بعض معوقات تقدمنا الحضاري
-1-
منذ القرن التاسع عشر والعرب يتجادلون في ماهية أسس التقدم الحضاري، ويحاولون أن يجدوا الطريق الأسرع والأسلم للتقدم الحضاري. وهم مختلفون أشد الاختلاف في ماهية هذه الأسس. هل يستلهمونها من ماضيهم، أم يأخذونها من الشعوب الأخرى التي احرزت التقدم الحضاري بشكل كبير، أم يستنبطونها من المزج بين الأصالة والمعاصرة؟
لكن محمد عابد الجابري يؤكد في (المثقف العربي وإشكالية النهضة.. رؤية مستقبلية)، أن مستقبل التقدم الحضاري العربي والنهضة العربية، لن يتما إلا على أساس نقدي عقلي. وأن هذا الأساس لا يتناقض مع العاطفة القومية، ولا مع الحلم الأيديولوجي. بل على العكس، فمراجعة مفاهيمنا النهضويـة، ونقدها نقداً عقلانياً مستنداً إلى الواقع كما هو مُعطى، هو السبيل الوحيد الذي سيقودنا إلى تشييد حلم أيديولوجي مطابق، وإلى العمل الجدي المتواصل من أجل تحقيقه.
-2-
يبدو أن تأخر مسيرة التقدم الحضاري العـربي التي بدأت في القرن التاسع عشر، وتباطئها إلى هذا الحد الذي نشهده في نهايـة القـرن العشرين دون أن يتحقق مشروع النهضة، رغم مضي أكثر من قرن ونصـف على البدء به.. كل هذا دفع بعض المفكرين إلى إرسال صيحة عاطفية عالية، ودعوة المثقفين إلى المواجهة الفكرية المفتوحة للجهة التي تنأى عن خطط التقدم الحضاري. ويبدو أن فـراغ صبر المثقفين من بعض أنظمة الحكم في العالم العربي، واستبدادها، وعتوها، وفسادها، دعاهم إلى إطلاق صيحة تقول، لقد بات مطلوباً من طليعة من مثقفي الوطن العربي المواجهة الفكرية المفتوحة، أي استمرار المطالبة بالإصلاح وعدم الاسترخاء أو التراخي. ولا يفيد أن نكون سلبيين ومُهمِلين لكل ما يجري حولنا، وكأننا لا نرى ولا نسمع ولا نقرأ. ويؤكد نادر فرجاني المفكر المصري ورئيس تحرير "تقرير التنمية البشرية" الشهير الصادر عن الأمم المتحدة، في بحثه عن علاقة المثقف بالدولة، أنه "لا بُدَّ من العمل على إعادة زرع مفهوم التضحية بالجهد والمال، في سبيل عمل فكري ملتزم اجتماعياً بين المثقفين العرب". وذلك كمسلك جديد من مسالك التقدم الحضاري العربي في المستقبل.
-3-
يقول الباحث السيد ولد أباه في (أزمة التنوير في المشروع الثقافي العربي المعاصر) إن التقدم الحضاري لأية أمة من الأمم، يقوم على أسس أربعة هي:
1.العقلانية، التي ترى في الذات مصدر المعرفة، وتهدف إلى تأكيد سيطرة الإنسان على الطبيعة، كما ترى في التقنية رؤية للوجود.
2.التاريخانية، وهي قيام الحداثة على معقولية التحوّل، وإخضاع النمو لمعايير التقدم.
3.الحرية، كأرضية تُعين شرعية السلطة وتؤكد حق الإنسان في تقرير شؤونه المدنية.
4.عدم الخلط بين الدين والسياسية. فالدين قداسة، والسياسة نجاسة.
وخلال فترة قرن ونصف قرن من الزمان، بدءاً من القرن التاسـع عشر وإلى اليوم، لم يتحقق شيء من هذه الأسس الأربعة. في حين أن المستقبل العربي مجال رحب وواسع، لتحقيق هذه الأسس التي سيقوم عليها التقدم الحضاري العربي.
فمنذ القرن التاسع عشر، ومروراً بالنصف الأول من القرن العشرين، لم يجرِ ولم تتم مراجعة التراث وفرزه فرزاً منهجياً علمياً. وما جرى من قبل الذين تناولوا التراث في هذه الفترة، هو الهجوم على التراث لصالح الحداثة والفكر الليبرالي. ولكن النصف الثاني من القرن العشرين، بدأ يُظهر لنا مناهج علمية صرفة لدراسة التراث على شاكلة من قرأنا لهم في الغرب، دون التحيز لفكر معين، أو انطلاقاً من أيديولوجية معينة مسبقة.
-4-
فمحمد أركون – مثالاً لا حصراً - ومناهجه في التفكيك والزحزحة والتحليل، وكذلك جلال العظم، وعزيز العظمـة، ونصر أبو زيد، وسيّد القمني وغيرهم، دليل جيد على بدء التعامل مع التراث تعاملاً علمياً وتبيان مدى ملائمته لمعطيات الحياة العلمية اليوم. أو محاولة تخطي هذا التراث ومعطياتـه من تطبيقات الحياة العلمية اليوم، كما جرى مع علي عبد الرازق وطه حسين وجزئياً مع خالد محمد خالد وغيرهم. لذا، فإن قول مُطاع صفدي في (النهضة المغدورة في الخطاب العربي) من أن "صدمة النهضة العربية لم تستطع حتى الآن أن تواجه نظام البداهات الكامن في جذور الهيكلة التاريخية للمشروع الثقافي العربي" هو قول صحيح إلى حد ما، مع التحفّظ بأن النصف الثاني من القرن العشرين، قد بدأ يشهد مواجهات للبداهات الكامنة في جذور الهيكلة التاريخيـة للمشروع الثقافي العربي. ولعل ازدياد هذا المواجهات مستقبلاً وفي القرن الحادي والعشرين، سـوف يضع من جديد مشروع النهضة العربية على الطريق السليم، وعلى المسار الصحيح.
-5-
إن مستقبل التقدم الحضاري العربي مرتبط بمدى تخطينا لمرحلة النهضـة، وخروجنا عن هذا الطور إلى طور جديد، سيما وأننا أمضينا في هذا الطور قرابة ما يزيد على قرن ونصف من الزمان، دون أن نتمكن حتى الآن من الخروج من هذا الطور. فلا زلنا منذ ذلك الزمان إلى الآن نعيش عصر النهضة.. نهضة القرن التاسـع عشر، وبداية القرن العشرين. ولا خروج لنا ولا باباً يُفتح أمامنا بهذا الخصوص إلا بتبنّي الفكر النقدي العلمي. وفي هذا يقول طارق زيادة في (العرب والفكر النقدي) من أن العرب "إذا كانوا يرومون فعلاً الخروج من هذه الأزمة فلا معدى لهم عن الفكر النقدي، يعملونه في تفكيك بنيتهم وتحليلها والتفتيش في ثناياها عن المكامن الضعيفة والهشة والقاصرة، دون خوف أو وجل. وإلا فإنهم سيبقون متخبطين بما هم فيه، بل ستزداد حالتهم سوءاً، وكأنهم يردون موارد الهلاك والفناء".
وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال، أن لا فكر نقدياً كان لدينا في عصر النهضة. فقد كان لدينا هذا الفكر، ولكنه كان فكراً مُسطَّحاً. وكان مُقصِّراً عن التصدي للمعوقات المعرفية والواقعية بعمق وحرية، نتيجة الخوف، والكبت، والتسلّـط، والقهر، والقيود.
اجمالي القراءات
13021