هل طلب الفلسطينيون فتوى لأكل لحوم القطط والكلاب?.
هل طلب الفلسطينيون فتوى لأكل لحوم القطط والكلاب?.
الفلسطينيون وسفر التجويع (2)*
لا زال مطبوعا في ذاكرتي – أو على الأقل هذا ما أتخيله – ذلك الخبر الذي قرأته وأنا ما زلت طالبا في المدرسة حول طلب لاجئي مخيمات لبنان فتوى لأكل لحوم القطط والكلاب لأنّ الحصار الذي فرضته حركة "أمل" على مخيماتهم مَنع دخول الطعام والشراب على نحو أدى لنقص هائل في الغذاء. ولا أبالغ أنّ تلك القصة، أضف لها غزو بيروت 1982، وصبرا وشاتيلا، كانت نقطة تحول في حياتي، وأعتقد أنّها كانت كذلك لآخرين.
فوجئت لاحقا أنّ الياس خوري في روايته "باب الشمس" يشكك في قصة "الفتوى".
في العام 2009 وإبّان الحرب الإسرائيلية على غزة كان مما يدعو للمرارة الشديدة
كانت قيادة حزب الله في لبنان. ولكن هل كان الوضع في لبنان أفضل، عندما كان الحصار هناك، وكانت الحرب هناك، وماذا فعل الحزب وقتها؟!
ممدوح نوفل ، قائد قوات الثورة الفلسطينية في لبنان سابقا، والقيادي في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطيني، والذي توفي في العام 2006، سجّل في كتابه "مغدوشة، قصة الحرب على المخيمات في لبنان"، الصادر عام 2006 أيضا، وأشار إلى تجربة الجوع في مخيمات لبنان، عام 1986، وموقف القوى المختلفة، وخصوصا سوريا، وإيران، وحزب الله منها.
كتب نوفل:
"توقفت عند برقية أخرى من مسؤول تنظيم الجبهة في مخيّم برج البراجنة علي فيصل، انفعلت لها واقشعر جسمي إزاء قولها: "عقد اجتماع جماهيري في مسجد المخيم، وقرر الأهالي أكل لحم القطط والكلاب والحمير إن وجدت، وطالبوا إمام المسجد بإصدار فتوى بذلك. ووجهوا برقية إلى سماحة الشيخ محمد حسين فضل الله والشيخ مهدي شمس الدين الزعيمين الروحيين للطائفة الشيعية، والشيخ حسن خالد الزعيم الروحي للطائفة السنيّة، والشيخ محمد أبو شقرا الزعيم الروحي لطائفة الدروز، ويطلبون منهم إصدار فتوى رسمية وعلنية بهذا الشأن، وأن يتوجهوا مع نفر من المشايخ والعلماء والمؤمنين إلى المخيم ليروا بأعينهم الأطفال الرضع الذين يشارفون على الموت جوعا بعدما جف الحليب في صدور الأمهات، ويشاهدون حجم المآسي والدّمار الذي لحق بالناس وممتلكاتهم". وقلت منفعلا "حبذا لو أنّ أهالي المخيمات يحرقون بيوتهم لعل الضمير العربي يصحو".
هذه القصة التي كما أوردت في البداية كانت قصة صادمة للكثيرين في أواسط الثمانينيات، يرويها الروائي اللبناني، الياس خوري، على نحو مختلف في روايته باب الشمس (1998)، حيث يقول إنّ مقاتلا مسنّا يدعى عبدالمعطي، وبسبب الحصار والجوع، قرر "تفجير قنبلته السريّة"، فاتصل بمكتب وكالة الصحافة الفرنسية في بيروت، وتكلّم مع امرأة سألها عن اسمها عدة مرات، قبل أن يعطيها الخبر. قال إنّه يريد التأكد من شخصيتها. فقالت إن اسمها جميلة إبراهيم، وأنّها لبنانية ومن مدينة زحلة.
وبحسب رواية خوري، فإنّ عبدالمعطى "اخترع حكاية عن اجتماع عقدته فاعليات المخيم، لمناقشة الوضع الخطير الذي وصلت إليه الأمور، قال إنّ فاعليات المخيم قررت الطلب من أحد المراجع الدينية بأكل لحم البشر؟ "نحن نموت جوعًا، أكلنا القطط والكلاب، ولم يعد يوجد شيء يؤكل، والمليشيا التي تحاصرنا، لا ترحم، فماذا نفعل؟ قررنا أكل لحم القتلى الذي يسقطون في صفوفنا، ونطلب فتوى دينية بذلك". وبحسب الرواية طلب عبدالمعطي من الصحافة الاتصال بأحد المراجع الدينية، لأنهم لا يستطيعون فعل ذلك من المخيم.
ويكمل خوري في مفارقة مبكية مضحة: "وبعد ساعة وزّع الخبر الذي هزّ العالم. اتّصل بجميلة فأبلغته البشرى، لقد أفتى الشيخ كامل السمّور، بإمكان أكل اللحم البشري للضرورة القصوى. وبثّت وكالة الصحافة الفرنسية الخبر على شبكتها الدولية، وضجّت التلفزيونات والإذاعات والصحف والعالم بأسره".
ويوضّح خوري، أنّ خدعة عبدالمعطي نجحت، فيقول "لم يأكل أهل شاتيلا اللحم البشري، والجيش السوري الذي كان يطوّق المنطقة، أمر مليشيات أمل بفك الحصار جزئيّاً".
وبحسب الرواية "جاءت الصحافية إلى المخيّم، تبحث عن عبدالمعطي. جاءت تحمل طنجرة طعام هائلة، يا الله ما أطيب أكلها. طنجرة برغل. برغل مطبوخ وفوقه كميّات من لحم الخروف والبصل والحمص، مع وعاء كبير مليء باللبن". وبحسب الرواية "قالت جميلة إنّها طبخت من أجل عبدالمعطي وأكل الجميع. وعندما رأت أعداد المتحلقين حول الطنجرة، قال إنّها خجلانة من نفسها، فلو علمت أنّ عبدالمعطي سيدعو كل المخيم، لطبخت أكثر. عبدالمعطي قال لها، وفمه مليء بالبرغل، إنّه سيكرر أعجوبة السمك، "ألم يوزّع نبيّكم خمس سمكات على آلاف الناس"؟.
ولكن ما هي الحقيقة، ما الذي حصل فعلا، هل كان الأمر خدعة، ممدون نوفل، يقول تعليقا على البرقية سالفة الذكر: "في حينه، تضمنت البرقيات شيئا من المبالغة، إلا أنّها كانت تعكس الحالة الصعبة التي عاشها الناس".
الحلقة المفرغة تلوح بالأفق مرة أخرى عندما نقارن بين واقع المخيمات في لبنان عام 1986 وبين واقع العام 2009 في غزة. ففي العام 2009 ثارت ثائرة كثيرون وهم يرون مصر تمنع دخول الغذاء والناس والسلاح إلى غزة لمواجهة العدوان الإسرائيلي، وكان أكثر من ثارت ثائرته هو أمين عام حزب الله الإيراني حسن نصرالله، الذي وصل به الأمر حد تحريض الشعب المصري على تحدي نظامه. على أنّ ما لا بد من ذكره أنّه في الثمانينيات كان حزب الله وراعيه إيران، هما ضمن اللذان لجأ الفلسطينيون لهم دون جدوى.
كتب نوفل: "السوريون لم يسمحوا لنا بإدخال رغيف خبز واحد لأي من المخيمات المحاصرة، ولم يساعدنا حزب الله والإيرانيون".
ومما يرويه نوفل أنّ اجتماعًا عقد في بيت أحد الإسلاميين السنّة مع رجال دين شيعة "ما لا يقل عن عشرة مشايخ". ومعهم "الوفد الإيراني: الأخ المؤمن أبو أحمد يعمل في سفارة الجمهورية الإسلامية في دمشق، وآخر يعمل في سفارة إيران في دمشق"، ويقول تحدث لهم ياسر عبدريه باعتباره عضوًا قياديًا في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وقتها:
"ثم تحدّث ياسر عن أحوال المخيمات. تحدّث عن مخيم برج البراجنة والفتوى المطلوبة بأكل اللحوم المحرمة ومنها لحوم جثث الشهداء، تحدّث عن شاتيلا ونقص المياه والتموين وحليب الأطفال، تحدث عن الرشيدية وأكل الأعشاب والصيام حتى الموت. وختم هذا الجانب العاطفي من حديثه بمطالبة المشايخ بخطوة عملية لإنقاذ أطفال مسلمين يستغيثون بهم. وطالب ياسر بتشكيل وفود من علماء الدين تتوجه لدخول المخيمات وإدخال التموين بالرغم من أنف نبيه بري".
ويقول نوفل إنّ عبد ربه بعد أن أدرك "أن كلامه ترك أثرا كبيرا في نفوس الحاضرين"، حيث "كان ياسر يتحدث بانفعال شديد، وكانت كلماته مؤثرة جدا، بكى من وقعها عدد من المشايخ خصوصا كبار السن منهم"، قال: "أعطونا الأمان لمخيماتنا. الخليفة عمر بن الخطّاب أعطى الأمان للنصارى في القدس يوم فتحها، طالبهم بالجزية وأعطاهم الأمن والأمان على أملاكهم وأعراضهم. أعطونا الأمان لمخيماتنا وإذا أردتم الجزية على نساء فلسطين وأطفالها وشهدائها فنحن جاهزون لدفع الجزية لكم وللبطل نبيه بري".
ويواصل نوفل الحديث عن كيف حاولوا دون جدوى وقف الحصار الذي قامت به قوات حركة "أمل" التي تعمل برعاية سورية مباشرة، ويكتب كيف أنّ الاتحاد السوفياتي رفض أيضا التدّخل:
"قلت لنفسي إنّ إدخال سيارة تموين للرشيدية وأخرى للبرج وثالثة لشاتيلا ليست قضية استراتيجية يعجز السوفييت عن انتزاعها من السوريين، والحجج التي يسوقونها لنا ليست مقنعة، ولو كانوا راغبين في ذلك لما تعذّر عليهم تحقيق هذه المسألة الصغيرة، علاقتهم مع السوريين حميمة ولا أظن أنّ السوريين سيرفضون لدولة عظمى مثل هذا الطلب البسيط".
كلام نوفل يبدو فيه قدر من الشك الضمني بمدى الأمر، وإن كان الثابت أنّ حالة جوع حقيقية عاشتها المخيمات، وهو ينقل عن عضو لجنة مركزية، في حركة "فتح"، حادثه هاتفيّا وقتها، قوله:
فهمنا من أبو عمار ومن أبو جهاد أن "أوضاع المخيمات ليست بالسوء الذي يجري الحديث عنه في وسائل الإعلام، وأن المقاتلين وأهالي المخيمات يطالبون بحل ولكن ليس أي حل. نريد حلال مشرفا لشعبنا وقواتنا".
إن لم يكونوا وصلوا الفتوى وأكل تلك اللحوم، فقد وصلوا تخومها…وما لا ينساه أهل صبرا وشاتيلا…أن القطط باتت تأكل من لحم جثث الضحايا…حتى توحشت في وجه الأحياء…
* جزء آخر من دراسة تصدر قريبا
اجمالي القراءات
6781