لمحة سريعة عن التاريخ والمؤرخين
لمحة سريعة عن التاريخ والمؤرخين
مقدمة :
هذا سؤال قديم عثرت عليه بالصدفة ، يقول :
( أريد ان اسال عن صحة المصادر التاريخية التي يستعملها الباحثون وعن مدى مصداقيتها الا يمكن ان تكون مثلا قصة الحضارة ليول ديورانت قد طالتها يد التحريف وبالتالي فالمصادر التي يستعملها الباحثون قد تكون غير موثوقة ). أقول من الذاكرة :
أولا :
عن المصادر التاريخية
من حيث الصُدقية :
أصدق المصادر التاريخية هى ما لم يُقصد منها أن تكون مصادر تاريخية ، مثل :
1 :الآثار القديمة فى مصر والرافدين وأمريكا والصين والهند وأمريكا الشمالية والجنوبية . العيب فيها أن العثور علي المدفون منها يكون عشوائيا . بعض الجهلة يحتكم الى هذه الآثار العشوائية فى إنكار قصص الأنبياء ، يظن بجهله أن الآثار مرتبة زمنيا وشاملة لكل شىء .
2 : الوثائق المحفوظة ، والتى تشمل العقود الخاصة بالأوقاف والأوامر السلطانية والوصايا ..الخ . كانت مكتوبة لغرض وقتها ، وليس تاريخا . ولكنها زاد ثمين للباحث التاريخى خصوصا فى النواحى التاريخية فى الحياة الاجتماعية والاقتصادية والدينية .
3 : كتب الرحالة . الرحالة يسجل ما يراه منبهرا بما يراه ، وليس فى حسبانه أن ما يكتبه سيصبح تسجيلا تاريخيا للباحثين . الأهمية القصوى فى كتابات الرحالة ليس فقط فى تسجيل الحياة الاجتماعية والاقتصادية والتعاملات الانسانية ، ولكن أيضا فى أن الرحالة يتعامل مع الناس العاديين ، ويسجل أحوالهم من واقع المعايشة ، ثم إنه ـ بوعى أو دون وعى ـ يعكس أحوال وطنه ونشأته فيما يكتبه منبهرا بما يراه غريبا وجديدا فى رحلاته . وما يسجله الرحالة لا يوجد غالبا فى كتب المؤرخين الذين يدورون حول المشاهير ولا يهتمون بغيرهم . وأهم كتب الرحالة ما كتبه ابن بطوطة فى العصر المملوكى وابن فضلان فى عصر الخليفة المقتدر العباسى وكانت رحلته الى بلاد الروس والبلغار والترك . وفى العصر الحديث رحلة النمساوى نيبور الى مصر العثمانية .
4 : كتب الأحاديث ، وهى كاذبة فى نسبة أحاديثها للنبى ، ولكنها صادقة فى تعبيرها عن ثقافة عصرها وثقافة من قام بتأليفها .
5 : ما نسميه بكتب الفقه الوعظى . هناك كتب الفقه النظرى المعروفة مثل المنسوب لمالك والشافعى ومن جاء بعدهما ، وأهمهم ابن حزم فى ( المحلى ) والكاسانى الحنفى فى ( بدائع الصنائع ، ثم فى العصر الحديث الجزرى فى ( الفقه على المذاهب الأربعة ) و سيد سابق فى (فقه السنة ) وأبو بكر الجزائرى فى ( منهاج المسلم ). وهو فقه نظرى ( صورى ) لأنه يقول كلاما نظريا صوريا ( من فعل كذا فحكمه كذا ) . ولا علاقة له بالتاريخ .
ولكن ظهر ما نسميه بالفقه الوعظى ، وفيه يقوم الفقية بنقد ما يحدث فى عصره ثم يعقب ذلك بالحكم الشرعى من وجهة نظره . هنا يسجل ـ دون أن يقصد ـ ما يسود فى عصره إجتماعيا ودينيا . بدأ القشيرى هذا فى رسالته المشهور ينكر فى بدايتها على الصوفية المعاصرين له ، ثم تبعه الغزالى هذا بين سطور كتابة ( إحياء علوم الدين ) ، ولابن الجوزى ت 597 كتابه المشهور ( تلبيس ابليس ) والذى حاكاه ابن القيم فى القرن الثامن فى كتابه ( إغاثة اللهفان ) ، وأعظمهم ( نوعيا )ابن الحاج العبدرى فى كتابه ( المدخل ). ثم من ناحية ( الكمّ ) توسّع الشعرانى فى القرن العاشر فى هذا الفقه الوعظى بكتب عديدة ينقم فيها على شيوخ عصره الصوفية .
6 : القصص القرآنى ، هو للعظة والهداية وليس للتأريخ . والباحث فيه لا بد أن يفهم مصطلحات القرآن ، والفرق بين منهج القصص القرآنى ومنهج البحث التاريخى .
أنواع المصادر التاريخية المكتوبة
من حيث الزمن
1 : تاريخ يكتبه مؤرخ نقلا عن زمن سابق . وهو نوعان :
1 / 1 : تاريخ ما قبل التاريخ : أى تسجيل للبشر من آدم والأمم السابقة ، وهو يعتمد على الأساطير المتوارثة ، وبعض ما جاء فى الكتب الدينية من أقاصيص وأحاديث . وماعدا القرآن فهى خرافات ، وهذه الخرافات صادقة فى التعبير عن الثقافة الشعبية للمؤلف الذى كتبها وعصره . وأهمها ما جاء فى الأجزاء الأولى فى تاريخ الطبرى .
1 / 2 : المؤرخ الذى ينقل تاريخ عصر مضى من مؤرخ مضى ، أو من روايات تاريخية عن عصر مضى . مثل تاريخ النبى محمد عليه السلام والخلفاء بعده حتى أوائل العصر العباسى وهو عصر التدوين . مؤرخو العصر العباسى كالطبرى وغيره سجلوا تاريخ هذه الفترة من أفواه رواة و (قصّاصين ). وحاولوا تأكيدها بأن جعلوا لها إسنادا وعنعنة : روى فلان عن فلان عن فلان ، أى بمنهج الكذب فى الأحاديث ( القدسية والنبوية ).
2 : تاريخ معاصر للأحداث فى زمنه . وهو أنواع :
2 / 1 : كتب الحوليات التاريخية ، التى تؤرخ حسب الحول ، بدأها ( جزئيا ) الواقدى فى تاريخه ، ثم اليعقوبى فى ( تاريخ اليعقوبى ) والدنيورى فى ( الأخبار الطوال ). ولكن الأشهر هو الطبرى الذى كان يؤرخ للسابقين نقلا عن أفواه الرواة. وفى التأريخ للأقوام الغابرين كان يؤرخ ( موضوعيا ) ، أى موضوع الفراعنة والأنبياء والفرس والروم والعرب فى الجاهلية ..الخ . ثم إذا وصل الى السيرة أصبح يؤرخ بالحول أو السنة . وفى كل هذا ينقل عن أفواه الرواة الشفهيين . ثم إذا وصل الى عصره أصبح ينقل ما يراه وما يرد اليه من ( مراسلين ) يعيشون نفس العصر . وبالتالى ففى تاريخ الطبرى : تسجيل عن الماضين ثم تسجيل معاصر لعصره ، هو فيه العمدة . وبعد الطبرى يأتى مؤرخ آخر ينقل عن الطبرى تاريخ الماضين ، حتى إذا وصل الى عصره أصبح هذا المؤرخ ينقل من واقع المشاهدة والمعاينة . وهذا ما جرى عليه ( التاريخ الحولى ) بعد الطبرى . مثل المسعودى فى ( مروج الذهب ) وابن الجوزى فى ( المنتظم ) وابن الأثير فى ( الكامل) وابن كثير فى ( البداية والنهاية ) والنويرى فى ( نهاية الأرب ) وابن خلدون فى ( العبر ) والمقريزى فى ( السلوك ) عن العصرين الأيوبى والمملوكى وابن حجر عن سنوات ميلاده الى قبيل موته فى ( إنباء الغمر ) وابن تغرى بردى أبى المحاسن فى ( حوادث الدهور ) وابن الصيرفى فى كتابيه ( إنباء الهصر ) و ( نزهة النفوس والأبدان ) ، وابن إياس فى ( بدائع الزهور ) والجبرتى فى ( عجائب الآثار).
2 / 2 ـ تأريخ لأحداث هامة كان المؤرخ معاصرا لها ، مثلما كتبه الصولى فى أخبار القرامطة ، والفارس أسامة بن منقذ وكتابه ( الاعتبار ) وتعرض فيه لمشاركته فى الحروب ضد الصليبيين ، وعلاقته بهم وقت السلم . وكان هذا قبيل ظهور صلاح الدين الأيوبى ، ثم القاضى ابن شداد الذى حضر مع صلاح الدين الأيوبى حصار عكا ومعركة أرسوف وسجل هذا فى كتابه عن الحملة الصليبية الثالثة ، والطبيب عبد اللطيف البغدادى عن الآثار المصرية والمجاعة التى عاصرها فى مصر فى سلطنة العزيز عثمان بن صلاح الدين الأيوبى فى كتابه ( الإفادة والاعتبار ).
من حيث الموضوع :
1 ـ تاريخ يتخصص فى أسرات حاكمة ، مثلما كتب المسبحى فى تاريخ الدولة الفاطمية تحت عنوان ( التاريخ الكبير ) وأبو شامه فى كتبه ( الروضتين فى تاريخ الدولتين الصلاحية والنورية ) ( ذيل هذا التاريخ ) والمكتوب فى تاريخ الأندلس ، وأهمها ما كتبه لسان الدين الخطيب فى تاريخ غرناطة .
2 ـ تاريخ البلاد والمدن : فى بغداد : تاريخ بغداد للخطيب البغدادى ، وابن عساكر فى تاريخ دمشق ، وأبو شامة له كتابان فى ( تاريخ دمشق ).
وفى مصر : كتب ابن عبد الحكم عن فتح مصر ، والكندى فى ( ولاة مصر وقضاتها ) وقام ابن زولاق بإستكماله فى ( أخبار قضاة مصر ) والمقريزى فى ( المقفى ) وأبو المحاسن ابن تغرى بردى فى : ( النجوم الزاهرة فى أخبار مصر والقاهرة ) والسيوطى فى ( حُسن المحاضرة فى أخبار مصر والقاهرة ). وفى العصر الحديث كتب عبد الحمن الرافعى عن تاريخ مصر من عهد محمد على الى أيامه ومذكراته .
وفى تاريخ العمران المصرى : خطط الكندى وخطط المقريزى، وفى العصر الحديث (على مبارك ) فى ( الخطط التوفيقية ) و محمد رمزى فى ( القاموس الجغرافى ).
3 ـ كتب الطبقات والتأريخ للأشخاص : أولها وأهمها الطبقات الكبرى لابن سعد ، وفيه التأريخ للنبى والصحابة والتابعين ، وجاء على المنوال كتاب ( الفهرست ) لابن النديم وابن خلكان فى ( وفيات الأعلام ) ، و( الوافى بالوفيات ) لابن أيبك الصفدى ،.
4 ـ كتب المناقب : فى مناقب الصحابة ( ابن الأثير: أُسد الغابة فى معرفة الصحابة ) ( ابن حجر: الاصابة فى تمييز الصحابة ) والسيوطى له الكثير فى مناقب اشهر الصحابة.
وفى مناقب السلاطين : إبن شداد الذى كتب مدحا لسيده صلاح الدين الأيوبى كتاب ( النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية ) وكتب العينى قاضى القضاة الحنفى فى مناقب السلطان الظاهر ططر ، وفى مناقب السلطان المؤيد شيخ . هذا عدا المكتوب فى مناقب الخلفاء والأئمة والعلماء والأولياء الصوفية ، ويلحق بهذا كتب ( المزارات ) للقبور المقدسة وأصحابها . هذه مُتخمة بالخرافات والمبالغات ، ولكنها صادقة فى تصوير ثقافة العصر وثقافة من كتبها .
ثانيا :
عن صُدقية المصادر التاريخية
1 ـ الحقيقة المطلقة فى كتابين فقط : الكتاب الالهى ( القرآن الكريم ) وكتاب الأعمال الفردى والجماعى الذى سيظهر يوم القيامة . وفى ميزان يوم الحساب يوضع أحدهما فى كفة والآخر فى الأخرى . كتاب الأعمال الفردى والجماعى يسجل كل حياة الفرد مع نفسه منفردا وفى تعاملاته مع الناس ، وهو لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها .
2 ـ ما عدا ذلك من كتابات البشر عن البشر فالأصل فيه هو ( الشّكّ ). وما يأتى فيه إن صحّ بالمقاييس البشر فليس سوى حقيقة نسبية ، تحتمل الصدق والكذب ، وليست دينا على الاطلاق . من الخبل إعتبارها دينا ، ومن الخبل نفي التاريخ تماما بسبب الشّك فيه .
3 ـ ما يكتبه المؤرخ فى عصره هو الأكثر صدقية ، ولكنه يتأثر بأهوائه وعلاقاته فيمن يكتب عنهم ، وخصوصا مدى قربه من السلطان . ولهذا نجد تحيزا واضحا وفاضحا من ابن حجر وابن تغرى بردى أبى المحاسن بسبب قربهما من السلاطين ، وإن كان هذا القُرب يعطيهم الفرصة فى معرفة الكثير . وهذا هو الفارق بين : المقريزى وابن حجر ، لم يكن المقريزى من حاشية السلاطين المماليك فكان اكثر حرية فى النقد ، ولكن لم يكن مُطّلعا على خفايا السلطة الحاكمة مثل إبن حجر . ونفس الحال مع القاضى المؤرخ ابن الصيرفى فى كتابه ( إنباء الهصر ) كان يلتقى السلطان قايتباى ويدافع عنه بالباطل فى نفاق مقيت ، ولكنه كان الأكثر إطلاعا بحكم علاقته بكاتب السّر ابن مزهر الأنصارى ، هذا بينما كان ابن إياس بعيدا عن قصور الحكم يسجل ما ( يُشاع ) بين الناس ، ويقول ( وشاع ، وأُشيع ) . وكان أكثر إحتراما من القاضى ابن الصيرفى . ولكن مهما بلغ قُرب المؤرخ من السلطان فهو لا يعرف إلا المسموح به له أن يعرفه ، خصوصا مع مكائد القصور ، وأكابر المجرمين من الأمراء والسلاطين المتآمرين للوصول الى السلطة والاحتفاظ بها .
ثالثا :
عن صُدقية الباحث التاريخى
1 ـ الباحث التاريخى أصبح عُملة نادرة فى عصر التسطيح الراهن وسيادة الجهل وتحكم الجهلاء فى التعليم والثقافة والإعلام . أصبح كل من هبّ ودبّ يتكلم ـ بكل جُرأة ـ فى التاريخ وفى الدين . ونحن نتحدث عن كوكب المحمديين .
2 ـ الباحث التاريخى الحقيقى لا بد أن يكون :
2 / 1 : موسوعى الثقافة فى كل مناحيها ، لأنه يبحث حياة البشر ، والبشر ـ فى الأساس ـ هم البشر مع إختلاف التفصيلات فى الزمان والمكان .
2 / 2 : أن يكون لديه إلمام كامل بالعصور التاريخية التى تسبق العصر الذى يبحثه ، والعصور التاريخية التالية ، لأن العصور التاريخية يسلم بعضها لبعض ، ليست فيها تلك الأسوار الحديدية التى يتخيلها الناس.
2 / 3 : أن يُعايش كل المكتوب فى العصر الذى يبحثه من وثائق ومؤلفات فى الآداب والفنون والعلوم ، وليس مجرد المصادر التاريخية المكتوبة فيه وعنه ، ومن ذلك مصطلحات العصر وذوق العصر وثقافته وأمثاله الشعبية ، وعلى المستوى الشعبى والرسمى .
2 / 4 : ألّا تكون لديه فكرة مسبقة يريد إثباتها أو نفيها ، بل يريد الوصول للحق ، ويُسلم نفسه للبحث المجرد فى المصادر .
3 ـ بعد هذا ، فما يصل اليه الباحث ــ مهما بلغت عبقريته البحثية ـ ليس سوى وجهة نظر ، تقبل النقد ، وليست ــ على الإطلاق ـ كلمة الفصل فى الموضوع .
اجمالي القراءات
3147
لك الشكر أخ أحمد على الترحيب، بعد غياب طويل لاسباب ليس لها علاقة بالتواصل بيننا، فموقعكم كان ولايزال يعجبني، وبالخصوص اسلوب الحوار مع الآخر، فهو مبني على تحكيم العقل في ابداء الرأي دون الادعاء بامتلاك الحقيقة.
لقد ذكرت أن كتابتكم للمقال "من الذاكرة"، فكل الاحترام لهذه الذاكرة!
زيادة على أن التاريخ يعطي الفرصة لأخذ العبر من الماضي، فهو يروي تعطش الانسان إلى معرفة هذا الماضي بأبعاده السحيقة. وما يلفت النظر هو اشتياق الانسان لمعرفة قصة ما متكاملة، وهذا ما يجبر المؤرخ، عند وجود فجوات أو تناقضات في المعلومات المتاحة له، على صياغة نظرية لسد هذه الفجوات وترجيح ما يراه مقنعاً له. هذه وكما ذكرتم وظيفة شاقة تتطلب من المؤرخ تلك المعلومات والخبرات التي ذكرت في مقالكم.
بالنسبة للاعتماد على الآثار في صياغة التاريخ، فلقد ذكرتم أن "العيب فيها أن العثور على المدفون منها يكون عشوائيا. بعض الجهلة يحتكم الى هذه الآثار العشوائية فى إنكار قصص الأنبياء". في رأيي أن سبب الانكار إما أن يكون عدم العثور بعد على كافة الآثار، أو أن قصة الانبياء كان مسرحها مكاناً آخر. مثال ذلك النبي ابراهيم ووجوده في فلسطين، فعالم الآثار (Israel Finkelstein) والمؤرخ (Neil Asher Silberman) في كتابهم (The Bible Unearthed) ينكرون قصة ابراهيم لعدم وجود آثار تدل على ذلك. أليس من الممكن أن وجود ابراهيم لم يكن في فلسطين؟ خاصة مع ربط ابراهيم بقصة بناء الكعبة؟ ومع وجود نظرية تقول أن بني اسرائيل كان موطنهم عسير؟
عندي سؤال حول المؤرخ الصولي وعن كتاباته عن القرامطة: ما اسم الكتاب الذي جاءت فيه هذه المعلومات؟ هل اسمه "أخبار القرامطة"؟ لم أجده في الانترنت. ومع الشكر