تاريخ الكنيسة القبطية يرتبط بتاريخ الرهبنة المسيحية التي ما تزال تُمارس تقاليدها القديمة في مصر.:
أقباط مصر أصل البلاد وأكبر مجتمع مسيحي في الشرق وأخوال بيت الرسول

اضيف الخبر في يوم السبت ٠٨ - فبراير - ٢٠١٤ ١٢:٠٠ صباحاً. نقلا عن: العرب [نُشر في 08/02/2014، العدد: 9463، ص(6)]


أقباط مصر أصل البلاد وأكبر مجتمع مسيحي في الشرق وأخوال بيت الرسول

 

القاهرة- بينما كان يحفر معول التفرقة في جسد الوحدة الوطنية، يستحضر ملايين المصريين تلك المشاهد المؤثرة في رائعة نجيب محفوظ وحسن الإمام فيلم “بين القصرين”.. التي أرّخت لمظاهرات ثورة 1919 حيث التحف جميع المصريين، أقباطا ومسلمين بالعلم المصري، وهتفوا بصوت واحد “يحيا الهلال مع الصليب”.. في مشهد تكرّر بعد حوالي 90 سنة، عندما اتحد المصريون، مجدّدا في ثورتهم ضدّ نظام مبارك ثمّ ضد نظام الإخوان، دفاعا عن أرض المحروسة.. أرض المصريين، مسلمين وأقباطا.

“أنا يا رب لا أستطيع أن أبعد عنك لحظة واحدة. ولا طرفة عين.. أنت بالنسبة إليّ الحياة ذاتها… إن كنت أنا لست جادا فيما يتعلق بخلاص نفسي يكفي أنك يا رب جاد في تخليص هذه النفس، وإن كان خلاص نفسي لا تقوى عليه إرادتي.. فلا شك أن نعمتك تقوى وتقتدر.. سامحني يا رب إن كنت أصلي دون حرارة فأنا أصلي بالفراغ الذي في قلبي وأنت الذي تعطيني الحرارة.. أنت الذي تسكب نارك المقدسة في قلبي. خذ صلاتي كما هي بنقصها فالأمور لا تبدأ كاملة والكمال هو من عندك”.

تلك سطور سبقت من إحدى صلوات البابا شنودة الثالث أحد أعظم الشخصيات المسيحية العالمية في القرن العشرين، الذي كان بابا الفاتيكان قد أرسل إليه يوما، داعيا إياه إلى بعض التغييرات في جوهر العقيدة القبطية المسيحية، ولكن البابا شنودة رد برسالة تفصيلية وضع فيها شروطه كي يعترف بالكنيسة الكاثوليكية التي برأيه تحتاج إلى الكثير من الإصلاحات الفكرية.

وفي العام 1966 طرح البابا شنودة سؤاله الشهير بعد أن أصدر بابا الفاتيكان صك براءة لليهود من دم المسيح، قائلا “من قتل المسيح إذا؟”.. وحين استبد السادات في مصر، وقف البابا شنودة في وجهه، رافضا الموافقة على اتفاقية كامب ديفيد ما بين مصر وإسرائيل، ورفض مرافقة السادات في زيارته إلى القدس، وكشف اتجاه حكم السادات الذي كان يعزّز التطرف الديني لدى بعض الجماعات الإسلامية ويستخدمها في صراعه مع المجتمع، فمنعته المخابرات المصرية من اعتلاء منبره وإلقاء الخطب، وكان اسم البابا شنودة ضمن الأسماء الـ1531 التي تحفظت عليها السلطة المصرية في العام 1981، سواء بالسجن أو الإقامة الجبرية كما في حالة البابا شنودة في دير وادي النطرون.

وهكذا كان أقباط مصر في زاوية خاصة بهم من العالم، ومن المسيحية العالمية، لا يشعرون أنهم أقلية، ولا يفكرون من نافذة الأقلية، وطرحوا أسئلة كبرى تتصل بصلب المسيحية، وهم من أقدم جذورها، وأسئلة في الحداثة والديمقراطية، وأسئلة في الفنون والآداب، فكانوا في كل مكان يتوجّه فيه البصر في مصر. فكان منهم مكرم عبيد، أقرب الشخصيات الوطنية عهدا إلى المواقف الإسلامية، والزعيم الوطني ونائب النحاس باشا في الوفد، وكان منهم بطرس غالي الأمين العام للأمم المتحدة، ونجيب ساويروس ومجدي يعقوب جراح القلب العالمي، ومنهم هاني عازر المهندس الذي أشرف على بناء محطات قطار برلين في ألمانيا، ومنهم كبار الفنانين والكتاب مثل المخرج داود عبد السيد ويسري نصرالله وسمير سيف وخيري بشارة، وسناء جميل ولويس عوض، والمئات من المؤثرين والفاعلين في مجتمعاتهم.

 

الأقباط والعرب المسلمون والبدايات

 
وصية البابا شنودة لأقباط مصر: أحبوا غيركم
عانى الأقباط في عهد مبارك من توظيف الدولة وأجهزتها لأوضاعهم كورقة لعب في الساحة المحلية، وليست حوادث تفجير الكنائس بأقل الأدلة على تورط الشرطة والمخابرات المصرية في حينها، في تفجير العلاقة ما بين المسلمين والأقباط، فقال البابا شنودة في الاجتماع الأسبوعي في يوم 16 من شهر آيار من العام 2007 بعد أحداث قرية بمها بالعياط محافظة الجيزة مصر: “ربنا‏ ‏شايف‏ وسامع‏ وإن‏ ‏سكت‏ ‏المسؤولون‏ فلن‏ ‏يسكت‏ ‏الرب”.

وفي 8/12/2010 أكد البابا شنودة الثالث في العظة الأسبوعية بكاتدرائية العباسية أن الكنيسة مهتمة بأحداث كنيسة العذراء بالعمرانية. وقال البابا “نحن نحاول بذل كل جهدنا في هذا الأمر وسنطالب بدم الذين قتلوا وسنرفع دعاوى قضائية مثل الآخرين”، متسائلا :”هل من قتل من عندنا دمه رخيص؟ لا دمهم ليس رخيصا”. وكان رجال أمن الدولة قد قتلوا ثلاثة أقباط وجرحوا الكثيرين وسجنوا 158 قبطيا.

وأوضح البابا أن “السلطة المرتبطة بالعنف تولد عنفاً، والناس الذين احترقت منازلهم يجب على الدولة تعوضيهم لأنهم في رعايتها، لكن لو تجاهلت الدولة تعويضهم سوف ننزل نحن إليهم ونعوضهم عما فقدوه”، وأشار إلى طول صبر الله على الدولة الرومانية التي كانت تقتل المسيحيين وتمنعهم من العبادة والصلاة، إلى أن جاء الوقت الذي اعتنقت فيه هذه الدولة المسيحية وأصدرت مرسوما بذلك، مؤكدا أن “الله يطول صبره على البشر لأنه رحيم، لكنه يفرّق بين الضعف والخيانة، لذلك مع كل ما قلناه نقول إن طول صبر الله هو مثال لنا لنطول بالنا ونحب غيرنا”.

 

 

من اسمهم أخذت مصر اسمها، وعنهم كتب الرسول محمد (ص) رسالته إلى حاكم مصر، المقوقس، الذي حكمهم باسم السلطة البيزنطية بقبضة من حديد، وقال النبي في رسالته: “بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله، إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت، فإن عليك إثم القبط، يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ”، ولم يكن فيها تهديد بحرب، بقدر ما كانت دعوة إلى فكرة مشتركة، وهو ما لقي عند المقوقس الصدى الذي أراده النبي، فحمل الرسالة حاطب بن أبي بلتعة، فلما دخل عليه، قال له: إنه كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، فانتقم به، ثم انتقم منه، فاعتبر بغيرك، ولا يعتبر غيرك بك، فقال: إن لنا دينا لن ندعه إلا لما هو خير منه، فقال حاطب: ندعوك إلى دين الله، وهو الإسلام الكافي به الله فقد ما سواه، إن هذا النبي دعا الناس، فكان أشدهم عليه قريش، وأعداهم له اليهود، وأقربهم منه النصارى، ولعمري ما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، ولسنا ننهاك عن دين المسيح، ولكنا نأمرك به، فقال المقوقس: إني قد نظرت في أمر هذا الدين، فوجدته لا يأمر بمزهود فيه، ولا ينهى عن مرغوب فيه، ولم أجده بالساحر الضال، ولا الكاهن الكاذب، ووجدت معه آية النبوة بإخراج الخبء، والإخبار بالنجوى، وسأنظر، وأخذ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم فجعله في حُق من عاج، وختم عليه، ودفعه إلى جارية له، ثم دعا كاتباً له يكتب بالعربية، فكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم لمحمد بن عبد الله، من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك، أما بعد: فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبيا بقي، وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك..” وأهداه مارية القبطية التي أنجبت إبراهيم بن محمد بن عبدالله، فكان الأقباط أخوال بيت النبي من ذلك الحين.

وحين وصل عمرو بن العاص مصر، تعهّد للأقباط بتأمين حرية العبادة لهم، وقام برفع الاضطهاد الذي تعرضوا له على يد الرومان، وكتب أماناً للبطريرك بنيامين، وردّه إلى كرسيه بعدما تغيب عنه أكثر من عشر سنوات، كما أمر باستقبال بنيامين عندما قدم الإسكندرية أحسن استقبال، وألقى بنيامين على مسامعه خطاباً ضمّنه الاقتراحات التي رآها ضرورية لحفظ كيان الكنيسة، فتقبلها القائد الإسلامي ومنحه السلطة التامة على الأقباط والسلطان المطلق لإدارة شؤون الكنيسة، فكتب بنيامين: “لقد وجدت في مدينة الإسكندرية زمن النجاة والطمأنينة اللتين كنت أنشدهما بعد الاضطهادات والمظالم التي قام بتمثيلها الظلمة المارقون”.

وذكر السير توماس أرنولد مؤلف كتاب “الدعوة إلى الإسلام”: “إن النجاح السريع الذي أحرزه العرب (حسب وصفه) يعود قبل كل شيء إلى ما لقوه من ترحيب الأهالي المسيحيين الذين كرهوا الحكم البيزنطي لما عرف به من الإدارة الظالمة، وما أضمروه من حقد مرير على علماء اللاهوت. فاليعاقبة الذين كانوا يشكلون السواد الأعظم من السكان المسيحيين، عوملوا معاملة مجحفة من أتباع المذهب الأرثوذكسي التابعين للبلاط”.

وكتب يعقوب نخلة روفيلة” (1847 ـ 1905م) الكاتب القبطي، كتابًا عنوانه “تاريخ الأمة القبطية “، أعادت مؤسسة مار مرقس لدراسة التاريخ طباعته في العام 2000، يؤكد فيه روفيلة أن الفتح الإسلامي حرر مصر من الاستعمار الروماني الذي دام عشرة قرون، وحرر ضمائر أهل مصر من الاضطهاد الديني الذي لا يزال تضرب بقسوته الأمثال، قال في كتابه: “ لما ثبّت قدم العرب في مصر، شرع عمرو بن العاص في تطمين خواطر الأهلين واستمالة قلوبهم إليه، واكتساب ثقتهم به، وتقريب سراة القوم وعقلائهم منه، وإجابة طلباتهم، وأول شيء فعله من هذا القبيل: استدعاء “بنيامين”(396 هـ ـ 659م) البطريرك الذي اختفي من أيام هرقل ملك الروم، فكتب أمانا وأرسله إلى جميع الجهات يدعو فيه البطريرك للحضور، ولا خوف عليه ولا تثريب، ولما حضر وذهب لمقابلته ليشكره علي هذا الصنيع، أكرمه وأظهر له الولاء، وأقسم له بالأمان على نفسه وعلى رعيته، وعزل البطريرك الذي كان أقامه هرقل، ورد بنيامين إلي مركزه الأصلي معززًا مكرمًا”، وأضاف روفيلة: “حقق حكم عمرو بن العاص للأقباط حرية الاستقلال المدني التي جردوا منها في أيام الدولة الرومانية”.

 
إدوار الخراط كاتب مصري روايته "رامة والتنين" 1980 شكّلت حدثا أدبيا من الطراز الأول
 

 

وكان بنيامين هذا هو البابا الـ 38 في سلسلة باباوية بدأت بمؤسس الكنيسة القبطية، وهو القديس مرقص، عاش 13 سنة متخفيا وهاربا في الصحراء بعد أن قتلوا أحد إخوته أمام عينيه، وفق ما يرويه كتاب تاريخي مهم للأقباط اسمه “السنكسار” الموصوف بأنه “جامع لأخبار الأنبياء والرسل والشهداء والقديسين”، وقبل هروبه كتب بنيامين الأول بيانا تم توزيعه على سائر الأساقفة ورؤساء الأديرة في مصر، ودعاهم فيه الى الفرار والاختفاء مثله، فحدث هروب جماعي لزعماء الأقباط الروحيين، وصمتت أجراس الأديرة عن طنينها.

وفي العام 640 انتهى اضطهاد الأقباط بوصول عمرو بن العاص، وكتب ما أملاه عليه عمر بن الخطاب: “الموضع الذي فيه بنيامين، بطريرك النصارى القبط، له العهد والأمان والسلام، فليحضر آمنا مطمئنا ليدبر شعبه وكنائسه” وهي عبارات واردة في كتاب “السنكسار” نفسه، وأمر بتوزيعه على أرجاء مصر، فعاد بنيامين ومعه عاد القساوسة إلى أديرتهم، فقاموا بترميمها وإصلاح ما عبث فيها من خراب الفرس والبيزنطيين.

 

علاقة الدين بالهوية

 

بطرس غالي الأمين، العام الأسبق للأمم المتحدة، قال: إن الحضارة المصرية من أقدم الحضارات التي ساد فيها نظام شامل كامل للعلاقات القائمة بين الأفراد والحكام، كما أخذت الدولة المصرية الحديثة بـ”المواطنة” كأساس لبناء الدولة القديمة تاريخيا من أجل التعايش بين أبنائها. ولفت إلى أن الشعب المصري لا يفرق بين طوائفه المختلفة أو من يسميهم “أقلية” إلا بعد صعود تيار الإسلام السياسي لحكم البلاد، من هنا بدأ ترسيخ هذا اللفظ المجهول حول فكرة الأكثرية الإسلامية في مواجهة الأقلية المسيحية، كما رفضوا تعيين نائب قبطي لرئيس الجمهورية “محمد مرسي” رغم تعهده بذلك أثناء حملته الانتخابية، ولكنهم رسخوا مبدأ “لا ولاية لكافر على مسلم”، وأقول لهم: الأقباط أهل عقيدة وديانة سماوية وليسوا كفارًا.

في ذات السياق، يشير الباحث جايسون براونلي أستاذ مساعد في مادة الحكم في جامعة تكساس، في دراسة حملت عنوان ” العنف ضد الأقباط والمرحلة الانتقالية في مصر”، وهي صادرة عن مؤسسة كارنغي، إلى أن سقوط حكومة الإخوان المسلمين في مصر لم يرافقه، في البداية، على الأقلّ، تفاؤل كبير بانتشار ثقافة التسامح الطائفي والديني في مصر، فقد شكّلت الهجمات الدامية التي استهدفت الأقباط، إذ حاصر المهاجمون من شمال سيناء إلى جنوب مصر الكنائس وقتلوا رجال الدين الأقباط والعلمانيين.

وفي إطار إجابته على سؤال: ما علاقة الدين بالهوية الوطنية؟ يقول الباحث براونلي، مؤلف كتاب “منع الديمقراطية: سياسة التحالف بين الولايات المتحدة ومصر“، إنه في بلد أدّى دورا أساسيا في الانتشار العالمي للمسيحية والإسلام، عمل الدين على تفتيت مجتمع يعاني بالفعل انقساما حادّا بين الحكام والمحكومين. فقد أصبح نظام الرئيس أنور السادات أكثر تديّنا بشكل علني في سبعينات القرن الماضي، وتم إدراج الآذان في برامج التلفزيون الوطني، وحظّر بيع الكحول في معظم أنحاء البلاد. ووجد الأقباط أنه يجري تعريف مصر بمصطلحات تستبعدهم علنا من الانتماء بقدر متساو جنبا إلى جنب مع المصريين المسلمين.

 
جورج اسحاق من شخصيات ثورة 25 يناير ومنسق حركة "كفاية" الاحتجاجية
 

 

وبصرف النظر عن لحظة الانسجام بين الطوائف خلال الانتفاضة التي استمرّت ثمانية عشر يوما ضدّ حسني مبارك، واجه الأقباط التمييز والاضطهاد في ظل النظام السابق والحكومات الانتقالية التي جاءت بعده. ومن الأمثلة على ذلك الحصار الذي فرض على كاتدرائية القديس مرقس في أبريل 2013 مع اقتراب نهاية رئاسة محمد مرسي، وإطلاق النار وإحراق الكنائس.

ينبغي أن يُنظَر إلى العنف ضد الجماعة القبطية في مصر، والتي تمثّل أكبر عدد من السكان المسيحيين في الشرق الأوسط، في سياقه التاريخي والمؤسّسي. فأي هجوم من جانب المسلمين على الأقباط ينطوي على عنصر طائفي، بيد أن القوانين التي عفا عليها الزمن والمؤسّسات المصرية السلطوية، لا الاختلافات المذهبية، هي التي جعلت الأقباط هدفا للصراع الاجتماعي.

وإذا ما كانت المجموعة الحالية من القادة والليبراليين والإسلاميين ترغب في حماية جميع المصريين وإشراكهم، فإنها ستكون في حاجة إلى سنّ الإصلاحات القانونية والأمنية التي فشل السادات ومبارك ومحمد حسين طنطاوي (قائد القوات المسلحة الذي كان رئيسا للدولة بحكم الأمر الواقع بعد إطاحة مبارك) ومرسي في القيام بها. ويمكن لهذه الجهود أن تساعد في إعادة بناء الشعور الوطني بـ”الهوية المصرية” الذي تضاءل في عهد الحكام العلمانيين والإسلاميين على حدّ سواء.

 

الهوية المصرية والهوية الإسلامية

 

تقول الدراسة إنه بغضّ النظر عن حجمهم الديمغرافي، باعتبارهم أقلية، فقد جرى تمثيل الأقباط بصورة واضحة في البرلمان والحياة السياسية المصرية، ولا سيما خلال “الحقبة الليبرالية” في عشرينات القرن الماضي. ويكمن أحد أسباب الصدمة التي يشعر بها المراقبون المصريون والأجانب إزاء زيادة الهجمات على الأقباط اليوم، في أن هذا النوع من العنف ضد الأقباط جديد نسبيا. فخلال العقود الأربعة الماضية، تراجعت السمة الطائفية في العلاقات بين المسلمين والأقباط بشكل كبير.

ويشير جايسون براونلي إلى أن الأقباط كانوا منذ فترة طويلة عنصرا أساسيا في النضال من أجل الاستقلال الوطني والسيادة الشعبية في مصر. وجاءت ذروة المشاركة السياسية للأقباط في عشرينات القرن الماضي. فخلال ثورة العام 1919، تجاوزت الهوية الوطنية الانقسامات المذهبية عندما قاوم المسلمون والأقباط الحكم البريطاني، لا بوصفهم أفرادا في دين كل منهما، بل باعتبارهم مواطنين مصريين.

وقاد سعد زغلول هذه الحركة، وقدّم حزبه، “حزب الوفد”، رعاية مؤسّسية للأقباط كي يسعوا إلى الحصول على المناصب خلال العقود التالية. ومع ذلك، أدّت سنوات الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي إلى صعود تنظيمات على أساس ديني، أهمّها جماعة الإخوان المسلمين، التي أُسِّسَت في العام 1928، فضلا عن الانكماش الاقتصادي الذي أدّى إلى تفاقم القلق الاجتماعي وتأزيم العلاقات بين المسلمين والمسيحيين. ومن المفارقات في ذلك الوقت أن المؤيّدين الأجانب لحقوق المسيحيين، مثل المبشّرين الأنغليكانيين والإمبرياليين البريطانيين، أضعفوا الهوية الوطنية المصرية عن طريق وضع الحركات الإسلامية في موقف دفاعي وتعميق الخلافات المذهبية. فقد استخدمت بريطانيا العظمى الدّين كجزء من استراتيجية “فَرِّق تَسُد” التي أبقت على السيطرة البريطانية بحكم الأمر الواقع على الرغم من استقلال مصر الرسمي بعد العام 1922. وعندما برزت الهويات الطائفية بصورة أكبر، واجه الساسة الأقباط أوقاتا صعبة باستمرار للفوز في الانتخابات البرلمانية، حتى أن حزب الوفد خفّف من دعمه للأقباط.

 

الأقباط في عهد عبدالناصر

 

وينقل جايسون بروانلي عن كتاب “الأقباط في الحياة السياسية المصرية” أنه بعد ثورة الضباط الأحرار بقيادة جمال عبدالناصر في 23 يوليو 1952، عاد المصريون مرة أخرى ليجتمعوا تحت مظلّة مشروع وطني.

نحن مسلمون وطنا ونصارى دينا، اللهم اجعلنا نحن المسلمين لك، وللوطن أنصارا، اللهم اجعلنا نحن نصارى لك، وللوطن مسلمين

 

قد حظر ناصر حينها جماعة الإخوان المسلمين، وسعى إلى بناء الأمة العربية. ومع أن هذه الهوية الإقليمية الواسعة شملت المسيحيين والمسلمين، إلا أنها كانت تفتقر إلى “الهوية المصرية” المميزة التي ربطت بين أجزاء البلاد في عشرينات القرن الماضي. وعندما انتهت فترة حكم عبدالناصر، ازدادت النزعة الطائفية.

 

الأقباط والسادات

 

تدهورت العلاقات بين النظام والكنيسة في سبعينات القرن الماضي خلال رئاسة أنور السادات. فقد لجأ السادات إلى تبنّي الإسلام والإسلاميين كثقل موازن لليسار. واعتمد دستور 1971 مبادئ الشريعة الإسلامية بوصفها المصدر الرئيس للتشريع. كما سمح الرئيس لقادة الإخوان المسلمين بالخروج من السجن أو العودة من المنفى في الخارج. وبعدما يقرب من عقدين من العمل السرّي، عاد التنظيم مرة أخرى إلى العمل بصورة علنية.

وفي حين كان السادات يفكّك الناصرية ويمكّن للإسلاميين، ازدادت أعمال العنف الطائفي. فخلال العامين 1971 و1972، وقعت إحدى عشرة حادثة طائفية، نجم معظمها عن الخلافات حول تشييد الكنائس أو ترميمها. بيد أن هذه الاشتباكات الأوّلية لم تحظَ باهتمام جدّيّ من جانب الحكومة.

بعدئذ، في نوفمبر 1972، أشعل مخرّبون في منطقة الخانكة في القليوبية المقرّ المحلي لمنظمة قبطية اسمها "جمعية الكتاب المقدس"، والتي كان جزء منها يُستخدَم ككنيسة بشكل غير قانوني، بعد أن أمر الأنبا شنودة الثالث، خليفة كيرلس، مجموعة من الكهنة بزيارة الموقع وإقامة قدّاس. وقد أغضبت تعليماته، التي قام الكهنة بتنفيذها، الرئيس السادات، الذي اعتبر أن شنودة يتحدّى سلطته، كما أثارت غضب بعض المسلمين في المنطقة. وبعد أن غادر الكهنة الخانكة، أحرق المهاجمون ستّ شقق قريبة يملكها أقباط. وشكّلت الحادثة مؤشراً على أسوأ درك تصل إليه العلاقات بين المسلمين والأقباط منذ العام 1952.

 

مبارك والأقباط

 

حافظ محمد حسني مبارك، بعد تولّيه الرئاسة في 1981، على السياسات الداخلية والخارجية العامة للسادات، وخفّف من مستوى القمع الذي كان قد أغضب المصريين ونفَّرهم. كما استفادت العلاقات بين النظام والكنيسة من بداية جديدة، وأُطلِق سراح البابا شنودة من الإقامة الجبرية سنة 1985 وفق تسوية مؤقّتة دعمَ الأنبا بموجبها مبارك سياسيا في حين ميّز الرئيس الكنيسة القبطية الأرثوذكسية باعتبارها القناة الرئيسة للتعاطي مع مخاوف الأقباط. وأدّى الاتفاق، الذي شكّل نوعاً من هيمنة جماعة المصالح الدينية، إلى توسيع سلطة شنودة، وأتاح لمبارك مخاطبة الملايين من المسيحيين المصريين عبر وكيل واحد. وعلى مدى عقود برهنَ شنودة ثباته في دعم مبارك كما كان في معارضة السادات، ودعم النظام حتى عندما وقف الأقباط في صفوف الثوار شأنهم شأن المصريين المسلمين وطالبوا بسقوط النظام. في السنوات الأخيرة من حكم مبارك تدهور الاقتصاد والبنية التحتية والمناخ الأمني في مصر. وكما هي الحال في فترات أخرى، أوهنَ موسم الانحدار الأقباط وأضعف معنوياتهم جنبا إلى جنب مع كل المصريين الآخرين. وفي حين كانت الدولة في تراجع كان النشاط السياسي يتصاعد.

فبحلول العام 2009، بدأت مجموعة من الحركات الجديدة التي تدعو إلى حقوق العمال والاستقلال القضائي الكامل والإصلاح السياسي، تتحدّى النظام.

وكانت “الحركة المصرية من أجل التغيير” إحدى تلك الحركات التي ساعد بعض النشطاء الأقباط في تأسيسها في ديسمبر 2004، وكانت معروفة بشعارها “كفاية”. وأدّت التظاهرات التي قامت بها “كفاية” إلى كسر الحظر على المعارضة العلنية المنظّمة، كما قدّمت الجماعة سبلاً واضحة أمكنَ من خلالها للأقباط الذين عارضوا سياسات مبارك أن يتصرّفوا سياسياً، وأن يتحدّوا، ضمناً، شراكة الرئيس مع الأنبا شنودة.

 
التقاليد القديمة للرهبنة ما تزال تمارس إلى اليوم في مصر
 

 

لم يكَد يمرّ نصف ساعة على بداية العام 2011 حتى وقع انفجار شديد خلال قدّاس منتصف الليل في كنيسة القديس مرقس والأنبا بطرس القبطية (المعروفة أيضا باسم كنيسة القديسين) في الإسكندرية. وبدلا من وقف تدفّق الأقباط إلى صفوف المعارضة، دفع تفجير كنيسة القديسين الشباب الأقباط إلى التظاهر في الشوارع جنبا إلى جنب مع المسلمين.

 

الطائفية بعد ثورة 25 يناير

 

عندما أطلق المصريون “يوم الغضب” في 25 يناير 2011، أذكوا “الهوية المصرية” المشتركة التي ميّزت ثورة العام 1919 وعشرينات القرن الماضي. فبعد ثلاثة أيام، شقَّ الأقباط والمسلمون طريقهم جنبا إلى جنب ضد شرطة مبارك وبلطجيته. وطوّق المسيحيون المسلمين الذين كانوا يصلّون ودافعوا عنهم. وبالمثل ردّ المسلمون الجميل عندما مارس الأقباط عباداتهم يوم الأحد. وأظهر نموذج التحرير مرة أخرى كيف تغلّب التضامن الوطني على محاولات إثارة الفتنة على أسس دينية.

في وقت سابق، امتدّت أواصر الشعور الوطني لأكثر من عقد من الزمن عندما عارض حزب الوفد البريطانيين بعد ثورة العام 1919. وعلى النقيض من ذلك، بعد ثورة 2011، لم تستمر علاقة المودّة التي جمعت بين الأقباط وأعضاء الإخوان المسلمين سوى بضعة أسابيع. ففي 18 فبراير، أي بعد سبعة أيام على تنحّي مبارك، عاد الداعية الإسلامي الشيخ يوسف القرضاوي بعد عقود أمضاها في المنفى.

ومع أن خطبة القرضاوي خاطبت الأقباط وأثنت عليهم فضلا عن المسلمين، إلا أن ظهوره التاريخي، والذي كان يذكّر بعودة آية الله الخميني إلى إيران في فبراير 1979، أضفى نبرة إسلامية على الأسبوع الأول من مرحلة ما بعد مبارك.

وسرعان ما أظهر الإسلاميون المصريون نفوذا سياسيا أكثر إثارة للقلق للأقباط والمسلمين من غير الإسلاميين. وفي حين تميّزت مرحلة ما بعد ثورة العام 1919 بالوئام بين الطوائف، لم يكن المشهد السياسي للعام 2011 يضمّ أي حزب ديني عام وجامع لتمكين المسلمين أو الأقباط وحمايتهم. فبعد إعلان نتائج الاستفتاء، تبجّح أحد الدعاة السلفيين قائلا إن المسلمين “سيطروا” على صناديق الاقتراع، واقترح أن يحصل المصريون الذين يعارضون إقامة دولة إسلامية على تأشيرات دخول إلى أميركا وكندا.

 
بطرس غالي الأمين العام للأمم المتحدة في الفترة من 1992 – 1996
 

 

وعندما مرّت الذكرى الثانية لثورة 25 يناير، رأى الأقباط والمعارضة غير الإسلامية والعديد من المصريين العاديين أن بلادهم تعيش حالة من الفوضى السياسية والاقتصادية.

وخلال فترة حكم الإخوان أثبت العنف الذي مورِسَ ضد المسيحيين صحّة المخاوف التي انتابت الأقباط. فقد استمرت عمليات الخطف في صعيد مصر، وهزّت الهجمات ضدّ المسيحيين وسط البلاد كذلك. وعندما قويت شوكة الحركة الشعبية المناهضة لمرسي، “تمرّد”، كان الأقباط من بين الملايين الذين دعوا إلى عزل مرسي، وهي الدعوات التي استجاب لها الجيش بخلع الرئيس يوم 3 يوليو.

 

الأقباط يدعمون السيسي رئيسا

 

كان الفريق عبدالفتاح السيسي محاطاً بوجهاء من الجماعات الدينية الرئيسة في البلاد، بمَن فيهم الأنبا تواضروس، عندما أعلن عن حكومة مؤقّتة جديدة. وضمّت الحكومة الجديدة ثلاثة وزراء أقباط، كُلِّف أحدهم بتولّي حقيبة التجارة النافذة. وتنامى الشعور عند الأقباط بأهمية دور وزير الدفاع المصري المشير عبدالفتاح السيسي، ووجوده على الساحة السياسية، بعد مساندته المطلقة لإرادة المصريين في التخلص من حكم الاخوان، و تجلى ذلك خاصة في مرحلة الاستفتاء على الدستور المصري الجديد والتي أقبل عليها المصريون بشكل حاشد ليساهموا في رسم خارطة سياسية مختلفة لبلادهم، بعد مرحلة الإخوان.

وكان موقف الأقباط مما لا يدع مجالا للشك بأنهم مساندون للدستور الجديد، حيث أطلق “تواضروس الثاني” بابا الكنيسة القبطية نداء لجميع الأقباط للاستفتاء على الدستور بـ”نعم “.

ويرى المراقبون أن موقف الكنيسة ودعمهم المطلق للسيسي يأتي في إطار الدور الوطني والتاريخي للكنيسة الملازم لمصلحة البلاد، وهي في مرحلة ما بعد الإخوان تعتبر أن السيسي هو الضامن لاستقرار مصر.

 
اجمالي القراءات 2073
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق