وظيفة القضاء‏ ‏بين الاسلام والمسلمين ( المقال التاسع ):
انهيار القضاء لدى المسلمين منذ العصرالعباسى الثانى

آحمد صبحي منصور Ýí 2009-10-02


 

أولا : ( المحسوبية ) فى العصر العباسى الثانى :
 
1 ـ انهيار وظيفة القضاء نعنى بها أن تتحول مهمة القضاء من الحكم بالعدل الى تقرير الظلم .
إذ أسهمت عوامل جانبية فى الاسراع بانهيار القضاء بجانب العامل الرئيس وهو الاستبداد و الفساد فى رأس الحكم .
 
2 ـ من تلك العوامل المحسوبية فى تعيين القضاة على حساب العلم و الخ&Egde; و الخبرة ، وقد انتقلت هذه المحسوبية من رأس الدولة ( الخليفة ) الى من هم أقل منه شأنا ، وسبق أن الخليفة الرشيد قام بتعيين ابن القاضى أبى يوسف قاضيا ، وأن أبا يوسف نفسه قام بتعيين أحد الفاسدين قاضيا بسبب تهديد الأخير له . بمرور الزمن تجذرت المحسوبية لتصل الى الوزير الفاسد الذى يعين أتباعه فى منصب القضاء .
ونأخذ مثلاعلى ذلك بالوزير ابن الفرات فى خلافة المقتدر بالله الذى سيطرت والدته شغب على مقدرات الخلافة ودار الصراع على اشده على منصب الوزارة ، وتقلب ابن الفرات بين السجن والاختفاء و العودة لمناصبه . وفى إحدى دورات ولايته للوزارة تقلد منصب القضاء شخص إسمه الأحوص بن المفضل المتوفى 300 . وهو مشهور بكنيته (أبو أمية ) .
كان أبو أمية الأحوص بن المفضل فى الأصل تاجر حرير فى بغداد ، ثم حدث أن استتر عنده الوزير ابن الفرات أثناء نكبته ، ووعده إن انقشعت محنته وتولى الوزارة أن يقلده عملا من أعمال ( السلطان ) ، وننقل الحوار الذى جرىبينهما حسبما اورده ابن الجوزى ، يقول عن القاضى الأحوص أبى أمية : (وكان يتجر في البز ببغدادفاستتر ابن الفرات عنده وقال له‏:‏ إن وليت الوزارة فأي شيء تحب أن أصنع بك ؟ فقال‏:‏تقلدني شيئًا من أعمال السلطان قال‏:‏ ويحك لا يجيء منك عامل ولا أمير ولا قائد ولاكاتب ولا صاحب شرطة، فأيش أقلدك ؟ قال‏:‏ لا أدري قال‏:‏ أقلدك القضاء .!! قال‏:‏ قد رضيت ) . وسواء صحت هذه الرواية أو لم تصح فان كتابة هذا الحواريدل على ما وصلت اليه وظيفة القضاء وقتها ،أى إن هذا الرجل العامى لا يصلح لأى منصب عسكرى أو أمنى أو كتابى ديوانى ، فلا يبقى له إلا أن يصلح فى أدنى وظيفة وهى القضاء .!
 
ونرجع الىرواية ابن الجوزى وهو يقول بعدها (   ثم خرج ابن الفرات وولي الوزارة وأحسن إلى أبي أمية وأفضل عليه وولاه قضاء البصرةوواسط والأهواز وانحدر أبو أمية إلى أعماله وأقام بالبصرة )
أى تولى ذلك التاجر العامى القضاء مع جهله بالفقه و الشرع ، يقول عنه ابن الجوزى ( وكان قليل العلم يخطئ إلاأن عفته وتصونه غطيا على نقصه ) أى كان عفيفا ، وبهذه العفةالتى تميزبها عن بقية القضاة ( المتعلمين ) أكمل نقصه .وانتهىامرهذا القاضى بالسجن والموت فى سجنه بسبب الصراع بين ابن الفرات وابن كنداج ، يقولابن الجوزى ( ولا نعلم أن قاضيًا مات في السجن سواه .. ثم عاد ابن الفرات إلى الوزارة فحدث بذلك فاغتم وقال‏:‏ هل له ولد؟  فجيء بابن له فيه تغفيل فقال‏:‏ هذا لا يصلح ، فوصله بمال.) . ‏
أى إن ابن الفرات عاد للوزارة فسأل عن القاضى أبى أمية فعرف بموته فى السجن فاراد أن يعين إبنه مكانه فى القضاء ، ولكن الابن كان معاقا في عقله ، فلم يستطع ابن الفرات تعيينه قاضيا مكان أبيه ، واكتفى بإعطائه بعض المال .( المنتظم 13 /133   ـ   وفيات 300 ).
3 ـ الواقع ان عصرالخليفة المقتدر العباسى شهد تحولا خطيرا ليس فقط فى القضاء ولكن فى نواح أخرى نالها الفساد بسبب سيطرة ام المقتدر شغب وفسادها ، حتى إنها ضغطت على ابن البهلول(ت عام 318)  لتأخذ منه وثائق وقف  لتزورها . (المنتظم 13  /292 ) وكانت سابقة خطيرة .
ثانيا : الرشوة وشراء المناصب فى العصر المملوكى :
1 ـ ثم ازداد الحال سوءا فيما بعد ، حتى إذا وصلنا فى عصر المماليك البحرية كان من الأفضل لصاحب الحق أن يتنازل عن حقه ويسكت على الظلم بدلا من الذهاب الى القاضى .
ثم إزداد الانحراف والانحلال فى عصر المماليك البرجية الذى بدأ بالسلطان برقوق حيث شاعت رشوة السلطان أو شراء المناصب ، ومنها منصب القضاء ، وهذا يعتبر دافعا للقاضى ليحكم بالظلم لمن يدفع له أكثر كى بسترد ما دفعه من رشوة . أى أصبحت وظيفة القضاء رسميا لتكريس الظلم ، بعد أن كانت فى العصر العباسى تكرس الظلم ضمنيا بالمحسوبية و الفساد والاستبداد .
 
2 ـ وقد عاش المقريزي ذلك التحول الخطير الذي حدث مع بداية القرن التاسع الهجري ، ذلك التحول الذى لم يقتصر على انتقال السلطة من المماليك البحرية إلى المماليك البرجية أو الشراكسة وكبيرهم برقوق وتلامذته من بعده ، ولكن ما صاحب ذلك التحول من انهيار اقتصادي وأخلاقي وديني ، وكان قلم المقريزي له بالمرصاد فوصفه وعلق عليه بين ثنايا تاريخه السلوك ..
وكان حال المشايخ من أهم ما شغل به المقريزى نفسه حيث ينتمي إلى نفس الطائفة ، وكان أحرص على تقويمهم ، ولكن الناس على دين ملوكهم ، وحدث فى أيام الظاهر برقوق (تجاهر الناس بالبراطيل) على حد قول المقريزي فلا يكاد يتولى أحد الوظيفة إلا بعد أن يدفع الرشوة ، وترتب على ذلك أن ( وصل الأراذل للوظائف الجليلة ففسدت الأحوال ) على حدّ قول المقريزى ، وصارت بعد السلطان برقوق أمرا مألوفا أن تباع وظائف القضاء والتدريس فى المساجد والمدارس والخوانق ، وكان الذي بيده وظائف متعددة يبيع بعضها فى مقابل المال وليس مهما أن يكون المشتري كفئا للمنصب أم لا .
 
3 ـ ويذكر المقريزي فى حوادث 27 رمضان سنه 825 فى سلطنة الأشرف برسباي أنه ( نودي بأمر السلطان بألا ينزل أحد من الفقهاء عن وظيفته فى وقف من الأوقاف ، وهدد من ينزل منهم عن وظيفته ) يقول المقريزى معلقا على هذه الدعوة الاصلاحية ( فأمتنعوا عن النزول ثم عادوا لما كانوا ، ينزل هذا عن وظيفته فى الدروس أو التصوف فى الخوانق أو القراءة أو المباشرة فى مقابل المال فيلي الوظائف غير أهلها ويحرمها مستحقوها ، فإن الوظائف المذكورة صارت بأيدى من هى بيده ، ينزلها منزلة الأموال المملوكة فيبيعها إذا شاء ويسمى بيعها نزولآ عنها ويرثها من بعده صغار ولده ، وسرى ذلك حتى فى التداريس الجليلة والأنظار – أي النظارة مثل ناظر الوقف –المعتبرة وفى ولاية القضاء .. يليه الصغير بعد موت أبيه ، وينوب عنه كما يستناب فى تدريس الفقه والحديث النبوي وفى نظر الجوامع ومشيخة التصوف ) ثم يقول المقريزى متحسرا ( .. فيا نفس جدي إن دهرك هازل ..)
فالمقريزي بعد أن أنكر تلك التجارة بالوظائف الدينية والعلمية والتعليمية تنهد متحسرا " يا نفس جِدٍّي إن دهرك هازل .."
 4 ـ وبعد المقريزى بنصف قرن تقريبا ساءت الأحوال أكثر وأكثر ، بعد أن اعتاد أصحاب الوظائف توريث وظائفهم لصغارهم بلا مؤهل سوى النسب ، وبالتالى وصل الى منصب القضاء من لا يستحق ، فالأب الذى اشترى منصب القضاء اصبح مالكا له يورثه من بعده لابنه ، فإذا كان الابن صغيرا فانهم يجعلون أحد الناس يلى الوظيفة نيابة عن الابن الى أن يكبر الابن . ويكبر الابن و لا حاجة له لأن يتعلم فالوظيفة محجوزة له سواء كان عالما أو جاهلا ، بل اصبح العلم غير مرغوب وليس من مؤهلات القاضى لأنه يحكم كما يحلو له على أية حال ، ويحكم طبقا للرشوة التى ياخذها من أحد الخصمين أو كليهما .
بعد نصف قرن جاء القاضى ابن الصيرفى يؤرخ لعصر السلطان قايتباى باليوم و الشهر و يسجل أحداث العصر ومنها ما يخص فضائح القضاة و شيوخ العلم .
ومن خلال ما كتبه القاضي المؤرخ ابن الصيرفي عن قضاة العصر المملوكي وشيوخه في القرن التاسع الهجري نكتب هذه اللمحات التاريخية .
*ــ القاضي المالكي ابن سويد : كان وافر المال ومع ذلك كان " ساقط المرءوة مبهدلا في الدول " أي كانوا يضربونه بسبب بخله وجمعه للمال ويقول ابن الصيرفي " وقضيته كانت مع كسباي الداودار مشهورة في الضرب والحبس والبهدلة كل ذلك لشح كان فيه وبخل زائد وتقتير علي عياله مع اجتهاد كبير في تحصيل المال .." وقد توفي سنة 873 هـ .
*ــ القاضي ابن الهيصم ، يقول عنه ابن الصيرفي " كان عريا من الإسلام كثير الميل إلي دين النصرانية مدمنا على السكر لا يكاد يوجد صاحيا لحظة ، ولما ولي البباوي الوزر ـ أي لما تولي البباوي الوزارة ــ طلبه وضربه ثلاث علقات في مجلس واحد بسبب أنه لم يشهد صلاة الجمعة " وقد توفي هذا القاضى سنة 874 هـ .
* ــ القاضي ابن جنه مات سنة 876 وترك ثلاثة أخوة امرأة ورجلين وترك ابنتين ، وحرم أخويه من حقهما من الميراث ، وجعل الميراث لأخته وابنتيه . ويقول المؤرخ ابن الصيرفي معقبا،" والله تعالي يجمع بينهم ويحكم فيهم بعدله ..".
* ــ ويذكر ابن الصيرفي في حوادث شهر جمادي سنة 876 أن شخصا من قضاة الريف يعرف بقاضي البرلس باع طفلا صغيرا حرا لبعض العربان ، فعرفه أبواه وشكيا القاضي للسلطان قايتباي فضربه السلطان بالمقارع وأمر باعتقاله ...
* ــ وكان بعض القضاة يجمع حوله أوباش الناس من أهل المنطقة التي يعيش فيها ويفرض سلطانه علي الحي ويصدر أحكامه بالحبس والضرب وهو فى بيته دون أن يذهب إلي المحكمة .
    وأشهر أولئك القضاة القاضي الحنفي محيي الدين الحلبي الذي أطلق عليه المصريون لقب " كبش العجم " وقد سكن في رحبة الأيدمري وفرض نفوذه عليها ، يقول عنه ابن الصيرفي " فصار يصول ويطول ويعزر، وعمل له سوقا فصار نافقا ، ولقبه أهل مصر بكبش العجم ، حتى قال بعضهم هو ما تأدب بالخروف الذي تقدمه في دولة الظاهر خشقدم " ووصف ابن الصيرفي نفوذ هذا القاضي وعجز المسئولين عن الحد من سطوته ثم يقول " وصار ساكنا بالحارة المذكورة يضرب ويرتشي ويكشف الرءوس ويسجن .." وكان كشف الرءوس من وسائل الإهانة في ذلك الوقت .. وانتهي أمر هذا القاضي بتدخل السلطان قايتباي الذي أمر باعتقاله مع أعوانه وعزله..
وهنا نشهد بداية تحول غريب ، هو أن السلطان المستبد الظالم ( الأشرف قايتباى ) كان أحرص على العدل من قضاته أنفسهم .
    وبسبب ما فعله السلطان قايتباى بذلك القاضى الحنفى ( محيى الدين الحلبى ) فقد أصدر قاضي القضاة الحنفي مرسوما للقضاة الأحناف  يتضمن" أنهم لا يحكمون إلا في مجالسهم ولا يعزرون أحدا إذا وجب عليه تعزير إلا بالباب العالي" أى لا يحكمون بالضرب إلا فى المحكمة . ويعلق ابن الصيرفي وكان قاضيا حنفيا في ذلك الوقت ــ فيقول " وكم يقع مثل هذا في الوجود ولا اعتبار له فيه .." أي استمر القضاة يحكمون بالهوى في بيوتهم ويضربون ويرتشون .. !!
 
5ــ وشهدت سنة 875 هــ بعض السقطات الفظيعة للقضاة ..
 * ففي 16جمادي الأولي : ماتت إمرأة ثرية اسمها بنت الخازن وخلفت أموالا جمة ولها أوقاف كثيرة ، ويؤول النظر في الأوقاف بعدها إلي قاضي القضاة الحنفية ،وأراد القاضي الشافعي الوثوب والتكلم في الأوقاف ليستولى عليها من زميله قاضى القضاة الحنفى ، ومعروف أن قاضى القضاة الشافعى هو الأعلى مكانة بين زملائه . والواقع إن حرص قاضى القضاة الشافعى كان على سرقة أموال تلك الأوقاف ، وعرف السلطان بالموضوع فقال " أنا أحق من الاثنين ولكن أعمل فيهم بالشرط واحميهم عن الغاصبين"أي أن السلطان اعتبر قاض القضاة الحنفي وقاض القضاة الشافعي غاصبين ولا يستحقان القيام علي أوقاف المتوفاة بالأمانة ..!!
 * وفي جمادي الآخرة اعتقل القاضي الشافعي صلاح الدين المكيني بتهمة استبدال الأوقاف ، وقال له الأمير تنبك الداودار " قم في الترسيم ــ أي الاعتقال ــ حتى ترد الرزق ، أي المال فقال له " قاضي الشافعية يفعل به كذا" فقال له الأمير " لا رحم الله الذي ولاك قاضيا.." ويعلق ابن الصيرفي متحسرا " فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ..!!"
 * وفي 23شعبان .. قام قاضي القضاة محب الدين بن الشحنة الحنفي وابنه عبد البر وأتباعهما بزيارة الشيخ بدر الدين الاردبيلي وكان يحتضر ، وكانت بيد الشيخ الأردبيلي وظائف جليلة بالمدارس الحنفية ، وليس له ورثة ، وتفاوضوا مع الشيخ الاردبيلي وهو يحتضر علي بيع وظائفه إلي عبدالبر ابن قاضي القضاة الحنفي ، وبعد أن جعلوه يوقّع الأوراق وهو غائب عن الوعى يعالج سكرات الموت ـ مات  ذلك الاردبيلي . ووصل الخبر إلي السلطان قايتباي فاحتد وانزعج فاستدعاهم وشتمهم ، يقول ابن الصيرفي " لما مثلوا بين يدي السلطان قسا عليهم وقال : تشهدوا علي شخص غايب الوجود ومصداق ذلك أنه مات من ليلته واخرتوه إلي يوم السبت " أى أجلوا دفنه الى يوم السبت خوف الفضيحة ، فاعتذروا عن ذلك  للسلطان ، فلم يقبل منهم " واعتقل السلطان الشهود علي العقد وشتم قاضي القضاة الحنفي .. وشفع فيهم كاتب السر "، ويعلق ابن الصيرفي علي ما فعله شيخه قاضي القضاة الحنفي فيقول " وفي الواقع فقضاة الشرع لو عظموا أوامر الله وحقوقه لعظمهم ، ولكنهم خافوا علي وظائفهم ، فأهانوا أنفسهم والأمر إلي الله " ؟!!
 
ثالثا : السلطان قايتباى يعزل كل القضاة ويتولى بنفسه وظيفة القضاء عام 876 .
 
 تلك الأحداث أدت بالسلطان قايتباى لأن يعزل القضاة كلهم عام 876 بعد أن فقد ثقته فيهم ، وكان هذا إعترافا بانهيار النظام القضائى فى عصر قايتباى .وبالطبع لم يتحمل السلطان قايتباى أن يعمل قاضيا ، فاضطر بعد مدة لإعادة القضاة الى وظائفهم ليستمروا فى ظلم الناس ومنع العدل .
ونعطى بعض التفصيل السابقة لهذا الحادث الجلل الذى يتم الكشف عنه لأول مرة :
 
1 ـ فى يوم الثلاثاء 21 من جمادى الأولى سنة 876هـ عقد السلطان قايتباي مجلساً لعلماء الشرع كي يفتوه في مشكلة تتعلق بأوقاف إحدى المدارس، وحضر القضاة والعلماء وكبار الفقهاء واحتدم الخلاف بينهم جميعاً أمام السلطان وشتم بعضهم بعضاً واتهم بعضهم بعضا بالكفر، وقال الشيخ الكافيجي أحد العلماء الكبار وقتها للسلطان قايتباي عن الشيخ قاسم الخفجي : هذا الرجل محجور عليه من الفتوى لأنه يأخذ عليها رشوة، وتطورت الاتهامات المتبادلة بين الفقهاء الكبار فتركهم السلطان بعد أن أمرهم أن يظلوا في الاجتماع إلى يصلوا إلى فتوى يتفقون عليها . وعاد لهم السلطان فوجدهم على حالهم من الصياح والخصام . وفي النهاية أفتى قاضي القضاة المالكي باللجوء إلى حكم السلطان ليعلن بذلك أن السلطان قايتباى العسكري أفقه من قضاة الشرع بأمور الشرع .
كان فساد القضاة قد أثار السلطان ، ثم أظهرت له تلك الحادثة انهم ليسوا فقط فاسدين بل جهلة ورفاق متشاكسون .
 
2 ـ في يوم الأربعاء 28 جمادى الآخرة أمر السلطان قضاة القضاة أن يحضروا إليه بنوابهم بين يديه ليعرضهم ويمتحن أحوالهم بنفسه بعد أن ضاق صدره بانحلالهم ومشاكلهم مع بعضهم . فقد أمر بأن ينادي في المدينة أن أحداً من القضاة لا يحكم حتى يصعد إلى السلطان، وكان هذا الأمر عاراً على جميع القضاة وقتها، ومنهم يومئذ مؤرخنا ابن الصيرفي القاضى الحنفي،
ويعلق مؤرخنا القاضى ابن الصيرفى ملتاعا متحسرا فيقول (وبات قضاة القضاة ونوابهم من كل مذهب بكل شر وسوء، فإن هذا عار عظيم وبهدلة زائدة وكسر قلوب لعباد الله ).وأخذ السلطان يستدعى قضاة القضاة و نوابهم واحدا واحدا ويحقق معهم بنفسه ، وكان من بينهم القاضى المؤرخ ابن الصيرفى نفسه ، وقد حكى التفاصيل الدالّة على وضاعة القضاة ورعبهم و من السلطان ، و توسلهم بكل طريق أن يعفو عنهم ، مع تعامله معهم بكل إحتقار .
 
 3 ـ  وانتهر الناس الفرصة فهرعوا يستغيثون بعدل السلطان الذى نزل عليه فجأة، يقول مؤرخنا عن أحداث يوم الثلاثاء رابع شهررجب ( كان الموكب السلطانى وكثرت الشكاوى على الأكابر والأصاغر.)
وفي يوم السبت التالى ثامن رجب "كانت الخدمة بالاصطبل على العادة وشكى الاستادار وناظر الخاص وأمير آخور كبير وقاضى الشافعي وابن زوين كاشف الوجه الغربي)
وعاقب السلطان الظلمة من أعوانه بالشدة، وارتبطت هذه الشدة أحياناًبالعطف على الفقراء، يقول مؤرخنا "ووقف له جماعة من الفقراء بقصص- أى شكاوى- فرسم لغالبهم بدينار ورسم لشخص مقطوع الرجلين بثلاثة دنانير، وشكى له نصره الله نائب غزه فجهز له بريدياً، وشكوا له قضاة حماة فرسم بإحضارهم".
 
4 ـ  وفي يوم الاثنين 10 رجب كانت مشكلة وقف المدرسة السيفية، وتدخل فيها السلطان بنفسه بسبب عجز القضاة فتوجه للمدرسة بنفسه ، وأرسل السلطان لقضاة القضاة  (الشافعي، الحنفي، المالكي) فجاءوا بهم على وجه السرعة ، ووقف العوام ينظرون إلى القضاة وهم يسرعون بهم للسلطان، يقول مؤرخنا ابن الصيرفى يصف ذلك المشهد : ( ومروا بالقاهرة والخلق من العوام والأوباش ينظرون إليهم ويقولون فيهم ما شاءوا وصار بعضهم ينسبهم إلى خراب الأوقاف وبعضهم ينسبهم إلى بيعها.) أى تجمع حول اولئك القضاة جماهير من الناس تسبهم وتلعنهم.
وفى مداولات القضية اتهم السلطان قضاة القضاة بالكذب و التدليس .
واكتسب السلطان مكانة عالية بين جمهور العوام بسبب موقفه من القضاة، وحدث يوم الاثنين 17 رجب أنه توجه إلى أبى زعبل ليفتتح سبيلاً أنشأه هناك وحل آذان المغرب فنزل وصلى إماماً بالناس بمدرسة ابن الجيعان ودخل من باب القنطرة من بين الصورين،( وأثناء مروره بالقاهرة اجتمع حوله الناس يدعون له بالبقاء والدوام.)
 
5 ـ وأخيرا
في يوم السبت 22 رجب تصدى السلطان لمباشرة القضاء بنفسه فى الاسطبل السلطانى فى القلعة ، حيث وقف الشاكون أصحاب الشكاوى ونودى في المدينة بأن من له دعوى يحضر بين يدى السلطان.
وترك الناس التحاكم بين القضاة بعد ما حدث ، واتجهوا للسلطان في كل أمورهم الشرعية والسياسية الحكومية، وكانت محنة لكل أرباب المناصب، وكانت تتكرر هذه المحنة يومي السبت والثلاثاء حيث يعقد السلطان جلسته في المصطبة للحكم بين الناس ، يقول مؤرخنا ( وشكت امرأة على زوجها للسلطان أنه تزوج عليها ويضاجرها فردها رداً قبيحاً، فلا قوة إلى بالله، وكثرت الشكاة حتى أن بياع الفجل قال اشتكى السلطان.).
 والملاحظ مما سبق أن السلطان كان يتلقى الشكاوى السياسية من ظلم أرباب الوظائف كما كان يتلقى الشكاوى الشرعية وقضايا الأحوال الشخصية كما حدث في الشكوى من تلك المرأة التى اشتكت زوجها الذى تزوج عليها ويضاجرها.والملاحظة الهامة أن كل الناس كان يقصد السلطان للشكوى في كل شيء حتى أن بياع الفجل يقول اشتكى السلطان.
 
6 ـ  وظل السلطان يقوم بوظيفة القضاة إلى يوم الثلاثاء 10 شعبان حين اشتكي له شخص من رأس نوبة نقيب الجيش واقتنع السلطان بصدق دعوى الشاكي فضرب المدعى عليه، وظهر كذب المدعى فضربه السلطان، ثم أمر الوالى أن ينادي في المدينة أن أحداً لا يشكو أحداً للسلطان حتى يقف على القضاة والحكام فإن أنصفوه وإلا يقف له، وبذلك أعاد السلطان القضاة مسئوليتهم وجعل نفسه الدرجة الأخيرة في التقاضى.
أى بلغ احتقار السلطان لأولئك القضاة مداه سنة 876 حين منعهم من الحكم وتولى بنفسه القضاء في سابقة خطيرة لم تحدث من قبل في تاريخ مصر بعد الفتح الإسلامي.
 
ختاما  :
 
1 ـ تخلصت مصر من ذلك القضاء ( السنى ) حين بدأت إصلاحا تشريعيا وقضائيا منذ القرن التاسع عشر ، دخلت به مرحلة الدولة الحديثة ( والدولة الحديثة هى كيان قانونى قبل كل شىء ) ، وذلك الاصلاح التشريعى والقضائى فى مصر أنتج صياغة للقانون المدنى والجنائى ، وأبقى جانب الأحوال الشخصية لما سمى بالقضاء الشرعى ، ثم ألغى عبد الناصر المحاكم الشرعية و ألحقها بالقانون العادى و القضاء العادى . وبذلك تخلصت مصر من ذلك التشريع السنى الذى أسس الظلم باسم شرع الله جل وعلا.
ولكن الاستبداد العسكرى فى مصر أوجد ظلما من ناحية أخرى حيث تتم مصادرة العدل بوجود حكم مستبد . أى أصبحنا فى حاجة الى تأسيس إصلاح تشريعى تقوم عليه دولة ديمقراطية مدنية ترعى الحرية وتحافظ على العدل الاجتماعى وتحمى حقوق الانسان وكرامته، وتؤسس على الحكم المحلى ( لا المركزى ) والفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية.
وحتى يتحقق هذا الاصلاح المرتجى فلا زلنا نعيش مرحلة الانهيار القضائى بوجود الاستبداد والفساد.
 
2 ـ لم تكن صورة القضاء الشرعى السّنى بهذه القتامة فى العصرين العباسى والمملوكى . كانت القتامة هى القاعدة ، ولكن كان لها إستثناء .
فقد ظهر قضاة تحروا العدل فى وجود السلطان المستبد الجائر ، كما ظهر فقهاء أحرار رفضوا منصب القضاة ترفعا عن العمل لدى سلطان مستبد جائر . كما حاول بعضهم إصلاح القضاء فى زمن ردىء يرفض الاصلاح .
 

3 ـ هذا الاستثناء يستحق التنويه ، لذا انتظرونا لنتوقف معه فى مقالات قادمة من هذه السلسلة.

اجمالي القراءات 18599

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
التعليقات (5)
1   تعليق بواسطة   عثمان محمد علي     في   السبت ٠٣ - أكتوبر - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً
[42596]

دول ما حصلوش قاضى البلاج

رحم الله قاضى البلاج (عبدالحليم حافظ ) /فقد كان أكثر منهم رأفة ورحمة وعدلا بالمتخاصمين .


2   تعليق بواسطة   لطفية سعيد     في   الأحد ٠٤ - أكتوبر - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً
[42643]

حاميها حراميها

هذا الرجل محجور عليه من الفتوى لأنه يأخذ عليها رشوة، وتطورت الاتهامات المتبادلة بين الفقهاء الكبار فتركهم السلطان بعد أن أمرهم أن يظلوا في الاجتماع إلى يصلوا إلى فتوى يتفقون عليها . وعاد لهم السلطان فوجدهم على حالهم من الصياح والخصام . وفي النهاية أفتى قاضي القضاة المالكي باللجوء إلى حكم السلطان ليعلن بذلك أن السلطان قايتباى العسكري أفقه من قضاة الشرع بأمور الشرع .


هناك كما أذكر مثلا يقوله العامة يصف الأحوال السابقة للقضاة في العصر العباسي والمملوكي (حاميها حراميها ) ! !!


وعند صدق القضاة في وصف بعضهم عند الاختلاف يقال أيضا ـ  إذا اختلف السارقون ظهر المسروق ، والمسروق هنا وظائف ومكانة رفيعة هم بها غير جديرين وعلى أمانتها غير محافظين بل وهم في أبسط الأمور غير متفقين !!!


3   تعليق بواسطة   فتحي مرزوق     في   الإثنين ٠٥ - أكتوبر - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً
[42670]

القاضي أبو أمية كان تاجر حريرفي الأصل

مات القاضي أبو أمية في السجن وكان ضحية الصراع بين ابن الفرات (الذي أراد أن يرد له الجميل) وبين ابن كنداج ، الغريب أن ابن الفرات عاد إلى الوزرة وأراد أن يرجعه إلى القضاءولكن بعد  فوات الأوان وكأن القاضي دفع حياته ثمنا لطموح لم يكن له كفؤا و محسوبيةكان ضررها قاتلا له مع أنهم شهدوا له بالعدل في إصداره للأحكام وفق سجيته برغم عدم تأهيله لتلك الوظيفة


 


4   تعليق بواسطة   نورا الحسيني     في   الإثنين ٠٥ - أكتوبر - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً
[42686]

عشق التوريث حتى في القضاء

يبدو أن العرب ومنهم المصريين على وجه التحديد قد تدينوا بدين التوريث، وهم يعشقون التوريث ، فالسلطان في مصر يورث ابنه السلطنة ، والملك يورث ابنه المملكة ،وإذا تطرقنا إلى بعض المناصب الأخرى على سبيل المثال لا الحصر منصب أستاذ الجامعة يحاول بكل ما يملك من قوة ونفوذ إلحاق أبنائه بهذا المنصب، فالناس على دين ملوكهم كما يقال ، فأصبح القضاة في مصر في العصر العباسي وحتى العصر المملوكي يتولون منصب القضاء بعد دفع الرشوة ويطمعون في توريث هذا المنصب إلى أحد أبنائهم تديناً بدين ملوكهم ، والآن تديناً بدين رئيسهم


5   تعليق بواسطة   عبدالمجيد سالم     في   الأربعاء ٠٧ - أكتوبر - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً
[42750]

تولي هذا التاجر العامي للقضاء وعفته تثير التساؤل

مع جهل هذا التاجر بالفقه والشرع  إلا أنه تميز بميزة لم تتوفر في أغلب القضاة في ذلك العصر ألا وهي العفة فكان عفيفا وهذ يجعله مختلفا عن باقي القضاة المتعلمين.هذا يلفت نظرنا إلى نوعية هذا التعليم وهذا هو نفسه التعليم  الذي وقف حائرا أمام فتوى السلطان قايتباي. في مشكلة تتعلق بأوقاف إحدى المدارس، وحضر القضاة والعلماء وكبار الفقهاء واحتدم الخلاف بينهم جميعاً أمام السلطان وشتم بعضهم بعضاً واتهم بعضهم بعضا بالكفر،  أي عفة بدون تعليم وتعليم بدون عفة  ما فائدة التعليم هذا ؟ ‏


 


أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2006-07-05
مقالات منشورة : 5118
اجمالي القراءات : 56,904,237
تعليقات له : 5,451
تعليقات عليه : 14,828
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : United State

مشروع نشر مؤلفات احمد صبحي منصور

محاضرات صوتية

قاعة البحث القراني

باب دراسات تاريخية

باب القاموس القرآنى

باب علوم القرآن

باب تصحيح كتب

باب مقالات بالفارسي