كانت اللحظة مهيبة رهيبة؛ النبي - صلي الله عليه وسلم - علي فراش المرض والقلوب حوله ثكلي والأدمع تحتشد في المآقي؛ فوجئ الصحابة والأهل والأنصار الجالسون والعاكفون والملتفون حول فراش مرضه بالنبي من جوف الألم والتوجع يقول «ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده»، ولما انتبه الجمع وجف الدمع من الدهشة واللهفة واستعدوا لتنفيذ الأمر صعد صوت كاللهب بحرف كالشهب إذا به عمر بن الخطاب؛ ومن يجرؤ ومن يملك أن يكون صوته لهبا في حضرة المصطفي إلا هذا الرجل عمر بن الخطاب الفاروق الذي قال : إن النبي - صلي الله عليه وسلم - غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا.. والغريب أن أحدا لم يتحرك فيحضر كتابا لينفذ الأمر النبوي فالنبي نفسه لما سمع ما قاله عمر لم يصر ولم يصمم ولم يغضب ولم يعتب علي عمر بن الخطاب بل في الحقيقة بدا العكس تماما لقد أقر رأي عمر ووقع بصمته علي صواب كلمات الفاروق (لاحظ أن القرآن الكريم في آياته عن أسري النبي قد أقر رأي عمر).
نفهم من هذه الحادثة التي يعرفها بالقطع طلبة ابتدائي في الأزهر الشريف أن نصوص السنة النبوية لم تكتب في عهد النبي أو لم تجمع أو لم تحفظ وقتها بل كان ذلك بعدها بسنوات طويلة مديدة، بل إن أول محاولة لجمع وتدوين منظم للحديث النبوي كانت بعد 156عاما من هجرة النبي - صلي الله عليه وسلم - وهو عمر طويل يجعلنا نتساءل: ماذا حدث للتدوين والجمع مع تعدد الروايات والرواة ومع غياب الجمع أو التدوين؟.. وهذا التساؤل لم يشغلنا نحن الآن (فمن نحن؟) لكنه شغل الفقهاء والمفسرين والأئمة من قرون وراء قرون، خصوصا أن النبي - صلي الله عليه وسلم - قد قال في حديثه: «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار»؛ إذن البحث الذي جري ويجري هو حول التحقق والتأكد من كلام النبي لننفذه ونخضع له وليس نفيا للحديث ولا ضربا في السنة النبوية؛ بل هو بحث عن الذين كذبوا علي النبي؛ بحث عن مقاعد النار ومن يجلس عليها؛ وفي علم الأحاديث النبوية فإن الحديث المختلق المصنوع هو المكذوب علي رسول الله - صلي الله عليه وسلم - أو علي من بعده من الصحابة والتابعين، والموضوع من حيث مادته ونصه نوعان:
أن يضع الواضع كلاما من عند نفسه، ثم ينسبه إلي النبي - صلي الله عليه وسلم - أو إلي الصحابي، أو التابعي.
أو أن يأخذ الواضع كلاما لبعض الصحابة أو التابعين، أو الحكماء، والصوفية، أو ما يروي في الإسرائيليات، فينسبه إلي رسول الله؛ ليروج وينال القبول، وسوف أفتح معكم صفحات كتاب العلامة والمفكر العظيم أحمد أمين «فجر الإسلام» لنحاول إدراك الجواب عن سؤال: لماذا كذب الكثيرون علي النبي - صلي الله عليه وسلم - يري أحمد أمين في فجر الإسلام أن مرد ذلك عدة أسباب وعدداً من الدوافع منها :الخصومة السياسية : فالخصومة بين علي وأبي بكر، وبين علي ومعاوية، وبين عبدالله بن الزبير وعبد الملك بن مروان، ثم بين الأمويين والعباسيين، كل هذه كانت سببا لوضع كثير من الحديث، قال ابن الحديد في شرح نهج البلاغة: «واعلم أن أصل الكذب في حديث الفضائل كان من جهة الشيعة. فإنهم وضعوا في أول الأمر أحاديث مختلفة في صاحبهم (يقصد علي بن أبي طالب)، حملهم علي وضعها عداوة خصومهم، فلما رأت البكرية (يقصد أهل السنة) ما صنعت الشيعة وضعت لصاحبها في أحاديث نحو. لو كنت متخذا خليلا، فإنهم وضعوه في مقابلة حديث الإخاء، ونحو سد الأبواب فإنه كان لعلي، فقلبته البكرية إلي أبي بكر. فلما رأت الشيعة ما قد وضعت البكرية أوسعوا في وضع الأحاديث، ولقد كان الفريقان في غنية عما اكتسباه واجترحاه، ولقد كان في فضائل علي الثابتة الصحيحة وفضائل أبي بكر المحققة المعلومة ما يغني عن تكلف العصبية لهما.
وتلمح أحاديث كثيرة لا تكاد تشك وأنت تقرؤها أنها وضعت لتأييد الأمويين والعباسيين أو العلويين أو الحط منهم، كالحبر الذي روي أن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - قال في معاوية: اللهم قه العذاب والحساب وعلمه الكتاب»، وكالذي روي أن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: «إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله وصالحو المؤمنين». وقد قال ابن عرفة: إن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أمية تقربا إليهم بما يظنون أنهم يرغمون به أنوف بني هاشم.
ويتصل بهذا النحو أحاديث وضعها الواضعون في تفضيل القبائل العربية، ذلك أن هذه القبائل كانت تتنازع الرياسة والفخر والشرف، فوجدوا في الأحاديث بابا يدخلون منه إلي المفاخرة، كالذي وجدوه في الشعر، فكم من الأحاديث وضعت في فضل قريش والأنصار وجهينة ومزينة وأسلم وغفار والأشعريين والحميريين.
وكم من حديث وضع في تفضيل العرب علي العجم والروم، فقابلها هؤلاء بوضع أحاديث في فضل العجم والروم والحبشة والترك.
ومثل ذلك العصبية للبلد فلا تكاد تجد بلدا كبيرا إلا وفيه حديث بل أحاديث في فضله، فمكة والمدينة وجبل أحد والحجاز واليمن والشام وبيت المقدس ومصر وفارس وغيرها كل وردت فيه الأحاديث المتعددة في فضله. وعلي الإجمال فالعصبية الحزبية والقبلية، والعصبية للمكان كانت سببا من أهم أسباب الوضع.
ثم تأتي الخلافات الكلامية والفقهية كأحد الدوافع للكذب علي النبي ودس الأحاديث : فمثلا اختلف علماء الكلام في القدر أو الجبر والاختيار، فأجاز قوم لأنفسهم أن يؤيدوا مذهبهم بأحاديث يضعونها ينصون فيها حتي علي التفاصيل الدقيقة التي ليس من مسلك الرسول التعرض لها، وحتي ينصون فيها علي اسم الفرقة المناهضة لهم، بل واسم رئيسها ولعنه ولعنهم. وكذلك في الفقة، فلا تكاد تجد فرعا فقهيا مختلفا فيه إلا وحديث يؤيد هذا وحديث يؤيد ذاك،حتي مذهب أبي حنيفة الذي يذكر العلماء أنه لم يصح عنده إلا أحاديث قليلة، قال ابن خلدون: «إنها سبعة عشر» ملئت كتبه بالأحاديث التي لا تعد، وأحيانا بنصوص هي أشبه ما يكون بمتون الفقه.
ثم يأتي الدافع الأفدح والمشكلة الأخطر التي تلازم كل عهد وعصر وهي: متابعة بعض من يتسمون بسمة العلم لهوي الأمراء والخلفاء يضعون لهم ما يعجبهم رغبة بما في أيديهم، كالذي حكي عن غياث بن إبراهيم أنه دخل علي المهدي بن المنصور، وكان يعجبه اللعب بالحمام فروي حديثا: «لا سبق إلا في خف أو حافر أو جناح»، فأمر له بعشرة آلاف درهم، فلما قام ليخرج قال المهدي: أشهد أن قفاك قفا كذاب علي رسول الله ما قال رسول الله - صلي الله عليه وسلم - «جناح» ولكنه أراد أن يتقرب إلينا . ثم تظهر كذلك النيات الحسنة والمقاصد التي تبدو طيبة كنهها تغوص في قلب الأزمة وهي : تساهل بعضهم في باب الفضائل والترغيب والترهيب ونحو ذلك مما لا يترتب عليه تحليل حرام أوتحريم حلال، واستباحتهم الوضع فيها فملأوا كتب الحديث بفضائل الأشخاص، حتي من لم يرهم النبي - صلي الله عليه وسلم - وبفضائل آيات القرآن وسوره، كالذي روي عن أبي عصمة نوح بن أبي مريم أنه وضع أحاديث في فضائل القرآن سورة بعنوان أن من قرأ سورة كذا فله كذا، وروي ذلك عن عكرمة عن ابن عباس وتارة يروي عن أبي بن كعب - وهي الأحاديث التي نقلت في تفسير البيضاوي عند ختم كل - سورة فلما سئل: من أين هذه الأحاديث؟ قال لما رأيت اشتغال الناس بفقه أبي حنيفة، ومغازي محمد بن إسحاق، وأعرضوا عن حفظ القرآن وضعت هذه الأحاديث حسبة لله تعالي، والحقيقة المؤكدة أنه قد تم تأليف ووضع أحاديث كثيرة في فضائل السور والآيات، وقصد واضعوها ترغيب الناس في قراءة القرآن الكريم تقربا إلي الله وترغيبا إلي القرآن، والشهير هنا الذي نسمعه في كل خطبة وفي كل شريط قرآن لشيخ مقدمة من الشركة المنتجة هو هذا الحديث الطويل الذي يروي عن أبي بن كعب، عن النبي في فضائل القرآن سورة سورة.
فقد بحث مؤمل بن إسماعيل، حتي وصل إلي من اعترف بوضعه، قال مؤمل : حدثني شيخ بهذا الحديث، فقلت له : من حدثك بهذا؟ قال : رجل بالمدائن، وهو حيٌّ، فسرت إليه، فقلت : من حدثك، بهذا؟ قال : حدثني شيخ بواسط، فسرت إليه، فقلت : من حدثك بهذا؟ فقال : حدثني شيخ بالبصرة، فسرت إليه، فقلت : من حدثك بهذا؟ فقال : حدثني شيخ بعبادان، فسرت إليه فأخذ بيدي فأدخلني. بيتًا فإذا فيه قوم من المتصوفة، ومعهم شيخ، فقال : هذا الشيخ الذي حدثني، فقلت: يا شيخ من حدثك بهذا؟ فقال : لم يحدثني أحد، ولكنا رأينا الناس قد رغبوا عن القرآن، فوضعنا لهم هذا الحديث، ليصرفوا قلوبهم إلي القرآن.
ومثل هذا كثير في كتب الأخلاق والتصوف من أحاديث في الترغيب والترهيب لا يحصي لها عد ومن هذا الباب أدخل القصاص في الحديث كثيراً .
ومن أهم الدوافع الحميدة لارتكاب التزوير علي النبي كما يشرح أحمد أمين المفكر والعلامة والأستاذ في فجر الإسلام (يخيل إلي أنه من أهم أسباب الوضع مغالاة الناس إذ ذاك (وحتي الآن بالقطع) في أنهم لا يقبلون من العلم إلا علي ما اتصل بالكتاب والسنة اتصالا وثيقا، وما عدا ذلك فليس له قيمة كبيرة فأحكام الحرام والحلال إذا كانت مؤسسة علي مجرد «الاجتهاد» لم يكن لها قيمة ما لم يكن قد أسس علي الحديث، بل كثير من العلماء في ذلك العصر كان يرفضها ولا يمنحها أي قيمة، بل بعضهم كان يشنع علي من ينحو هذا النحو والحكمة والموعظة الحسنة إذا كانت من هندي أو يوناني أو فارسي، أو من شروح من التوراة أو الإنجيل لم يؤبه لها فحمل ذلك كثير من الناس أن يصبغوا هذه الأشياء كلها صبغة دينية حتي يقبلوا عليها فوجدوا الحديث هو الباب الوحيد المفتوح علي مصراعيه، فدخلوا منه علي الناس، ولم يتقوا الله فيما صنعوا، فكان من ذلك أن تري في الحديث الحكم الفقهي المصنوع والحكمة الهندية والفلسفة الزرادشتية والموعظة الإسرائيلية أو النصرانية).
كان طبيعيا إزاء كل هذا أن يتحرك العلماء والفقهاء والأئمة فقد روعت هذه الفوضي في الحديث عن رسول الله جماعة من العلماء الصادقين فنهضوا لتنقية الحديث مما ألم به، وتمييز جيده من رديئه، وسلكوا في ذلك جملة مسالك.
منها أنهم طالبوا بإسناد الحديث، أعني أنهم يعنوا رواة الحديث، فيقول المحدث: حدثني فلان عن فلان عن رسول الله أنه قال كذا، ليتمكنوا بذلك من معرفة قيمة المحدث صدقا وكذبا ونظروا هل المحدث ينتسب إلي بدعة، وضع الحديث وترويج لها، وجاء في مقدمة صحيح مسلم عن ابن سيرين قال: لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم فينظر إلي أهل السنة فيأخذ حديثهم وينظر إلي أهل البدع فلا يأخذ حديثهم.
من هنا يبدو طبيعيا تماما ألا يشغلنا كثيرا إجماع من أجمع فكما عرفت السنة ذلك التعبير الجميل (متفق عليه) عرفنا جميعا التعبير الهائل (مختلف عليه) وكل بما يحتج وكل علي ما يستند.. والله من وراء القصد.