الصحابة بين التقديس والتكفير
( الخلافات الفقهية ينبغي ألا تكون سببا في الاعتقال والبهدلة!
في هذا الوقت بالتحديد ومنذ تسع سنوات تم تلفيق قضية لي دخلت بسببها السجن لمدة شهرين متهما بإنكار السنة، وتطاولت علي أقلام كثيرة في جرائد دينية وجرائد قومية، بينما دافع عنى ممن لم يكن يعرفني وقتها، وهم : د. فرج فوده في " الأهالي"، و الأستاذ جلال الحمامصي في " الأخبار" والأستاذ صلاح حافظ في " أخبار اليوم".. ولحق بي منذ ذلك الوقت اللقب الظالم( منكر السنة) بسبب تفنن الشيوخ وأتباعهم في تشويه سمعتي بكل طريق .
وكانت تلك حلقة من حلقات الظلم جعلتني أكثر أحساسا بالمظلوم ، خصوصا حين يواجه الهجوم من خصوم لا يرحمون ، ويكون هو أسير الحبس لا يستطيع الدفاع عن نفسه ، ومن هنا فإن قلبي مع الشيخ حسن شحاتة خطيب مسجد كوبري الجامعة الذي تم القبض عليه بسبب آرائه في مسائل يطول فيها الخلاف، ولا ينبغي على الإطلاق أن يكون إعلانه لرأيه سببا في إلحاق أي أذي به، وأتمني أن أعيش لأرى مصر وقد تخلصت من كل القيود التي تعوق حرية الرأي والفكر لتتمشى مع المنهج الحقيقي للإسلام وللدستور.
وقد كنت وما أزال على خلاف مع المنهج العلماني، ومع ذلك فقد دافعت عن الدكتور فرج فوده بكتاب :"حد الردة " . الذي أوضحت فيه أنه لا وجود لهذا الحد في الإسلام، ودافعت عن د. نصر أبو زيد بكتا ب :" قضية الحسبة"، وأثبت فيه أيضا أنه لا وجود مطلقا لهذه القضية في الإسلام.. ومن نفس المنطلق فأنا أدافع عن حق الشيخ حسن شحاتة في إعلان رأيه، مع خلافي المعلن مع عقائد الشيعة، ومع بعض آرائه التي ذكرتها" روزاليوسف".
ومن خلال رؤية قرآنية وتراثية أتناول أهم ما أثير في قضية الشيخ حسن شحاتة وما أخذه عليه شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوى الذي وصف أفكاره بالقبح ، ولم يصفه بالكفر أو الضلال.
أولا: القضية الأساسية هي أن الشيخ حسن شحاتة ينفى أن يكون الصحابة كلهم عدولا، وأنه يسب معاوية وأبا سفيان، وهو يستشهد بما ورد في القرآن الكريم عن المنافقين، ويرى أن المنافقين من الصحابة، ويرى ـ كالشيعة ـ أن العصمة للنبي عليه السلام ولآل البيت فقط، وقد رد عليه شيخ الأزهر أن المنافقين ليسوا من الصحابة، وأن الصحابة هم الذين رأوا النبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا به وعزروه ونصروه ، وأنهم من مدحهم الله تعالى بقوله:( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه).. "التوبة100".
وتوضيح هذه القضية كالآتي:
1ـ أن كلمة صحابي مصطلح تراثي لم يرد في القرآن. وإن كان يستمد أصله من كلمة صاحب القرآنية ، والتي تعني الصحبة في الزمان والمكان بغض النظر عن الإيمان أو الكفر. فالله تعالى يقول عن النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار ( إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) " التوبة40"، والصاحب هنا هو أبوبكر الصديق،أي لأنه صحبه في نفس الزمان والمكان، وأيضا فإن النبي عليه السلام قبل البعثة قد صحب أهل مكة وصحبوه فوجدوه نعم الصادق الأمين. وأطلقوا عليه هذا اللقب ، ولكن حين جاءه وحى القرآن تناسوا ذلك، ووصفوه بالجنون ، وقد احتج عليهم رب العزة، فقال عن النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب المشركين في مكة ( وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالأفق المبين ) " التكوير22، 23".. ( ما ضل صاحبكم وما غوي وما ينطق عن الهوى ) النجم2، 3" ، ( ما بصاحبكم من جنة) " سبأ 46"، فالنبي عليه السلام هو صاحب المشركين مع اختلاف الدين ، إذن فالصحبة في مفهوم القرآن لا تعني الإيمان أو عدمه، وإنما تعني الوجود في نفس الزمان والمكان ، وهذا هو المعني الأقرب للصواب ، وهو ما ينبغي أن نتعامل به.
2ـ إلا أن التراث اخترع مصطلح الصحابة لكي يدل على كل من لقي النبي صلي الله عليه وآمن به، سواء كان صحيح الإيمان أو منافقا، ومع كثرة الآراء التي تناولت مفهوم الصحابي إلا أنها لم تتعرض لنفي المنافقين عن الاتصاف " بالصحابة" ، وقد رووا أن النبي ـ غيرهم ـ رفض قتل كبير المنافقين حتى لا يقول الناس :" إن محمدا يقتل أصحابه "، هكذا يروون ويعترفون أن المنافقين ضمن الصحابة، بل إن الإمام ابن حنبل يقول عن الصحابي : " هو كل من صحب النبي سنة أو شهرا أو ساعة " ، ويقول البخاري: " من صحب النبي أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه" ، وذلك ما ذكره الإمام ابن الجو زى في كتابه: " تلقيح فهوم أهل الأثر في عيون التاريخ والسير" ص 101. وإن أكبر علماء الحديث في عصرنا الراهن وهو الدكتور محمد محمد ألسماحي يقول في كتابه:" المنهج الحديث في علوم الحديث، ص 69: " إن الصحابة بالمعني العام علي من لقي النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به، وهي شاملة كل من لاقاه من الأعراب، ومن أسلم بعد الفتح والأطفال" .. وهو يعرف كيف وصف القرآن الأعراب بأنهم " أشد كفرا ونفاقا"، والمنافقين وقد أسلموا ظاهرا وآمنوا باللسان، أي صاروا صحابة بالمفهوم التراثي.
3ـ إن قضية تعديل الصحابة أو تكفير بعضهم وتقديس البعض الآخر من القضايا الخلافية بين الطوائف والفرق الإسلامية ، وقد بدأ ذلك الخلاف منذ الفتنة الكبرى ،واشتعل وما يزال مشتعلا حتى الآن بين أهل السنة والشيعة ، ومنذ البداية حاول كل فريق أن يعزز مذهبه باختراع الأحاديث، وتلك حقيقة أكدها الشيخ الدكتور عبد الحليم محمود في كتابه : " القرآن والنبي: ص 343)، وقد سبقه لذلك العلامة أحمد أمين في كتابه" فجر الإسلام" ص 214،الذي قال: " إن الشيعة بدءوا بتفضيل " على" فواجههم أهل السنة بأحاديث صنعوها في فضل أبى بكر وعمر ، واخترع بعضهم أحاديث في فضل الصحابة جميعا ليكيدوا للشيعة".
إذن فقد تقاتلوا فيما بينهم بالأحاديث التي اخترعوها ، وهذا يجعلنا نحتكم للقرآن .
أولا :
ومن رؤية قرآنية بعيدة عن التعصب المذهبي ، فإن الصحابة نفوس بشرية لا يمكن أن تكون معصومة من الخطأ ، وسورة التوبة ذكرت أن من الصحابة من كان سابقا في إيمانه وعمله. ومنهم من خلط عملا صالحا وآخر سيئا، ومنهم من مرد وأدمن النفاق وكتمه في نفسه حتى لم يكن النبي يعرفه، ومنهم الذين اتخذوا مسجدا ضرار وكفرا وتفريقا بين المؤمنين ، "التوبة"ـ 107" .. إذن لا يصح تعديلهم جميعا، أي تزكيتهم على الإطلاق ،كما لا يصح أبدا اتهام أحدهم بالكفر، فالقرآن لم يذكر اسما محددا لمنافق واحد, وإنما الأسلم أن تقول ما قاله رب العزة (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون)" البقرة 134 ، 141".
لكن تقديس بعض الشخصيات التاريخية من الصحابة ( كأبي بكر وعمر لدى أهل السنة )، (وتقديس علي بن أبي طالب ، وأبنائه لدي الشيعة). هو الذي أوقعنا في هذا المأزق ، إن علي بن أبي طالب شخصية إسلامية تستحق التوقير، ولكن لا ينبغي أن يكون جزءا في العقيدة الدينية الإسلامية، ولا ينبغي أن يكون هناك شخص ما في عقيدتك الدينية بعد خاتم النبيين عليه السلام ، أي أنه لا إله إلا الله ولا إله مع الله جل وعلا.
ثانيا:
القضية الثانية هي زواج المتعة الذي يبيحه الشيعة ويرفضه أهل السنة، وهي قضية خلافية مفتوحة، ولكل فريق أحاديثه المعتمدة في جوازها أو في تحريمها بعد تحليل. والأحاديث المذكورة في كتب أهل السنة متضاربة ومتعارضة ، ويكفي أن نقرأ في صحيح البخاري عنوان " باب نهي رسول الله صلي الله عليه وسلم عن نكاح المتعة آخرا "، أي انه كان حلالا ، ثم أصبح حراما،والدليل الأكبر في صحيح مسلم في العنوان الذي يقول:" باب نكاح المتعة وبيان أنه أبيح ، ثم نسخ، ثم أبيح ثم نسخ، واستقر تحريمه إلي يوم القيامة"، وحين نراجع التواريخ التي ذكرت لتحريم النبي للمتعة نجد أنه حرمها مرتين سنة 7 ، وثلاث مرات سنة 8، ومرة سنة 9، وأخري سنة 10هجرية ، أي كانت تباح ثم تحرم أكثر من مرة في العام الواحد ، وذلك اضطراب غير مستساغ في كتب أهل السنة أنفسهم، مما يؤكد علي أن معركة فقهية دارت بين الفريقين حول زواج المتعة تبادلا فيها الطعن بالأحاديث وفي الأحاديث . وذلك يذكرنا بما قاله العلامة احمد أمين في كتابه فجر الإسلام أن " الخلافات الفقهية كانت من أهم أسباب اختراع الأحاديث".
والواقع التاريخي يؤكد علي أن قضية زواج المتعة لم يعرفها عصر النبي صلي الله عليه وسلم وإلا كان القرآن قد تعرض لها، ولكنها حدثت بعد الفتوحات واختلفت بشأنها الآراء، وتسلح كل فريق بالأحاديث التي جعلها معتمدة لديه.. والأمر الآن يستوجب اجتهادا يساير العصر بدلا من الاعتماد على الروايات التراثية المتعارضة، والاجتهاد يعني تأمين المجتهدين علي حياتهم ومستقبلهم حتى لو أخطأوا.
ثالثا:
وندخل علي النقطة الأخيرة وهي استغلال المنابر للاختلاف الفكري . وتدخل الدولة بالاعتقال والاضطهاد لإرضاء التيار المتطرف السلفي . الرسمي والشعبي.
فالواضح أن التيار السلفي هو الذي يسيطر علي المساجد وأجهزة الإعلام والثقافة والتعليم ، وهو الذي أوجد ذلك المناخ المتشدد الذي تطور إلي إرهاب وسفك للدماء ، وهو لا ينشر الدين ، وإنما ينشر الفكر الحنبلي الوهابي الذي يخالف الاعتدال المصري في التدين، وفي مقابل الفكر السلفي السائد هناك أفكار شيعية، وأخري غيرها تواجه الاضطهاد القمعي من الأمن حين يعجز شيوخ الفكر السلفي عن المواجهة.
واعتقد أن الدولة أمامها أن تختار بين المنع التام أو التصريح التام، بمعني أن تمنع كل الأئمة في المساجد من التعرض للفكر الديني علي أي مستوي حتي لايقع الناس في الخلافات المذهبية ، وأن يتفرغ الواعظ للحث علي مكارم الأخلاق فقط، وياحبذا لوسري هذا المنع في التعليم ، بحيث يظل للفكر الديني ومذاهبه قاعات الندوات والجامعات . والحل الآخر هو أن تصرح الدولة للوعاظ بطرح الفكر الديني ومذاهبه،وهو السائد الآن ، ولكن من العدل أن تتاح نفس الفرصة للتيارات الأخري، وهنا ميزة استعمال العقل ، ويكون الناس أحرارا.)
انتهى المقال .
ملاحظات :
1 ـ نشرت روز اليوسف هذه المقالة فى 30/9/96 ـ عدد (3564) دفاعا عن الشيخ حسن شحاتة، الذى أدخله النفوذ السعودى ـ فى مصر ـ السجن وأقام حملة صحفية ضده ، فتصديت للدفاع عنه فى عدة مقالات ، منها هذا المقال فى روز اليوسف ، داعيا الى السماح للشيعة المصريين بالتعبير عن عقائدهم حتى لا يحتكر الوهابيون الساحة المصرية. وكان فى مصر وقتها بعض الليبراليية التى تلاشت الآن بدليل أن روز اليوسف نشرت تلك المقالة ولكن لا تستطيع نشر مثلها اليوم.
أرأيت يا أخى كيف نتقدم ..الى الخلف ؟.. والسلفية هى التقدم للخلف ..
2 ـ لم يتغير الوضع فى الحريات فى الوطن العربى سوى الى الأسوأ . فهل ما نقوله ونعيده يذهب ادراج الرياح ؟ وهل يدفعنا هذا الى الياس وأن نبحث عن عمل آخر؟
بالتأكيد ..لا . الوضع تغير الى الأسوأ لأن الذين هم فى الحكم لا يزالون فيه ، وقد إزدادوا ضعفا أمام الخارج وتجبرا فى الداخل ، وكلما إزداد شعورهم بالضعف تجبروا أكثر على الضعفاء من المثقفين والمفكرين ودعاة الاصلاح، ولكن كل ذلك التجبر سينتهى بموتهم ، والكلمة الطيبة تبقى و تؤثر طالما ظل فى الناس قلب يخشع وضمير يعقل.
والمستقبل هو للديمقراطية والليبرالية وحقوق الانسان مهما طال الظلام . ونحن نصحب حركة التاريخ و مسيرة التقدم ولسنا ـ كالسلفيين ـ نسير عكس اتجاهها. وأذا كان الاسلام صالحا لكل زمان ومكان ، وهو كذلك فعلا فنحن ـ وليس السلفيين ـ الذين نؤكد هذا برؤيتنا العصرية للاسلام القائم على العدل و التسامح والديمقراطية وحقوق الانسان.
3 ـ والباحث لا يخجل من أن يصحح نفسه بنفسه إذا تبين له وقوعه فى الخطأ.
وفى المقال السابق أخطأت حين قلت عن الصحابة : (إذن لا يصح تعديلهم جميعا، أي تزكيتهم على الإطلاق ،كما لا يصح أبدا اتهام أحدهم بالكفر، فالقرآن لم يذكر اسما محددا لمنافق واحد, وإنما الأسلم أن تقول ما قاله رب العزة (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون)" البقرة 134 ، 141". )
الخطأ هنا هو فى الاستشهاد بالآية الكريمة لأنه فى غير محله ، إذ تتكلم الآية الكريمة عن ابراهيم واسماعيل و اسحق ويعقوب والأسباط ، أى أمة من أعظم أنبياء الله جل وعلا، وكيف أنهم أمة قد خلت ولا يمكن تكرارهم بعد مجىء خاتم الأنبياء.
اما الصحابة فهم مثلنا ، منهم من إتبع الرسول ومنهم من عصى ..ولا بد من الاستفادة بما قاله القرآن الكريم عنهم ومقارنته بالمكتوب فى تاريخهم حتى نتجنب الوقوع فيما وقعوا فيه.
ولهذا سنخصص حلقات قادمة للصحابة فى القرآن الكريم.
اجمالي القراءات
20997
السلام عليكم.
شكرا دكتور أحمد على هذه المقالة التمهيدية الجيدة حول موضوع الصحابة و بيان ما لهم و ما عليهم من خلال القرآن الكريم عندما نتحدث عنهم. عندما كنت سنيا كنت واحدا من اللذين يعظمون الصحابة جميعا و لم أفكر يوما في نقدمهم و لو سرا في نفسي و لكن الحمد لله تعالى وحده حينما تعلمت من الدكتور أحمد أن لا أحدا في الإسلام يتمتع بالقدسية الكاملة و لكننا نكن كل الإحترام لكل مسلم يقاسمنا عقيدة أن لا إلاه الله وحده و يشاركنا طريق القرآن الذي أنزل على قلب محمد عليه السلام إلى يوم الدين الموعود. اسمح لي دكتور أحمد بمداخلة بسيطة حول الآيتان 134 و 141 من سورة البقرة (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون) عندما اشتهدت بهما لكونهما تقتصران فقط على إبراهيم وإسماعيل و إسحق ويعقوب والأسباط و لكن القصص القرآني تتخطى فاعليته حواجز الزمن و الأمم و يبقى عبرة خالدة لجميع المسلمين ليتعلموا أن أي بشر منا ليس مسؤولا عما فعله السابقون و أرى الآية تقترب في معناها من قوله تعالى في سورة النجم ( أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)') فالحكمة المستنبطة من الآية مقصود بها النبيون و المسلمون جميعا و الله أعلم.