التصوف والأخلاق فى المجتمع المصرى المملوكى

Brahim إبراهيم Daddi دادي Ýí 2014-05-03


 

 

التصوف والأخلاق فى المجتمع

المصرى المملوكى

المؤلف/د./ أحمد صبحى منصور

 

 

نكاح المحرمات :

      فالصوفية يعتقدون أن كل وجه جميل إنما هو مظهر لجمال الله ، لذا فالعقيدة الصوفية لاتحرم الزنى وشيخهم ابن عربى(كان لايحرم فرجا)[1] ، وبعض الصوفية أعلنها صراحة ولم يبال باعتراض الناس بل تعدى إلى استحلال المحارم مثل الأم والبنت والأخت ، وأبرز مثل ذلك هو الشيخ عفيف الدين التلمسانى تلميذ ابن عربى، الذى كان( لايحرم فرجا وأن عنده ما ثمَ ولاغير ــ أى لايوجد سوى الله فالله هو الكون ، وأن العبد إنما يشهد السوى ــ أى غير الله ــ إذا كان محجوبا ، فإذا انكشف حجابه ورأى أن ماثمًَ غيره ــ أى ماهنالك غير الله ــ تبين له الأمر ، ولهذا كان يقول : نكاح الأم والبنت والأجنبية واحد وإنما هؤلاء المحجوبون ــ أى غير الصوفية ــ قالوا حرام علينا ، فقلنا حرام عليكم)[2]

      وتوافد صوفية المشرق لمصر المملوكية واتسموا بصراحتهم في إعلان عقائدهم بوضوح ، ولأنهم فقراء مهاجرون ملأوا طرقات القاهرة فقد استنكر الناس أفعالهم ، وقال عنهم المقريزى( ينتحلون مذاهب الإلحاد ، ويصرحون بتعطيل الصانع تعالى ، وينكرون شرائع الأنبياء ، ويجهرون بإباحة المحرمات)[3]. أى إباحة الزنا بالمحرمات في الزواج كالأم والبنت .

       ويبدو أنه كان من بين أولئك الوافدين من صوفية المشرق أتباع لطائفة الحروفية أو النسيمية، وقد أعلنوا إباحة المحرمات من النساء ، وقد قتل زعيمهم التبريزى(ت سنة820 هـ)وقيل فيه ( قتل الشيخ نسيم الدين التبريزى نزيل حلب وهو شيخ الحروفية، وقد قرر نسيم الدين أن الشرائع أباطيل لاحقائق ، وأنه لا إله ،( وقد وصل في ضلاله إلى أن وطأ ابنته واتخذها كالزوجات إلى أن أولدها ولدا). وقد سكن حلب وكثر أتباعه وشاعت بدعته فأمر السلطان بقتله)[4]، إذا فقد  انتشرت طوائف النسيمية الذين أعلنوا وطبقوا ماقاله فلاسفة التصوف كابن عربى وعفيف الدين التلمسانى، بل أن أتباع النسيمى تكاثروا بعد موته ووصلوا إلى مصر ضمن التوافد الصوفي إلى القاهرة عاصمة الدولة المملوكية المسيطرة على أهم مراكز العالم الإسلامى، فبعد مقتل النسيمى بثمانية عشر عاما، يقول ابن حجر في حوادث سنة   838 (حضر للسلطان شريف من الشام بأوراق فيما يتعلق بالنسيمى وشيخه فضل الله وأن بالشام ومصر جماعة على عقيدته وأنه تصدى لتتبعهم) [5].

      وهكذا فقد أتاح التصوف نشر الإنحلال الخلقى مع المحارم كالأم والبنت ، ومن الطبيعى أن ينتشر أكثر الإنحلال الخلقى الطبيعى مع النساء الأجنبيات ، بل أن يمارس على أنه نوع من التدينٍ ، طالما أن له جذورا دينية ، ولعل ابن تيمية هو الذى فطن إلى ذلك بسبب صراعه مع الصوفية وأعوانهم المعتقدين فيهم والذين تأثروا بهم، يقول ابن تيمية في قوله تعالى عن ابليس (إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون) (وفي هذا الوصف نصيب كبير لكثير من المنتسبين إلى القبلة من الصوفية والعباد والأمراء والأجناد والمتفلسفة والمتكلمين والعامة وغيرهم، يستحلون من الفواحش ما حرم الله ورسوله ظانين أن الله أباحه، أو تقليدا لأسلافهم ، وأصله العشق الذى يبغضه الله ، فكثير منهم يجعله دينا ويرى أنه يتقرب به إلى الله إما لزعمه أنه يزكى نفسه ، ويهذبها، وإما لزعمه أنه يجمع بذلك قلبه على أدمى ثم ينقله إلى عبادة الله وحده ، وإما لزعمه أن الصور الجميلة مظاهر الحق ومشاهده، ويسميها مظاهر الجمال الأحدى ، وإما لاعتقاده حلول الرب فيها واتحاده بها ، ولذا تجد بين نساك هؤلاء وفقرائهم وامرائهم وأصحابهم توافقا وتآلفا على إتخاذ أنداد من دون الله يحبونهم كحب الله ، إما تدينا وإما شهوة، وإما جمعا بين الأمرين ، ولهذا يتآلفون ويجتمعون على السماع الشيطانى الذى يهيج الحب المشترك فيهيج من كل قلب مافيه من الحب)[6]

       وواضح في ذلك النص أن كثيرين تأثروا بمقالة الصوفية من الأمراء والأجناد والفلاسفة والمتكلمين والعامة ، وما أسهل انتشار دعوات الإنحلال خصوصا إذا صبغت بالدين ، وكان الصوفية هم الأولياء والمعلمون في العصر والأئمة في التطبيق، ويقرر ابن تيمية أنهم جعلوا الإنحلال الخلقى دينا يتقربون به لله ، وأورد حججهم مثل تزكية النفس أو إتخاذ المعشوق واسطة تقربهم لله ، أو أن الصور الجميلة مظاهر يتجلى فيها الله ، وهو نفس مايقرره ابن عربى وغيره في كتبهم التى كانت منتشرة في العصر تحظى بالإهتمام والرعاية ، ثم ذكر ابن تيمية أنهم كانوا يمارسون الإنحلال في صورة جماعية في السماع الصوفي، أو حفلات الذكر التى يحضرها النساء والصبيان ، وقد جمَلوهم بالألوان والأصباغ، حتى تهيج الشهوات ، ويستدلون بالصنعة على الصانع في زعمهم ، وقد كان ذلك عادة لهم حتى قبل العصر المملوكى ، فيقول عنهم ابن الجوزى في القرن السادس (ويصحبون المردان في السماعات يجملونهم في الجموع في ضوء الشموع، ويخالطون النسوة الأجانب، ينصبون لذلك حجة ألبساهن الخرقة)[7]. أى أدخالهن في الطريق الصوفي. ومخالطة النساء أو الاختلاط بالنساء هو اصطلاح الفقهاء الذى يعبر عن الزنا.

       " وحدة الفاعل" ثم من مظاهر عقيدة الوجود أن الله هو الفاعل لكل حركة، باعتبار أنه موجود في داخل كل إنسان ، أو مايعبر عنهم الصوفية بقولهم وحدة الفاعل . يقول الغزالى ( وحاصلة أن يتكشف لك أن لا فاعل إلا الله تعالى ، وأن كل موجود من خلق  ورزق وعطاء ومنع وحياة وموت وغنى وفقر إلى غير ذلك مما ينطق عليه اسم، فالمتفرد بإبداعه واختراعه هو الله لاشريك له فيه ، وإذا انكشف لك هذا لم تنظر إلى غيره ، فإنه الفاعل على إنفراد دون غيره، وماسواه مسخرون له لا استقلال لهم بتحريك ذرة في ملكوت السماوات والأرض)[8]

       والغزالى يخلط عامدا بين قدرة الله واختبار العبد ليؤكد صلة عقيدته الصوفية في وحدة الفاعل بالإسلام ، والواقع القرآنى يؤكد على أن الله هو خالق كل شىء( ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شىء..الأنعام 102 )، والله هو الذى سمح للبشر بمساحة من الاختيار فترك الحرية للإنسان في التفكير والمشيئة وترك له الحرية في العمل  فقال( أعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير ..فصلت 40 ) ، وترك له الحرية في الإيمان أو الكفر فقال( وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر .. الكهف 29)، والآيات السابقة ختمت بتقرير مسئولية البشر أمام الله حيث سيحاسبهم يوم القيامة على هذه الحرية التى سمح لهم بها ، بل على أساس هذه الحرية تمتع الصوفية مثلا بحريته في الكفر والعصيان وكتب الغزالى وأمثاله مايخالف آيات الله التى حاول التلاعب بها لتتفق مع عقيدته .

       وقد فصل الغزالى القول في تقرير وحدة الفاعل وربط أفعال البشر بقضاء الله وقدره ليثبت أن لا مسئولية على العصاة فيقول مثلا ( ولاينبغى أن تقول هذا فعلى .. بل هو الذى صرف داعيتك لتخصيص الفعل المكروه بالشخص المكروه والفعل المحبوب بالشخص المحبوب)[9]. فالغزالى هنا ينسب الفعل المكروه لله خلافا للقرآن الذى ينسب العمل الصالح لهداية الله والعمل السيئ لابتعاد النفس عن هدى الله ، يقول الله تعالى للرسول:

( ما أصابك من حسنة فمن الله ،وما أصابك من سيئة فمن نفسك ، وأرسلناك للناس رسولا .. النساء 79 )، والهداية تبدأ من النفس البشرية باختيارهم ثم يزيدها الله هدى ( والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم : محمد 17 )، ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وأن الله لمع المحسنين: العنكبوت 69)، إلا أن الغزالى جعل البشر مجرمهم وصالحهم أوراقا يحركها الله بلا إرادة منهم ، يقول( والعلماء يعلمون أنهم محركون، إلا أنهم لايعرفون كيفية التحريك ، وهم الأكثرون إلا العارفون ، والعلماء الراسخون فإنهم أدركوا بحدة أبصارهم خيوطا دقيقة عنكبوتية بل أدق منها بكثير معلقة بين السماء متشبثة الأطراف بأهل الأرض .. ثم شاهدوا رءوس تلك الخيوط في مناطات لها هى معلقة بها،وشاهدوا لتلك المناطات مقابض هى في أيدى الملائكة المحركين للسموات وشاهدوا أيضا ملائكة السماوات مصروفة إلى حملة العرش ينتظرون منهم ما ينزل عليهم من الأمر من حضرة الربوبية، كى لا يعصوا الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون)[10]. وصارت وحدة الفاعل من مصطلحات الصوفية تعرف بالعبودية ومحو عين العبد، أى( إسقاط إضافة الوجود إلى الأعيان ، فإن الأعيان شئون ذاتية ظهرت في الحضرة الواحدة، أى الله، إلا أن وجود الحق ظهر فيها مع كونها ممكنات معدومة لها آثار في الوجود الظاهر بها) ( والوجود ليس إلا عين الحق تعالى، والإضافة ليست لها وجود في الخارج ، والأفعال والتأثيرات ليست إلا تابعة للوجود، إذ المعدوم لايؤثر، فلا فاعل ولا موجود إلا الله تعالى ، فهو العابد باعتبار تعينه وتقيده بصورة العبد.. وهو المعبود باعتبار إطلاقه)[11] أى وصفوا الله بأنه العابد وأنه المعبود، ووصفوا الإنسان بأنه العابد والمعبود تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

       والخطورة الأخلاقية في (وحدة الفاعل) أن الصوفية يبرئون المجرم من جريمته وينسبون الجريمة لله باعتبار أنه الفاعل وحده ،أما المجرم من البشر فلا إرادة له فيما يرتكب ، ولأن كل الأ فعال من الله،وقد جعل الغزالى من هذه المقالة أساسا في ( التوحيد الصوفي) فيقول: ولست أعنى بالتوحيد أن يقول بلسانه لا إله إلا الله .. فلا ينفع القول بلسانه ، وإنما ينفع الصدق في التوحيد ، وكمال التوحيد أن لايرى الأمور كلها إلا من الله ، وعلامته أن لايغضب على أحد من الخلق بما يجرى عليه ، إذ لايرى الوسائط ، وإنما يرى مسبب الأسباب)[12]. فمن كمال التوحيد عندهم ألا يغضب المظلوم من ظالمه ، بل ينسب الإثم لله لا للبشر ،  وصار من اصطلاحاتهم(الموت الأسود) وهو (احتمال الأذى من الخلق .. لكون يراه من محبوبه)[13]. أى من الله ، تعالى عن ذلك علو كبيرا ..

        ويساوى الصوفية على هذا بين الحسنة والسيئة، وبين الصالحين والعصاة ، والمؤمنين والكفرة، فكل هذه الأعمال من الله لا من البشر،فيقول أبو سليمان الدارانى( ليس أعمال الخلق بالذى يسخطه ولا بالذى يرضيه ، وإنما رضى عن قوم فاستعملهم بعمل أهل الرضا، وسخط على قوم فاستعملهم بعمل أهل السخط)[14].وأعطى الصوفية ذلك المعنى اصطلاحا هو ( جمع الجمع) ( وهو تصريف الحق جميع الخلق ، فجمع الكل في التقليب والتصريف من حيث أنه منشىء ذواتهم ومجرى صفاتهم ، ثم فرقهم في التنويع ، فريقا أسعدهم وفريقا أبعدهم وأشقاهم وفريقا  أضلهم وعماهم )[15]. ولذلك دافع ابن عربى عن المشركين من الأمم السابقة من قوم نوح وقوم عاد ، وفرعون .

         ولكن لايمكن أن تستوى الحسنة مع السيئة( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة .. فصلت 34 ) كما لايمكن أن يتساوى الفاجر بالصالح( أفنجعل المسلمين كالمجرمين ؟ مالكم؟ كيف تحكمون؟ أم لكم كتاب فيه تدرسون أن لكم فيه لما تخيرون؟ .. القلم ــ 35).

            ومادام التصوف يساوى العصيان بالصلاح وينسب الفعل السىء لله لا للبشر ومادامت النفوس تميل للرذائل فالعصيان أقرب للهوى ، والصوفي باختياره للعصيان إنما يختار ماقضى به الله في زعمهم، وقد اقترب بعضهم من هذا المعنى حين قال ( مادام العبد يتعرف فيقال لا تختر شيئا ولاتختر ولاتكن مع اختيارك ، فإذا عرف وصار عارفا ــ أى تصوف ــ فيقال له إن شئت اختر وإن شئت لاتختر ، وأنك إن اخترت فباختيارنا اخترت ..)[16]. فالصوفي أوالعارف له أن يختار مايشاء واختياره هو اختيار الله ، ولأنه عارف صوفي فهو يعلم الغيب ويتمتع بالعلم اللدنى كما ادعى الجنيد نفسه [17].

         والصوفي الذى يدعى علم الغيب بزعمهم يستطيع أن يعلم المستقبل وما قدره الله له من معاصى ، وبذلك إذا وقع في معصية مثلا فلأنه عرف من علمه اللدنى أن وقوعه في المعصية قدر لافكاك منه . والجنيد سيد الطائفة وزعيم الصوفية المعتدلين القائل( العارف من نطق عن سرك وهو ساكت) هو نفسه الجنيد الذى سئل

( أيزنى العارف ) فأطرق مليَا ثم قال( وكان أمر الله قدرا مقدورا)[18]. فالجنيد الذى كان يستتر بالفقه ويقرر التصوف سرا ويدعى التزامه بالإسلام وقع في حيرة حين سئل سؤالا مباشرا عن إمكانية وقوع الصوفي في الزنا، فأطرق مليَا ثم استشهد بقوله تعالى( وكان أمر الله قدرا مقدورا) ويلمح بذلك إلى معرفة الصوفي بالغيب ، وأنه إذا عرف المقدر عليه فلا يستطيع منه فكاكا.

           أما الغزالى الذى يتقضى أثر الجنيد في التمسح بالإسلام فقد حاول أن يقرر نفس العقيدة من خلال أسطورة سبكها يقول فيها ( كان آصف بن برخيا من المسرفين وكانت معصيته في الجوارح فقد روى أن الله تعالى أوحى إلى سليمان عليه السلام : يا رأس العابدين .. إلى كم يعصينى ابن خالتك آصف وأنا أحلم عليه مرة بعد مرة ، فوعزتى وجلالى لإن أخذته عصفة من عصفاتى عليه لتركته مثلة لمن بعده ..فلما دخل آصف على سليمان أخبره بما أوحى الله تعالى به ، فخرج حتى علا كثيبا من رمل ثم رفع رأسه ، وقال: إلهى وسيدى أنت أنت وأنا أنا ، فكيف أتوب إن لم تتب على ؟ وكيف استعصم ؟ إن لم تعصمنى لأعودن، فأوحى الله تعالى إليه صدقت ياآصف أنت أنت وأنا أنا، أنا استقبل التوبة وقد تبت عليك وأنا التواب الرحيم)[19].. وفي النص الذى اخترعه الغزالى افتراء على الله بأنه يوحى إلى عاصى بزعمه ،وفيه تفضيل لذلك العاصى على الله ، لأن الله غضب على العاصى لعصيانه وهدده بأن يجعله عبرة لمن بعده ، ولكن بعد ماتكلم العاصى مع الله يفترى الغزالى أن الله قال له( صدقت ياآصف) أى كما لو أن الله ــ تعالى عن ذلك ــ أخطأ في الحكم الأول ، ثم اعتذر للعاصى حين أدرك عقيدة الصوفية في أنه الفاعل الوحيد للعصيان والتوبة معا .

          وربما لم يتنبه الغزالى لهذه السقطة الهائلة حين جعل الله كأنه يعتذر لبشر ،لأن غرض الغزالى حين ألف هذه الأسطورة هو تقرير عقيدة وحدة الفاعل الصوفية ونسبها لله افتراء كى تكتسب مشروعية، وبها فلا مسئولية على البشر إن عصوا ، فإن شاء الله تاب عليهم وإن شاء تركهم في عصيانهم ..

         والغزالى الذى يشجع على الإنحلال الخلقى إلى درجة الإفتراء السابق على الله هو نفسه الغزالى الذى إضطر للإنكار على صوفية عصره حين طبقوا تعاليم الغزالى فأثاروا عليهم الناس  ، وخشى الغزالى من أن يمتد إنكار الناس على الصوفية العصاة إلى إنكار على دين التصوف ، فهب يقطع الطريق على الفقهاء الأعداء التقليديين للصوفية ،فأخذ يهاجم بنفسه منحلى الصوفية وادعاءاتهم ، مع أن أقوالهم لاتختلف عما يقرره هو في نفس كتابه الأحياء ، فيقول عن صوفية عصره(طائفة وقعت في الإباحة ــ أى إباحة المحرمات وليس مجرد ارتكابها ــ وطووا بساط الشرع ، ورفضوا الأحكام ، وسووا بين الحلال والحرام)، وهو نفس مايحاول الغزالى إثباته بالأساطير المفتراه ،ثم يورد أقوالهم ( فبعضهم يزعم أن الله مستغن عن عملى فلم أتعب نفسى ، وبعضهم يقول قد كلف الله تطهير القلوب عن الشهوات وعن حب الدنيا وذلك محال ، فقد كلفوا مالم يكن ، وإنما يغتر به من لم يكن يجرب ، وأما نحن فقد جربنا وأدركنا أن ذلك محال ، وبعضهم يقول الأعمال بالجوارح لاوزن لها ، وإنما النظر إلى القلوب ، وقلوبنا والهة بحب الله وواصلة إلى معرفة الله ،وإنما نخوض في الدنيا بأبداننا وقلوبنا عاكفة في الحضرة الربوبية ، فنحن مع الشهوات بالظواهر لا بالقلوب ، ويزعمون أنهم قد ترقوا عن رتبة العوام واستغنوا عن تهذيب النفس بالأعمال البدنية ، وأن الشهوات لاتصدهم عن طريق الله لقوتهم فيها، ويرفعون أنفسهم على درجة الأنبياء .. إذ كانت تصدهم عن طريق الله خطيئة واحدة ) ثم يقول الغزالى في النهاية ( وأضاف غرور أهل الإباحة من المتشبهين بالصوفية ــ لا تحصى)[20] . وفي الجملة الأخيرة السبب الذى من أجله هاجمهم الغزالى ، فقد أنكر صلتهم بالصوفية وجعلهم متشبهين بالصوفية، وحرمهم من شرف الإنتماء لأمثاله حتى لا يعطى فرصة لخصومه الفقهاء .

        وقبل الغزالى كان الصوفية يمارسون نفس الانحلال الذى كان في عصر الغزالى، وفقا لعقيدة التصوف في وحدة الوجود ووحدة الفاعل ، فأضطر القشيرى ليكتب رسالته في الإنكار عليهم يقول في مقدمتها[21]: (رفضوا التمييز بين الحلال والحرام) وهو ما يماثل قول الغزالى أنهم وقعوا في إباحة المحرمات ( واستخفوا بأداء العبادات ، واستهانوا بالصوم والصلاة) أى أسقطوا التكاليف الإسلامية ( وركضوا في ميدان الغفلات ، وركنوا إلى إتباع الشهوات وقلة المبالاة بتعاطى المحظورات ، والارتفاق بما يأخذونه من السوق والنسوان) أى وقعوا في الإنحلال الخلقى ( ثم لم يرضوا بما تعاطوا من سوء هذه الأفعال ، حتى أشاروا إلى أعلا الحقائق والأحوال ، وأدعوا أنهم تحرروا عن رق الأغلال وتحققوا بحقائق الوصال) أى إدعوا الإتحاد بالله وتحرروا عن رق الجسد وتحققوا بالله وأصبحوا جزءا من الله ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا ( وتحققوا بحقائق الوصال ، وأنهم قائمون بالحق تجرى عليهم أحكامه وهم محو ، وليس لله عليهم فيما يؤثرونه أو يزرونه عتب ولا لوم) أى وحدة الفاعل فالله ــ بزعمهم ــ هو الذى يتصرف فيهم ، وقد انمحت ذواتهم فلا عتب ولا لوم عليهم فيما يقعون فيه من آثام ( وأنهم كوشفوا بأسرار الأحدية ، واختطفوا عنهم بالكلية ، وزالت عنهم أحكام البشرية) أى كاشفهم الله بأسراره وبالعلم اللدنى الإلهى ، وتحققت أرواحهم بالله فلم يعودوا كالبشر لتجرى عليهم أحكام البشر ( وبقوا بعد فنائهم عنهم بأنوار الصمدية) أى بقت أجسادهم على الأرض بعد أن فنت أرواحهم وتحققت بالله ، وذلك يشابه قول الغزالى السابق عن معاصريه أنهم يخوضون في الدنيا بأجسادهم وقلوبهم عاكفة في الحضرة الربوبية ، فهم مع الشهوات بالظواهر لا بالقلوب ، لذا فلا موجب للوم عليهم( وبقوا بعد فنائهم بأنوار الصمدية ، والقائل غيرهم إذا نطقوا والنائب عنهم سواهم فيما تصرفوا) أى أن الفاعل هو الله لا هم .. ثم يقول القشيرى ( ولما طال الإبتلاء فيما نحن فيه من الزمان بما لوحت بعضه من هذه القصة ، وما كنت لأبسط هذه الغاية لسان الإنكار غيره على هذه الطريقة أن يذكر أهلها ..إذ البلوى في هذه الديار بالمخالفين لهذه الطريقة والمنكرين عليها شديدة) فهو هنا يعلل السبب في إنكاره على الصوفية وهو خوفه على الطريقة الصوفية من الفقهاء أعدائه ، ثم قال (ولما أبى الوقت إلا استصعابا ،وأكثر أهل العصر بهذه الديار إلا تماديا فيما اعتادوه واغترارا بما ارتادوه ، أشفقت على القلوب أن تحسب أن هذا الأمر على هذه الجملة بنى قواعده، وعلى هذا  النحوسارسلفه ، فعلقت هذه الرسالة إليكم) أى تمادى الصوفية في انحلالهم الذى اعتادوه فخشى القشيرى أن يحسب الناس أن التصوف هو ذلك الانحراف الخلقى والعقيدى الذى يمارسه صوفية عصره فكتب رسالته القشيرية . ومع ذلك فإنه لم يستطع في هذه الرسالة إلا أن يقرر نفس العقائد الصوفية وستأتى نصوص في ذلك كما سبق إيراد بعضها ،وبعد القشيرى جاء الغزالى يكرر نفس الإتهام لصوفية عصره ، يقول مثلا ( رأى بعضهم أن الله مستغن عن عبادة العباد لاينقصه عصيان عاص ولاتزيده عبادة متعبد ، فعادوا للشهوات وسلكوا مسلك الإباحة وطووا بساط الشرع والأحكام ، وزعموا أن ذلك من صفاء توحيدهم حيث اعتقدوا أن الله مستغن عن عبادة العباد)[22].

         وأصبحت عادة الصوفية أن يتهم كبار الصوفية وفقهاؤهم أوباش الصوفية الآخرين المعاصرين لهم مثل مافعل القشيرى والغزالى .. فالشعرانى في آواخر العصر المملوكى يتهم معاصريه من أوباش الصوفية الذين أعلنوا عقائدهم بصراحة ولم يتمتعوا باعتقاد الشعرانى ، لذا رماهم على لسان شيخه الخواص بأنهم( زنادقة ، وهم أنجس الطوائف ، لأنهم لا يرون حسابا ولا عقابا ولا جنة ولا نارا ولا حلالا ولا حراما ولا آخرة، ولا لهم دين يرجعون إليه ، ولامعتقد يجتمعون عليه ، وهم أنجس الطوائف)[23]. هذا مع أن الشعرانى يدافع باستماتة عن ابن عربى ، ويلخص كلامه ويتابع آراءه ويكتب في سلوك أشياخه ما يخجل أعتى الفسقة ، وسيأتى تفصيل ذلك.



[1]
ابن تيمية مجموعة الرسائل والمسائل 4/76 البقاعى : تنيه الغبى 178 ، 182 .

[2]  شذرات الذهب جـ 5/ 412

[3] السلوك 4/3 /1206

[4] ـ انباء الغمر ج3/136،548

[5] ـ نفس المرجع ونفس الصفحة

[6] ـ ابن القيم : إغاثة اللهفان ج2/156.

 

 

[7] ـ ابن الجوزى: تلبيس إبليس 36.

[8] ـ الإحياء جـ 4/213.

[9] ـ ـالإحياء جـ 4 / 102، 332، 340.

[10] ـ الإحياء جـ 4/ 84 ، 85 .

[11] ـ اصطلاحات الصوفية 80.

 

[12] الإحياء جـ 4/26.

[13] ـ  اصطلاحات الصوفية 93.

[14] ـ الطوسى: اللمع: تحقيق عبدالحليم محمود 59.

[15] ـ  اصطلاحات الصوفية 61.

[16] ـ   ا للمع 61.

[17] ـ الرسالة القشيرية 31، 32، 277.

[18] ـ الرسالة القشيرية 31، 32، 277.

[19] ــ الإحياء جـ 4/293 ، جـ 3/345.

[20] ـ نفس المرجع

[21] ـ الرسالة القشيرية 4.

 

[22] ـ ـ الإحياء جـ 3/199.  

[23] ـ   لطائف المنن 423 ط قديمة .

(*)اليقين فى الآية معناه الموت

 

اجمالي القراءات 15608

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
التعليقات (1)
1   تعليق بواسطة   لطفية سعيد     في   السبت ١٠ - مايو - ٢٠١٤ ١٢:٠٠ صباحاً
[74311]

كذلك ضلت الأمم السابقة كما حكى لنا القرآن :


 السلام عليكم ، تحليل ما حرم الله وتحريم ما حلل الله ... أمراض ابتليت بها الأمم السابقة ، وقد حكى لنا القرآن عن أخبارهم ، ولم نتعظ  مما حدث لهم من جراء ذلك  بل نجد الصوفية تقع في تحليل ما حرم الله وتجعله دينا تجاهر به كما فعل " بنو إسرائيل  ": 



) وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنْ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)   صدق الله العظيم



أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2006-07-11
مقالات منشورة : 527
اجمالي القراءات : 10,884,367
تعليقات له : 2,000
تعليقات عليه : 2,891
بلد الميلاد : ALGERIA
بلد الاقامة : ALGERIA