلي للموضوع من خلال المنظومات القرآنية والواقعية، وعدم اقتطاع أي جزء من المنظومة لأن ذلك يُؤدِّي إلى الشّطط والوهم في الفهم، والوُصُول إلى نتائج غير حقيقية. وبناء على ما ذكرت من أُطُرٍ للمنظومة نفهم النّص المعني بالتّفسير من خلال وضعه في مكانه المناسب من المنظومة حتَّى يكمل معنا المنظر الكامل للوحة، ولا نقع بالتّصادم بين الأجزاء ولا نشوه الحقيقة.
ـ أول أمر ينبغي ملاحظته في النّص أنَّ الكلام المعني بالدّراسة إنَّما جرى على لسان إبليس، فهذا الكلام يعبر عمّا بداخل إبليس، وليس بالضّرورة أن يكون حقاً في الواقع. فالقرآن ذكره كخبر عمّا جرى على لسان إبليس وليس تقريراً لمضمونه.
ـ الأمر الثّاني: هو أنَّ النّص استخدم كلمة (بشراً) في النّص الذي قبله ولم يستخدم كلمة(إنسانا). وبالتّالي فالبشر فعلاً قد تم خلقه ابتداء من حيث الأصل من طين. وعندما تكلم إبليس عن ذاته استخدم الجانب المخفي فيه وهي النّفس فذكر أنها خلقت من النّار.
فإبليس استخدم في جوابه صفة التّدليس والتّغابي عندما ذكر مادَّة خلق الجسد بالنّسبة لآدم التي هي الطّين، وتغافل عن مادَّة خلق نفس آدم من النّار. فقام بإغفال مادَّة النّار في خلق نفس آدم، وإغفال مادَّة الطّين في خلق جسمه، فقال: خلقتني من نار وخلقته من طين. رغم أن كلاهما مخلوقان من طين ونار كإنسان لذلك نلاحظ أنَّ الرّب لم يستمر بالحوار معه! رغم أنَّ القرآن يأخذ الحوار على محمل الجد! وذلك لأنَّ الفكرة التي ذكرها إبليس كسبب لعدم سجوده هي فكرة واهية غبية لا تخرج إلا من متكبر حسود حقود. فأنهى الرّب الحوار بلعن إبليس وذمه على طريقة تفكيره وتناوله للأمور بصُورة غبية وتدليس مكشوف ظاهر لكل ذي رأي. نحو أن يقول أحدهم متفاخراً على الآخر: أن جسمه يُوجد فيه عظام بينما جسم الآخر يُوجد فيه اللّحم!. أو أن يقول: إن دمي فيه كريات بيضاء، ودمك فيه كريات حمراء!. وما شابه ذلك من أقوال غبية لا تصدر إلا من قاصر أو من مكابر للحقيقة!!.
لذا، لا يصح أخذ ظاهر هذا النّص مقتطعاً من منظومته، وبناء مفهوم كامل عليه، وإنَّما ينبغي إرجاعه ووضعه في مكانه من المنظومة ضمن الأطر العامَّة التي تحكم اللّوحة.
وتابع النّص القرآني ذكر خلق النّفس بقوله تعالى:
) يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء) النّساء 1.
فعملية الخلق للنّفس تمت ابتداء من مارج من نار، ومن هذه النّفس الأولى تم خلق زوجها، وكلمة زوج تطلق على الفرد من الزّوجين، فالواحد منهما زوج، وذلك لأنه لا يمكن وُجُود أحدهما دون الآخر. ممَّا يُؤكِّد أن كِلا الزّوجين كانا كامنين في النّفس الأولى في عملية الخلق لها، وعندما تم خلق الزّوج منها ظهر في واقع الحال زوجان مُباشرة، أحدهما: الرّجل، والآخر: المرأة. دون أسبقية أحدهما على الآخر، ولا يهم مَنْ الزّوج الذي تم خلقه من النّفس، فسواء أكان الرّجل أم المرأة فظُهُورهما كانا في وقت واحد. وكلمة زوجان لا تطلق إلاَّ على الاثنين اللّذين يشكلان مع بعضهما حالة الانسجام والتّلاؤم والتّكامل في الوظيفة، فالذّكر والذّكر ليسا زوجين، وكذلك الأنثى والأنثى ليسا زوجين لعدم وُجُود تكامل بينهما في الوظيفة الحياتية، بينما الذّكر والأنثى زوجان. قال تعالى:( وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى ) النّجم 45.
وذلك لأنهما مع بعضهما يقومان بدورها بصُورة تكاملية منسجمة ومتلائمة مع منظومة الحياة، وبالتّالي فالمقولة التي تقول: إن الأنثى هي الأصل، أو الذّكر هو الأصل، كلاهما باطل من حيث الواقع.
وبعد أن تم ظُهُور الزّوجان (الذّكر والأنثى) من البشر على أرض الواقع وتم نفخ النّفس فيهما.. تمت عملية البث للنّفوس رجالاً ونساء في الزّوجين، كون دلالة كلمة الرّجال والنّساء لا تطلق إلا على الإنسان بينما الحيوانات نطلق عليها الذّكور والإناث.
والزّوجية في النّفوس تلائم الزّوجية في الأجسام، فكما أن هناك ذكر وأنثى يُوجد أيضاً رجل وامرأة، ليصير في الواقع انسجام بين نفس المرأة وجسمها الأنثوي، ونفس الرّجل وجسمه الذّكوري، ويظهران في الواقع متكاملين منسجمين نفسياً وجسمياً كزوجين، ومن هذا الوجه ندرك بطلان دعوة المساواة بين الرّجل والمرأة لاختلافهما نفسياً وجسمياً فطرة ووظيفة، والعلاقة بينهما علاقة تكامل قائمة على الانسجام والتّلاؤم النّفسي والجسمي، أما فيما يتعلق بالواجبات والحُقُوق فلا شك أن كليهما يشكلان الإنسان، وأي دراسة للإنسان يجب أن تقوم على الدّراسة الزّوجية للرَّجل والمرأة، والذّكر والأنثى معاً دون تفريق، وأي استبعاد لأحدهما فالدّراسة قاصرة وناقصة ومشوهة النّتائج.
وينبغي ملاحظة أمر هام أثناء دراسة النّص القرآني وهو أنَّ الأصل في الخطاب الإلهي إنَّما هو خطاب إنساني (رجل وامرأة) والتّخصيص لأحدهما دون الآخر لابُدَّ له من قرينة عقلية أو نقلية تنص على ذلك.
إن عملية خلق النّفس لم تمر بعملية التّطور مثل الجسم، وإنَّما هي خلق مُباشر لنفس واحدة ومن هذه النّفس ظهر زوجها ليصيرا في الواقع زوجين ومنهما تمت عملية البث للنّفوس في الأجنة البشرية في بطون أمهاتهم وذلك عند وُصُول الجنين إلى مرحلة التّسوية والتّعديل لجسمه ويصير كائناً بشرياً عندئذ يتم نفخ النّفس فيه فيصير إنساناً. فالنّفوس من حيث أصل الخلق ووُجُودها إنَّما هي متماثلة، والفرق بين النّفوس يتأتى من عملية استخدام النّفس وتفعيلها بالمفاهيم والمعلومات، فلذلك كان للبيئة الدّور الأكبر والأساس في صنع النّفس ابتداء من الأسرة وانتهاء بالمدرسة والمجتمع، فالنّفس كنفس قابلة لأن تكون نفس صالحة وذلك بتزكيتها، وقابلة لأن تكون نفس شريرة وذلك بتدسيتها، والنّفس تتميز عن النّفس الأخرى عندما تدخل الجنين البشري ويبدأ هذا الكائن في عملية تفعيل نفسه بواسطة تفاعله مع البيئة، فتظهر نفس زيد، وأخرى نفس عمرو، وهكذا تتمايز النّفوس، وتختلف عن بعضها ويظهر استقلالها الفردي في الواقع.
[ كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه...] فالإنسان ابن بيئته الاجتماعية والغذائية ابتداء، وابن اختياره وعياً ورشداً ثانياً.
قال تعالى:( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) الرّوم 21.
إن الخطاب موجه إلى الإنسان بشقيه (الرّجل والمرأة) على حد سواء، يخبر الخالق أنَّ الرّجل يسكن إلى المرأة، والمرأة تسكن إلى الرّجل، وتم جعل بينهما مودة ورحمة، وذلك لحالة التّكامل والانسجام والتّلاؤم بينهما فيقومان معاً بإنشاء أسرة قائمة على السّكن والمودة والرّحمة والدّفء العاطفي.
وقد جعل الرّب هذه العلاقة آية من آياته حضَّ على دراستها وتحصيل المعلومات عنها للوُصُول إلى بناء النّظام الاجتماعي، لذلك أنهى النّص بقوله (لقوم يتفكرون ). وبما أن أصل خلق الجسم البشري إنَّما هو يرجع إلى مادَّة التّراب، وأصل خلق النّفس هو من مارج من نار، قال تعالى: ( ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة ) لقمان 28. فأمر الخلق والبعث للنّاس بعد الموت هو أمر هين وسهل على الخالق المدبر بل هو أهون من ذلك تماماً، لأنَّ الفعل فعله، ومن يفعل شيئاً يستطيع أن يعيده بداهة، كما أن هذه الصّور للأجسام إنَّما هي من مادَّة واحدة (التّراب والماء) قد ظهرت بصُور كثيرة، أما النّفوس فتجمع بعد انفصالها عن الأجساد إلى أن يحين يوم البعث. قال تعالى:(وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون) الأنعام 98.
فالاستقرار: هو حالة لبوس النّفس للجسم في الحياة الدّنيا والعيش من خلاله.
المستودع: هو مكان لتجمع النّفوس فيه بعد انفصالها عن الأجساد.
وعندما دخلت النّفس في الكائن البشري نتيجة النفخة الروحية، تم تفعيل جهاز التّمييز الثّلاثي عند الإنسان، وصار يعقل ويفكر ويدرك نفسه وغيره بصُورة واعية [ أنا أفكر إذن أنا موجود ] ممَّا يُؤكِّد أنَّ النّفس هي أشبه بنظام متماسك مؤلف من قواعد وأسس يتم من خلالها تسيير الكائن البشري، والأمر أشبه بجهاز الكومبيوتر فهو جهاز إلكتروني يعمل بالطّاقة الكهربائية مسير بنظام ينزل فيه، فتتم إدارته والسّيطرة عليه وفق النّظام، فإذا تعطل الجهاز توقف تفاعل النّظام وظُهُوره على أرض الواقع، وكذلك إذا تعطل النّظام بفيروس أو أي شيء آخر ظهر الاضطراب والعطل والخطأ في الأعمال التي يقوم بها النّظام.
والنّفس هي أشبه بنظام برمجي معلوماتي تموضع في الدّماغ، ومن خلاله تقوم النّفس بتسيير الإنسان وإدارته وفق الأسس والقواعد الموجودة في النّفس فعندما يموت الإنسان نتيجة انتهاء صلاحية جسمه سواء أكان ذلك بانتهاء عمره الافتراضي، أم بفعل فاعل، أم بمرض قاتل، تخرج نفسه من الجسم ليتم الاحتفاظ بها في مكان معين، ويرجع الجسد إلى الأرض ليتحلل إلى عناصره الأولى، ولا شك أنَّ الدّماغ هو عضو مادي يتحلل ويرجع إلى عناصره الأولى مثل الجسد تماماً، ولكن الإنسان (زيد) مثلاً لا يفنى كنفس، وما اكتسبه من شخصية ومعلومات محفوظ في النّفس، فزيد هو النّفس وليس الجسم.
فالجسم فان، والنّفس خالدة مستمرة، ولكن لا يمكن لهذه النّفس من أن تتواصل مع الواقع إلا من خلال الجسم، مثلها كمثل نظام ويندوز والجهاز الإلكتروني. فنظام ويندوز لا يمكن أن يظهر أو يتفعل إلا من خلال جهاز الكومبيوتر. فإذا أتينا بجهاز محدد وأنزلنا نظام ويندوز فيه فالذي يظهر ويتفعل هو النّظام من خلال الجهاز. وكذلك النّفس عندما تدخل إلى الجسم وتنزل فيه تظهر وتتفعل في الواقع وتتواصل معه، وهذا ما يحصل يوم القيامة تماماً عندما يطلب الله الخالق المدبر من الأجساد أن تنبت وتخرج من الأرض، فتقوم بإذن الله، ثم يأمر النّفوس أن تدخل كل واحدة إلى جسمها (الدّماغ) فيظهر الإنسان الواعي المدرك ويتواصل مع الواقع ويتفعل جهاز التّمييز الثّلاثي (السّمع والبصر والفؤاد).
قال تعالى : ( وإذا النفوس زوجت ) التّكوير 7.
فتزويج النّفوس هو إدخال وإنزال النّفس في الجسم (الدّماغ) فيتم الوعي والإدراك لما اكتسب الإنسان في الحياة الدّنيا، وترجع المعلومات كلها إلى ذاكرته ويتم الحساب للنّفس المتموضعة في الدّماغ المسيرة للجسم، فيكون الثّواب والعقاب للنّفس المتلبسة بالجسم (فيزيولوجي وسيكولوجي). ولننظر الآن إلى طبيعة النّفس كنظام برمجي معلوماتي ماذا يُوجد في داخلها وما هي صفاتها.
دعوة للتبرع
الاعراض عنهم : بعد ما بدات اقراء فى المنه ج القرا نى اشتد...
ابن عربى : بدون شك قد قرأتم تفسير القرآ ن لابن...
الحتميات والسعى : هل نفهم من قوله تعالى ( وابتغ وا ما كتب الله...
نادم على ظلمى زوجتى: أستاذ ي الفاظ ل السلا م عليكم قرأت جميع...
أجر القول بالمعروف: هل اذا امر الانس ان انسان ا بالمع روف ونهي...
more
عنوانه كان (خلق الانسان بين العلم و القران)
حيث فسر الاية الكريمه (و اذا النفوس زوجت)مشابه تماما لما توصلت اليه و هو باعادة كل روح الى جسدها الذي فارقته عند الموت
و كذلك كقول الله تعالى:
(خلقكم من نفس واحده ثم جعل منها زوجها)الزمر6
و قوله تعالى:
(يايها الناس اتقو ربكم الذي خلقكم من نفس واحده و خلق منها زوجها)
هذه النفس لا تعني ادم كما يقول الكاتب و خلق منها زوجها لا تعني خلق حواء من ضلع اعوج!
بل المعنى الذي يقصده الله تعالى هو انني خلقتكم من نفس واحده هي النفس البشريه و خلقت لكم ازواجكم من تلك النفس...اي خلقت للذكور اناثا و خلقت للاناث ذكورا...
اي انناخلقنا جميعا نوعا واحدا من جسد و روح
و شكرا مره ثانيه للمقاله