اللافت في كتابات البعض من الكتاب والمفكرين الإسلاميين الجدد، المساهمين فيما يسمى بمشروع "تحديث الفكر الإسلامي"، هو الإقامة الإختيارية في النص، والإتكال المطلق على "مطلقاته"، في بعض مستوياته، بدلاً من الإشتغال عليه.
فهم يساهمون(أحياناً)، مثلهم مثل الأوّلين من الأسلاف، في رفع النص إلى مزيدٍ من السموات، ومزيدٍ من الغيبيات، ومزيدٍ من المطلقات، بدلاً من المساهمة في إنزاله إلى الأرض، والإشتغال عليه بإعتباره نصاً تاريخاً، نصاً ممكناً، نصاً أنساناً، من الله/الإنسان إلى الإنسان/ الله.
د. أحمد صبحي منصور هو أحد هؤلاء المفكرين المحدثين المساهمين في هذا المشروع "الحضاري الإنساني العظيم" كما وصفه الأستاذ كمال غبريال، في "رسالته المفتوحة" إلى د. منصور(الحوار المتمدن، 23.05.2005 ).
لاشك أن لكتابات د. أحمد صبحي منصور، شأنها الثقيل، في مشروع "تحديث قراءة الإسلام" وإطلاقه في فضاءاتٍ أكثر بعداً، وأكثر انفتاحاً على الإنسان، في الزمان والمكان الراهنين. وعليه فهو يحاول جهده، أن "يكثر" من القرآن، من خلال تفنيده للبعض من القراءات "القديمة"(قراءة السيوطي المتوفي سنة 911 مثالاً) بقراءةٍ أكثر رحمةً على "كلام الله"، كما يُفهم من مقاليه المنشورين تحت عنوان "علوم القرآن التي تُطعن بالقرآن" & " النسخ التراثي والطعن فى القرآن" (موقع أهل القرآن، 03.02.2007 & 08.02.07) .
ولِما لا، طالما أن "القرآن حمّال أوجه"، كما ذهب إليه الإمام علي بن أبي طالب، في قرآنٍ ما.
د. أحمد صبحي منصور، من موقعه ككاتب في شئون "القراءة الحديثة للإسلام"، يذهب إلى أن لا كلام فوق كلام الله، وعليه فالإسلام هو القرآن وحسب، الذي يجب أن يكون الكلُّ(حسب مذهب الكاتب)، "تلاميذاً له"، لا معلمين ومفلسفين عليه.
فهو من أصحاب فكرة "القرآن وكفى"(القرآن وكفى مصدراً للتشريع، 1991)، على اعتبار أن "الله ينزل مصدراً واحداً لدينه"، لا مصادر كما هو الحال في إسلام الآن: إسلام "الأديان الأرضية" كالسنة والتشيع والتصوف، حسب توصيف الكاتب(إيلاف، 21.03.07).
في مقاله الأخير المعنون ب"الدين والخرافة"(إيلاف، 21.03.07)، وفي سياق تعريفه للدين يقول د. أحمد صبحي منصور : "من الخطأ القول بالأديان السماوية لأن هناك دينا سماويا واحدا وهو الوحى الذى ينزل كتابا من الله تعالى على كل نبى ورسول بعثه الله تعالى للناس. أى هناك رسالات سماوية ـ نزلت على كل الأنبياء ورسل الله تعالى ـ تعبر عن دين سماوى واحد. ولكن الذى يحدث هو اختلاق وحى كاذب يتدخل به البشر فى الدين السماوى بالتحريف والاضافة، وبذلك تقوم أديان أرضية بشرية على أنقاض الدين السماوى. حدث هذا قبل نزول القرآن الكريم مع الأنبياء السابقين من نوح الى عيسى عليهم السلام، وحدث مع الكتب السماوية السابقة حيث اقام البشر ـ قبل نزول القرآن الكريم ـ أديانا أرضية متنوعة لا تزال على الساحة حتى الان. وحدث نفس الحال مع المسلمين بعد نزول القرآن وموت خاتم النبيين محمد عليه السلام".
أن القراءة "العجولة" لظاهر هذا المكتوب ستخرج بنتيجةٍ "عجولة"، ألا وهي أن في المكتوب "ما يوحّد" الإنسان مع أخيه الإنسان، على مستوى الدين، أكبر وأكثر بكثير مما يفرّق.
فالمكتوب، ظاهراً، يبصم ب"العشرة" على "خطأية" ما تسمى ب"الأديان السماوية"، لأن الدين "واحد" وليس بكثير. وعليه(حسب إيمان الكاتب)، لايمكن أن يكون للبشر "أدياناً سماوية"، وإنما هناك "دين سماوي واحد". فالله الواحد الأحد، لا يمكن أن يُنزل على الناس(ناسه)، إلا "ديناً واحداً"، و"وحياً واحداً"، و"كتاباً واحداً".
ولكن الفصيح في ظاهر ذات المكتوب وباطنه، هو أن كاتبه التحديثي/ مشرّعه، يختزل كلّ الدين، وكلّ الأنبياء، وكل الكتب، وكلّ الرسالات، في دين الإسلام، ونبي الإسلام، وقرآن الإسلام، ورسالة الإسلام، إيماناً منه، بأنّ الإسلام هو الدين الختم، الذي أنزله الله في "الكتاب الختم"، على "خاتم النبيين" محمدٍ.
وعلىالرغم من أن الكاتب لا "يطعن"، ظاهراً"، بالأديان الأخرى وأنبيائها، إلا أن الباطن من مكتوبه يكشف عن محاولةٍ "مختومةٍ"، لختم كلّ الدين، وختم كلّ كتبه، بختم إسلام القرآن، ونبي القرآن.
فهو في الوقت الذي يفصّل في تعريف الدين، لتمييز "غثه عن سمينه"، وبالتالي لمكاشفة "الوحي الصح" عن "الوحي الغلط" و"الدين السماوي" عن "الدين الأرضي"، فإنه يركض مباشرةً إلى تاريخ "نزول القرآن"، بإعتباره التاريخ "الصفر"، لبداية "الدين الحقيقي"، و"الوحي الحقيقي"، و"النبي الحقيقي"، والرسالة الحقيقية".
في سياق إيمانه ب"التاريخ الصفر" هذا، وتقسيمه للدين إلى "ماقبل القرآن وما بعد القرآن"، يقول الكاتب: " حدث هذا قبل نزول القرآن الكريم مع الأنبياء السابقين من نوح الى عيسى عليهم السلام، وحدث مع الكتب السماوية السابقة حيث اقام البشر ـ قبل نزول القرآن الكريم ـ أديانا أرضية متنوعة لا تزال على الساحة حتى الان. وحدث نفس الحال مع المسلمين بعد نزول القرآن وموت خاتم النبيين محمد عليه السلام".
الملاحظ في هذا النص "اللابريء"، هو أن كاتبه، يحاول الكشف عن تاريخ "التحريف" في "الدين السماوي" من خلال قراءته المقارنة، بين زمانين: زمان "مع الكتب السماوية السابقة"، وزمان "بعد نزول القرآن وموت خاتم النبيين".
ما استوقفني هنا، هو، لماذا يكون "التحريف بالدين السماوي"(من وجهة نظر الكاتب طبعاً)، على مستوى الأديان اللاإسلامية(الأديان السابقة وكتبها وأنبيائها السابقين من نوح إلى عيسى)، واقعاً بالضرورة في زمان ال"مع"، في حين أنّ التحريف عينه، على مستوى الإسلام ونبيّه، يكون واقعاً في زمان ال"بعد"؟
لماذا يكون هذا "التحريف"(أو التخريف) في الأديان الأخرى(الخارج إسلامية)، تاريخاً واقعاً في "معية" الكتب السماوية الأخرى/ زمان ال"مع" ، في حين أن "التحريف" عينه، في الإسلام يكون تاريخاً واقعاً، "بعد" كتاب الإسلام ونبي الإسلام/ تاريخ ال"بعد"، ليكون تالياً، تاريخاً واقعاً، "مع المسلمين"، من "بعد" كتابهم ونبيّهم "الخاتميين".
أوَلم يُجمع المصحف الكثير، الذي كان مصاحف(مصحف أبي بكر، مصحف كبير علماء القرآن عبدالله بن مسعود، مصحف سيد قراء القرآن ابي بن كعب، مصحف عائشة، مصحف حفصة، مصحف عمر بن الخطاب، مصحف علي بن أبي طالب، مصحف زيد بن ثابت) في زمان "ما بعد موت النبي"، في مصحف واحد، سمي لاحقاً، بالمصحف العثماني(نسبةً إلى عثمان بن عفان)، وهو المصحف المُعتمد إلى إسلام اليوم؟
(يُنظر مثلاً ما جاء في كتاب "المصاحف" للحافظ أبي بكر عبداللّه بن أبي داود السجستاني المتوفي سنة 316/929م، تصحيح د. ارثر جفري، ط1. الاُولى، القاهرة 1355 هـ/1936م)
فمن المعروف "أن القرآن أُنزِل على سبعة أحرفٍ" كما جاء على لسان نبي الإسلام. والمُراد "بالأحرف السبعة"، على مستوى إحدى القراءات، هو " لغات قبائل من العرب، وليس معناه أن يُقرأ الحرف الواحد على سبعة أوجه. وهذا القول هو اختيار القاسم بن سلاَّم ، وآخرون، وصححه البيهقي ، واختاره ابن عطية ، قال ابن الجزري : وأكثر العلماء على أنها لغات".
ولكن الظاهر من روايات بعض علوم الحديث والقرآن، هو رجحان"الحرف القرشي" على سواه من "حروف العرب"، لدى تجميع القرآن في مصحفٍ واحدٍ، وذلك لأسبابٍ تاريخية، سوسيو ـ إقتصادية معروفة، فصلّ فيها د. سيد القمني، في كتابه المعروف "الحزب الهاشمي، 1996).
نقرأ في صحيح البخاري مثلاً:
" حدثنا موسى حدثنا إبراهيم حدثنا ابن شهاب أن أنس بن مالك حدثه أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشأم في فتح إرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال حذيفة لعثمان يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت وعبدالله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق"(صحيح البخاري‚ كتاب فضائل القرآن/ 4604)
إن لهذه "المركزية القرشية" أسانيدها الصريحة، في مصادر الحديث النبوي، التي ربما سوف لن يأخذ بها د. منصور، فهو يكتفي ب"القرآن" وحسب، كمصدرٍ من مصادر الإسلام. فقد جاء الحديث عن "إصطفاء النبي"، على سبيل المثال لا الحصر، في بعض مصادر الحديث، كالآتي:
"أن الله اصطفى بني إسماعيل، واصطفى بني كنانة من بني اسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم"(مسلم: الفضائل/2276، والترمذي: المناقب/3605).
ما يهمني هنا، كإنسانٍ فحسب، يمشي على الأرض(لا على الماء)، هو أن أقرأ الدين/ كلّ الدين، بإعتباره "تاريخاً كان"، أو سلة وقائع وأحداثٍ كانت. أما راهناً، فليس على الناس/ كلّ الناس خلا حرية الإختيار: حرية الدين(أرضياً كان أم سماوياً) الذي يريدون لأنفسهم أن يكونوه. ف"من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"(الكهف:29)
فالنص الديني، من وجهة نظرٍ تاريخية زمكانية، هو، كأي نص آخر، نصٌ دخل التاريخ، منذ أن مشى على الأرض.
وعليه، ليس من المنطقية بمكان، أن يسعى د. منصور إلى إدخال بعض الدين(الخارج إسلامي أو الماقبل قرآني) المُعتقَد به راهناً، وبعض رسالاته ورسله، في تاريخ "التحريف"/ زمان "الدين الإنسان" و"الدين التحت"/ زمان "الدين الأرض"، مقابل رفع البعض الآخر(الإسلام في زمان القرآن ونبيّه) إلى "الزمان الفوق"/ زمان "الله الفوق" و"الدين الفوق"/ زمان "الدين السماء".
أنّ هكذا "رؤيا"، تكشف بوضوح عن "ازدواجية" الكاتب في تناول الدين، الذي ارتآه لأن يكون مختزلاً في "دينٍ واحد". أنها ازدواجية كيل الدين بمكيالين. أنها "ازدواجية" البحث عن الدين، ليثبت من خلالها، في المنتهى، "ختمية"، و"صدقية"، و"أحقية"، و"عدلية"، و"فوقية" دينه على أديان الآخرين.
والحال، فإن الكاتب إذ يتناول "إقامة أديانٍ أرضية بشرية على أنقاض الدين السماوي"، فإنما يتناولها كأي إسلامي(لا بل إسلاموي) يرى في دينه "خير دينٍ" وفي نبيه " خير نبيٍّ اصطفاه الله"، ليكون رسولاً "لخير أمةٍ أُخرجت للناس"، وهو الأمر الذي يوصلنا، في نهاية المطاف، إلى "أنا" لا تتحاور بقدر ما تتمركز في "الله الفوق"، و"الدين الفوق"، و"الكتاب الفوق"، و"اللسان الفوق"، و"النبي الفوق"، و"القوم الفوق"، و"الجهة الفوق"...الخ.
تلك ال"أنا المركزية"(أنا ومن بعدي الطوفان)، هي "أنا" أكل الدهر عليها وشرب، هي "أنا ستأكل أبناءها" في زمانٍ ليس لها فيه، إلا أن تتحاور مع ال"هو".
وال"هو"، على مستوى المكتوب المنقود، هو الآخر(كائناً من كان)، متمثلاً في كلّ ما تبقى من الدين، وما تبقى من الرسل والرسالات، التي يحكم عليها الكاتب بالداخلة في تاريخ "التحريف"/ التاريخ الأرض.
وأخيراً ليس لي أن أردد في خاتمة هذا المقال، خلا ما استهل به د. أحمد صبحي منصور كتابه المعروف "القرآن وكفى…": ف"المقصد" من هذا المقال ليس "اتهام" الكاتب، بقدر ما هو سعيٌ للحوار، والأخذ والرد معه.
اجمالي القراءات
12246