(مدرسة الإمام محمد عبده بين مصر وتونس) ( 3 / 3 )
e;لام' استعرض د. أحمد صبحي منصور بعض المفاهيم الأساسية اللازمة للتمييز بين مفهومي الدين والتدين, ثم تطرق إلى استعراض مدرسة الاستنارة الدينية, في مصر وتونس في القرن العشرين بادئا بشرح الأرضية التاريخية. ثم قدم شرحا لمنهج مدرسة التنوير المصرية مستعرضا منهج الإمام محمد عبده وخلفه الشيخ رشيد رضا مبينا كيف أن الأخير لم يكمل مسيرة الأول , بل لعله عكسها في أكثر من موضع.
كذلك استعرض الكاتب منهج الشيخ شلتوت وما بعده. كما استعرض منهج مدرسة التنوير التونسية بريادة الشيخ الطاهر بن عاشور.
وكما قدم لنا موجزا عن منهج بن عاشور في التفسير والحديث, أبان لنا دور الشيخ خضر حسين كحلقة وصل نشطة بين المدرستين المصرية والتونسية.
وفى هذا الجزء الثاني يواصل إنارته وإضافاته التي تضعه في مقام من يؤرخ لهم بإذن الله, وأكثر.
أثر الطبيعة التونسية وأثر الطبيعة المصرية:
بين بن عاشور وشلتوت
على أنه لا يمكن إغفال عامل آخر كان له تأثيره على منهج بن عاشور, وهو الطبيعة التونسية ذاتها التي نراها أكثر وضوحا لدى بن عاشور منها عند صاحبه خضر حسين. وتتجلى هذه الطبيعة التونسية في انحيازه لفقه المصلحة أو المصالح المرسلة, وتلك هي القراءة المقاصدية التي أشار إليها دكتور على الشابي عن منهج ابن عاشور في التفسير.
إننا لا نرى هذا الوضوح في الانحياز لفقه المصلحة لدى شلتوت, صحيح أنه (أي شلتوت) كان يتمتع بالمرونة والجرأة على الاجتهاد في الإطار التقليدي, وصحيح أيضا أنه اضطر لمسايرة النظام الناصري الاشتراكي, ولكنه ظل في داخله أزهريا عريقا يكتم غيظه من إصدار عبد الناصر لقانون 103 المشهور لسنة 1961 والذي قضى بتطوير الأزهر أو تأميمه حسبما كان يتناقل الشيوخ وقتها. وعقلية مثل هذه لا تتيح للشيخ شلتوت الانحياز إلى فقه المصلحة بنفس الدرجة التي كان عليها بن عاشور التونسي.
وفى هذا المجال فإنه من الواضح أن شلتوت يقف بين الشيخين التونسيين بن عاشور وخضر حسين. ومن الواضح أيضا أن العناصر التونسية داخل عقلية بن عاشور كانت أشد تأثيرا منها عند خضر حسين وان كان حظ العناصر المصرية في التطور لدى شلتوت معقولة وكافية. وهذا يدخل بنا إلى الاختلاف الكمي وليس النوعي بين قابلية التطور الفكري لدى المدرستين المصرية والتونسية, وهى المقارنة التي كانت تتردد في حديث الإمام محمد عبده في تونس.
فالملاحظ أن مصر احتاجت إلى حملة نابليون لكي تخرج من فكر العصور الوسطى إلى العصر الحديث, ولكن تونس القريبة جدا من قلب أوروبا النابض لم تكن تحتاج لحمله عسكرية, لذا كانت مبادرة أحمد باي (1806 - 1859) بالإصلاح الذي بدأ عسكريا ثم امتد إلى التعليم في الزيتونة حين أصدر منشور (1842) كما أقام إصلاحا سياسيا بإصدار قانون أو 'عهد الأمان' كأول وثيقة لحقوق الإنسان في البلاد الإسلامية, وقد وفق فيها بين الشرع الإسلامي والقانون الوضعي, وهذه الوثيقة هي التي أدت إلى إصدار الدستور التونسي (1859م).
وفى هذا المناخ الإصلاحي المستنير (بذاته ومن داخله) نشأ وترعرع الطاهر ابن عاشور (1879 - 1973 م) ثم جاء لقاؤه وتأثره بالشيخ محمد عبده ليتحدد منهجه بين إصلاح واستنارة داخل الإطار التقليدي وجرأة في الأخذ بفقه المصالح المرسلة بما يتمشى مع المواءمة بين ظاهر النصوص والانفتاح على الغرب الذي يجاور تونس ويكاد يلامس شواطئها.
اختلافها عن الطبيعة المصرية:
وبينما كانت هذه النظرة المتطورة أصيلة في الطبيعة التونسية فإننا نجد اختلافا لدى المدرسة المصرية مبعثه الاقتراب الشديد من السعودية وتأثيرها النفطي والاقتصادي على الشيوخ في الأزهر, وحاجتها إلى جعل مصر عمقا استراتيجيا لها في مواجهة الشيعة داخل وخارج المملكة. وهذا الاقتراب الجغرافي وتلك الحاجة السياسية السعودية أتاحت للنفوذ السعودي والفكر السلفي الانتشار والسيادة على العقلية المصرية, وفى نفس الوقت فإن سهولة الاتصال بالفكر الأوروبى وإرساء الفكر الاشتراكي في العهد الناصري وخصومة الاشتراكيين للتوجهات الساداتية جعلت اليسار المصري يقف خصما للتيار السلفي وطموحاته السياسية. وعلى صعيد المنهج الفكري أدى ذلك الصراع السلفي اليساري إلى نتيجتين سيئتين الأولى تهميش اتجاهات فكرية أخرى مثل الصوفية والقرآنيين, و ما يعنيه ذلك من تأكيد الاستقطاب بين معسكرين فقط, الأصولي والعلماني, وإجهاض محاولات الفكر القرآني ومنهجيته في الإصلاح والتنوير. والنتيجة الثانية هي اعتناق اليسار الإسلامي لفقه المصلحة ردا على تطرف الفكر السلفي المصري في الجمود والرجعية.
بعض ملامح الاستنارة الدينية بين المدرستين المصرية والتونسية
1) بعد التعرف على الأرضية التاريخية والمنهج العلمي لدى المدرستين نأتي لبعض تفصيلات الاستنارة فيهما. ولا يتسع المجال هنا إلا للتعرض السريع لبعض عينات تتحدث عن الوسطية والاعتدال ولمحات أخرى عن نظرة المدرستين لقضايا المرأة وأهل الكتاب.
2) والمعروف لدى الفقهاء المتزمتين أن المرأة يجب تعليبها داخل الحجاب والنقاب, وإيداعها داخل البيت, ويتسلمها الزوج من أهلها 'بضاعة مزجاة' يستعملها حيث يشاء داخل بيته, وبين بيت الأهل وبيت الزوج, ليس لها الخروج إلا مرتين, عند الزفاف وعند الموت!!
أما أهل الكتاب, فإذا كانوا معنا فهم أهل ذمة. ومهما يقال في حقوقهم فهم في نهاية الأمر مواطنون من الدرجة الثانية أو العاشرة. أما إذا كانوا خارج الحدود فهم غالبا - محاربون, ليس لهم إلا السيف أو الدخول في الإسلام أو دفع الجزية إذا كان المسلمون أقوياء.
3) وتشريع القرآن يخالف ذلك كله, ولكن فهم تشريع القرآن يعنى أن تتدبر القرآن وتقرأه بمنهج قرآني, أي أن تقرأ القرآن بمفاهيم القرآن ومصطلحات القرآن ولغة القرآن وليس بمفاهيم التراث ومصطلحاته ولغته وأيضا من خلال فهم منهج القرآن في التشريع.. وذلك موضوع شرحه يطول.
4) ومقدار الاستنارة لدى شيوخ المدرستين مرهون بمدى اقترابهم من ذلك المنهج القرآني وبمقدار الابتعاد عن روايات التراث. فكل التعصب والتطرف ومفاهيم العصور الوسطى تجدها في التراث, فهو أصدق ما يعبر عن تلك العصور, بينما يؤكد المنهج القرآني صلاحية التشريع القرآني لكل زمان ومكان.
من ملامح الوسطية والتسامح عند محمد عبده:
1) من الصعب تتبع هذا الباب في فكر الإمام أو حتى في مواقفه, ولكن نكتفي بالإشارة إلى بعض عينات من تفسير المنار ومن كتاب الإسلام بين العلم والمدنية.
2) في الكتاب الأخير يجعل الأصل الثامن من أصول الإسلام 'الجمع بين مصالح الدنيا والآخرة' وهو عنوان يوحي بالقصد والاعتدال والتوازن بين الدنيا والآخرة, وبين الدين والدنيا, ولكنه جاء بكلام عجيب يرعب الفقيه السلفي في عصرنا, فعن 'الصحة ' يقول 'الحياة في الإسلام مـقدمة على الدين' وهى عبارة خطيرة لا يدرك خطورتها إلا من يعرف سادية الفقه السلفي وحبه الشديد لسفك الدماء في مقابل الحرص الشديد في تشريع القرآن على الحياة وحرمة النفس الزكية. ولكن ما يعنينا هنا أن محمد عبده يخلط بذكاء بين الوسطية والتسامح, ونراه يتعرض للرخص والتيسير في الصوم والوضوء والغسل والصلاة والزينة والطيبات وفى الاقتصاد, وفى نهى القرآن عن الغلو في الدين, ويقول 'فترى أن الإسلام لم يبخس الحواس حقها كما أنه هيأ الروح لبلوغ كمالها' ويرى أهمية الجمع بين التمتع بالحياة الدنيا والرغبة في نعيم الآخرة, ويقرن ذلك بالعمل الصالح الذي لا يجعله مقتصرا على العبادة بل يشمل العلم والتقدم والرفعة (الإسلام بين العلم والمدنية 119 وما بعدها).
3) ومن تفسير الإمام في المنار نأخذ عينات أخرى.
في تعليقه على قوله تعالى 'وكذلك جعلناكم أمة وسطا' يرى محمد عبده أن الوسط هو العدل والخيار, لأن الزيادة على المطلوب في الأمر إفراط والنقص عنه تفريط وتقصير, وكل من الإفراط والتفريط ميل عن الاستقامة, فهو شر ومذموم ثم يقول أن الإسلام قد جمع بين الحقين, حق الروح وحق الجسد, فكأنه قال: جعلناكم أمة وسطا تعرفون الحقين وتبلغون الكمالين; لتكونوا شهداء بالحق على الناس, الذين اهتموا بالجسم وفرطوا في الدين, والروحانيين الذين أفرطوا وكانوا من الغالين. (المنار: 4/2: 5) ومن المتوقع أن ينفعل الشيخ الطاهر ابن عاشور بهذا الوجه السمح لشيخه الإمام محمد عبده.
من ملامح الوسطية والتسامح عند الشيخ الطاهر بن عاشور:
1) في كتابه 'أصول النظام الاجتماعي في الإسلام' لابن عاشور تعرض للوسطية أو الاعتدال وللسماحة. ونراه في موضوع الوسطية والاعتدال يبنى ويفرع ويفصل في رأى الإمام محمد عبده دون أن يشير إليه صراحة مكتفيا بقوله 'لقد تصفحت كلام فلاسفتنا وأساتذتهم.. فكانت خلاصة أبحاثهم.. أن قوام الصفات الفاضلة والفطرة السليمة هو الاعتدال في الأمور وأن النزوع إلى طرفي الغلو والتقصير أو الإفراط والتفريط إنما ينشأ عن انحراف في الفطرة..'
وقد يقال أن الشيخ الطاهر قد كتب هذا الكلام وفى ذهنه عبارة أرسطو المشهورة أن الفضيلة وسط بين رذيلتين (فالشجاعة وسط بين رذيلتى التهور والجبن, والكرم وسط بين الإسراف والشح) ولكن الواضح في سياق حديث بن عاشور أنه يقترب أكثر من شيخه محمد عبده, حين يرى أن الاعتدال هو الكمال وهو إعطاء كل شيء حقه من غير زيادة ولا نقص, وهو ينشأ عن معرفة حقائق الأشياء, أي الحكمة المشار إليها في القرآن. ويقرن الاعتدال بالتوسط, بعد أن نبهنا إلى صلة الاعتدال بالعدل, ويجعل التوسط من أوصاف الإسلام الثابتة مستدلا بقوله تعالى 'وكذلك جعلناكم أمة وسطا'
2) إلا أن الشيخ الطاهر تفنن وأبدع في شرح التوسط والاعتدال لغويا ونفسيا واجتماعيا.
يقول (كأنه يقوم بتشريح المتطرفين في عصرنا نفسيا واجتماعيا) أن الغلو في الغالب يبتكره أصحاب الطموح إلى السيادة أو القيادة, وذلك بالتظاهر بالمقدرة ولإبهار الأتباع والأعوان لينقادوا لهم. وهذا الغلو أو الإفراط (أو التطرف) يقابله تفريط وتقصير, وهو من شيم الأتباع المنقادين, أهل النفوس الضئيلة.
وبعد هذا التفسير السيكولوجي النفسي يتوقف الشيخ مع معنى الوسط, ولا يكتفي بما يقال عن الوسط بأنه العدل ولكنه يرجع إلى اشتقاقات اللغة ودروبها لنعرف أن معنى الوسط هو الشيء المتوسط بين شيئين, ولأنه اسم قبل أن يكون وصفا فقد استوى في الوصف به الواحد والجمع والمذكر والمؤنث لأنه بمنزلة المصدر وأعرق منه في الجمود, ولذلك جرى وصفه في آية ' وكذلك جعلناكم أمة وسطا' للأمة بدون علامة تأنيث, واستشهد بشعر زهير القائل:
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم.
معنى 'وسط' هنا عدول حكماء. وذلك معنى قوله تعالى 'قال أوسطهم' أي أعلمهم وأعدلهم. وبعد هذا الفيض اللغوي الأدبي يدخل ابن عاشور في ذم التطرف مستشهدا بقوله تعالى 'قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين' فالتكلف هو تجاوز الحد كما تشعر به مادة التفعل.
3) وكما مزج محمد عبده بين التوسط والتسامح, نرى بن عاشور يقرر أن السماحة وسط بين الشدة والتساهل, وكعادته في التأصيل اللغوي يقرر أن لفظ السماحة أرشق لفظ يدل على هذا المعنى, ويؤكد هذا الاتجاه بمرويات الأحاديث. وبنفس المرويات يربط السماحة بالتيسير المعتدل أو بيسر الإسلام, ويؤكد ذلك بآيات القرآن 'يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر' ويقرر أن استقراء الشريعة يدل على أن التيسير أصل في تشريع الإسلام, وقال إن السماحة أكمل وصف لاطمئنان النفس وأعون على قبول الهدى والإرشاد, ثم أن لها أثرا في سرعة انتشار الشريعة وطول دوامها, كما أن الشدة في بعض الأديان تجعل الناس ينصرفون عنها أو يفرطون في تأدية مناسكها, فإذا أرغمهم سلطان جائر على تأدية تلك المناسك فان ذلك يصل بهم إلى الشقاء ويجعلهم يتصفون بأسوأ الخصال, ثم يعود لتأكيد صلة السماحة بأحكام الإسلام مستشهدا بقوله تعالى 'فمن اضطر غير باع ولا عاد فلا إثم عليه' وبحديث 'إن الله يحب أن تؤتى رخصه..' والقاعدة الفقهية القائلة 'المشقة تجلب التيسر'
4) ثم يعود بن عاشور في نفس الكتاب للحديث عن 'التسامح' بعد أن تحدث عن 'السماحة '. وبملكته اللغوية الفريدة يضع مفهوم التسامح أي إبداء السماحة القوية لأن صيغة التفاعل هنا ليس لها جانبان, فيتعين أن يكون المراد بها المبالغة في الفعل مثل قولك 'عافاك الله', وقد فضل مصطلح 'التسامح ' على مصطلح 'التساهل' الذي يؤذن بقلة تمسك المسلم بدينه, ويرى أن مصطلح التسامح يعنى التسامح مع المخالفين للمسلين في الدين, ويناقش الاتهام الموجه للمسلمين بعدم التسامح ويرى أنه رد فعل لتعصب الآخرين واستغلالهم لتسامح المسلمين إلا إنه لا يتوقف كثيرا مع هذا الرأي ويأخذ في تحليل فضيلة التسامح من وجهة نظره, فالمتدين الذي يحب دينه يجعله ذلك الحب متعصبا لدينه ضد الأديان الأخرى وأصحابها انطلاقا من كون الدين - في تاريخ البشر - جامعة مانعة, واستشهد بما كان يفعله الغالب من فرض دينه على المغلوب وبإيذاء قريش للنبي محمد (ص) وأصحابه. وأما الإسلام فقد جعل الدين جامعة عظمى لأصحابه, إلا إنه لم يجعل تلك الجامعة سببا للاعتداء على الآخرين, إذ جعل التسامح أصلا من أصوله, ويؤكد أن التسامح الإسلامي وليد إصلاح التفكير ومكارم الأخلاق, وهما من أصول النظام الاجتماعي في الإسلام. فالفكر الصحيح الصالح يؤدى إلى العقيدة الحقة الموثوق بها والتي لا يخشى عليها من العقائد الأخرى ولا تحتاج إلى دفاع أو تأويل أو تعصب في هذا السبيل, بعكس العقائد الهشة والزائفة التي لا تقوى أمام الحجة, ولا تستطيع أن تصمد إلا متكئة على تعصب أصحابها ودفاعهم عنها. وفى نفس الوقت فإن كرم الأخلاق يؤدى بصاحبه إلى سعة الصدر في التعامل مع المخالفين. واستشهد بآيات القرآن التي تعزز من ثقة المؤمن في دينه, وتأمر بحسن التعامل مع المخالفين في الرأي, وانتهى من ذلك إلى أن التسامح أشهر مميزات الإسلام وأنه من النعم التي أنعم الله تعالى بها على أعدائه وبها كان الإسلام رحمة للعالمين.
5) ويصل الشيخ بن عاشور في تحليله إلى أن للتسامح الإسلامي أسسا راسخة, ترتكز على قاعدة فكرية نفسية هي أن الاختلاف الفكري طبيعة بشرية وسنة الله في خلقه, وينبغي التعامل معه على هذا الأساس. وإذا كان الإسلام قد دعا إلى الوحدة الدينية, إلا إنه لم يدع أتباعه إلى مناوأة غير المسلمين, بل دعا إلى حسن التعامل معهم. ولذلك فإن التسامح الإسلامي يظهر في مواطن يعتاد التعصب أن يشتد فيها. فالعادة أن التعصب الديني يشتعل في المعاملات الناشئة عن التخالف الديني مثل المشاكسات في الهند عندنا يذبح المسلمون البقرة التي يعبدها الهندوس, كما ينشأ في المعاملات الدنيوية, وما تؤدى إليه منه مشاحنات وتنافس سرعان ما تتحول بالتعصب الديني إلى أزمات وكوارث.
وعن المظهر الأول الذي يتحول في الإسلام إلى تسامح, استشهد الشيخ بقوله تعالى 'ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم..' وبحديث 'لا تخيروني على موسى..' وعن المظهر الثاني استشهد بقوله تعالى 'ووصينا الإنسان بوالديه حسنا, وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما' واستشهد بإباحة المصاهرة مع أهل الكتاب, ومعاملة الصحبة والبر والقسط مع الذين لم يقاتلوا المسلمين في دينهم ولم يخرجوهم من ديارهم.
وفى النهاية عزز رأيه بشواهد تاريخية من تسامح المسلمين مع غير المسلمين من نصارى و مجوس وأقباط وصابئة, وكيف أسهم هؤلاء في الحركة العلمية وكيف شاركهم المسلمون في أعيادهم, وهى نماذج انفردت بها الحضارة الإسلامية. (أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 23 وما بعدها, 226 وما بعدها).
ملامح الوسطية والتسامح عند الشيخ شلتوت
1) يسير الشيخ شلتوت في كتابه 'من توجيهات الإسلام' على نفس النسق الذي سار عليه شيخه الإمام محمد عبده في كتابه 'الإسلام بين العلم والمدنية' فالشيخ شلتوت تحت عنوان 'يسر الدين وسماحته' يتحدث عن اعتدال الإسلام 'في مصادرة الحقة' وابتعاده عن الإفراط والتفريط. ثم يؤكد من خلال الآيات القرآنية على الأساس العام للتشريعات, وهو اليسر لا العسر ورفع الحرج وعدم تكليف النفس إلا وسعها, ثم يسير مع التشريعات الجزئية في الاعتقاد والعبادات وما فيها من رخص (جمع رخصة), ورفع للمشقة في الصوم والطهارة والصلاة.
2) ثم يعود الشيخ إلى التوسع في الموضوع تحت عنوان 'الروحية المهذبة: لا تبتل ولا تكالب على الدنيا' ليتحدث عن منهج الإسلام في تكوين الفرد, وهو نفس الموضوع الذي انشغل به الطاهر بن عاشور في كتابه 'أصول النظام الاجتماعي في الإسلام' وتقترب المسافة بين الشيخين حين يتحدث شلتوت عن تكوين الفرد المسلم على أساسين: تحديد علاقته بالدنيا وإحياء شعوره بالوحدة الإيمانية والوحدة الوطنية الخاصة والوحدة الإنسانية العامة. وعن تحديد علاقة المسلم بالدنيا يناقش الشيخ شلتوت أعداء الدنيا من الزهاد, ليؤكد لهم أن الرهبانية تعطيل لأسرار الله تعالى في الإنسان والكون, كما يناقش المتكالبين على الدنيا بأدلة قرآنية وتاريخية واجتماعية. ثم يشير إلى عناية الإسلام بتهذيب الروح بالفكر والذكر والمزاوجة بين حظوظ الجسم والروح, ثم يهاجم الذين يحرمون الطيبات كما يهاجم الذين يخرجون عن الاعتدال في التمتع بزينة الحياة (من توجيهات الإسلام: 21, 116ـ 135).
3) وعكست فتاوى الشيخ شلتوت جانبا من هذا التوسط والاعتدال والتيسير, فقد أكد في الفتاوى أن مصافحة المرأة لا تنقض الوضوء تأسيسا على أن معنى الملامسة هو المخالطة الجنسية وعلى أن الآية تختم بالتيسير وعدم المشقة والحرج. كما أفتى بصحة الصلاة بالبرنيطة أو القبعة التي يرتديها الغربيون. وأكد عدم تحريم سوى الأربعة أطعمة المذكورة في القرآن (الميتة,الدم, لحم الخنزير, ما أهـل لغير الله به) ورأى أن الأحاديث التي اعتمد عليها الفقهاء في تحريم أشياء أخرى ليس دليلا كافيا للتحريم, وقد تفيد الكراهة, ولكن لا تفيد التحريم. وعن صبغ الشعر وما أثير عن تحريمه, رأى الشيخ شلتوت أنه من الشئون البشرية التي لا يحتمها أو يمنعها الدين, وأنهى بذلك الاشتباكات والتضارب بين الأحاديث وتحت عنوان 'الشريعة تـنـظـم الغريزة' ناقش حكم الشرع في الغناء والموسيقي, وبعد استعراض تاريخي واجتماعي وفقهي, انتهى إلى أن الأصل هو الحلال في سماع الموسيقي, وأن التحريم فيه عارض أي إذا اسـتعين به على محرم, ثم ختم حديثه بالتحذير من الإفتاء الجزافي في التحليل والتحريم.
وبنفس المنهج سار الشيخ مع ختان الأنثى, فأشار إلى تاريخه والصراع الفقهي بشأنه وأفتى في النهاية بأن الختان لا يخضع لنص منقول وإنما يخضع لقاعدة شرعية عامة, وهى أن إيلام الحي لا يجوز شرعا إلا لمصالح تعود عليه وتربو على الألم الذي يلحقه, وعليه فهو يرى أن ختان الأنثى ليس هناك ما يدعو إليه أو يحتمه لا شرعا ولا خلقا ولا طـبا. وحتى ندرك أهمية هذه الفتوى منذ نصف قرن تقريبا, علينا أن نتذكر فتوى سامة أعلنها شيخ الأزهر السابق جاد الحق وهى إعلان الحرب المسلحة على كل من يمنع ختان الأنثى, وذلك إثر الجدال الذي احتدم في مصر منذ سنوات حول مشروعية الختان. (راجع الفتاوى للشيخ شلتوت: 78 -, 357,82 -, 379 -, 304-, 306 -).
قضايا المرأة:
نصيب المرأة من الفقه السلفي نفسه يزيد على النصف, أي يزيد على نسبتها في المجتمع. وهذا يعكس لديهم نوعا من الاختلال الفكري لا محل لمناقشة مظاهره وأسبابه الآن, ولكنها إشارة تؤكد الحجم الهائل لقضايا المرأة واضطرارنا إلى الاكتفاء بعينات منها في فقه شيوخ الاستنارة بين مصر وتونس.
محمد عبده وقضية المساواة بين المرأة والرجل:
في التعليق على قوله تعالى 'ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف'
1) قال الإمام محمد عبده أنها قاعدة كلية ناطقة بأن المرأة مساوية للرجل في جميع الحقوق إلا أمرا واحدا عبر عنه بقوله 'وللرجال عليهن درجة' وقال إن المراد أن الحقوق بينهما متبادلة وأنهما أكفاء, فهما متماثلان في الحقوق والأعمال كما أنهما متماثلان في الذات والإحساس والشعور والعقل, أي أن كلا منهما بشر تام له عقل يتفكر في مـصـالـحـه وقلب يحب ما يلائمه, فليس من العدل أن يتحكم أحد الصنفين بالآخر ويتخذه عبداً, ولاسيما بعد عقد الزوجية.. وقال محمد عبده: هذه الدرجة التي رفع النساء إليها لم يرفعهن إليها دين سابق, بل لم تصل إليها أمة من الأمم قبل الإسلام وبعده. وهذه الأمم الأوربية التي حفزتها حضارتها على المبالغة في تكريم النساء واحترامهن وتعليمهن, لا تزال دون هذه الدرجة التي رفع الإسلام النساء إليها. ولا تزال قوانين بعضها تمنع المرأة من حق التصرف في مالها بدون إذن زوجها, ومع ذلك فإن أولئك الإفرنج يفخرون علينا في إعلان شأن النساء..
2) ويؤكد محمد عبده على المساواة أيضا في تعليقه على قوله تعالى 'فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أثنى بعضكم من بعض' ويرى أنه لا فارق بين المرأة والرجل في البشرية ولا تفاضل بينهما إلا بالأعمال وكرر نفس اللفتة عن سبق الإسلام للأوروبيين وأشار الإمام إلى أن الله تعالى لم يكتف بربط الجزاء بالعمل حتى أوضح أن العمل هو الذي يستحقون به ما طلبوا من تكفير السيئات ودخول الجنة فقال 'فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم...' (المنار: 250,4,297,2).
قضية المساواة عند الشيخ بن عاشور
1) إلا إن الشيخ بن عاشور قد أخذ الخيط من شيخه محمد عبده ليؤكد المساواة بطريقته اللغوية المتفردة, إذ فطن من الآية الكريمة إلى أن صيغ التذكير تشمل النساء, فبعد أن ذكر أنه لا يضيع عمل عامل منهم من ذكر أو أنثى جاء بتوجيه الخطاب للجميع بقوله 'فالذين هاجروا ' فمع أنه الذين يقصد بها الذكور إلا إن الخطاب هنا يشمل النساء, وذلك أكبر دليل على المساواة.
2) والواقع أن المنهج القرآني هنا يعطى الكثير مما يؤكد المساواة بين الرجال والنساء في التشريع وفى الطبيعة البشرية. فكلمة 'زوج' في القرآن يطلقها القرآن على الرجل والمرأة, والسياق هو الذي يحدد المقصود بل إن كلمة زوجة لم تأت مطلقا في القرآن. كذلك كلمة 'آباؤكم ' في آية الميراث وغيرها تفيد الرجل والمرأة معا, ومثلها الوالدين والإحسان إليها, تفيد الاثنين معا, وعلى سبيل المساواة فالمرأة أب ووالد, بالمساواة مع الرجل الأب والوالد.
كما أن المنهج القرآني ينبذ من البداية تلك الروايات (الصحيحة) التي تجعل المرأة ناقصة عقل ودين وأنها تكفر العشير, وأنها خلقت من ضلع أعوج ويظل على عوجه حتى لو كسرته, وأنها في الشؤم كالدار والفرش وكلها في البخاري, وتعبر عن ثقافة العصور الوسطى وتعصبها للرجل ضد المرأة
3) ونعود للشيخ بن عاشور وهو يقيم بحثا رائعا عن المساواة من حيث المعنى اللغوي, وتقيدها في الشريعة وفى الطبيعة البشرية, وكيف تظهر في إطار الأخوة الإسلامية وفى تلقى الشريعة والتكليف وكيف تظهر في تساوى الخلقة البشرية إلا إذا جد مانع, وموانع المساواة عوارض تقتضى إلغاء حكم المساواة لظهور مصلحة راجحة في ذلك الإلغاء, وهذه العوارض تنبه إلى أن إجراء المساواة ليس في صالح العدالة, وقد تكون هذه العوارض دائمة وقد تكون مؤقتة, وجعل من العوارض عدم مساواة غير المسلم من أهل الذمة للمسلم في بعض الحقوق مثل ولاية المناصب الدينية وفى إرث قريبه المسلم, وفى القصاص له من المسلم وفى قول الشهادة, وعدم مساواة العبد بالحر في الحدود.. وقسم العوارض المانعة في المساواة إلى أقسام, موانع جبلية أي طبيعية وشرعية واجتماعية وسياسية.
ومن الموانع الجبلية الطبيعية منع مساواة المرأة للرجل فيما لا تستطيع أن تساويه فيه بموجب الخلقة مثل إمارة الجيش والخلافة عند جميع المسلمين, ومثل القضاء والإمامة وقتال العدو عند جمهور علماء المسلمين, ومثل منع مساواة الرجل للمرأة في حق كفالة الأبناء الصغار وفى حق النفقة لكون الرجل هو المكتسب للعائلة.. وهذه الموانع قد تتعلق بالأصناف تعلقا ذاتيا كضعف الأنوثة عن تحمل بعض الأعمال الشاقة (أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 97 -, 143 -)
قضية زينة المرأة بين محمد عبده وابن عاشور:
1) يرى الدكتور على الشابي أن زينه المرأة المكشوفة عند الشيخ بن عاشور زينتان, زينه خلـقية وهى الوجه والكفان أو نصف الذراع والقدمان والشعر وزينه مصطنعة كالحلي والكحل والخضاب واللباس الفاخر, أي الزينة التي لا تؤدي إلى التبرج.
أما محمود شمام فقد أورد بعض آراء الفقهاء السلفيين في زينة المرأة, ومنعهم من ارتداء المرأة للشعر المستعار اعتمادا على التفسير المشهور لقوله تعالى 'فليغيرن خلق الله' وعلى حديث لعن الواشمات والمستوشمات أو المتوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن, المغيرات خلق الله'
ثم جاء بآراء الشيخ الطاهر بن عاشور في أن المراد بقوله تعالى 'ولآمرنهم فليغيرين خلق الله', التعريض بما كانت تفعله أهل الجاهلية, وليس من تغيير خلق الله التصرف في المخلوقات بما أذن الله فيه ولا ما يدخل في معنى الحسن مثل حلق الشعر وتقليم الأظافر وثقب آذان النساء لوضع الأقراط والحلي. وبالنسبة للأحاديث التي تلعن الواصلات للشعر والمتنمصات للحسن, فالغرض منه النهى عن سمات كانت العواهر يتخذنها في ذلك العهد, أو من سمات المشركات وقتها, وإلا لو فرضنا هذا منهيا عنه لما بلغ النهى إلى حد لعن فاعلات ذلك وهن مسلمات محصنات, واستنتج محمود شمام من ذلك أن الشيخ بن عاشور أفتى بجواز لبس الباروكة وما شابهها وتزجيج الحواجب وتكحيل العيون, لأن هذه الأمور يقصد بها الآن الزينة وليس تغيير خلق الله ولا تبديله. وبرأيه أن المشكلة بذلك قد تم حلها. ومعلوم أن المشكلة هنا هي تفسير سلفي, وأحاديث منسوبة للنبي, وقد تم إبطال مفعولهما مع الحفاظ عليهما لتنفجر كقنبلة موقوتة فى بلاد أخرى غير تونس (راجع: سلسلة أفاق إسلامية رقم (9): 45, 77 - 80).
2) والواقع أن الإمام محمد عبده كان أقرب إلى المنهج القرآني هنا من تلميذه بن عاشور, ففي تعليقه على مقالة الشيطان لله تعالى عن بني آدم 'ولآمرنهم فليغيرن خلق الله' قال: إن المراد بتغيير خلق الله هو تغيير دينه, أي تغيير الفطرة الإنسانية, فالإنسان قد فطره الله تعالى على طلب الحق والاستدلال بما يظهر له من الدليل على أنه الحق والخير (المنار: 35,5).
والواقع أن الإمام محمد عبده تجاهل هنا الإشارة لحديث لعن الواصلات والمتفلجات.. والعجيب أن تلميذه رشيد رضا سار على منواله, وإن كان ما نقله عن الإمام مضطربا إلى حد ما.
3) والمنهج القرآني كفيل بتوضيح القضية في بساطة شديدة, فلكي نفهم المعنى القرآني لكلمة 'ولآمرنهم فليغيرن خلق الله' يرجع إلى قوله تعالى 'فأقم وجهك للدين حنيفاrlm; عبده وابن عاشور:
1 - يرى محمد عبده في المنار أن تعدد الزوجات جاء في سياق الكلام عن اليتامى, وعند الخوف من عدم العدل فلابد من الالتزام بواحدة فقط, وقال إن الخوف من العدل يصدق بالظن أو بالشك فيه بل يصدق بتوهمه أيضا. ويؤكد الإمام على أن إباحة تعدد الزوجات في الإسلام أمر مضيق فيه أشد التضييق كأنه ضرورة من الضرورات التي تباح لمحتاجها بشرط الثقة بإقامة العدل, وبعد هذه الفتوى الفقهية يتحدث محمد عبده كمصلح اجتماعي فيقول إنه لا يمكن أن تصلح أمة من الأمم فشا فيها تعدد الزوجات لأن البيت الذي فيه زوجتان لزوج واحد لا تستقيم له حال ولا يقوم له نظام, بل يتعاون الرجل مع زوجاته على إفساد البيت, كأن كل واحد منهم عدو للآخر ثم يجيء الأولاد بعضهم لبعض عدو, فمفسدة تعدد الزوجات تنتقل من الأفراد إلى البيوت ثم إلى الأمة وخلص الإمام إلى أن اشتراط العدل بين الزوجات, وهو شرط صعب تحقيقه يعنى النهى عن التعدد (المنار 4/ 285- 287).
2 - وقد لاحظ الدكتور على الشامي تأثر الشيخ الطاهر بن عاشور برأي محمد عبده في تضييق التعدد إلى درجة المنع, ونقل عن 'التحرير والتنوير ' وصف واقع المجتمعات الإسلامية الذي عرف شيوع التعدد, كما نقل عنه صعوبة العدل وما يترتب على ذلك من اختلال نظام العائلة وعقوق الزوجات والأبناء وذلك ما أسهب فيه الإمام محمد عبده في المنار.
إلا أن الجديد والجريء الذي جاء به بن عاشور هو الإشارة إلى أنه لولى الأمر أن يمنع المباح إذا خيف وقوع الضرر والفساد, ولكن الدكتور على الشابي يرى أن هذه الجرأة مستوحاة من حديث محمد عبده الاجتماعي عن اختلال المجتمع إذا فشا فيه تعدد الزوجات, مما يجعل من مسئولية ولى الأمر درء المفاسد, وذلك ما أكده بالتفصيل محمود شمام (سلسلة آفاق إسلامية (9) 41 -, 80)
قضية ضرب المرأة بين محمد عبده وابن عاشور:
1) في تعليقه على قوله تعالى 'واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن, فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا' النساء: 34 يرى الإمام محمد عبده إن مشروعية ضرب النساء ليست بالأمر المستنكر في العقل أو في الفطرة بحيث يحتاج إلى التأويل, فهو أمر يحتاج إليه في حال فساد البيئة وغلبة الأخلاق الفاسدة, وإنما يباح للرجل إذا رأى أن رجوع المرأة عن نشوزها يتوقف عليه. أما إذا صلحت البيئة وصار النساء يعقلن النصيحة ويستجبن للوعظ أو يزدجرن بالهجر فيجب الاستغناء عن الضرب فلكل حال حكم يناسبها في الشرع, ونحن مأمورون على كل حال بالرفق بالنساء واجتناب ظلمهن وإمساكهن بمعروف أو تسريحهن بإحسان وإذا أطاعت المرأة بواحدة من هذه الخصال التأديبية فلا تبغوا بتجاوزها إلى غيرها, أما القانتات المطيعات فلا سبيل عليهن حتى في الوعظ والنصح - وقوله سبحانه وتعالى: 'إن الله كان عليا كبيرا' يعنى أن سلطانه عليكم فوق سلطانكم على نسائكم, فإذا بغيتم عليهن, عاقبكم. وجاء هذا النهى عن البغي حتى لا يحس الرجل في نفسه بالاستعلاء على زوجته, فذكره الله تعالى بعلوه وكبريائه ليتعظ ويخشى ويتقي الله فيها وفى النهاية يقول الإمام: واعلموا أن الرجال الذين يحاولون بظلم النساء أن يكونوا سادة في بيوتهم, إنما يلدون عبيدا لغيرهم, يعنى أن أولادهم يتربون على ذل الظلم فيكونون كالعبيد الأذلاء لمن يحتاجون إلى المعيشة معهم. (المنار 5, 62 - 63).
أما رأى الشيخ بن عاشور فقد حلله الدكتور على الشابي فقال: إنه فسر الآية تفسيرا كشف عن منزع اجتهادي عز نظيره, إذ اتفق مع رأى عطاء في أن ضرب الزوج امرأته أمر إباحة (أي لا يفيد الوجوب) واعتبره يقضى بعدم ضرب الزوج امرأته, واعتبر الضمير فى قوله تعالي: 'تخافون ' متجها أيضا إلى ولاة الأمور لأن تطبيق الأحكام من اختصاصهم, وقد وضع الشيخ هذه المسألة في إطارها الزمني وفى سياقها الاجتماعي, إذ كان أهل البدو في العصور الوسطى لا يعدون ضرب المرأة اعتداء, بينما يعتبره أهل الحضر اعتداء, وقد خلص الشيخ إلى ربط هذه المسألة بأصل قواعد التشريع التي لا تسمح لأحد بأن يقضى لنفسه لولا الضرورة, ومن ثم انتهى إلى القول بأنه يجوز لولي الأمر أن يعلن أن من ضرب امرأته عوقب, كي لا يتفاقم أمر الإضرار بالأزواج (سلسلة آفاق إسلامية (9): 46 - 47).
والواضح هنا أن الشيخ الطاهر قد تجاوز المدى الذى وصل إليه الإمام محمد عبده, فالإمام اجتهد في إطار النص, أما الشيخ فقد وضع النص في إطار زمني وسياق اجتماعي, مع ربطه بقواعد التشريع الفقهي, ليصل في النهاية إلى منع الزوج من ضرب زوجته, وحق ولي الأمر في عقوبة الزوج إلى فعل ذلك.
2) والمنهج القرآني - عندنا - يقف بين هذا وذاك بين الإمام والشيخ ونوضحه سريعا في هذه القضية, فالتشريع القرآني يتكون من 'أحكام تشريعيه' (أوامر ونواهي) وهذه الأحكام التشريعية تسير في إطار 'قواعد تشريعية ' وهذه القواعد التشريعية بدورها تسعى لتحقيق غايات ومقاصد تشريعية.
والمقصد التشريعي في أحكام الأسرة هو حفظ كيانها ورعايتها. ولذلك كانت أغلب تشريعات القرآن الاجتماعية تسعى لبناء الأسرة والحفاظ عليها, ذلك أنه إذا كان الفرد هو الخلية الأولى فى المجتمع الغربي, فإن الأسرة هي الخلية الأولى في المجتمع الإسلامي والشرقي. وكان المقصد التشريعي للقرآن هو حفظ كيان هذه اللبنة الأولى في بنيان المجتمع حفظا لكيان المجتمع ذاته.
ومن خلال هذا المقصد التشريعي جاءت القاعدة التشريعية في التعامل بين الزوجين في قوله تعالي: 'وعاشروهن بالمعروف, فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا' النساء 19, ومن خلال هذه القاعدة التشريعية تجرى الأحكام التشريعية في إصلاح الشقاق إذا أتى من المرأة أو إذا أتى من الرجل أو إذا أتى منهما معا, ونفهم معنى قوامة الرجل على المرأة وشروطها (سورة النساء: 128,35,34), وعليه فضرب المرأة وارد إذا كان هو السبيل الوحيد لمنعها من النشوز الذي يهدد بتحطيم أسرتها ومستقبلها, وفى إطار معاشرة زوجها لها بالمعروف, بحيث لا يكون هو الآخر ناشزا عليها, ونشوز الزوج في مفهوم القرآن يعنى مجرد إعراضه عنها وعدم اهتمامه بها.
أما عن تدخل المجتمع ممثلا في السلطة فقد حدد القرآن له طريقين, إذا أرادت الزوجة افتداء نفسها بالتطليق من الزوج (البقرة 229) أو إذا حدث نشوز متبادل بين الزوجين قد يؤدى إلى تحطيم الأسرة (النساء 128), مع ملاحظة أن قوامة الزوج تعنى قدرته على حماية الزوجة والإنفاق عليها, وإلا فلا قوامة له عليها, وبالتالي فإذا كانت لها العصمة وتنفق على نفسها فليس له قوامة عليها, وبالتالي ليس له أن يستطيل عليها بالضرب أو بغيره. والعصمة من حق المرأة إذا أرادت وإذا رضي الزوج لأن الزواج عقد يتم بالتراضي بين الطرفين وتصبح بنوده شريعة المتعاقدين.
5) شلتوت وقضايا المرأة:
للشيخ شلتوت كتاب 'القرآن والمرأة' واستعراضه يخرج بنا عن المطلوب. ولكنه في كتابه 'من توجيهات الإسلام', عقد فصلا عن شئون المرأة أكد فيه مبدأ الطبيعة الواحدة بين الرجل والمرأة, ومساواتها بالرجل, وعرض للمرأة في القصص القرآني مع تحليل رائع لشخصيات النساء في قصص الأنبياء, مع تنوع أدوارهن, خصوصا ملكة سبأ, وانتهى من ذلك إلى أهمية تثقيف المرأة, ثم عرض لتاريخ المرأة في عهد النبوة المحمدية, ومبايعة النبي للنساء. (من توجيهات الإسلام 204 -).
في الموقف من غير المسلمين:
هنا أم المشاكل, وبداية الاختلاف بين تشريع الإسلام في القرآن وتشريعات المسلمين في التراث. ويرجع السبب هنا إلى السياسة ونظام الحكم الذي أصبح عضودا وراثيا ملكيا مستبدا, أي أصبح يحمل ملامح الدولة في العصور الوسطى وكشأن الاستغلال الديني في ذلك الوقت, كان اختراع التشريع ليلائم سياسة هذه الدول وليسبغ عليها مشروعية.
وقد تكلف المصلحون المستنيرون من أمرهم عسرا, وهم يحاولون الاقتراب من تشريعات القرآن في التعامل مع الآخر, وهذه الصعوبة مردها إلى أنهم كانوا يفهمون الآيات بمصطلحات التراث ورواياته, فأبرزوا من تسامح الإسلام أشياء وغابت عنهم أغلب الأشياء. ونعرض لبعض ما أبرزوه ولبعض ما غاب عنهم أن يبرزوه.
رؤية الإمام محمد عبده:
في البداية يقرر الإمام أن الأصل الثالث من أصول الإسلام هو البعد عن التكفير, صحيح أن حديثه قد انصب أساسا على التعامل بين المسلمين, ولكن المستفاد منه عمومية التعامل بهذا الأصل, لأنه أصل من أصول الإسلام, وعليه فينبغي أن نبتعد عن تكفير غير المسلم, وإن كان ذلك مستحقا لتوضيح وتأكيد أكبر من الإمام. ولكن سكوته عنه أعطى الفرصة لتلميذه السلفي كي يبالغ في تكفير خصومه.
إلا أن محمد عبده جعل الأصل السادس من أصول الإسلام حماية الدعوة من الفتنة, لأن القتل ليس من طبيعة الإسلام, بل في طبيعته العفو والمسامحة, ولكن القتال فيه لرد اعتداء المعتدين على الحق وأهله إلى أن يأمن شرهم, ولم يكن ذلك للإكراه على الدين ولا للانتقام من مخالفيه, ولذلك كان المسلمون في الفتوحات لا يجبرون البلاد المفتوحة على اعتناق الإسلام.
ثم جعل الإمام الأصل السابع من أصول الإسلام مودة المخالفين في العقيدة وذلك بالمصاهرة حيث أباح الإسلام للمسلم أن يتزوج من الكتابية دون تفريق بين الزوجة المسلمة والكتابية في الحقوق, وما تؤدى إليه المصاهرة من اختلاط وتشابك ومودة وقربى بين المسلمين والكتابيين (الإسلام بين العلم والمدنية 106 -,113 -, 117-)
إلا إن الإمام محمد عبده اقترب أكثر من المنهج القرآني حين أدرك معنى الفتنة التي جاءت في سياق تشريع القتال 'والفتنة أشد من القتل, وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة 'البقرة 193,191 فرأى أن الفتنة هنا تعنى الاضطهاد في الدين. وهذا صحيح, وعليه فقد اقترب من فهم المقصد التشريعي للقتال في الإسلام, وهو انه لتقرير الحرية الدينية, ولمنع الاضطهاد في الدين.
رؤية الطاهر بن عاشور:
في المصادر القليلة التي معنا بعض إشارات في هذا الموضوع تنبئ عن فكر متقدم مستنير للطاهر بن عاشور. ومن ذلك ما يذكره محمود شمام من شرح بن عاشور لحديث 'لا تخيروني على موسى' على أساس أنه مظهر من تسامح الإسلام مع أهل الكتاب وقمعا لباب الخصومة الدينية معهم, فاليهودي ظل على يهوديته في دولة الإسلام, ولم يلزمه الإسلام بتغيير دينه واعتقاده, والعلماء يقولون أن أهل الكتاب لا يعاقبون على ما يقولونه من أصل دينهم. وبعض هذه المعاني تردد في كلام الشيخ في حديثه عن التسامح مع أهل الكتاب في 'أصول النظام الاجتماعي في الإسلام'.
وفى هذا الكتاب عرض الشيخ تفسيره التاريخي للغزوات في عهد النبي عليه السلام مستشهدا بالقرآن الكريم وبعض روايات الحديث والسيرة, وكيف كان تكوين الجيش الإسلامي وقتها. ثم كيف تطور الجهاد إلى فتوحات في الشام والعراق. وقرر أن ذلك كله كان دفاعا عن الحوزة وتأمينا للمسلمين ودينهم.
وقد يكون ذلك التفسير التاريخي للشيخ عاديا سبق إليه كثيرون,إلا أنه سبق الكثيرين في الإشارة إلى حقيقة قرآنية تاريخية لم يلحظها كثيرون, وذلك في معرض تعليقه على قوله تعالى 'ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا: الحج 40' فقد لاحظ أن الدفاع عن بيوت العبادة لغير المسلمين دفاع عن الحق. والمعنى المقصود تأمين بيوت العبادة لغير المسلمين داخل الدولة الإسلامية, وهذا المعنى قل من التفت إليه من المسلمين على مستوى السياسة وعلى مستوى الفقه والثقافة, إذ إن ثقافة العصور الوسطى القائمة على التعصب الديني داخل بلاد المسلمين وخارجها كانت تستهدف بيوت العبادة للآخرين بالمقت والكراهية, ولذلك لا نعجب من الجدل الفقهي الذي كان يزايد على منع أو هدم الكنائس في البلاد التي فتحها المسلمون (عن مؤلفات ابن عاشور راجع أصول النظام الاجتماعي في الإسلام 216 - 2207, بالإضافة إلى ندوة سلسلة آفاق إسلامية الشيخ عاشور (9): 59, 356).
رؤية محمود شلتوت:
نلمس هنا بعض التراجع في بعض القضايا.
فالمصاهرة بزواج الكتابية والذي احتفل به الإمام محمد عبده, نجد الشيخ شلتوت يناقشه على طريقته الخاصة في عرض آراء الفقهاء ثم يخلص إلى رأيه وهو أنه إذا ضعف الرجل المسلم فالواجب منعه من الزواج بالكتابية, وأنه ينبغي تقييد ذلك أو منعه, هذا مع أنه في ' التوجيهات ' أشار إلى دعوة الإسلام إلى البر بغير المسلمين من المسالمين, وقال إن المبدأ العام في معامله أهل الكتاب هو المساواة بينهم وبين المسلمين وإعانتهم في النكبات وإباحة التعاون معهم ومصاهرتهم, وهو هنا يتفق مع شيخه الإمام محمد عبده الذي استدل بنص أية 'لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين..' على دور المصاهرة في دعم الترابط بين المسلمين والنصارى. (عن الشيخ شلتوت, يراجع: من توجهات الإسلام 93, الفتاوى 252)
وهذا التراجع لدى الشيخ شلتوت استمر بعده إلى أن أصبحت الفتنة الطائفية تهدد مستقبل مصر, خصوصا بعد استشراء الفكر السلفي واضطهاده للنصارى المصريين, ومع سيادة ثقافة التطرف والإرهاب فإن خطرا هائلا يهدد مستقبل مصر ووحدتها الوطنية. وليس هناك من سبيل إلا بمواجهة ذلك الفكر السلفي بالمنهج القرآني الذي يوضح الأمور بصورة قاطعة.
وقفة مع المنهج القرآني في التعامل مع غير المسلمين:
بعيدا عن روايات التراث وفتاويه ومصطلحاته فإن القرآن فيه الرؤية الواضحة, ولكن هذه الرؤية تحتاج إلى من يقرأ القرآن ويفهمه بلغته ومصطلحاته, مع فقه قواعده التشريعية.
وقد قلنا أن التعامل مع غير المسلمين هو أم المشاكل وبداية الاختلاف بين تشريع القرآن وتشريع المسلمين في التراث. وذلك لأن البداية تكمن في تعريف المسلم والمؤمن والمشرك والكافر طبقا لمفهوم القرآن واختلاف ذلك عن مفاهيم التراث. حيث تمت صياغة التراث في أحضان نظم سياسية قامت بتوجيه الثقافة بما يخدم أغراضها.
وباختصار شديد نقول من خلال المنهج القرآني ومفاهيمه أن المؤمن له مفهومان, تبعا لعلاقة المؤمن بربه أو علاقته بالناس: 'آمن بـ ' تأتى في القرآن بمعنى اعتقد وآمن, أي في التعامل مع الله, وحينئذ ينبغي أن يكون الإيمان بالله تعالى كاملا. أما 'آمن لـ ' فتأتي في القرآن بمعنى وثق واطمأن وأصبح مأمون الجانب, أي في التعامل مع الناس . وورد الأسلوبان كثيرا في القرآن, حيث أن الأمن هو أصل كلمة الإيمان, واجتمع الاستعمالان معا في قوله تعالى عن النبي ' يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين, التوبة 61 ' فالنبي يؤمن بالله إيمانا كاملا , وذلك في التعامل مع الله, أما في تعامله مع المؤمنين فإنه يثق بهم ويطمئن لهم, وهذا هو مفهوم المؤمن في القرآن. إذا حقق الإيمان بالله كاملا وحقق الأمن مع الناس, استحق الأمن في الآخرة كما تردد ذلك في آي القرآن العظيم.
ولكن الإيمان بالمفهوم القلبي في التعامل مع الله تعالى مرجعه إلى الله تعالى يوم القيامة, وليس لأي بشر حتى النبي أن يحكم على ذلك. وعشرات الآيات القرآنية ترجع الحكم في العقائد إلى الله تعالى يوم القيامة, وعلى ذلك فإن كل إنسان مأمون الجانب لا يعتدي على أحد يأمنه الناس ويأمن الناس يكون مؤمنا في التعامل البشري, حتى لو كان بوذيا أو هندوسيا. أما عقيدته وفكرته عن ربه فمرجعها إلى الله تعالى يوم الدين الذي سيفصل فيه رب العزة في كل ما يتعلق بعلاقة البشر بالدين.
ونفس الحال في المسلم فالمسلم له مفهومان, أحدهما في التعامل مع الله تعالى والآخر في التعامل مع الناس.
المسلم في التعامل مع الله تعالى هو إسلام الوجه والقلب والجوارح إلى الله تعالى (الأنعام 162:163) والحكم على ذلك مرجعه إلى الله تعالى يوم القيامة وليس لأحد من البشر أن يحكم على ما في القلوب من إخلاص أو رياء أو نفاق. أما مفهوم المسلم في التعامل مع الناس, فهو السلام أو أن يسلم الناس من يده ولسانه, فالمسلم هو المسالم المأمون الجانب, وهذا أمر يحكم الناس فيه وعليه, وتشريعات الإسلام في العقوبات نزلت لمعاقبة المعتدي على حقوق غيره في الحياة والمال والعرض.. وليس في عقوبات التشريع الإسلامي إلا حفظ حقوق الأفراد, أما حقوق الله تعالى فليس عليها عقوبة دنيوية أو 'حدود ' بمفهوم التراث. وقد اخترعوا ' حد الردة ' لأغراض سياسية في العصر العباسي كما أوضحنا ذلك في كتابنا ' حد الردة: دراسة أصولية تاريخية '.
ومفهوم الذين آمنوا والذين كفروا والمشركون والفاسقون.. الخ حين تأتى في تشريعات القرآن يقصد بها التعامل البشري, فالذين آمنوا أي الذين اختاروا الأمن والأمان, الذين اجتمعوا حول النبي محمد كانوا من المستضعفين الذين اختاروا الأمن والأمان, وكان منهم ذوو شأن وجاه, ولكن اختاروا أيضا طريق الأمن والسلام, لذلك يقول تعالى لهم ' يا أيها الذين آمـنوا آمـنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنـزل من قبل' النساء 136 أي بعد أن حققوا الإيمان بمفهوم الأمن والأمان عليهم أن يحققوه بمفهوم الاعتقاد.
وفى المقابل فإن المشركين والذين كفروا هم في تشريع القرآن في التعامل البشرى أولئك الذين يعتدون على المؤمنين المسالمين الذين لا يعتدون على أحد, والسبب واضح. إن تطبيق الناس للشرع ينبغي أن يكون في إطار قدرتهم على التطبيق. وليس في قدرة النبي نفسه أن يعلم خفايا القلوب, فقد كان لا يعرف بعض المنافقين الذين يعيشون إلى جانبه وقد مردوا على النفاق (التوبة 101) فإذا كان النبي لا يعرف خفايا القلوب فغيره أولي, ولذلك فإن الحكم على الناس بالشرك يرتبط في تشريع القرآن بالاعتداء, وذلك في موضوعات التعامل البشري, وقد قلنا إن التعامل مع الله تعالى مرجعه إلى الله تعالى يوم القيامة حسبما أكدت عشرات الآيات القرآنية.
وهذا يدخل بنا على ناحية أخري, وهى وجود نوعين من الخطاب في القرآن الكريم فيما يتعلق بغير المسلمين, وهذا يختص في موضوع العقائد والتعامل معه جل وعلا. فمن حقه تعالى أن يقول ' لقد كفر الذين قالوا أن الله هو المسيح ابن مريم: المائدة 17 ' لأن تلك قضية تخصه جل وعلا, فهذا خطابه لنفر من خلقه أخطؤوا في حقه وموعدهم معه ليحاسبهم على ذلك الافتراء. ولكن الله تعالى يأمرنا أن يكون لنا خطاب مختلف معهم, وذلك بأن نجادلهم بالتي هي أحسن, وأن نقول لهم آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون (العنكبوت 46). والدليل الأكبر على ذلك في الأمر بالمباهلة الذي نزل للنبي أساسا ولنا من بعده. فبعد أن أوضح الله تعالى قصة عيسى وحقيقته البشرية قال للنبي محمد 'الحق من ربك فلا تكن من الممترين' ثم جاءت الآية التالية بتشريع المباهلة, فإذا جاء نفر من النصارى للنبي يجادلونه في موضوع ألوهية المسيح بعد أن أنزل الله تعالى الحق للنبي فليس للنبي أن يتهمهم بالكفر, ولكن يدعوهم إلى المباهلة, يجمع كل فريق من المسلمين والنصارى أبنائهم ونسائهم, ثم يبتهل كل فريق بأن يجعل لعنة الله على الكاذبين (آل عمران-61).
والواضح أن هذا التشريع القرآني غريب في دنيا التعامل الواقعي. والأغرب منه حين نتعرف على لمحة سريعة عن تشريع القتال في القرآن.
فقد قلنا أن تشريعات القرآن هي أحكام وتفصيلات تشريعية تخضع لقواعد تشريعية, والقواعد التشريعية تخدم هدفا أو مقصدا تشريعيا, ومن الخطأ أن نخلط بين هذا وذاك.
فالأوامر والأحكام التشريعية جاءت كثيرا تأمر بالقتال, ولكن تقرنة بالقاعدة التشريعية وهى أن يكون القتال للدفاع ورد الاعتداء بمثله كقوله تعالى 'وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين'... 'فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله: البقرة 190, 194' وفى هذا الإطار أيضا يأتي المقصد التشريعي من القتال, وهو أن يكون بهدف منع الفتنة في الدين أو منع الاضطهاد في الدين, أو أن يكون الدين لله تعالي, أي مرجعه لله تعالى يحكم على الناس بشأنه يوم القيامة, وحتى تكون لله تعالى الحجة على البشر فلابد أن يتمتع أولئك البشر في الدنيا بحرية الاعتقاد, وألا يكون هناك اضطهاد في الدين, وذلك معنى قوله تعالى 'وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله' البقرة .193
وعليه فالقتال هنا دفاعي ضد اعتداء المشركين الكافرين.
والمشركون الكافرون هم المعتدون الظالمون مهما كانت عقائدهم ومبرراتهم وتأويلاتهم وشعاراتهم, ينطبق ذلك على مشركي قريش كما ينطبق على الإرهابيين في عصرنا.
والمسلمون المسالمون هم أولئك الآمنون الذين لا يرفعون سلاحا, مهما كانت عقائدهم وطقوسهم وينطبق ذلك على كل المسالمين من كل الديانات والمذاهب..
وهنا يتفق تشريع القتال في الإسلام مع مفهوم المسلم والمؤمن والمشرك والكافر في مصطلحات القرآن ولكي تبقى بعض نقاط الاتصال الأخرى نشير إليها سريعا.
فالمؤمنون الذين تجمعوا حول النبي طلبا للسلام والمسالمة كانوا يكرهون الحرب مع أنها السبيل الوحيد أمامهم للبقاء حتى لا يفنيهم المشركون, ولذلك قال تعالى لهم 'كـتـب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم, وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم' البقرة 216 ومع ذلك فإن بعضهم احتج على الله تعالى حين فرض عليهم القتال وطلب تأخير الأمر بالقتال فقال تعالى 'ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيدكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة, فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية, وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال, لولا أخرتنا إلى أجل قريب؟: النساء 77' ولذلك فرض الله تعالى على النبي أن يحرض المؤمنين المحبين للسلام أن يقاتلوا, فقال 'يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال: الأنفال' 65 وقال له 'وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا' النساء 84.
ومع ذلك فقد كان بعضهم يتقاعس عند الحرب, فقبيل غزوة بدر - خلافا لما ترويه السيرة- كان فريق من المؤمنين يكرهون الاشتباك مع العدو ويجادلون النبي في الحق الواضح, وحين تحتم عليهم القتال كانوا كأنهم يساقون إلى الموت وهم ينظرون (الأنفال: 6,5) وتلك أولى غزوات النبي, ولكن الوضع لم يختلف مع آخر غزوة وهى ذات العسرة وفيها يخاطب الله تعالى المؤمنين قائلا 'يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض'؟... التوبة 38.
والمستفاد من تلك الأوامر التشريعية تأكيد المفهوم القرآني لمعنى الذين آمنوا أي الذين اختاروا الأمن والسلام, وآثره بعضهم حتى عندما يكون القتال واجبا للدفاع وخوفا من الإبادة والاستئصال.
ومثل آخر من الأوامر التشريعية يؤكد المفهوم القرآني لكلمة المؤمن وأنه المأمون الجانب بغض النظر عن عقيدته ودينه.. فالله تعالى يقول 'وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ' أي غير معقول أن يقتل المؤمن المسالم المأمون الجانب رجلا مؤمنا مسالما مثله إلا على سبيل الخطأ. ثم وضحت الآية تشريع الدية في ذلك القتل الخطأ. وجاءت الآية التالية بأقسى عقوبة في الآخرة لمن يقتل مؤمنا متعمدا وهى الخلود في جهنم والعذاب العظيم والغضب من الله ولعنته. ثم جاءت الآية التالية تحدد ماهية ذلك المؤمن الذي يستحق قاتله كل ذلك العذاب واللعنة, يقول الله تعالى 'يا أيها الذين أمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا: النساء 94' فالمؤمن هو أي إنسان مسالم أو ألقى السلام. وحين الاشتباك الحربي يجب على المؤمنين حقن دماء ذلك المؤمن المسالم حتى لو كان في معسكر الأعداء وكل ما هو مطلوب منه أن يقول: السلام عليكم وقتل ذلك المسالم يستحق كل ذلك العذاب وتلك اللعنة والخلود في النار.
وهذا هو الإسلام دين السلام لكل الناس الذي أنزله رب العالمين رحمة للعالمين..
اجمالي القراءات
15367