محمود علي مراد Ýí 2012-09-26
الوثيقة "جيم"
معاهدة تحدد وضع القبائل اليهودية في الأمة
الإطار التاريخي
سرجنت
·هذه الوثيقة هي بداهةً الوثيقة التي أُلحق بها كلُّ قومٍ بحلفائهم والتي سجلها الواقدي، علماً بأن الحلفاء هنا هم اليهود. وقد كتب محمد بينه وبينهم كتاباً، وهذا الكتاب هو الوثيقة "جيم". وطبقاً لما يقوله الطبري فإن محمداً حين قدم المدينة عقد اتفاقاً مع هؤلاء اليهود تعهدوا بمقتضاه ألا يُعينوا أحداً ضده وأن ينصروه إذا دهمه عدو. ويكتفي الواقدي بأن يقول إن شرطاً من الشروط كان ألا ينصروا عليه عدواً. وعلى الرغم من أن هذا ليس وارداً في صياغة الوثيقة إلا أن هذا ناتج ضمناً، على أي حال، من المادة 2 التي يفسرها ابن كثير على أنها تعني أن اليهود، بالصلح الذي عقدوه بينهم وبين المؤمنين، أصبحوا جماعة منهم، كلمتهم واحدة وأيديهم واحدة. ويؤكد مصدر لاحق أن المعاهدة مع اليهود عُقدت في الشهر الخامس من قدوم محمد إلى يثرب. وهذا يبدو تحديداً مناسباً للتاريخ سواءً بالنسبة للوثيقة "جيم" أو بالنسبة للوثيقتين الأخريين اللتين لابد أنهما سبقتاها زمنياً.
·والمفترض أن لوجود المادة 7 (=17): "وإن المؤمنين بعضهم موالي بعضٍ دون الناس" والمادة 8 (=18): "وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم" في الوثيقة "ألف" دلالة على أن قبائل يثرب العربية كانت على خلاف بشأن إلحاق بعض القبائل اليهودية ببعض القبائل العربية المعينة، وأن المعاهدة الحالية تهدف إلى تسوية هذا الموضوع.
·هناك اختلاف في ترتيب أسماء القبائل بين الوثيقة "ألف" والوثيقة "جيم". ويلاحظ في هذا الصدد أنه حين توفي نقيب بني النجار في السنة الأولى من الهجرة فإن محمداً، الذي كان منتسباً إلى هذه القبيلة لأن إحدى زوجات جده عبد المطلب كانت تنتمي إليها، أعلن نفسه نقيباً عليها بدله. تُرى هل هذا هو السبب الذي جعلهم يأتون بعد بني عوف في الترتيب، في الوثيقة "جيم"، بينما كانوا في المركز الخامس في الوثيقة "ألف"؟
·وهناك نقطة هامة هي أن اليهود يدفعون النفقة شأنهم في ذلك شأن باقي أعضاء الأمة.
ملحوظاتنا
1- نحن لا نرى البداهة التي يراها "سرجنت" في إلحاق كلٍ من البطون المذكورة في الوثيقة "جيم" بحلفائه اليهود. وأياً كان رأي الواقدي أو الطبري في هذا الموضوع، فإن صياغة المادتين 2أ و 2ز لا تحتمل التأويل. وحين تتحدث إحدى هاتين المادتين عن يهود بطنٍ معين، فإنها تشير إلى أعضاء هذا البطن من اليهود ولا تتحدث عن شيء آخر. وما من تفسير يجيز أن يقال إنها تشير إلى يهود بينهم وبين هذا البطن الإسلامي حلف. فلئن كانت الإشارة إلى هؤلاء اليهود لقد كان الواجب أن يقال "يهود البطن المذكور حلفاء البطن الإسلامي".
2- كانت الأحلاف بين البطون اليهودية وبطون المشركين شيئاً طبيعياً، ولكن الأحلاف بين البطون اليهودية والبطون الإسلامية شيء غير طبيعي وغير معقول، للأسباب الثلاثة التي سبق ذكرها:
أ ) لأن إنشاء أمة إسلامية محمدٌ صلى الله عليه وسلم رئيسها بغير منازع من شأنه حرمان البطون الإسلامية من حرية عقد أحلاف فردية، نظراً لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان وحده الذي يملك الاختصاص في هذا الموضوع؛
ب) نظراً لعداء اليهود للمسلمين وهو عداء يشهد به القرآن الكريم؛
ج) لأن القرآن الكريم حظر على المسلمين أن يتخذوا اليهود والكفار أولياء؛ والتحالف معهم فيه معنى اتخاذهم أولياء.
3- هل صحيح أن محمداً صلى الله عليه وسلم عقد عند قدومه إلى المدينة اتفاقاً مع اليهود (وهو الاتفاق الذي يتمثل عند "سرجنت" في الوثيقة "جيم")، تعهد فيه هؤلاء، فيما يقول الطبري، بنصرته إذا هاجمه أحد أو، فيما يقول الواقدي، بعدم نصرة عدو ضده؟ لا نظن، وذلك للأسباب التالية:
أ ) في فقرة (لم يترجمها "سرجنت") تتبع مباشرة تلك التي يتحدث فيها عن نوايا محمد صلى الله عليه وسلم لدى قدومه إلى المدينة، يقول الواقدي إن المشركين واليهود من أهل المدينة كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم أذىً شديداً فأمر الله عزَّ وجلَّ نبيه والمسلمين بالصبر على ذلك والعفو عنهم، وفيهم أُنـزل:
– … وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا… ﴿186﴾[آل عمران]
– وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ
عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ
بِأَمْرِهِ …﴿109﴾[البقرة]
والحاصل أن الصبر والعفو والصفح شيء وعقد اتفاق لتكوين اتحاد كونفدرالي شيءٌ آخر، والذي يتضح من هاتين الآيتين هو وجود أقاويل ومشاعر سيئة من جانب اليهود حيال المسلمين وهما أمران لا يشجعان على عقد مثل هذا الاتفاق.
ب) القرآن الكريم يتحدث عن عداء اليهود للمسلمين في كثير من الآيات. وحقيقة أن سورة البقرة التي هي أولى السور المدنية، تشتمل على عديد من هذه الآيات لا تترك أي شك بشأن هذا العداء. وإذا كان المسلمون يدركون ذلك، وإذا كان محمد صلى الله عليه وسلم قد أمل، لدى قدومه المدينة، أن ينضم إليه اليهود للقضاء على شرك مشركيها فإنه لم يحتج ولا شك إلى وقت طويل لكي يتبين أن ذلك غير ممكن. ولابد أنه ما لبث أن تخلى عن مشروعه في إدخال اليهود في أمته، إذا افترضنا أنه كان لديه مثل هذا المشروع. كذلك فإن القرآن الكريم كان يحظر عليه أي مسعى من هذا النوع في الآيات (51) و(57) و(58) من سورة المائدة التي رأيناها ويذكِّره، في الآية (119) من سورة آل عمران، بهذه الحقيقة: "هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ".
ج) لم يكن محمد صلى الله عليه وسلم قد اكتسب في الفترة الأولى من الهجرة في المدينة مكانة تسمح له بفرض نفسه كزعيم لمختلف قطاعات سكانها وتنفيذ مشروع كبير يوحدهم في اتحاد كونفدرالي.
د) مثل هذا المشروع يمكن تصوره في مدينة معرضة لهجوم عدو مشترك، ولم يكن الحال كذلك في وقتها.
ه)لم يكن محمد صلى الله عليه وسلم، في الشهور الأولى من إقامته في المدينة، يخشى هجوماً من قريش. لقد كان قومه سعداء برحيله والتخلص من نشاطه الهدام لمقدساتهم. وكان يشعر بالأمان في المدينة إلى درجة أنه، طبقاً لابن إسحاق والواقدي وغيرهما من المؤرخين، بدأ هو بالهجوم عليهم بشن غارة على قافلة لقريش متجهة إلى مكة (وهي العملية التي تمخضت عن غزوة بدر الشهيرة).
و) اليهود، الذين لم يؤسسوا اتحاداً "كونفدرالياً" يجمع قبائلهم كلها وقبائل أصدقائهم وحلفائهم المشركين في المدينة ما كان يمكن، بالتأكيد، أن يقبلوا مثل هذا المشروع بمبادرة من محمد، مع المسلمين كشركاء في هذا الاتحاد.
ز) إذا افترضنا أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان يخشى هجوماً من قريش، فإن اليهود لم تكن لهم أي مصلحة في مساعدته ضد قومه. ذلك أن قريشاً لم تكن عدوة لهم، بل كان عدوهم هو محمد، هذا النبي الذي كان في رأيهم يتظاهر بأنه يعترف بدينهم، ويريد في الواقع أن يحطمه وأن يدخلهم في الإسلام. وكان نجاحه في المدينة، بزيادة عدد من دخلوا في دينه ونشاط المسلمين القادمين من مكة في مجال التجارة، يسيئان إليهم أبلغ الإساءة. وكانت قبائل قريش في مكة، وإن لم تكن حليفة لهم بمعنى الكلمة، تشاركهم في كراهية محمد. فإذا شنت هذه القبائل حرباً عليه ونجحت في استئصال شأفته فإنها كانت تؤدي لهم خدمة عظمى. ولو كان عليهم أن يختاروا لَما ترددوا في الوقوف في صف قريش ضد محمد. ولم تكن لديهم في المجالين الديني والمادي أي مصلحة في الدفاع عنه. وكانت مصلحتهم تتمثل في نصرة أعدائه، أياً كانوا، ضده.
ح) لو أن اليهود نصروا محمداً صلى الله عليه وسلم في حالة الهجوم عليه أو امتنعوا عن نصرة عدوه لأوغروا ضدهم صدور مشركي المدينة. لقد كان هؤلاء، أياً كان ما يقوله ابن إسحاق، يمثلون أغلبية أهل المدينة في السنة الأولى من الهجرة. وكانت مشاعرهم حيال محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه مثل مشاعر اليهود ومشاعر إخوانهم في الشرك من قريش. لقد كانوا مثلهم يمقتون محمداً صلى الله عليه وسلم، الذي كان يريد أن يردهم عن ملة آبائهم ويهدد قواعد مجتمعهم القبلي. والواقع أن اليهود، الذين كانت مصلحتهم، بل وجودهم ذاته مرتبطين ارتباطاً قوياً بمشركي المدينة، لم يكونوا يسمحون لأنفسهم بالتحالف مع محمد. ولو أنهم فعلوا لخانوهم ولأضعفوا أنفسهم كثيراً في الوقت ذاته.
ط) التعهد بنصرة محمد ضد عدوه أو بعدم نصرة عدوه ضده كان معناه بالنسبة لليهود إلقاء السلاح والعدول عن الدفاع عن أنفسهم ضد عدوهم. وكان معناه أن يقبلوا اجتياح الإسلام لهم وأن يتركوا المسلمين يفعلون ما يشاءون في المدينة. كان معناه، في كلمة: الانتحار. وهذا شيء آخر لم يكن في وسع اليهود أن يسمحوا به لأنفسهم. لاسيما وأنهم، نظراً لحصونهم الستين ولأحلافهم مع المشركين ولتفوقهم الاقتصادي والعددي والمالي وفي السلاح، كانوا أقوى من مئات المسلمين القليلة التي كانت تتبع الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا الداعية، الذي لم يُظهر خلال سنوات دعوته الثلاث عشرة في مكة أي قدرة على العمل العسكري، والذي كان يطعمه ويحميه في المدينة نفرٌ قليلٌ من سكانها المسلمين.
ي) لو أن معاهدة كانت قد عُقدت، على الرغم من كل حججنا، بعد خمسة أو ستة أشهر من الهجرة، يتعهد اليهود بموجبها - دون مقابل - بنصرة محمد ضد أعداء احتماليين أو بالتزام الحياد، فالمفروض أن هذه المعاهدة كانت وثيقة غير الوثيقة "جيم" من الصحيفة، إذ أن اليهود الذين تشير إليهم الصحيفة ليسوا، كما يرى "سرجنت"، كل يهود المدينة، بل فقط أولئك منهم الذين ينتمون إلى البطون الخمسة التي ذُكرت أسماؤها فيها.
ك) الملحوظات التي سقناها أعلاه تعفينا من مشقة الرد على تعليقات "سرجنت" بشأن وجود خلاف بين قبائل العرب في يثرب بشأن إلحاق بعض القبائل اليهودية بقبائل عربية، وهو الخلاف الذي يقول إن الوثيقة "جيم" تولت تسويته.
ل) نحن لا نرى أن الاختلاف في ترتيب البطون العربية بين الوثيقتين "ألف" و"جيم" يحمل مغزىً معيناً. كذلك فقد أعربنا عن شكوك بشأن قيام الرسول صلى الله عليه وسلم بتعيين نفسه نقيباً لبني النجار حين مات نقيب هذه القبيلة.([1])
م) وقد سبق لنا إبداء الرأي في كلمة "النفقة". وسنعود فيما بعد إلى موضوع النفقة التي كان على اليهود أن يدفعوها بمقتضى الوثيقة.
المادة 1 (=27)
وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين.
سرجنت
النفقة ضريبة؛ وهي أحياناً مرادف للصدقة. والحيري يعطيها معنى الصدقة والزكاة. ويقول ابن الأثير إن أهل الطائف، بعد انضمامهم إلى محمد، دفعوا له النفقة. ولم تكن بعض القبائل المحيطة بالمدينة تحب دفع النفقة (الآية 99 من سورة التوبة).
ملحوظاتنا
1- الضريبة عملٌ من أعمال السلطة ولها بالتالي طابع الإجبار. ولكن هذا ليس هو الحال في الإسلام فإن النفقة فيه عمل من أعمال التقوى، وهو لذلك عمل طوعي. وهي أحد مكوني الجهاد الذي يُطلب من كل مسلم أن يعمله إرضاءً لله، وفقاً للآيات التالية:
– إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ …﴿72﴾[الأنفال]
– إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴿15﴾[الحجرات]
– الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ ﴿20﴾[التوبة]
– انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿41﴾[التوبة]
– لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ﴿88﴾[التوبة]
2- المادة 1 (=27) لا تحدد مَن هم اليهود الذين تتحدث عنهم: يهود الجزيرة العربية كلها أم يهود يثرب أم أولئك - غير المعروفين - الذين عقدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الاتفاق الذي أشار إليه الطبري والواقدي.
3- من تحصيل الحاصل أنه إذا اشترك حليفان في الحرب جنباً إلى جنب يكون على كل طرف أن يتحمل حصته في النفقات. وبناءً على هذا فإن هذه المادة لغوٌ لا داعي له.
المادة 2أ (=28)
وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه، وأهل بيته.
ملحوظاتنا
1- في هذه المادة، التي تحيل إليها المواد التالية، يوصف بنو عوف في السطر ذاته بالمؤمنين والمسلمين؛ ونحن نعرف أن المؤمنين لا يمكن تحديدهم ولكن المسلمين وحدهم هم الذين يصلحون طرفاً في أي اتفاق.
2- الذين كان بالإمكان أن يكونوا مع المؤمنين المسلمين من بني عوف - والبطون الأخرى المسماة - ليسوا جميع يهود هذه البطون، وإنما المؤمنون من بينهم، وهؤلاء لم يكن بالإمكان التعرف عليهم.
3- جملة "إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته"، التي تكررت في المادة 2ح (=34) أمر مفروغ منه؛ وهي لا تضيف استثناءً حقيقياً. وإذا لم تكن موجودة فإن ما تنصرف إليه المادة لن يتغير.
المادة 2ب (=29)
وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف.
المادة 2 ج(=30)
وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف.
المادة 2 د (=31)
وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف.
المادة 2ه(=32)
وإن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف.
المادة 2 و (=33)
وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف.
المادة 2 ز (=34)
وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف.
المادة 2 ح (=34)
إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.
سرجنت
هذا تكرار جزئي للمادة 2أ (=28)، للتشديد على محتواها. ويجوز أن يكون هذا نوعاً من اللعنة. وهذه المادة تذكِّر بما جاء في القرآن عن قصة قابيل وهابيل تعزيزاً لحكم يقع في الماضي:
– مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا … ﴿32﴾[المائدة]
ملحوظتنا
القول بأن عملاً جنائياً ينطوي على ظلم أو إثم لا يؤثر إلا على الشخص الذي ارتكبه وعلى أهل بيته ليس فيه شيء يشبه اللعنة. ونحن كذلك لا نرى في هذا القول إشارة إلى قصة قابيل وهابيل في القرآن. هذه مجرد ملاحظة عادية لا جديد فيها وليس لها مكان في معاهدة اتحاد كونفدرالي. وعدم وجود هذه الجملة لا يؤثر على النص الذي أُدرجت فيه ولم يكن هناك داع ٍلها.
المادة 3 (=35)
وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم.
سرجنت
جفنة، طبقاً لما يقوله ﭬرنر كاسكل (Werner Caskel)، بيت رئيسي من بيوت بني غسان. وجفنة وثعلبة كانا يعتبران بلدين لعمرو مزيقياء الذي كان ابنه أباً للأوس والخزرج. ومن المحتمل أن جزءاً صغيراً من جفنة كان ملحقاً بثعلبة بن عمرو. و"سرجنت" لا يقول إنهم كانوا من اليهود.
ملحوظتنا([2])
المادة 4 (=36)
وإن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بين عوف.
سرجنت
هناك قراءة أخرى ممكنة هي شطنة (أبو عبيد) وشظية (الأغاني)، ولكن شطيبة في رأي كاسكل (Caskel)هو الاسم الصحيح، وهم يشكلون فرعاً من قبيلة جفنة/ غسان. ويقول السمهودي إنهم وصلوا إلى يثرب من الشام وانتهى بهم الأمر إلى الاستقرار في الراتچ حيث كانت مساكن اليهود، وأصبح أهل الراتچ حلفاء لبني عبد الأشهل. ويعتبرهم ابن حزم من الأنصار. ويبدو أن هذه المادة تشبِّههم جملةً باليهود. ومن هنا ربما أُلحقوا ببني عبد الأشهل في تاريخ لاحق لهذه الوثيقة، ولكن تاريخهم يظل غامضاً.
ملحوظتنا([3])
المادة 5 (=36)
وإن البرَّ دون الإثم.
سرجنت
هذه صيغة من الصيغ النهائية الجارية في هذا النوع من أنواع التعهدات. وابن الأثير يشرحها بوضوح في كتابه "النهاية" بقوله إن البر دون الإثم يعني وفاء المرء بما جعل على نفسه دون الغدر والنكث. ويقول السهيلي إن البر والوفاء يجب أن يكونا حاجزاً عن الإثم. وقد شرح "براﭬـمن" Bravmannوامرؤ القيس وابن الكلبي والحمداني و"كوﭬالسكي" Kowalskiمعنى هاتين الكلمتين. وفي حديث عن البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله أبرَّه". والصيغة النهائية، باختصار، هي دعوة للموقعين ولـمَن كان لهم ممثلون للوفاء بالتعهدات التي أقسموا على الوفاء بها.
ملحوظاتنا
1- البر في قاموس الوسيط([4]) هو الخير. والتعريف الوارد في القرآن الكريم لهذه الكلمة هو:
– لَيْسَ البِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَالمَلائِكَةِ وَالكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ﴿177﴾[البقرة]
فالوفاء بالعهد إذاً ليس هو البر بل هو صورة من صوره العديدة. كذلك فإن القرآن الكريم يقول:
– … وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ …﴿2﴾[المائدة]
ولا تشير هذه الآية بصفة خاصة إلى معنى الوفاء بالتعهدات وهي تشتمل على كلمتي البر والإثم وهما كلمتان من أربع كلمات وردت في المادة ج 5. وكل ما فعلته هذه المادة أنها استقت معنى الآية ولا يمكن أن يكون لها المعنى الذي يراه "سرجنت".
سرجنت
لم يكن لجميع القبائل اليهودية مركز اجتماعي واحد. وعلى الرغم من أن ثلاث عشرة قبيلة جاء ذكرها في هذه الفترة، إلا أن النبي لم يقم في زمنه بعمل سياسي مباشر إلا ضد ثلاث منها. ومن الجائز أن باقي القبائل اليهودية كانت قد عقدت اتفاقات حماية مباشرة مع القبائل العربية عن طريق سادتهم ونقبائهم، وفقاً للقائمة الواردة بالوثيقة "جيم" ولم يكن لها دور سياسي. ومن الجائز أنها أُلحقت أو شبِّهت بالقبائل اليهودية الثلاث الكبار.
ملحوظتنا
القائمة الواردة في الوثيقة "جيم"، كما ذكرنا، لا تتحدث عن القبائل اليهودية بحسب أهميتها. هي لا تتحدث إلا عن الأفراد اليهود في بطون عربية ثمانية. وللمرء أن يتساءل بشأنها: ماذا عن يهود قبائل الأوس والخزرج الأخرى؟ هل كانوا يشكلون جزءاً من أمة المؤمنين أو المسلمين؟ وإذا كانوا كذلك لماذا عينت بالاسم بطون بني عوف وبني النجار وبني الحارث وبني ساعدة وبني جشم وبني ثعلبة وبني الشطيبة؟ لماذا لم يُقَل ببساطة إن يهود جميع القبائل المسلمة في المدينة يشكلون جزءاً من الأمة؟ ونظراً لأن هذا لم يُقل فما وضع يهود باقي القبائل التي أسلمت؟
الوثيقة "دال"
تكملة للمعاهدة التي تحدد وضع القبائل اليهودية
الإطار التاريخي
سرجنت
·هذه الوثيقة، فيما يبدو، تذييل للوثيقة السابقة؛ وهي تتناول بعض النقاط التي لم ترد فيها. ويعتبر شركاء اليهود فيها كما لو كانوا يشكلون فئة مع القبائل اليهودية، وهؤلاء الشركاء ليسوا بداهةً من اليهود. ومن المحتمل أنهم كانوا مجموعات صغيرة من رجال القبائل العربية التي أحصاها كتاب الأغاني. ويقول مؤلف هذا الكتاب إنها كانت تعيش إلى جانب بني مرانه/ مرابح اليهود. وصلات الإلحاق التي تقررها الوثيقة "دال"، وكذلك، بصورة شبه يقينية، تلك التي وردت في الوثيقة "جيم" لا يجوز، كما هو مقرر بصورة قاطعة في المادة 3 (=39)، أن تُفصَم إلا بإذن مباشر من محمد. ولهذا الحكم، بطبيعة الحال، صلة بمسائل مثل المسئولية الجماعية عن الجرائم، ودفع الدية، إلى آخره. والمادة 4 (=40) هي القرار المعروف الذي اتخذه محمد والذي عدل بمقتضاه التطبيق الدقيق للقانون اليهودي المتعلق بقواعد القصاص. وهذه الوثيقة معاصرةٌ إلى حد كبير للوثيقة "جيم"، وهي ترجع إلى الفترة المدنية الأولى.
ملحوظتنا
سنعود إلى مختلف هذه النقاط في ملحوظاتنا على مواد هذه الوثيقة.
المادة 1 (=37)
وإن موالي ثعلبة كأنفسهم.
سرجنت
من المحتمل أن بني ثعلبة في الوثيقة "جيم" /2ز (=34)، هم قبيلة ثعلبة بن عمرو بن عوف الأوسية، ولكن يثور هنا سؤال عما إذا كانت ثعلبة في "جيم" /3 (=35) هم عرب أم هم قبيلة بني ثعلبة بن الفيطون اليهودية. وتشير الدلائل إلى أنهم كانوا القبيلة العربية، ولكن ما الشأن بالنسبة للمادة "دال" /1 (التي لم تذكر فيها كلمة بني قبل اسم ثعلبة كما في "جيم" /3 (= 35) )؟ يقول "سرجنت" أنه غير قادر على التوصل هنا إلى رأي قاطع. والمسألة في نظره مهمة، فإذا كانت ثعلبة في هذه الحالة هي المجموعة اليهودية، فإن حلفاءهم/ مواليهم من غير اليهود كان الواجب أن يُعتبروا جزءاً من الفئة السياسية ذاتها. أما إذا كانت ثعلبة عرباً فإن المادة تكون تكراراً للمادتين "جيم" /2ز (=34) و"جيم" /3 (=35)، وفي هذه الحالة لابد أنه كان هناك سبب لتكرار شيء سبق تقريره.
ملحوظتنا
اليهود الذين ورد ذكرهم في الوثيقة "جيم" هم جزء من البطون العربية المسماة في مختلف هذه المواد ومنها بنو ثعلبة. وحين تتحدث المادة 1 (=37) من الوثيقة "دال" عن موالي ثعلبة فإنها إنما تشير في الواقع إلى ثعلبة المذكورين في الوثيقة "جيم". وبديهي أن المقصود ليسوا موالي قبيلة يهودية باسم ثعلبة فإننا، لو افترضنا جدلاً أن اليهود الذين تتحدث عنهم الوثيقة "جيم" هم حلفاء القبائل الإسلامية المسماة، فإن اليهود الآخرين، ومواليهم، لا يدخلون بالتالي في إطار الصحيفة.
المادة 2 (=38)
وإن بطانة يهود كأنفسهم.
سرجنت
·المقصود ببطانة يهود (يهود بمعنى قبيلة) هو أيضاً غير يقيني. ولعل المفتاح يكمن في كتاب الأغاني الذي ذُكر فيه أن بني مرانه، الذين كانوا يعيشون في حي بني حارثة، من قبيلة الخزرج، كان لهم بطون من العرب أي عرب مقيمون بالمقابلة مع الأعراب الذين كانوا يعيشون بينهم. وقد عُدِّدَت هذه البطون فقيل إنها بنو الحرمان في اليمن (والمصادر التي رجع إليها "سرجنت" لا تعرفهم)، وبطنين من بِلي / بالي، وهي قبيلة معروفة في يومنا هذا وصفها "دوتي" (Doughty)باعتبارها قبيلة تهامة القديمة، وبطن من بطون بني سُليم وبنو شظية (أو الشطيبة) من غسان. وعلى الرغم من أن هذه الفقرة لا تعود فيما يبدو إلى الفترة السابقة مباشرة لهجرة محمد، إذ أن الشطيبة كانوا لا يزالون قبيلة من الراتچ، أيام الهجرة، فمن المحتمل أن القبائل الأخرى المذكورة كانت موجودة. ومن المحتمل أن هذه البطون العربية انضمت، لأسباب اقتصادية ما، إلى اليهود باعتبار أفرادها تجاراً أو مؤجرين للجمال أو مزارعين. ولا ينبغي استبعاد هذا الاحتمال. وفي خيبر كان هناك راع ٍفي خدمة اليهود أسلم على يدي الرسول.
·شرح لمعنى بطانة (الطبري، البخاري، البلاذري).
ملحوظتنا
أرهق "سرجنت" نفسه كثيراً في محاولة تحديد البطون العربية الفرعية التي انضمت إلى اليهود والتي تشكل البطانة التي تتحدث عنها هذه المادة. ولكن اكتشافاته هي مجرد افتراضات. ومن الجهة الأخرى فإنه حين يقول أن كلمة "يهود" الذين أُلحقت بهم البطانة ترمز إلى قبيلة (ولا تشير إذاً إلى اليهود عامةً)، لا يذكر في تعليقه أي اسم لقبيلة يهودية. والعلاقة بين اليهود الذين يتحدث عنهم بصدد البطانة وأولئك الذين تتحدث عنهم الوثيقة "جيم" ليست ثابتة.
المادة 3 (=39)
وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم.
سرجنت
كلمة خرج تعني "انفصل عن". والرجل الذي ارتكب جريمة في قبيلة منحته جوارها يصبح "طريدا"ً أو "خليعاً"، والقبائل في حضرموت تستخدم كلمات "متخري" أو "متبري" أو "متخرج"؛ "متبري" بمعنى "منفصل عن"، ومن ذلك كلمة "الخوارج" أي أولئك الذين انفصلوا عن علي بن أبي طالب.
ملحوظاتنا
1- "خرج" كلمة ذات معانٍ مختلفة، ومعناها الجاري هو "ترك مكاناً إلى مكانٍ آخر"، مثل:
– فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ المِحْرَابِ …﴿11﴾[مريم]
– وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَد دَّخَلُوا بِالكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ …﴿61﴾[المائدة]
ولكنها قد تعني "طرد" مثل:
– وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا…﴿13﴾[إبراهيم]
– إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِن دِيَارِكُمْ …﴿9﴾[الممتحنة]
وأخيراً فإنها قد تعني "الذهاب إلى الحرب" مثل:
– …فَاسْتَأذَنوكَ لِلخُرُوجِ فَقُل لَّنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا … ﴿83﴾[التوبة]
– وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيَمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ … ﴿53﴾[النور]
وقد استخدم ابن إسحاق والواقدي وغيرهما من كتاب السيرة هذه الكلمة في هذا المعنى الأخير عشرات المرات، وإذاً فإن هذا المعنى لا معنى "الانفصال عن" هو الذي يقتضي أن يُفهَم من كلمة "خرج" في المادة 3 (=39).
2- لو أن فعل "خرج" كان المقصود منه، كما يقترح "سرجنت"، "الانفصال عن"، فإن السؤال يثور حول الحالة التي تريد المادة "دال" /3 (=39) أن تفترضها؟ ما هي الجهة المحظور الانفصال عنها دون إذن من محمد صلى الله عليه وسلم؟ هل هي بطانة اليهود، المذكورة في المادة 2 (=38)، أم موالي ثعلبة الذين تذكرهم المادة 1(=37)، أو الاثنين معاً؟ وسواءٌ كان المقصود هؤلاء أم هؤلاء، فبأي صفة كان المفروض أن يعطي محمد صلى الله عليه وسلم أو يرفض الإذن بها، علماً بأن الأمر يتعلق بمسائل داخلية بين ثعلبة ومواليهم أو بين اليهود وبطانتهم؟ أما إذا كانت كلمة خرج، كما نفهمها نحن، تعني الخروج في الحرب، فإن المادة 3 (=39) تصبح مفهومة. ولكن الحالة التي تريد المادة حلها من الغرابة بمكان، إذ أن أحداً من غير المسلمين لم يكن ليفكر في الاشتراك في حملة حربية يقوم بها المسلمون دون أن يحصل مقدماً على إذن بذلك من محمد صلى الله عليه وسلم.
المادة 4 (=40)
وإنه لا ينحجز على ثأر جرح.
سرجنت
·هذه المادة يقتضي شرحها على ضوء الآية (45) من سورة المائدة التي تقول:
– وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَفْسَ بِالنَّفْسِ وَالعَيْنَ بِالعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالجُرُوحَ قِصَاصٌ …
ويقول البيضاوي إن هذه الآية تعني أن الجروح يجب أن يُقتص لها من الشخص الذي تسبب فيها. لكن القرآن يضيف: "فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ". ويقول الطبري إن القصاص للقتلى كان إجبارياً عند بني إسرائيل لأنه لم يكن عندهم نظام للدية للتعويض عن القتل أو الجرح. ويضيف "فخفف الله عن أمة محمد وجعل عليهم الدية في النفس والجراح". وعلى الرغم من ذلك فإن الطبري يذكر حالة بين قبيلتي بني النضير وبني قريظة اليهوديتين يتضح منها أنهما كانتا تتلقيان الدية، ولكن الفقرة لا تبين لنا ما إذا كان ذلك سارياً قبل أو بعد الإسلام. وكتاب النهاية يعطي لكلمة "انحجز" معنى الامتناع عن الثأر بالدم، مما يجعل التفسير الوحيد لهذه المادة هو: "لا يجب الامتناع عن الثأر بالدم"؛ أي، بعبارة أخرى أن القصاص واجب. على أن ذلك لا يتفق، فيما يبدو، مع السياسة التي كان يتبعها محمد.
·حين سألت الأستاذ/ م. أ. الغول رأيه في هذه المسألة اقترح التفسير الآتي: "لا يجوز أن يُحتجَز أحدٌ بسبب مطالبةٍ موضوعها هو مجرد جُرح". وعلى الرغم من أن "سرجنت" يفضل تفسيره هو، إلا أنه يرى أن مثل هذا المبدأ له ما يبرره. وعلاوة على ذلك يقال إن الرسول نهى عن الثأر بالدم طالما لم يُشف الجريح من جرحه. وهذا يشبه "الشرع" عند قبيلة الأوذالي التي تعتبر أن "الدم كالماء" وأنه إذا كان هناك جرح فيجب أن يظل تحت الرقابة لفترة عام. والغرامة التي يفرضها السلطان تكون متناسبة مع طبيعة الجرح وتحدَّد بصورة منصفة. ومن المحتمل أن هذا "الشرع" متأتٍ بصورة مباشرة من عرف كان سائداً قبل الإسلام.
ملحوظتان
1- شروح الطبري التي أبرز "سرجنت" ما فيها من تناقض، لا تضيف شيئاً إلى فحوى الآية (45) من سورة المائدة. كذلك فإنه حين يقول إن الله عزَّ وجلَّ قد فضَّل المسلمين حين أذن لهم بأن يدفعوا الدية للقتل والجرح وأن اليهود كانوا ملزمين بالقصاص، فإنه (أي الطبري) ينسى أن العرب عرفوا الدية قبل الإسلام بوقت طويل.
2- الشروح الأخرى التي قدمها "سرجنت" بشأن هذه المادة هي مجرد افتراضات.
المادة 5 (=40)
وإنه من فتك فبنفسه فتك وأهل بيته، إلا من ظلم.
سرجنت
·عبارة "وأهل بيته" تشير فقط إلى الذكور. وكان هناك بين القبائل النبيلة ميثاق شرف يتعلق بالنساء ذوات المكانة في قبائلهم. وقد ذُكر شيء من ذلك في "الإكليل" فيما يتعلق بقبيلتين أُسرت منهما فيحرب بين بني حمدان وبني مدحج فتيات شابات فضمهن الرجال إلى أخواتهم وتحاشوا أن يزوروا هاتيك الأخوات إلى أن عُقد الصلح، وعندها أعادوا الفتيات إلى قبيلتهن دون أن يرفعوا حتى حجاب إحداهن.
·وفيما يتعلق بالفتك فهناك قولان مأثوران يستحقان التسجيل هما "قيَّد الإيمان الفتك" و"لا يفتك مؤمن".
ملحوظتان
1- هذه المادة تكرر، كأمر واقع، ما جاء في الجزء الأخير من المادة "جيم" /2أ (=28) وفي المادة 2ح (=34).
2- ليس في صيغة المادة ما يشير إلى أن عبارة "أهل البيت" تعني فقط الذكور. إن هذه العبارة تعني ببساطة "أسرة". والنساء والأطفال هم عادةً أكثر مَن يضارون كنتيجة لأعمال الرجال، فإن هؤلاء الرجال إذا قُتلوا في الحروب أو في القصاص، يتركون أراملهم وأولادهم دون عائل.
المادة 6 (=40)
وإن الله على أبرِّ هذا.
سرجنت
·قال السهيلي إن هذه الجملة تعني "الله وحزبه للمؤمنين على الرضى به".
·من الممكن أن يتأمل المرء بالنسبة لهاتين الجملتين الأخيرتين ومع الوثيقة "جيم" /2أ (=28) و 2ح (= 34)، المعلومة التي جاءت عند أبي عبيد ومؤداها أن حُيي بن أخطب عقد عهداً مع رسول الله ألا يظاهر مَن يعارضه وأنه جعل الله كفيلاً له، وحين أسر محمد حُيي بن أخطب هو وابنه بعد استسلام بني قريظة قال له: "أوفى الكفيل" وقطع رأسيهما.
ملحوظتان
1- الواقعة التي أوردها أبو عبيد، وكون ابن حُيي بن أخطب قُطعت رأسه مع أبيه لأن أباه خرق العهد الذي كان بينه وبين محمد بألا يظاهر أحداً ضده، لم ترد عند ابن إسحاق.
2- هذه الواقعة غير معقولة في نظرنا. ذلك:
أ ) أن حيي بن أخطب، فيما يقول ابن إسحاق([5])، لجأ إلى خيبر بعد هزيمة بني النضير سنة 4 هجرية، وكان ضمن أولئك الذين حرَّضوا قريشاً وقبيلة غطفان على إرسال جيوش ضد محمد صلى الله عليه وسلم، وعندما كانت جيوشهما على أبواب المدينة ضغط على كعب بن أسد، سيد بن قريظة، لكي يقطع عهد السلام الذي كان بينه وبين محمد. فحيي، كقول ابن إسحاق، لم يعقد عهداً مع محمد صلى الله عليه وسلم كما يدعي أبو عبيد. ومسعاه لدى قريش ولدى غطفان ولدى كعب بن أسد، علاوة على كونه فقد قاعدته في المدينة، يستبعد احتمال وجود عهد بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم يتعهد بموجبه ألا يظاهر أعداءه.
ب) ليس في الشريعة الإسلامية شيء يسمح بمعاقبة الابن عن خطأ ارتكبه الأب، والقاعدة القرآنية الصارمة هي أن كل إنسان مسئول عن أفعاله وأن أحداً لا يُسأل عن أفعال غيره:
– …وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِّزْرَ أُخْرَى… ﴿164﴾[الأنعام]
صحيح أننا نجد في القرآن:
– يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُم وَأَهْلِيكُم نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ …﴿6﴾[التحريم]
ولكن هذه آية موجهة إلى المؤمنين تحضهم على جعل أسرهم تسير على الصراط المستقيم وتمنعهم من ارتكاب الأفعال والآثام التي يعاقب عليها بنار جهنم في الحياة الأخرى. لذلك فإذا كان ابن حيي بن أخطب قد نُفذ فيه حكم الإعدام فذلك لعمل لابد أنه ارتكبه لا لعمل ارتكبه أبوه.
الوثيقة "هاء"
إعادة تأكيد وضع اليهود
الإطار التاريخي
سرجنت
يقول "سرجنت" إن رأيه بشأن هذه الوثيقة ليس نهائياً وأنه يبديه كمجرد محاولة. ولكنه يرى أن كل شيء يدعو إلى اعتبار الوثيقة "هاء" إعلاناً غرضه إزالة مخاوف اليهود بشأن أمنهم. لقد اتخذت اليهود بعد غزوة بدر موقفاً معادياً لمحمد وذهب كعب بن الأشرف إلى مكة ليعبر عن تعاطفه مع قريش نتيجة لفقد كبرائهم في المعركة. ونظراً إلى أن من المعروف أن يهود يثرب كانوا على علاقات مع قريش فمن المحتمل جداً - وهذا مجرد افتراض - أنه كان لهم مصلحة ما في تجارة القوافل التي كانت مزدهرة في شبكة التحالفات الكبيرة التي أقامتها قريش لحماية التجارة وطرقها الرئيسية في شبه الجزيرة، وأن اليهود كانوا يرون أن محمداً يهدد أمن طرق القوافل ويعرِّض مصالحهم التجارية الخاصة للخطر. لقد كان أبو كعب بن الأشرف من قبيلة طي العربية، ولكن أمه كانت تنتمي إلى قبيلة بني النضير اليهودية. وتوفي أبو كعب وهو صغير فأخذته أمه ليعيش بين أخواله بني النضير، وشب بينهم وأصبح سيداً. ويقال إنه كان يعتبر يهودياً وفقاً للعرف اليهودي لأنه ابن يهودية، ولكنه كان يُعتبر عربياً من العرب الذين يتبع الابن عندهم أباه. وإن صح هذا فقد كان الاعتبار المذكور أقل أهمية من انتمائه إلى بني النضير نظراً لأنه كان يقيم بينهم. ولم يكتفِ كعب بإظهار تعاطفه مع المكيين، بل كان يسخر من محمد، الذي كان دائماً حساساً من هذه الناحية. واغتيل كعب بناءً على تحريضٍ من محمد في حي العوالي بيثرب. وتقول بعض المصادر إن ذلك تم في ربيع الأول من السنة الثالثة من الهجرة. وفي اليوم التالي لقتل كعب قال محمد لأصحابه: "مَن ظفرتم به من رجال اليهود فاقتلوه" وبعد قتل كعب، شعر اليهود بالخوف. ولم يرفع أحد من كبارهم رأسه. وكانوا يخشون إن رفعوا صوتهم أن يُقتلوا ليلاً كما قُتل كعب بن الأشرف. وقَتَل مسلمٌ يهودياً من بني حارثة كان حليفاً لأخيه أسلم قبلها. ويقول الواقدي إن اليهود ومن معهم من المشركين فزعوا فجاءوا إلى النبي حين أصبحوا فقالوا "قد طُرِق صاحبنا الليلة وهو سيد من ساداتنا قُتل غيلةً بلا جرم ولا حدث علمناه" فقال الرسول "إنه لو قرَّ كما قرَّ غيره ممن هو على مثل رأيه ما اغتيل" ودعاهم إلى أن يكتب بينهم كتاباً ينتهون إلى ما فيه فكتبوا بينهم وبينه كتاباً تحت العذق في دار رملة بنت الحارث. ويقول كتاب "الأغاني" إن الكتاب حُرر بين اليهود والمسلمين في دار الحارث. ويضيف أن علي بن أبي طالب احتفظ بهذا الكتاب وهو ما يؤيد الخبر القائل إن علياً كان يحوز نسخة من "الدستور" الذي بأيدينا. وهذا الكتاب هو الوثيقة "هاء". ولابد أن الاتفاق الذي تم في بيت رملة بنت الحارث جاء بعد قتل كعب والحليف الحارثي.
ملحوظاتنا
1- يُرجع "سرجنت" عداء اليهود لمحمد صلى الله عليه وسلم إلى أن محمداً كان يهدد أمن طرق القوافل، التي كانت حيوية لمصالح اليهود التجارية. وهذا التفسير يستند بالقطع إلى الرأي الشائع بأن السبب المباشر لغزوة بدر كان محاولة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقطع الطريق على قافلة قريش المتجهة من الشام إلى مكة وأن يستولي عليها. ولدينا تحفظات كبيرة على هذه الرواية، والرأي عندنا هو أن قيام قريش بإرسال جيش ضد محمد لم يكن يرمي إلى حماية قافلة أو تجارة، بل إلى منع محمد صلى الله عليه وسلم من جعل المدينة مركزاً تجارياً ومركزاً للحجاج يمكن أن ينافس مكة.
ولكن، بغض النظر عن هذا الاعتبار، تثير نظرية "سرجنت" سؤالاً مهماً: ماذا كان موقف اليهود حيال محمد صلى الله عليه وسلم قبل غزوة بدر وأثناءها؟ وإذا كان اليهود، كما يقول "سرجنت"، يشكلون طرفاً في الاتحاد الكونفدرالي الذي أنشأه محمد صلى الله عليه وسلم بالوثيقتين "ألف" و"باء"، وإذا كانت الوثيقة "جيم" قد كرست ربط القبائل اليهودية ببطون الأوس والخزرج التي أسلمت والتي كانت حليفة لها؛ وإذا كان اليهود قد تعهدوا في هذه الوثيقة ذاتها بنصرة النبي صلى الله عليه وسلم ضد أي عدو يهاجمه، وإذا كان قد تم التوقيع على الوثائق "ألف" و"باء" و"جيم" بعد الهجرة بستة أشهر، فللمرء أن يتساءل عما إذا كان قد حدث بين لحظة التوقيع عليها وغزوة بدر التي وقعت بعد الهجرة بثمانية عشر شهراً:
– أن كان لدى اليهود شكوى من محمد صلى الله عليه وسلم أو من المسلمين لأعمال أو مسلك يتعارض مع روح الصحيفة؛
– أن نصح اليهود محمداً صلى الله عليه وسلم بعدم الهجوم على قافلة قريش؛
– أن مدَّ اليهود يد العون لمحمد صلى الله عليه وسلم ضد جيش قريش وفقاً لتعهدهم الرسمي في الوثيقة؟
والشي المؤكد هو أنهم لو كانوا قد تعهدوا بشيءٍ من هذا وإذا كانوا قد أخلوا بتعهدهم هذا في غزوة بدر لحدثت أزمة في الاتحاد الكونفدرالي ولألغى "الأنصار" الحلف الذي كان يربطهم بالقبائل اليهودية ولطُردت هذه القبائل بالتالي من الاتحاد الكونفدرالي. فما جدوى الحلف إذا كان الحليف يتهرب من التزاماته عندما تمس الحاجة إليه ويتركك وحيداً أمام العدو؟
والواقع أنه لم يكن هناك قط اتحاد كونفدرالي يجمع كل طوائف أهل المدينة، وأن اليهود لم يتعهدوا أبداً بالانضمام إلى محمد صلى الله عليه وسلم. وقد كان لموقفهم العدائي من الإسلام أسباب أقوى من خوفهم الافتراضي على طرق القوافل. فقد حرم اتساع رقعة الإسلام في المدينة تجارتهم من عملائها التقليديين كما قلنا من قبل وقَلَب العالم الذي كانوا يعيشون فيه منذ قرون رأساً على عقب.
2- لو أن يهود المدينة، كما يقول "سرجنت"، قد اتخذوا موقفاً عدائياً من محمد صلى الله عليه وسلم - للمرة الأولى - بعد بدر، فمن غير المفهوم لماذا استمروا في عضوية الاتحاد الكونفدرالي الذي كان أعضاؤه المسلمون يهددون مصالحهم الحيوية. لماذا، بعبارة أخرى، لم ينسحبوا من هذا الاتحاد الكونفدرالي مع المشركين، حلفائهم التقليديين، الذين كانوا في ذلك الوقت لا يزالون يمثلون أغلبية أهل المدينة، ليشكلوا - أي اليهود والمشركون - كتلة تقف في وجه قوة المسلمين؟
3- "سرجنت" يقبل كحقيقة غير قابلة للنقاش حديث الواقدي عن مقتل كعب بن الأشرف وعن نتائج اغتياله. ونحن لا نشاطره هذا اليقين ولذلك فإننا نرى أن العلاقة التي يقترح وجودها بين هذا الحدث والوثيقة "هاء" علاقةٌ بغير أساس. ولكي نبدي ملحوظاتنا في هذا الخصوص يصح قبل كل شيء أن نعلم ما هي رواية الواقدي لهذا الحدث.
قتل كعب بن الأشرف
فيما يلي ما قاله الواقدي عن هذا الموضوع([6]):
وكان قتله على رأس خمسة وعشرين شهراً في ربيع الأول.
حدثني عبد الحميد بن جعفر، عن يزيد بن رومان، ومعمر، عن الزهري، عن بن كعب بن مالك، وإبراهيم بن جعفر، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله، فكلٌ قد حدثني بطائفة فكان الذي اجتمعوا لنا عليه قالوا: إن ابن الأشرف كان شاعراً وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويحرِّض عليهم كفار قريش في شعره.
فلما أبى ابن الأشرف أن ينـزع عن أذى النبي صلى الله عليه وسلم، وأذى المسلمين وقد بلغ منهم فلما قدِم زيد بن حارثة بالبشارة من بدر بقتل المشركين، وأسر من أُسر منهم فرأى الأسرى مقرنين كبت وذل ثم قال لقومه: ويلكم والله لبطن الأرض خيرٌ لكم من ظهرها اليوم، هؤلاء سراة الناس قد قتلوا وأُسروا، فما عندكم؟ قالوا: عداوته ما حيينا.
قال: وما أنتم وقد وطئ قومه وأصابهم؟ ولكني أخرج إلى قريش فأحضهم وأبكي قتلاهم فلعلهم ينتدبون فأخرج معهم. فخرج حتى قدم مكة ووضع رحله عند أبي وداعة بن ضبيرة السهمي وتحته عاتكة بنت أسيد بن أبي العيص، فجعل يرثي قريشاً ويقول:
طحـنت رحـى بـدر لمهــلك أهلـــــه ولمثــل بـــــدر تســتهل وتدمــــــع
قُتلت سـراة الناس حـــول حياضــه لا تبعـــــدوا إن الملــوك تُصَـــــرّع
ويقــــول أقـــــوام أُذلّ بســـخطهــــم إن ابن أشــرف ظــلَّ كعباً يجــزع
صدقوا فليت الأرض سـاعة قُتّلـــوا ظلــت تســـــيخ بأهلهــا وتصـــدّع
كم قد أصـيب بهـا من أبيض ماجـــد ذي بهجــــة يــأوي إليـــــه الضُيّــــع
طلق اليدين إذا الكواكــب أخلفـت حمـــال أثقـــال يســـــود ويربــــــــع
نبّئـت أن بنـــــي المغــــــيرة كلهـــــم خشعوا لقتل أبـي الحكيم وجُدّعوا
وابنـــــــا ربيعـــــــة عنــــــده ومنبــه هل نـال مثـــــل المهلكــــين التبـــع
فأجابه حسان بن ثابت، يقول:
أبكـــــــي لكعــب ثــم عــلّ بعبــــرة منــه وعاش مُجــدّعا لا يســـــمع
ولقــــــد رأيت ببطــن بــدر منهــــم قتلــى تســحّ لهــا العيـون وتدمـع
فابكي فقــد أبكيــت عــبداً راضعـــاً شــبه الكليــب للكليبــــة يتبــــــع
ولقد شـــفى الرحمــن منهــم ســـيداً وأحان قومــــاً قاتلــوه وصُرّعـــوا
ونجـا وأفلــت منهــــــم مــن قلبـــه شـــــغف يظــل لخوفــه يتصـــدع
ونجـا وأفلــت منهـم متســــــرعــــاً فــــــلَّ فليــل هــــارب يتهــــــــزع
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حسان فأخبره بنـزول كعب على من نـزل فقال حسان:
ألا أبلغــوا عنــي أســـيداً رســـالــــةً فخــالك عـــــبد بالســـــراب مجَـرّب
لعمــرك ما أوفــى أســـيد بجـــــاره ولا خــــالـد ولا المفاضــــــــة زينـب
وعتّاب عــبد غـير مـــوف بذمــــة كذوب شــــئون الرأس قرد مـــدرّب
فلما بلغها هجاؤه نبذت رحله وقالت: ما لنا ولهذا اليهودي؟ ألا ترى ما يصنع بنا حسان؟ فتحول فكلما تحول عند قوم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حسان، فقال ابن الأشرف نـزل على فلان. فلا يزال يهجوهم حتى نُبذ رحله فلما لم يجد مأوى قدِم المدينة. فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم قدوم ابن الأشرف، قال: اللهم اكفني ابن الأشرف بما شئت في إعلانه الشر وقوله الأشعار.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن لي بابن الأشرف فقد آذاني"؟ فقال محمد بن مَسلمة: أنا به يا رسول الله وأنا أقتله. قال: "فافعل"، فمكث محمد بن مَسلمة أياماً لا يأكل فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، تركت الطعام والشراب؟ قال: يا رسول الله، قلت لك قولاً فلا أدري أفي لك به أم لا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليك الجهد". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شاور سعد بن معاذ في أمره".
فاجتمع محمد بن مسلمة ونفر من الأوس منهم عبَّاد بن بشر، وأبو نائلة سلكان بن سلامة والحارث بن أوس وأبو عبس بن جبر، فقالوا: يا رسول الله نحن نقتله فأذن لنا فلنقل فإنه لابد لنا منه، قال: قولوا. فخرج أبو نائلة إليه فلما رآه كعب أنكر شأنه وكاد يذعر وخاف أن يكون وراءه كمين فقال أبو نائلة: حدثت لنا حاجة إليك. قال: وهو في نادي قومه وجماعتهم ادن إليَّ فخبرني بحاجتك. وهو متغير اللون مرعوب - فكان أبو نائلة ومحمد بن مَسلمة أخويه من الرضاعة - فتحدثا ساعة وتناشدا الأشعار.
وانبسط كعب وهو يقول بين ذلك: حاجتك، وأبو نائلة يناشده الشعر - وكان أبو نائلة يقول الشعر - فقال كعب: حاجتك، لعلك أن تحب أن يقوم مَن عندنا؟ فلما سمع ذلك القوم قاموا. قال أبو نائلة: إني كرهت أن يسمع القوم ذَروْ كلامنا، فيظنون كان قدوم هذا الرجل علينا من البلاء وحاربتنا العرب ورمتنا عن قوس واحدة وتقطعت السبل عنا حتى جهدت الأنفس وضاع العيال أخذنا بالصدقة ولا نجد ما نأكل. فقال كعب: قد والله كنت أحدثك بهذا يا ابن سلامة أن الأمر سيصير إليه.
فقال أبو نائلة: ومعي رجال من أصحابي على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم فنبتاع منك طعاماً أو تمراً وتحسن في ذلك إلينا، ونرهنك ما يكون لك فيه ثقة. قال كعب: أما إن رفافي تقصف تمراً، من عجوة تغيب فيها الضرس أما والله ما كنت أحب يا أبا نائلة أن أرى هذه الخصاصة منك، وإن كنت من أقرب الناس عليَّ أنت أخي، نازعتك الثدي قال سلكان: أكتم عنا ما حدثتك من ذكر محمد.
قال كعب: لا أذكر منه حرفاً. ثم قال كعب: يا أبا نائلة أصدقني ذات نفسك؛ ما الذي تريدون في أمره؟ قال: خذلانه والتنحي عنه. قال: سررتني يا أبا نائلة فماذا ترهنونني، أبناءكم ونساءكم؟ فقال: لقد أردت أن تفضحنا وتظهر أمرنا ولكنا نرهنك من الحلقة ما ترضى به. قال كعب: إن في الحلقة لوفاء.
وإنما يقول ذلك سلكان لئلا ينكرهم إذا جاءوا بالسلاح، فخرج أبو نائلة من عنده على ميعاد فأتي أصحابه فأجمعوا أمرهم على أن يأتوه إذا أمسى لميعاده. ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم عشاءً فأخبروه فمشى معهم حتى أتى البقيع ثم وجههم ثم قال: "امضوا على بركة الله وعونه" ويقال: وجههم بعد أن صلوا العشاء وفي ليلة مقمرة مثل النهار في ليلة أربع عشرة من ربيع الأول على رأس خمسة وعشرين شهراً.
قال: فمضوا حتى أتوا ابن الأشرف فلما انتهوا إلى حصنه هتف به أبو نائلة وكان ابن الأشرف حديث عهدٍ بعرس فوثب فأخذت امرأته بناحية ملحفته وقالت: أين تذهب؟ إنك رجل محارب ولا ينـزل مثلك في هذه الساعة. فقال: ميعاد إنما هو أخي أبو نائلة والله لو وجدني نائماً ما أيقظني، ثم ضرب بيده الملحفة وهو يقول: لو دُعي الفتى لطعنة أجاب.
ثم نـزل إليهم فحياهم ثم جلسوا فتحدثوا ساعة حتى انبسط إليهم ثم قالوا له: يا ابن الأشرف هل لك أن تتمشى إلى شرج العجوز فنتحدث فيه بقية ليلتنا؟ قال: فخرجوا يتماشون حتى وجهوا قبل الشرج فأدخل أبو نائلة يده في رأس كعب، ثم قال: ويحك، ما أطيب عطرك هذا يا ابن الأشرف وإنما كان كعب يدهن بالمسك الفتيت بالماء والعنبر حتى يتلبد في صدغيه وكان جعداً جميلاً.
ثم مشى ساعة فعاد بمثلها حتى اطمأن إليه وسلسلت يداه في شعره وأخذ بقرون رأسه، وقال لأصحابه: اقتلوا عدو الله فضربوه بأسيافهم فالتفت عليه فلم تغن شيئاً، ورد بعضها بعضاً، ولصق بأبي نائلة. قال محمد بن مسلمة: فذكرت مغولاً معي كان في سيفي فانتزعته فوضعته في سرته، ثم تحاملت عليه فقططته حتى انتهى إلى عانته فصاح عدو الله صيحة ما بقي أطم من آطام يهود إلا قد أوقدت عليه نار. وقال ابن سنينة يهودي من يهود بني حارثة وبينهما ثلاثة أميال: إني لأجد ريح دم بيثرب مسفوح. وقد كان أصاب بعض القوم الحارث بن أوس بسيفه وهم يضربون كعباً، فكلمه في رجله.
فلما فرغوا احتزوا رأسه ثم حملوه معهم ثم خرجوا يشتدون وهم يخافون من يهود الأرصاد حتى أخذوا على بني أمية ابن زيد ثم على قريظة وإن نيرانهم في الآطام لعالية ثم على بعاث حتى إذا كان بحرة العريض نـزف الحارث الدم فأبطأ عليهم فناداهم أقرئوا رسول الله مني السلام فعطفوا عليه فاحتملوه حتى أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فلما بلغوا بقيع الغرقد كبَّروا.
وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة يصلي، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرهم بالبقيع كبَّر وعرف أن قد قتلوه. ثم انتهوا يعدون حتى وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفاً على باب المسجد، فقال: "أفلحت الوجوه"، فقالوا: ووجهك يا رسول الله ورموا برأسه بين يديه فحمد الله على قتله.
ثم أتوا بصاحبهم الحارث فتفل في جرحه، فلم يؤذه، فقال في ذلك عباد بن بشر:
صرخـــت به فلم يجفــــــل لصوتـــي وأوفــى طالعــاً مــن فوق قصـــر
فعـــدت فقـــال من هـــــذا المنــادي فقلـت أخـوك عبــاد بــن بشــــر
فقــــــال محمـــــد أســـــــــرع إلينــــا فقــــــد جئنــا لتشــكرنا وتقــــرى
وترفدنــا فقــد جئنــــــا ســــغابــــــاً بنصــف الوســق من حـب وتمــر
وهــذي درعنــا رهنــا فخذهـــــــــا لشــــهر إن وفــى أو نصف شــهر
فقال معاشــر ســـغبوا وجاعـــــوا لقــد عدمــوا الغنى من غــــير فقــر
وأقبــل نحونــا يهـــوى ســــــــريعاً وقــال لنــا لقــد جئتــــــــم لأمــــر
وفــي إيماننــا بيـــض حــــــــــداد مجربــــــة بهــا الكفـــــار نفــــــرى
فعانقـه ابــن مســـــلمة المـــرادى بــه الكـــــــفان كاللــيث الهزبـــــر
وشــد بســــيفه صــــــلتاً عليـــــه فقطــره أبو عــبس بـــن جبـــــر
وصـــلت وصــاحبـاي فكان لمـــا قتلنــاه الخــبيث كذبـــــــــح عــــتر
ومــر برأســــــه نفــــــر كــــرام هــم ناهــوك مــن صــــدق وبــــر
وكان الله ســـــــادســـنا فــأبنـــا بأفضــــــل نعمــة وأعـــــز نصــــر
قال ابن أبي حبيبة: أنا رأيت قائل هذا الشعر.
قال ابن أبي الزناد: لولا قول ابن أبي حبيبة لظننت أنها ثبت. قالوا: فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليلة التي قُتل فيها ابن الأشرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن ظفرتم به من رجال اليهود فاقتلوه". فخافت اليهود فلم يطلع عظيم من عظمائهم ولم ينطقوا، وخافوا أن يُبَيِّتوا كما بيت ابن الأشرف. وكان ابن سنينة من يهود بني حارثة، وكان حليفاً لحويصة بن مسعود قد أسلم؛ فعدا محيصة على ابن سنينة فقتله فجعل حويصة يضرب محيصة وكان أسن منه يقول: أي عدو الله أقتلته؟ أما والله لرب شحم في بطنك من ماله فقال محيصة: والله لو أمرني بقتلك الذي أمرني بقتله لقتلتك. قال: والله لو أمرك محمد أن تقتلني لقتلتني؟ قال: نعم. قال حويصة: والله إن ديناً يبلغ هذا لدين معجب. فأسلم حويصة يومئذ، فقال محيصة - وهي ثبت لم أر أحداً يدفعها - يقول:
يلـــوم ابن أمــي لو أُمــرت بقتلــه لطـبقت ذفـــــراه بأبيـض قاضــب
حسام كلون الملح أخلــص صقلـه متـى ما تصوبـــــه فليــس بكــاذب
وما سرني أنــي قتلتــك طائعـــــاً ولـو أن لي ما بين بُصـــري ومأرب
ففزعت اليهود ومن معها من المشركين، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين أصبحوا فقالوا: قد طرق صاحبنا الليلة وهو سيد من ساداتنا قُتل غيلة بلا جرم ولا حدث علمناه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه لو قرَّ كما قرَّ غيره ممن هو على مثل رأيه ما اغتيل، ولكنه نال منا الأذى وهجانا بالشعر، ولم يفعل هذا أحد منكم إلا كان له السيف"، ودعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يكتب بينهم كتاباً ينتهون إلى ما فيه فكتبوا بينهم وبينه كتاباً تحت العذق في دار رملة بنت الحارث. فحذرت اليهود وخافت وذلت من يوم قتل ابن الأشرف.
ملحوظاتنا
يبدو لنا حديث كعب بن الأشرف صعب التصديق وذلك لأسبابٍ عدة:
1- كان السبب الأساسي لقتل بن الأشرف، فيما يقول الواقدي، الشعر الذي هاجم به هذا الرجل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وحرض قريشاً عليهم. لكن الواقدي لم ينقل لنا عنه إلا قصيدة واحدة من ثمانية أبيات يرثي فيها كبراء قريش الذين لقوا حتفهم في بدر، وليس في القصيدة كلمة عن محمد صلى الله عليه وسلم ولا أي تحريض على كراهية المسلمين ولا دعوة لقريش لأخذ السلاح ضدهم. كذلك فإن حسان بن ثابت شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم، سارع بالرد على كعب في قصيدتين من ستة وثلاثة أبيات على التوالي. ويجوز القول إن حسابات ابن الأشرف في هذا الموضوع قد سويت ولم تكن ثمة حاجة لقتله بسبب ما قاله من الشعر.
2- بل إن لنا أن نشك في صفة الشاعر التي ينسبها الواقدي لهذا الرجل، فإن ابن الأشرف إذا كان شاعراً حقاً لما انتظر بدراً لكي ينظم القصائد ضد محمد صلى الله عليه وسلم وضد دينه. لقد كانت لديه ألف مناسبة ومناسبة لنظم الشعر في الحملة الكلامية الدائمة التي شنها اليهود والكفار على كبير هؤلاء "الغرباء" الذين هبطوا عليهم، والذين أساءوا إلى استقرار مجتمعهم، وأضروا بمصالحهم السياسية والاقتصادية ولم يدخروا وسعاً في الدعوة إلى دينهم. وكان هناك علاوة على ذلك حدث يمس اليهود بصورة ما كان شاعر يهودي جدير بهذا الاسم يفوته أن ينظم أشعاراً تعبِّر عن أساه وأسى شعبه بصدده، ونعني به حصار وتسليم وإجلاء قبيلة بني قينقاع من المدينة إجلاءً تاماً وذلك بعد غزوة بدر بشهرين. ولكننا لا نجد بيتاً واحداً لكعب في مناسبة من هذه المناسبات.
3- الكره الذي كان يحمله أي يهودي للإسلام والمسلمين، والألم الشديد الذي كان اليهود يشعرون به لمصير أبناء دينهم بني قينقاع جعلهم بلا شك يظهروا عداءهم لمحمد ولجماعة المسلمين بالقول وبالفعل. ولكن من غير المحتمل أن يكون رؤساؤهم قد هاجموا الرسول صلى الله عليه وسلم علانية إذ أن مثل هذا الهجوم كان من شأنه أن يجر قبائلهم إلى صدام نتائجه وخيمة. وقد كان كعب ابن الأشرف، فيما ذكر الواقدي، سيداً في بني النضير وكان عليه كما كان على نظرائه واجب التحفظ. فلو صدرت منه ألفاظ فيها تجاوز للحدود أو نظم أشعاراً يسيء فيها إلى محمد صلى الله عليه وسلم أو إلى أصحابه لذكَّره أقرانه اليهود بهذا الواجب أو لقدموا اعتذاراً إلى محمد.
4- من الصعب علينا جداً أن نصدق أن سيداً وتاجراً يهودياً كان عليه بهاتين الصفتين أن يتابع أحداث المدينة خلال السنتين الأولى والثانية من الهجرة، مع كل ما جدَّ في هذه الفترة من أحداث (بناء المسجد، وصول أفواج من المسلمين من الخارج، الدعوة إلى الإسلام ودخول ناس كثيرين في هذا الدين، وحرب الأفكار، والنشاط الاقتصادي الذي قام به تجار المهاجرين، وقدوم جيش من قريش وهزيمته في بدر، والنـزاع مع بني قينقاع، الخ) كان من الغفلة أو من العمى بحيث يقع في الفخ المضحك الذي نصبه له سلكان ومحمد بن مَسلمة. وإن صحَّ أن كعباً كان أخاً في الرضاعة لكل منهما لَما كان في الإمكان أن يجهل دخولهما في الإسلام؛ هما واثنان آخران من مجموعتهما المكونة من خمسة. لقد كان هؤلاء الأربعة من بني عبد الأشهل الذين يقول ابن إسحاق إنهم كانوا أول قبيلة تدخل كلها في الإسلام خلف رئيسها، قبل الهجرة بسنتين([7]). وباعتبارهم أسبق الناس إلى الإسلام لا يُعقل أن تكون لهم شكوى من محمد صلى الله عليه وسلم أو من دينه. وكان لابد لكعب أن يعرف كذلك أن المسلمين، بفضل النشاط التجاري الذي بدأوا يمارسونه منذ قدومهم المدينة وبفضل الغنائم التي غنموها في حربهم مع قريش في بدر وبعد حصارهم ليهود بني قينقاع، لم يكونوا في حالة العوز التي ادعاها سلكان. وأخيراً كان باستطاعة كعب أن يقول لسلكان: "ليس هناك ما يجبركم، أنت وأصدقاؤك، على تحمُّل كل البؤس الذي حكيته لي: ما عليكم إلا أن تتركوا دين محمد. وستسعد قبائلكم كثيراً بذلك وتهلل لاستقبالكم"؛ وكان باستطاعته أيضاً، مع شيء من الدهاء، أن يعرض عليهم دون مقابل البضاعة التي طلبوها إذا قبلوا أن يعملوا في السر ضد محمد صلى الله عليه وسلم.
5- جو العلاقات المتوتر بين محمد صلى الله عليه وسلم واليهود بعد مأساة بني قينقاع، ومع افتراض أن صفقة الغذاء مقابل السلاح قد عُقدت فعلاً، يجعل اللقاء الذي تم في جُنح الظلام لتسليم الرهن غير مفهوم. وكان الشيء الطبيعي أن يتم شطرا الصفقة في نفس الوقت، نهاراً، في متجر التاجر أو في مخزنه. وإذا أُريدَ أن تتم الصفقة سراً فقد كانت هناك بالتأكيد وسائل للقيام بذلك غير إحضار السلاح إلى سكن التاجر ليلاً.
6- من غير المفهوم لماذا لم يطلب ابن الأشرف تسلُّم الأسلحة التي تشكل رهنه لدى وصول أولئك الذين كان عليهم أن يسلموها، قبل أن يصحبهم للنـزهة.
7- النـزهة التي تستمر في ساعة متأخرة من الليل بين يهودي وخمسة مسلمين بعد خمسة أشهر من الحكم على قبيلة يهودية بقوة السلاح بمغادرة البلد الذي كانت تقيم فيه منذ قرون وبأن تترك وراءها بيوتها وحصونها وأسواقها وكل ما لأفرادها من أموال، كان عملاً يسيء كثيراً إلى سمعة سيدٍ مشهورٍ بعدائه لرسول الإسلام. كذلك فإن من غير المتصوَّر أن يقبل تاجر يهودي عدو للإسلام لم تلعب الخمر برأسه قضاء الليل في ثرثرة مع مجموعة من المسلمين المسلحين.
8- لم يكن ابن الأشرف يجهل، وكانت أخبار بدر قد ملأت الأسماع، أن أربعة من الرجال الذين كان عليه أن يقابلهم تحت جنح الظلام، أي محمد بن مَسلمة أخوه من الرضاعة، وعباس بن بشر، والحارث بن أوس، وأبو عباس بن جبر، كانوا من مقاتلي بدر([8]) الذين كانوا كلهم متطوعين، والذين احتفل بهم مسلمو المدينة كأبطال، والذين لا يعقل أن يذكروا نبيهم بسوء أو يشتكوا من أن العرب يحاربونهم أو يتحالفون ضدهم.
9- لو افترضنا أن ابن الأشرف كان يجهل أن أربعة من زبائنه قد اعتنقوا الإسلام قبل وصول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وأنهم كانوا بالتالي مسلمين مقتنعين بإسلامهم، وأن أربعة منهم كانوا من أبطال بدر، فهل كان من المتصور أن يجهل وهو سيد من سادة قبيلة بني النضير اليهودية أن أخاه من الرضاعة، محمد بن مَسلمة، كان الرجل الذي عهد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم بإجلاء بني قينقاع وقبض أموالهم؟([9]). ثم ألم يكن يدرك أن التنـزه وحده مع جماعتهم، حتى إذا لم يكونوا مسلحين، كان يعرِّضه لخطر مميت؟
10- هناك أسئلة أخرى يمكن أن تُسأل: أين كان الأرصاد اليهود، الذين يتحدث عنهم النص، أثناء عملية الاغتيال؟ لماذا لم يهرع سكان الحصون اليهودية الذين أضاءوا مصابيحهم حين سمعوا صرخة كعب إلى مسرح الاغتيال؟ كيف لم يتبع أحد القتلة وكيف لم يُقبض، على الأقل، على الحارث الذي جُرح في رجله ولم يكن باستطاعته اللحاق بأصحابه؟ كيف يستطيع إنسان أن يشم رائحة دم مسفوح على مسافة ثلاثة أميال؟ الخ…
إلى هذه الملحوظات، المتعلقة بابن الأشرف، يمكن أن تضاف ملحوظات أخرى تتعلق بمحمد صلى الله عليه وسلم. من ذلك مثلاً أنه:
أ ) ما من نص في القرآن الكريم يعتبر سبَّ الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى إذا تكرر، أو سبَّ أحدٍ من المسلمين، جريمة يُعاقَب عليها بالإعدام. والواقدي ذاته يذكر في القصة التي نحن بصددها الآية الكريمة (186) من سورة آل عمران التي تقول:"…وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا …"وتضيف: "وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ".
ب) التحريض على قتال المسلمين ليس، هو الآخر، في القرآن الكريم، سبباً يبرر الاغتيال. وإذا كان القرآن الكريم يقول لرسوله في الآية (13) من سورة المائدة:"… وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ"،فمن الصعب تصوُّر أن يُحرِّض الرسول صلى الله عليه وسلم على اغتيال ابن الأشرف. ونستطيع أن نقرر هنا أن أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة كانوا كثيرين، ليس بين اليهود فحسب، بل بين الكفار والمنافقين كذلك. ولابد أنه كان بينهم شعراء يسُبُّون المسلمين ورسولهم الكريم وأشخاص يتآمرون عليهم، ولو أن الرسول صلى الله عليه وسلم استخدم سلاح الاغتيال ضدهم لكانت المدينة مسرحاً لعشرات من الاغتيالات ولشهدت عشرات من القتلى.
ج) لئن كان كعب بن الأشرف سبَّ الرسول صلى الله عليه وسلم أو أثم في حق المسلمين، لقد كان لدى الرسول صلى الله عليه وسلم وسائل للتعامل معه غير اغتياله. كان باستطاعته أن يتحدث معه رجلاً لرجل (ويقول ابن إسحاق إن ابن الأشرف كان من بين اليهود الذين قابلوا الرسول صلى الله عليه وسلم بعد تغيير القبلة)([10])؛ وكان باستطاعته أن يشكوه لنظرائه، رؤساء القبائل اليهودية الأخرى، وأن يطلب منهم إسكاته أو محاكمته. وكان باستطاعته أن يحاكمه هو نفسه بحضور أفراد من "اليهود"، وأن يتيح له فرصة شرح مسلكه أو الدفاع عن نفسه. هذا أقرب شبهاً بسلوك رسولٍ حريص، كما يصوره الواقدي، في بداية القصة ذاتها، على استصلاح مختلف مكونات أهل المدينة وموادعتهم.
ما حدث بعد قتل ابن الأشرف
الموت لليهود
هل علينا أن نصدِّق أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في اليوم التالي لمقتل ابن الأشرف: "مَن ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه"؟ نحن لا نصدق ذلك، للأسباب التالية:
1- محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن يقدِّم نفسه للناس كملك أو كقائد عسكري أو زعيم شعبي سلطاته غير محدودة ويملك عليهم أو على أعدائه حق الحياة أو الموت. لقد كان يعرض نفسه كرسول مكلف بإبلاغ رسالة في شكل آيات قرآنية يقول إنه يتلقاها من الله سبحانه وتعالى. وقد جعلت منه ظروف دعوته في المدنية رئيساً لجماعة المسلمين، ومشرِّعاً وقاضياً. وكانت صفته كنبي تفرض عليه أن يلتزم في أقواله وأفعاله بأحكام ما ينـزل عليه من قرآن التزاماً دقيقاً. ولو أن أعماله أو سلوكه ابتعدت عن القرآن لتعرضت مصداقيته للشك، ولكفَّ من اتبعوه عن تصديقه ولأولوه ظهورهم؛ ولصدَق فيه وصف خصومه له بالكذب والادعاء ولفقدت دعوته أي قدرة على اجتذاب الناس. وخير وسيلة للتحقق من صحة أي قرار يتخذه أو كلام يقوله كانت إذاً مدى اتفاقهما مع التنـزيل القرآني الذي كان يقول إنه تلقاه. ونظراً إلى أننا هنا بصدد مسألة في غاية الأهمية - وأي مسألة، بالنسبة لنبي يؤمن بحنيفية إبراهيم، أهم من قرار يتخذه بقتل أهل الكتاب - فإن مثل هذا التحقق شيءٌ لا مناص منه. والحاصل:
أ ) إن شيئاً في القرآن الكريم لم يكن يسمح لمحمد، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، بأن يأمر المسلمين بقتل جميع اليهود، أو بقتل بعضهم أو بقتل واحد منهم، حتى إذا كانوا أعداءً له بالمشاعر أو بالعمل، إذا لم يقاتلوه، مع وجود الآية القرآنية المطلقة التي تقول، كما رأينا:
– وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ
﴿190﴾[البقرة]
ب) هذه القاعدة لا تنطبق على أهل الكتاب وحدهم؛ بل تنطبق كذلك على المشركين والكفار؛ وهي صادرة عن احترام حياة الغير وعن قاعدة أخرى هي تلك التي وردت، بالعبارات ذاتها، في آيتين كريمتين:
– وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ ﴿الأنعام: 151﴾ ، ﴿الإسراء: 33﴾
ج) كان هناك احتمال في أن يكون اليهودي الذي يقتله المسلم بناءً على أمر الرسول، مؤمناً، و كان القاتل في هذه الحالة يقع تحت طائلة الآية التي تقول:
– وَمَن يَّقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴿93﴾[النساء]
د ) لو افترضنا أن ابن الأشرف صدرت منه تصرفات عقوبتها القتل فالقرآن الكريم لا يسمح بأن يؤخذ شخص أو أشخاص آخرون بجريرته، والقاعدة القرآنية الواردة في الآيات [الأنعام: 164]، [الإسـراء: 15]، [فاطر: 18]، [الزمر: 7]، [النجم: 38] تقرر أنه"لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِّزْرَ أُخْرَى".
ه) قتل أشخاص لجناية ارتكبها أحدهم ظلم. والظالمون، الذين هم في هذه الحالة القاتل ومن حرضه، يتوعدهم الله تعالى بمصير لا يرضى نبيٌ بعثه الله ليُحلَّ السلام والعدالة في العالم أن يعرِّض له نفسه أو أن يعرِّض له من اتبعوه. المصير الذي تتحدث عنه آيات مثل:
– …إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بمَاءٍ كَالمُهْلِ يَشْوِي الوجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ﴿29﴾[الكهف]
– وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ومِثْلَه مَعَهُ لاَفْتَدَوا بِهِ مِنْ سُوءِ العَذَابِ يَومَ القِيَامَةِ وبَدَاَ لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونوا يَحْتَسِبُونَ ﴿47﴾[الزمر]
وعشرات من الآيات في نفس المعنى.
2- أمر جميع المسلمين بقتل جميع اليهود الذي يظفرون بهم كان معناه إعلان حرب شاملة ضد يهود المدينة. وهذا يثير ملاحظات عدة:
أ ) كيف يوفِّق المرء بين إعلان الحرب هذا وبين النوايا التجميعية والسلمية التي ينسبها الواقدي للرسول صلى الله عليه وسلم في بداية حديثه عن قتل كعب بن الأشرف؟
ب) محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن في نيته أن يدخل في حرب مع اليهود في المدينة أو أن يناصبهم العداء في وقت كانت الأنباء الواردة من مكة تخبره فيه أن قريشاً أعلنت تعبئة معنوية عامة وأنها تستعد لحملة عسكرية تنتقم بها لهزيمتها في غزوة بدر.
ج) محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا منشغلين بتنفيذ مشروع اقتصادي يهدف إلى توفير فرصة لكسب العيش للمهاجرين ولفقراء المدينة؛ وكان الدخول في نـزاع عسكري مع يهود المدينة مغامرة لم يكونوا ليسمحوا بها لأنفسهم.
د ) محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن، بعد وصوله إلى المدينة بسنتين، يملك الوسائل اللازمة للدخول في حرب ضد جميع قبائل اليهود في هذه المدينة، بآطامهم الستين، وقوتهم الاقتصادية والمالية، وأحلافهم مع مشركي قبيلتي الأوس والخزرج الكبريين.
3- أمر المسلمين بقتل من يظفرون به من اليهود لأن أحداً من هؤلاء أساء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كان شيئاً لا يتفق مع مجموع قواعد السلوك القرآنية التي كان عليه صلى الله عليه وسلم أن يتبعها بحذافيرها. وفي الإمكان تلخيص هذه القواعد فيما يأتي:
أ ) الرد على السيئة بالحسنة:
– ولا تَسْتَوي الحَسَنَةُ ولا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴿34﴾[فصلت]
ب) في بعض الحالات، الرد على السيئة بالسيئة، مع تفضيل العفو:
– وجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴿40﴾[الشورى]
ج) كظم الغضب والعفو عن الإساءة. وقد تكفَّل الله عزَّ وجلَّ بعقاب من يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم:
– …وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ﴿134﴾
[آل عمران]
–وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ ويَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ ويُؤْمِنُ لِلمُؤْمِنِينَ ورَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ والَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿61﴾[التوبة]
د ) الاقتداء بالأنبياء السابقين:
– وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ المُرْسَلِينَ﴿34﴾[الأنعام]
ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم في حلٍ من تجاهل هذه القواعد. والأمر الصادر إليه في الآية التالية:
– …قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ﴿14﴾[الأنعام]
لم يكن له بالنسبة إليه سوى معنى واحد: أن يكون أول من يطيع الأوامر القرآنية المذكورة.
ابن سُنينة
قصة هذا الرجل في حديث الواقدي قصةٌ غريبة. ذلك أن:
1- ابن سُنينة يقدَّم مرة كيهودي ومرة أخرى كيهودي اعتنق الإسلام. هو يقدَّم كيهودي في الخبر([11]) الذي يقول فيه الواقدي إنه وجد ريح دم بيثرب مسفوح، حين قُتل ابن الأشرف، وذلك على بُعد ثلاثة أميال. وهو يقدَّم كيهودي أسلم في قصة اغتياله بيد محيصة.
2- قال محيصة لأخيه وهو يشرح له سبب تصرفه أنه إنما قتل ابن سُنينة بناءً على أمر رسول الله. ونظراً إلى أن الواقدي لم يقل إن محيصة حين قتل ابن سُنينة لم يكن يعرف أنه اعتنق الإسلام من قبل، فمؤدى ذلك أن محمداً أمر بقتل اليهود حتى إذا كانوا قد اعتنقوا الإسلام، وهو قول غير معقول.
3- من الغريب أنه لا في حالة ابن الأشرف ولا في حالة ابن سُنينة تحدث الواقدي عن دفع الدية لقبيلتي ابن الأشرف وابن سُنينة.
4- أياً ما كان الأمر، فإن قتل ابن سُنينة لا يمكن أن يُعتبر تنفيذاً لأمر محمد صلى الله عليه وسلم بقتل جميع اليهود لأن ابن سُنينة باعتناقه الإسلام، لم يعد يهودياً.
فزع اليهود
ما يراه الواقدي من أن اليهود حذرت وخافت وذلت من يوم قتل ابن الأشرف لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هددهم بنفس المصير الذي لقيه صاحبهم إذا فعل أحد منهم ما فعله، وأنه دعاهم إلى أن يكتب بينهم كتاباً كتبوه في بيت رملة بنت الحارث، يثير الملحوظات التالية:
1- من الغريب أن اليهود الذين ذهبوا للقاء الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقولوا له أن اغتيال خصم من الخصوم على النحو الذي اغتيل به صاحبهم شيء لا يليق بنبي، وأن أحداً من الأنبياء الذين أورد القرآن قصصهم لم يضرب مثلاً لمثل هذا الاغتيال؛ وأن الرجل الوحيد في التاريخ الذي كان يأمر بقتل اليهود جملةً كان فرعون مصر؛ وأن في القرآن الكريم آية تعتبر قتل رجل واحد بغير حق قتلاً للبشرية كلها، وأن القتل الجماعي كان يعني بالتالي قتل جميع الناس مضروباً في عدد المقتولين.
2- كان اليهود من حيث العدد والعُدة العسكرية بكل تأكيد أقوى بكثير من محمد صلى الله عليه وسلم. ولو أنهم شنوا الحرب عليه وجمَّعوا لذلك قوات قبائلهم واستخدموا تحالفاتهم مع المشركين، الذين كانوا لا يزالون أغلبية في المدينة، لهزموا المسلمين شر هزيمة. ونظراً إلى أنهم كانوا في بلدهم وأن حصونهم (آطامهم) مع خبرتهم بالحرب والأسلحة التي كان يصنعها صناعهم فإنهم كانوا أقوى بكثير من جيش قريش في بدر الذي أرهقته مسيرته في الصحراء بين مكة والمدينة مسافة تزيد على 500 كيلومتر.
3- كان اليهود يعلمون ولاشك أن مكة كانت تستعد للقيام بحملة على محمد صلى الله عليه وسلم. بل إنه من المسموح به تصوُّر أنهم دخلوا معهم في محادثات بشأن تقديم المساعدة إليهم حين يحين الوقت. لذلك لم يكن لهم أي مصلحة في تقييد أيديهم بتقديم تعهد أياً كان إلى محمد. ولم يكن هناك ما يرغمهم على ذلك، فقد كانوا في مركز قوة.
4- من غير المفهوم حقاً، بعد حديث ضاف عن مختلف مراحل عملية اغتيال ابن الأشرف لم ينس فيه الواقدي أي تفصيل، أن تذكر أهم نتيجة ترتبت على هذا الحدث، وهي الاتفاق الكتابي الذي تم بين الرسول صلى الله عليه وسلم واليهود، في جملة واحدة لا تقول شيئاً على الإطلاق عن موضوعه.
5- إذا صح أن اليهود كانت تربطهم علاقات تحالف مع بطون الأوس والخزرج المسلمة كتلك التي ذُكرت في الصحيفة، فللمرء أن يتساءل: أين كان هؤلاء الحلفاء المسلمون حين أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم الأمر بقتل اليهود، وما قيمة التحالفات المذكورة إذا كانت البطون المسلمة لا تهبّ لنجدة حلفائها اليهود؟ لقد ذكر ابن إسحاق والواقدي أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يريد أن يقتل بني قينقاع كلهم وأنه عدل عن ذلك بفضل تدخل عبد الله بن أُبي بن سلول. فكيف، والحال كذلك، لم يطلب اليهود تدخل حلفائهم لحمايتهم، وكيف لم يبذل هؤلاء الحلفاء أي مجهود لجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يعدل عن قراره بقتل اليهود؟
6- إذا كانت معاهدتا الاتحاد الكونفدرالي "ألف" و"باء" والمعاهدتان "جيم" و"دال" اللتان تحددان وضع القبائل اليهودية في الاتحاد الكونفدرالي قد تم التوقيع عليهما، كما يقول "سرجنت"، بعد الهجرة بستة أشهر، أي قبل عام ونصف من قتل كعب بن الأشرف، فمن المستغرب أن اليهود، في حديثهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم، لم يذَكِّروه بهذه المعاهدات ولم يلفتوا نظره بوجه خاص إلى المادة "ألف"/8 (=18) من الصحيفة التي تقرر أن اليهود لن يُظلموا وإلى الوثيقة "جيم" التي تعتبر اليهود "أمة مع المؤمنين"، ولا، على الأخص، إلى المادة 5 من هذه المعاهدة التي تنص على أن قاعدة التعامل بين اليهود والمسلمين هي "البرُّ دون الإثم".
وفي رأينا أن شيئاً في حديث الواقدي عن قتل كعب بن الأشرف لا يصمد أمام النقد. فلا بواعث هذا القتل ولا الظروف التي تم فيها ولا ما ترتب عليه قابلة للتصديق. وليس في الإمكان بالتالي ادعاء أن في هذه القصة أي طابع تاريخي. ورأينا هذا رأيٌ مؤقت، إذ أن موضوع هذه الرسالة هو سيرة ابن إسحاق وأن هذه السيرة تتحدث أيضاً عن قتل كعب ابن الأشرف. لذلك فإن بحثنا يكون ناقصاً إذا لم نتعرض فيه لم قاله مؤلفنا عن هذا الموضوع. وسيتوقف رأينا النهائي على ما إذا كان بحثنا لرواية ابن إسحاق يؤيد شكوكنا بشأن هذه القصة وما ترتب عليها أم ينقض هذا الرأي ويؤيد رأي "سرجنت" الذي يرى أن هناك صلة بين قتل كعب بن الأشرف والوثيقة "هاء".
ابن إسحاق
لأسباب يشق علينا فهمها فضَّل "سرجنت" رواية الواقدي عن قتل ابن الأشرف على الرواية التي جاءت في سيرة ابن إسحاق/ ابن هشام التي تسبقها([12]). وستعيننا الدراسة المقارنة للنصين على تحقيق هذه المسألة. وسنبدأ فيما يلي بعرض ما قاله ابن إسحاق عن مقتل ابن الأشرف ثم ننتقل من ذلك إلى بحث نقاط الاتفاق ونقاط الاختلاف بين النصين.
قال ابن إسحاق: وكان من حديث كعب بن الأشرف: أنه لما أصيب أصحاب بدر، وقدم زيد بن حارثة إلى أهل السافلة، وعبد الله بن رواحة إلى أهل العالية بشيرين، بعثهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من بالمدينة من المسلمين بفتح الله عزَّ وجلَّ عليه, وقُتل مَن قُتل من المشركين، كما حدثني عبد الله بن المغيث بن أبي بردة الظفري، وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وعاصم بن عمر بن قتادة، وصالح بن أبي أمامة بن سهل، كلٌ قد حدثني بعض حديثه، قالوا: قال كعب بن الأشرف، وكان رجلاً من طيء ثم أحد بني نبهان، وكانت أمه من بني النضير ، حين بلغه الخبر : أحق هذا ؟ أترون محمداً قتل هؤلاء الذين يسمي هذان الرجلان - يعني زيداً وعبد الله بن رواح - فهؤلاء أشراف العرب وملوك الناس، والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم، لبطن الأرض خيرٌ من ظهرها.
فلما تيقن عدو الله الخبر، خرج حتى قدم مكة، فنـزل على المطلب بن أبي وداعة بن ضبيرة السهمي، وعنده عاتكة بنت أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، فأنـزلته وأكرمته، وجعل يحرِّض على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينشد الأشعار، ويبكي أصحاب القليب من قريش، الذين أصيبوا ببدر ، فقال :
طـحنــت رحــى بدر لمهـلك أهلـــه ولمثل بـــــدر تســــتهل وتدمــــــع
قُتلـت سراة الناس حول حياضهـم لا تبعـــدوا إن الملــــوك تصــــــرّع
كم قـد أصيب به من أبيض ماجـــد ذي بهجـة يــأوي إليــه الضُــــــيّع
طلـق اليدين إذا الكواكب أخلفــت حـمال أثقــال يســـــــود ويربــــــع
ويقـول أقـــوامٌ أُســـر بســـخطهـــم إن ابن أشـــرف ظلَّ كعباً يجـزع
صدقوا فليت الأرض ساعــة قتلوا ظلــــت تســـوخ بأهلها وتصـــدّع
صار الذي أثـــــر الحديث بطعنــة أو عاش أعمــى مرعشاً لا يسمــع
نـبّئت أن بنــي المغــــــيرة كلهــــــم خشغوا لقتل أبي الحكيم وجدّعـوا
وابنا ربيعــــة عـــــــــنده ومنبــــــــه ما نـال مثـــــــــل المهلكــين وتبــــع
نبئت أن الحــارث بن هشامهــــــم في الناس يبني الصالحـــات ويجمـع
ليــزور يثــرب بالجمـــــوع وإنمــــــا يحمي على الحسب الكريم الأروع
قال ابن هشام: قوله "تبُّع"، "وأسر بسخطهم". عن غير ابن إسحاق.
قال ابن إسحاق: فأجابه حسان بن ثابت الأنصاري، فقال:
أبكــــــى لكعــب ثم عــــل بعبـــرة منــــــه وعـاش مجــدعاً لا يســـمع
ولقد رأيـــــت ببطـن بـــدر منهـــم قتلــى تســـح لهــــا العيون وتدمــع
فابكــي فقد أبكيت عــبداً راضعـاً شــــبه الكلـــيب إلى الكلــيبة يتبـع
ولقد شــــفى الرحمــــن منا ســـيداً وأهان قومــــاً قاتلـــوه وصُــــرِّعوا
ونجا وأفلــــــــت منهــــم من قلبـه شـــــغف يظـــل لخوفـــه يتصــدع
قال ابن هشام: وأكثر أهل العلم بالشعر ينكرها لحسان. وقوله "أبكى لكعب" عن غير ابن إسحاق.
قال ابن إسحاق: وقالت امرأة من المسلمين من بني مُريد، بطن من بلي، كانوا حلفاء في بني أمية بن زيد؛ يقال لهم: الجعادرة، تجيب كعباً – قال ابن إسحاق: اسمها ميمونة بنت عبد الله، وأكثر أهل العلم بالشعر ينكر هذه الأبيات لها، وينكر نقيضتها لكعب بن الأشرف:
تحـنن هــذا العـــبد كـــــل تحــــــنن يبكــي علــى قتلى وليــس بناصــب
بكت عــين من يبكـي لبدر وأهله وعلــت بمثليهـــــا لـــؤي بن غالــــب
فليــت الذين ضُــرجـوا بدمائهـــــم يرى ما بهم من كان بين الأخاشـب
فيعلــم حقــاً عن يقيـن ويبصــــروا مجرّهــم فوق اللحـى والحواجـــــــب
فأجابها كعب بن الأشرف، فقال:
ألا فازجــروا منكم سفيهاً لتســلموا عـن القــول يأتي منــه غـير مقــارب
أتشــتمني أن كــــنت أبكي بعبـــــرة لقــوم أتــــاني ودهــــــم غــــير كــاذب
فإنــي لباكٍ ما بقــــيت وذاكـــــــر مآثــر قـــوم مجــدهــــــم بالجباجــــب
لعمــري لقد كان مريــدٌ بمعـــــــزل عن الشر فاحتالت وجـوه الثعالـــب
فحــق مريــــــد أن تُجــدّ أنوفهـــــم بشــــــتمهم حُيــي لــــؤي بن غالــــب
وهبت نصيبي من مريد لجعـــــدر وفــــــاءً وبيـت الله بين الأخاشــــب
ثم رجع كعب بن الأشرف إلى المدينة فشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما حدثني عبد الله بن المغيث بن أبي بردة: " مَن لي بابن الأشرف"؟ فقال له محمد بن مَسلمة؛ أخو بني عبد الأشهل: أنا لك به يا رسول الله، أنا أقتله؛ قال: "فافعل إن قدرت على ذلك". فرجع محمد بن مسلمة فمكث ثلاثاً لا يأكل ولا يشرب إلا ما يعلق به نفسه، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه، فقال له: "لم تركت الطعام والشراب"؟ فقال: يا رسول الله، قلت لك قولاً لا أدري هل أفين لك به أم لا؟ فقال: "إنما عليك بالجهد"؛ فقال: يا رسول الله، إنه لابد لنا من أن نقول؛ قال: "قولوا ما بدا لكم، فأنت في حلٍ من ذلك". فاجتمع في قتله محمد بن مَسلمة، وسلكان بن سلامة بن وقش، وهو أبو نائلة، أحد بني عبد الأشهل، وكان أخا كعب بن الأشرف من الرضاعة، وعباد بن بشر بن وقش، أحد بني عبد الأشهل، والحارث بن أوس بن معاذ، أحد بني عبد الأشهل، وأبو عبس بن جبر، أحد بني حارثة، ثم قدموا إلى عدو الله كعب بن الأشرف، قبل أن يأتوه، سلكان بن سلامة، أبا نائلة، فجاءه فتحدث معه ساعة، وتناشدوا شعراً، وكان أبو نائلة يقول الشعر ثم قال: ويحك يا بن الأشرف! إني قد جئتك لحاجة أريد ذكرها لك، فاكتم عني، قال: أفعل، قال: كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء من البلاء، عادتنا به العرب، ورمتنا عن قوس واحدة، وقطعت عنا السبل حتى ضاع العيال، وجهدت الأنفس، وأصبحنا قد جهدنا وجهد عيالنا؛ فقال كعب: أنا ابن الأشرف، أما والله لقد كنت أخبرك يا بن سلامة أن الأمر سيصير إلى ما أقول؛ فقال له سلكان: إني قد أردت أن تبيعنا طعاماً ونرهنك ونوثق لك، ونحسن في ذلك؛ فقال: أترهنوني أبناءكم ؟ قال: لقد أردت أن تفضحنا إن معي أصحاباً على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم، فتبيعهم وتحسن في ذلك، ونرهنك من الحلقة ما فيه وفاء، وأراد سلكان أن لا ينكر السلاح إذا جاءوا بها؛ قال: إن في الحلقة لوفاء؛ قال: فرجع سلكان إلى أصحابه فأخبرهم خبره، وأمرهم أن يأخذوا السلاح، ثم ينطلقوا فيجتمعوا إليه، فاجتمعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن هشام: ويقال: أترهنوني نساءكم؟ قال: كيف نرهنك نساءنا، وأنت أشب أهل يثرب وأعطرهم؛ قال: أترهنوني أبناءكم؟
قال ابن إسحاق: فحدثني ثور بن زيد، عن عكرمة، عن ابن عباس. قال:
مشى معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد، ثم وجههم، فقال: انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته، وهو في ليلة مقمرة وأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه، فهتف به أبو نائلة، وكان حديث عهد بعرس، فوثب في ملحفته فأخذت امرأته بناحيتها، وقالت: إنك امرؤ محارب، وإن أصحاب الحرب لا ينــزلون في هذه الساعة. قال: إنه أبو نائلة، لو وجدني نائماً لما أيقظني؛ فقالت: والله إني لأعرف في صوته الشر؛ قال: يقول لها كعب: لو يدعى الفتى لطعنة لأجاب. فنــزل فتحدث معهم ساعة، وتحدثوا معه، ثم قال: هل لك يا بن الأشرف أن تتماشى إلى شعب العجوز، فنتحدث به بقية ليلتنا هذه؟ قال: إن شئتم. فخرجوا يتماشون، فمشوا ساعة، ثم إن أبا نائلة شام يده في فود رأسه، ثم شم يده فقال: ما رأيت كالليلة طيباً أعطر قط. ثم مشى ساعة، ثم عاد لمثلها حتى اطمأن، ثم مشى ساعة، ثم عاد لمثلها، فأخذ بفود رأسه، ثم قال: اضربوا عدو الله، فضربوه، فاختلفت عليه أسيافهم، فلم تغن شيئاً.
قال محمد بن مَسلمة: فذكرت مغولاً (أي سكيناً) في سيفي، حين رأيت أسيافنا لا تغني شيئاً، فأخذته وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حصن إلا وقد أوقدت عليه نار قال: فوضعته في ثنته ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته فوقع عدو الله، وقد أصيب الحارث بن أوس بن معاذ، فجُرح في رأسه أو في رجله، أصابه بعض أسيافنا. قال: فخرجنا حتى سلكنا على بني أمية بن زيد، ثم على بني قريظة، ثم على بعاث حتى أسندنا في حرة العريض، وقد أبطأ علينا صاحبنا الحارث بن أوس، ونـزفه الدم، فوقفنا له ساعة، ثم أتانا يتبع آثارنا. قال: فاحتملناه فجئنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر الليل، وهو قائم يصلي، فسلمنا عليه فخرج إلينا، فأخبرناه بقتل عدو الله، وتفل على جرح صاحبنا، فرجع ورجعنا إلى أهلنا فأصبحنا وقد خافت يهود لوقعتنا بعدو الله، فليس بها يهودي إلا وهو يخاف على نفسه.
قال ابن إسحاق: فقال كعب بن مالك:
فغـــــــودر منهـــم كعــب صـريعـــــاً فذلــت بعد مصـــرعه النضــــــير
علــــــى الكفــــين ثــم وقــــــد علتــه بأيدينــــا مشهـــــرة ذكـــــــــــــور
بأمــــــــــر محمــد إذ دسَّ ليـــــــلاً إلى كعــــب أخـا كعــب يســــــير
فمــــا كـــــــــره فأنــــــــزله بمكــــر ومحمــود أخــــــو ثقـــة جســــــور
قال ابن هشام: وهذه الأبيات في قصيدة له في يوم بني النضير، سأذكرها إن شاء الله في حديث ذلك اليوم.
قال ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت يذكر قتل كعب بن الأشرف وقتل سلام بن أبي الحقيق:
لله درّ عصــــابــــــــــة لاقيتهــــــــم يا بن الحقيق وأنت يا بن الأشرف
يسرون بالبيـــض الخفـــاف إليكـم مرحــاً كأســد في عـــرين مغــرف
حتى أتـوكم في محـــــــــل بلادكــــم فســـــقوكــم حتفــاً ببيــض ذفـــف
مسـتنصرين لنصــــــر ديـن نبيهــم مســتصغـرين لكــل أمــر مجحــف
قال ابن إسحاق: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه.
نقاط الاتفاق
هناك بين الروايتين اتفاقاً ملحوظاً في بنائهما ففيما يتعلق بالنقاط الأساسية: كان ابن الأشرف يؤذي الرسول في شعره؛ سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عمن يستطيع أن يخلصه منه؛ محمد بن مَسلمة كوَّن مجموعة لقتله مع أربعة آخرين تتكون من الأشخاص ذاتهم الذين ذكرهم الواقدي. سلكان، أخو ابن الأشرف من الرضاعة، شكا من محمد صلى الله عليه وسلم إلى ابن الأشرف وطلب منه أن يبيعه طعاماً وعرض مقابل ذلك أن يرهنه سلاحاً؛ المسلمون الخمسة قابلوا الرسول صلى الله عليه وسلم مساءً قبل أن يذهبوا إلى حصن كعب. ذهبوا إلى الحصن ونادى سلكان كعباً؛ زوجة كعب، وكان حديث عهد بعرس، حاولت أن تستبقيه ولكنه أصرَّ على النـزول؛ تنـزه كعب مع المسلمين الخمسة في ظلام الليل؛ سلكان مر برأسه على شعر ابن الأشرف عدة مرات ثم أخذ برأسه وطلب من الآخرين أن يضربوه؛ صرخ كعب صرخة أيقظت جميع الآطام، فأضاء اليهود نيرانهم؛ محمد بن مَسلمة ضربه بخنجره وضغط حتى وصل الجرح إلى أسفل بطنه؛ بعد أن قتل الخمسة كعباً ساروا إلى حيث كان الرسول صلى الله عليه وسلم. وفي اليوم التالي خاف اليهود، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين بأن يقتلوا من ظفروا به من اليهود.
نقاط الاختلاف
1- لم ترد في سيرة ابن إسحاق، في قصة مقتل ابن الأشرف، الفقرة التي قدَّم بها الواقدي القصة في أربعة أسطر - استخدمها "سرجنت" على نطاق واسع - والتي وصف الواقدي فيها أهل المدينة ونوايا الرسول صلى الله عليه وسلم بشأنهم، ولا فقرة أخرى، لم يستخدمها "سرجنت"، أبرز فيها الواقدي أن مشركي المدينة ويهودها كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أذىً كثيراً، إلا أن الله عزَّ وجلَّ أمر نبيه والمسلمين بالصبر على ذلك والعفو عنهم، وساق آيات من القرآن الكريم يقول إنها نـزلت في هذا السياق.
2- رواية الواقدي أطول، لاسيما في الحوار.
3- الواقدي يقول إن محمد بن مَسلمة كان بدوره أخا في الرضاعة لكعب.
4- ابن إسحاق يقول إن كعب بن الأشرف كان يتشبب في شعره بنساء المسلمين.
5- ابن إسحاق يقول إن كعب بن الأشرف بدأ بأن طلب رهن نساء مَن أرادوا أن يبيعهم طعاماً.
6- ابن إسحاق لا يقول إن القتلة قطعوا رأس ابن الأشرف ولا أنهم حملوها وألقوا بها أمام الرسول صلى الله عليه وسلم.
7- هو لا يقول إن اليهود ذهبوا لمقابلة الرسول بعد قتل صاحبهم ولا أن الرسول صلى الله عليه وسلم عقد معهم اتفاقاً مكتوباً، حُرر في بيت رملة بنت الحارث.
8- فيما يتعلق بابن سُنينة لا يقول ابن إسحاق إنه شمَّ رائحة دم ابن الأشرف على بُعد ثلاثة أميال ولا أنه اعتنق الإسلام قبل أن يقتله محيصة.
9- ابن إسحاق/ ابن هشام يرويان عن إسلام حويصة رواية غير تلك التي تتصل بقتل أخيه لابن سنينة. والتاريخ والمناسبة والمقتول في هذه الرواية غير ما جاء في رواية الواقدي: وقد تم القتل، عند ابن إسحاق، بعد حصار بني قريظة في العام الخامس من الهجرة وكان اسم من حُكم بإعدامه كعب بن يهوذا من بني قريظة.
الشعر
·الشعر الذي قيل في رواية الواقدي هو قصيدة من ثمانية أبيات قالها ابن الأشرف في رثاء كبراء قريش ممن قُتلوا في بدر؛ وقصيدتان من ستة وثلاثة أبيات على التوالي قالهما حسان بن ثابت رداً على ابن الأشرف، وقصيدة من ثلاثة عشر بيتاً لعباس بن بشر أحد من اشتركوا في تنفيذ عملية القتل. ورواية الأحداث في هذه القصيدة غير مطابقة تماماً لما جاء عند الواقدي. وهناك أخيراً قصيدة من ثلاثة أبيات قالها محيصة.
·في سيرة ابن إسحاق نجد:
– قصيدة من أحد عشر بيتاً لابن الأشرف تتضمن، في ترتيب مختلف قليلاً ومع بعض الاختلاف في الألفاظ، الأبيات الثمانية التي أوردها الواقدي.
– قصيدة حسان بن ثابت الأولى وقد حُذف منها بيت. على أن ابن هشام يقول إن أكثر أهل العلم بالشعر ينكرها لحسان.
– قصيدة من أربعة أبيات لامرأة مسلمة ترد على ابن الأشرف. ويقول ابن هشام إن أكثر أهل العلم بالشعر ينكرها لها وينكر نقيضها لكعب بن الأشرف.
– قصيدة من ستة أبيات لكعب بن الأشرف يرد فيها على المرأة المذكورة.
– قصيدة من أربعة أبيات للشاعر الكبير كعب بن مالك يشير فيها إلى مقتل كعب بن الأشرف بناءً على أمر من محمد صلى الله عليه وسلم الذي، كما يقول الشاعر، أرسل إلى كعب أخاه ياسر (هكذا)؛ وهو يعتبر أن "محموداً " - الذي لم يرد اسمه في قصة كعب بن الأشرف - "ذو ثقة جسور". ويقول كعب في هذه القصيدة إن بني النضير ذلوا بعد مصرع كعب (ابن الأشرف).
– قصيدة من أربعة أبيات لحسان بن ثابت يشير فيها إلى مقتل كعب بن الأشرف وسلام بن أبي الحقيق. ويثني الشاعر على شجاعة مَن قتلوهما "مستنصرين لنصر دين نبيهم".
– قصيدة من ثلاثة أبيات لمحيِّصة نجدها عند الواقدي.
ولكن سيرة ابن إسحاق لا تتضمن:
– قصيدة حسان بن ثابت الثانية التي رواها الواقدي.
– قصيدة من ثلاثة عشر بيتاً لعباس بن بشر جاءت عند الواقدي بشأن قتل ابن الأشرف.
المحصلة
1- ليس في نقاط الاختلاف بين الواقدي وابن إسحاق عناصر تجعلنا نغير رأينا بشأن تلفيق حديث الواقدي.
2- للأسباب ذاتها التي أوردناها في مناقشتنا لرواية الواقدي، نرى أن رواية ابن إسحاق، هي الأخرى، ملفقة.
3- هناك في رواية ابن إسحاق عنصر يضيف إلى شكوكنا بشأن تاريخية الوقائع: هذا العنصر هو قصائد الشعر المنحولة. إن وجود مثل هذه القصائد في أي رواية قرينة لا تقبل إثبات العكس على رغبة في تزوير الحقيقة. ولم يكن هناك بالنسبة لكتاب الواقدي مُراجع مثل ابن هشام يأخذ على عاتقه مهمة التحقق من صحة القصائد التي رواها كاتب السيرة بالرجوع إلى أهل العلم بالشعر، ولكن المرء ليس بحاجة إلى مثل هؤلاء الخبراء لاكتشاف أن الشعر الذي أورده الواقدي، هو أيضاً، شعر منحول، ومنحولٌ بطريقة ظاهرة، وأنه لا يتصل كثيراً بالوقائع التي يسردها المؤلف.
4- نظراً إلى أن رواية ابن إسحاق سابقة على رواية الواقدي فإن ابن إسحاق، في رأينا، وليس الواقدي، هو المسئول عن تلفيق القصة. وكل ما فعله الواقدي هو أن استقى مادته من ابن إسحاق.
5- حقيقة أن ابن إسحاق لا يشير إلى لقاءٍ تم بين يهود المدينة والرسول صلى الله عليه وسلم بعد مقتل ابن الأشرف ولا إلى كتاب أياً كان كُتب بين اليهود ومحمد، تؤكد شكوكنا بشأن وجود هذا الكتاب الذي يقول "سرجنت" أنه الوثيقة "هاء" من الصحيفة. لقد سمحنا لأنفسنا من قبل بأن نعتب على "سرجنت" كونه لم يشرح الأسباب التي جعلته لا يأخذ في اعتباره ما جاء من عناصر في سيرة ابن إسحاق - السيرة التي استقى منها نص الصحيفة - وأنه يفضل أن يولي ثقته للواقدي. و إذا طُبِّق هذا المأخذ على المسألة التي نحن بصددها لاكتسى دلالة خاصة. وكان على "سرجنت" أن يشرح للقارئ لماذا، إذا كان مصدر سابق على الواقدي لا يتحدث عن كتاب بين محمد وبين اليهود، يعتمد صيغة الواقدي بشأن وجود مثل هذا الكتاب.
6- عناصر الاتفاق بين روايتي ابن إسحاق والواقدي تثير مسألة هامة: هل اعتمد الواقدي على مصادره هو أم اقتبس بكل بساطة ما رواه ابن إسحاق؟ ومن المهم أن نلاحظ في هذا الخصوص:
أ ) أن الواقدي لم يذكر سيرة ابن إسحاق بين مصادره.
ب) أن المصادر التي ذكرها المؤلفان ليست واحدة. ذلك أن مصادر الواقدي هم:
– عبد الحميد بن جعفر، عن يزيد ابن رومان؛
– معمر، عن الزهري، عن ابن كعب بن مالك؛
– إبراهيم ابن جعفر، عن أبيه، عن جابر ابن عبد الله. أبيأبيأبي
أما ابن إسحاق فإن مصادره عن الجزء الأول من روايته هم:
– عبد الله بن المغيث بن أبي بردة الظفري؛
– عبد الله بن أبي بكر ابن محمد بن عمرو ابن حزم؛
– عاصم ابن عمر ابن قتادة؛
– صالح ابن أبي أُمامة ابن سهل.
أما بالنسبة لجزءٍ آخر من الرواية فابن إسحاق يذكر مصدراً واحداً هو ثور ابن يزيد عن عكرمة ابن عباس.
وأخيراً فإن مصدر ابن إسحاق بشأن مقتل ابن سُنينة كان مولى لبني حارثة عن ابنة محيصة عن أبيها محيصة.
وكما نرى، فإن مصادر المؤلفَيْن مختلفة تماماً. وليس هناك مصدر واحد يستخدمه الاثنان. وهناك اختلاف آخر بين مجموعتي المصادر: فبينما حصل أول مصدر للواقدي على معلوماته من مصدر آخر حصل عليها من راويين، فإن المصادر الأربعة عند ابن إسحاق لا تذكر راوية سابقاً. أما المصدران الأخيران فإن كلاً منهما يذكر راويين سابقين.
وليس من شأننا هنا أن نخوض في غابة رواة العناصر التي يتكون منها حديث الواقدي أو حديث ابن إسحاق للحكم على مصداقية كل منها، وأي محاولة من هذا النوع، في رأينا، محاولة بلا طائل. ولكن المسألة الأساسية المطروحة هي ما يأتي: هل من الممكن أن يروى حدث تاريخي ساقه مؤلفان أحدهما عاش بعده بقرن والآخر عاش بعده بقرن ونصف بنفس الطريقة في عصر لم تكن فيه مصادر مكتوبة وعلى أساس سلسلتين مختلفتين من الرواة؟ إجابتنا على هذا السؤال هي قطعاً إجابة بالنفي. فإن عرض الوقائع الأساسية، وتسلسلها وتطابق بعض التفاصيل لا يترك مجالاً للشك في كون رواية الواقدي بشأن مقتل ابن الأشرف في الأساس صورة طبق الأصل من رواية ابن إسحاق. أما نقاط الاختلاف بين الروايتين فالجانب الأكبر منها، فيما يبدو لنا، من ابتداع المؤلف المتأخر لا ثمرة بحث عن الحقيقة استناداً إلى مصادر ثبتت مصداقيتها.
7- نظراً إلى أن ابن إسحاق، الذي استمد منه الواقدي روايته، لم يشر إلى أي لقاء تم بعد مقتل ابن الأشرف بين يهود المدينة ومحمد، كما لم يتحدث عن كتاب كتبه معهم، فإن الصلة التي يقترحها "سرجنت" بين هذا الكتاب وبين الوثيقة "هاء" من الصحيفة، في رأينا، وحتى يثبت العكس، صلة لا تقوم على أساس.
لماذا التلفيق؟
ما الذي جعل ابن إسحاق يخترع قصة قتل كعب بن الأشرف؟
1- لقد حاولنا في المحصلة النهائية للجزء الأول من هذه الرسالة أن نكتشف العوامل التي أثرت على ابن إسحاق في كتابته لجزء السيرة الذي نحن بصدده، بصفة عامة. وذكرنا في هذه المحصلة أن ابن إسحاق كان يرسم صورة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفقاً لشخصية الخليفة المنصور، وأن السيرة التي كتبها كان من أغراضها تبرير أعمال لا يقرها الإسلام ارتكبها الخليفة، عن طريق خلق سوابق ونسبتها للرسول صلى الله عليه وسلم.
2- وقصة قتل كعب بن الأشرف تندرج تماماً في سياق هذا الشرح. ذلك أن حياة جعفر المنصور كثرت فيها جرائم من نفس النوع ارتكبها ضد بني أمية، وضد حلفائه العلويين، وضد بعض أقاربه؛ وتسجل كتب التاريخ أعمالاً قاسية ارتكبها ضد الثائرين عليه والمعارضين لحكمه بين سكان مختلف أقاليم الإمبراطورية([13]). وقد أثارت هذه الأعمال ضده وضد العباسيين كراهية وأحقاداً كان من الممكن أن تهدد نظام حكمه. وكان من وسائل التصدي لها أن يتمكن من أن يقول: "إنني، باعتباري الخليفة الشرعي لرسول الله، تصرفت في مثل هذه الظروف كما تصرَّف الرسول في ظروف مماثلة". وفي تاريخ كعب بن الأشرف، كما رواه ابن إسحاق، يظهر رسول الإسلام بالفعل، للأسف الشديد، كرئيس قادر على الأمر بأعمال فظيعة، يستخدم جميع الوسائل للانتقام لما قد يبدو له إساءة أو مساساً بشخصه. ومقتل ابن الأشرف يذكِّرنا بمقتل أبي مسلم الخراساني على يد الخليفة المنصور. إن أبا مسلم، هذا الزعيم الشعبي والقائد العسكري الذي كان يدين له العباسيون، أكثر مما يدينون لأي شخص، بالقضاء على بني أمية وبوصولهم هم إلى الخلافة، لم يكن يبدي حيال الخليفة المنصور من الخضوع ما كان الخليفة ينتظره من رعاياه. وكان المنصور يخشى كذلك أن تجعله شعبيته منافساً له، فما كان منه إلا أن أمر بنقله من منصبه كحاكم لخراسان وعينه حاكماً لمصر وسوريا. ورفض أبو مسلم تنفيذ هذا الأمر فترة ولكنه قرر بعد ذلك أن يذهب لرؤية الخليفة لمناقشته في الأمر. وقابل أبو مسلم الخليفة في مدينة المدائن، عاصمة فارس، وأظهر له المنصور كثيراً من الحفاوة والاحترام وحدد له ساعة للقائه في الغد. على أنه قبل هذا اللقاء الثاني كان قد أخفى وراء ستار في خيمته رجالاً مسلحين. وعندما وصل أبو مسلم لامه المنصور لوماً شديداً ثم صفق بيديه فخرج الرجال من مكمنهم وتكالبوا على أبي مسلم وانهالت سيوفهم عليه فقتلوه. وجمع المنصور الناس بعد ذلك وهددهم بالمصير الذي لقيه أبو مسلم إنْ هم عصوه([14]).
3- ما الذي جعل ابن إسحاق يخترع قصة الأمر الذي أعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه بقتل اليهود؟ لقد فعل ذلك أولاً، في رأينا، ليصوِّر الرسول صلى الله عليه وسلم بصورة الخليفة المنصور أي صورة الحاكم المستبد الجبار الذي يرى نفسه مخولاً بحق إلهي مطلق في حكم رعاياه ومواجهة أعدائه، حقٌ يسمح له بأن يقرر بإرادته المنفردة حياتهم أو موتهم. وهناك سبب ثانٍ هو تقديم اليهود باعتبارهم العدو الوحيد للرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة. وهو حين فعل ذلك أخفى الحقائق التالية:
أ ) أنه كان في هذه المدينة كثير من المشركين الذين لم يقبلوا الإسلام؛
ب) إن هؤلاء المشركين كانوا أعداء لمحمد صلى الله عليه وسلم بالمشاعر وبالأعمال. وهناك نقطة أساسية لا يجب أن تغرب عن البال في هذا الخصوص وهي أنه لا ابن إسحاق ولا الواقدي قالا إن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر المسلمين بقتل كل الكفار، الذين لم يكن بينهم مؤمنون، بعكس اليهود. وقد تخلص ابن إسحاق من هذه المشكلة بأن قرر، خلافاً للمعقول، وخلافاً لشهادة القرآن الكريم، أنه لم يكن هناك كفار في المدينة بعد السنة الأولى من الهجرة. أما الواقدي فقد سلَّم، على العكس، بوجود كفار في المدينة عندما قُتل ابن الأشرف إذ أنه، في الجملة الأولى من الفقرة التي يتحدث فيها عن لقاء اليهود بالرسول صلى الله عليه وسلم والكتاب الذي كتبه معهم يقول: "ففزعت اليهود ومن معها من المشركين". ولكن، إذا كان الأمر كذلك، فما التدابير التي اتخذها الرسول صلى الله عليه وسلم حيال الكفار؟ ما التهديد الذي نطق به رسول الله صلى الله عليه وسلم ضدهم؟ هل كانوا حاضرين مع حلفائهم اليهود عندما ذهبوا لمقابلته؟ لقد حلَّ الواقدي المشكلة بأن تجاهلها تماماً؛
ج) أن المدينة، كما يقول القرآن الكريم، كان فيها أيضاً كثير من المنافقين الذين سبق أن أعلنوا إسلامهم.
4- إن رواية ابن هشام للظروف التي أسلم فيها حويصة تلقي كثيراً من الشك على رواية ابن إسحاق ورواية الواقدي التي تقول أن محيصة قَتل ابن سنينة بعد إسلامه.
هذا عن الإطار التاريخي للوثيقة "هاء". وننتقل الآن إلى بحث ما قاله "سرجنت" عن كل مادة من موادها وإلى ملحوظاتنا بشأنها:
المادة 1 (=42)
وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه.
المادة 2 (=42)
وإنَّ النصر للمظلوم.
سرجنت
·المادة الأولى تطرح مشكلة تحديد معنى الجملة غير المتوقعة التي تقول "وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه". ومن الجائز أن هذه طريقة غير مباشرة لتوجيه الخطاب إلى الرسول. فإن سعد بن عُبادة مثلاً حين طلب من الرسول أن يعد بقبول حكمه على بني قريظة سأله "وعلى من هاهنا؟" في الناحية التي فيها الرسول، وهو مُعرِضٌ عن الرسول إجلالاً له. فإذا كانت الإشارة هنا إلى محمد فمن المحتمل أن محمداً أراد أن يبرئ نفسه علناً من قتل كعب. وأياً ما كان الأمر، فإن الذي يتضح من النصوص أن محمداً لم يندم على قتل كعب وأنه صرِّح علانية بأن كعباً لم يلق إلا ما يستحقه.
·وأقرب إلى العقل أن يكون محمد قد رفض كل مسئولية فيما يتعلق بقتل محيصة لحليفه الحارثي الذي كان يمكن أيضاً أن يعتبر حليفاً لمحمد بصورة ثانوية. وفي الإمكان، في هذه الحالة، أن تفسَّر هذه المادة 2 (=42) على أنها طلب تعويض يُدْفَع إلى أسرة الحليف المقتول. ومن جهة أخرى يمكن فهم حكم المادة على أنه حكم عام يطبق على كل شخص مضار، وفي هذه الحالة تكون الحالة مجرد تعزيز للمبدأ الذي ورد في الوثيقة أ/8 (=18).
·حين قتل محيصة ابن سُنينة لامه أخوه حويصة في ذلك بقوله: "أي عدو الله أقتلته، أما والله لرُبَّ شحم في بطنك من ماله". ويمكن أن يُستنتج من ذلك أن الحليف اليهودي كان يتكفل على الأقل بنفقات من كان يحميه، وقد يعني هذا القول أنه كان يدفع له بالفعل مبلغاً من المال مقابل الحماية التي كان يشمله بها.
ملحوظتنا
لقد أوضحنا من قبل:
أ ) أن قصة قتل الحارثي محيصة لابن سنينة، كما يرويها الواقدي، تتحدث عن قتل مسلم؛ وأن من غير المعقول أن يكون محمد قد أمر بذلك لمجرد كون المقتول من أصل يهودي.
ب) أن المقتول، في رواية ابن إسحاق، كان يهودياً ولم يكن يهودياً أسلم.
ج) أن ابن هشام قدم رواية أخرى للوقائع وأن الذي قال جملة "لرُبَّ شحم في بطنك من ماله" هو حويصة إلى أخيه بعد استسلام يهود بني قريظة بمناسبة إعدام شخص مختلف أمر بقتله مع يهود آخرين حكمٌ اختاروه، وذلك في وقت وفي ظروف مختلفة تماماً. ونظراً لوجود هذه الروايات المختلفة، وإلى أن "سرجنت" لم يُقم الدليل على أن رواية الواقدي هي أكثر الروايات مصداقية، فإن الشرح المقدم منه بشأن هاتين المادتين لا يمكن أخذه في الاعتبار.
المادة 3أ (=43)
وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين.
المادة 3ب (=41)
وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم.
المادة 4 (=41)
وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة.
سرجنت
المواد 3أ (=43)، و3ب (=41)، و4 (=41) تؤكد الشروط الأصلية التي تقررت بين اليهود والمؤمنين في الوثائق "جيم" /1 (=27)، و "جيم" /2أ (=28)، و "ألف"/8 (=18).
ملحوظتنا ([15])
المادة 5 (=41)
وإن بينهم النصح والنصيحة.
المادة 6 (=41)
والبر دون الإثم.
سرجنت
الرسول يشير، في وقت لاحق على الوثيقة "هاء"، بعد أُحُد، إلى الوثيقة "هاء"، وإلى المادة 6 (=41) بصفة خاصة حين يقول إن لليهود ذمة وإنه لن يقتلهم. والنُصح والنصيحة عبارة معتادة.
ملحوظاتنا
1- سبق أن شرحنا في ملحوظاتنا على المادة "جيم"/5 (=36) أن معنى كلمتي البر والإثم ليس ذلك الذي ذكره "سرجنت".
2- كلمة ذمة في القاموس([16]) تعني العهد والأمان والكفاءة، وأهل الذمة هم المعاهَدون من أهل الكتاب ومن جرى مجراهم. والذمي هو المعاهَد أي هو الذي أُعطي عهداً يأمن به على ماله وعرضه ودينه. والكلمة مستخدمة في القرآن الكريم في آيتين من سورة التوبة:
– كَيْفَ وَإِن يَّظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً …﴿8﴾[التوبة]
– لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً … ﴿10﴾[التوبة]
3- لا نعتقد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لليهود ذمة ولن أقتلهم". والواقع أن الرسول - بخلاف الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور - لم يكن يعتبر نفسه مخوَّلاً بحق يسمح له بأن يقرر بإرادته المنفردة موت شخص ما أو حياته، سواء كان هذا الشخص ذا ذمة أو لا. إن نفس الكافر مقدسة في الإسلام كنفس المسلم ونفس اليهودي ونفس النصراني. ومن جهة أخرى فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن من مهمته قتل الناس كما يُستخلص من الكلمة التي تنسب له.
4- هناك تناقض بين هذا القول وبين الأمر الذي يقول ابن إسحاق والواقدي إن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطاه بعد مقتل كعب بن الأشرف بقتل اليهود.
5- بدلاً من أن يُبدي الرسول صلى الله عليه وسلم عطفاً على اليهود بعد أُحد، يمكن أن يقال إنه كان لديه من الدواعي ما يجعله يخشاهم كثيراً. والواقع أن هزيمة المسلمين في أُحد لابد وأن تكون قد أثرت على معنوياته. إن الأمر لم يقتصر على هزيمة المسلمين عسكرياً أمام جيش قريش، فقد اكتشف الرسول صلى الله عليه وسلم أن عدداً لا يستهان به ممن أعلنوا إسلامهم كانوا منافقين وفروا من ميدان المعركة. وكان ميزان القوة بين المسلمين واليهود في صالح هؤلاء إلى حدٍ كبير. ومن شبه المحقق أن اليهود إذا جمَّعوا قواتهم وهاجموا المسلمين بعد هزيمة أُحُد لما وجدوا صعوبة في سحقهم.
6- من الغريب أن يقرر الرسول صلى الله عليه وسلم قتل اليهود بعد مقتل كعب بن الأشرف، مع أنهم لم يرتكبوا خطأً جماعياً، وأن يصفح عنهم بعد أُحُد، وقد أخلُّوا بصورة جماعية بتعهدهم بنصرة المسلمين وفق المادة 4 (=41) التي تنص على أن "بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة".
7- جملة "النصح والنصيحة" في المادة 5 لا تعني، كما يقول "سرجنت" في ترجمته لها: "النية الحسنة والصدق في العزم"؛ إنها تعني تقديم النصيحة السديدة.
8- كلمتا "البر والإثم" تفيدان عموماً، كما سبق أن أوضحنا، معنى الخير والشر اللذين عبَّرت عنهما عشرات الآيات القرآنية وهما أساس الدين الإسلامي وسائر الديانات. وعلى افتراض أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال الجملة التي ذكرها "سرجنت" فإن إشارته لم تكن للمادة 6 من الوثيقة "هاء" بل إلى النهي القرآني عن قتل النفس إلا بالحق.
ملحوظات عامة
1- لئن سلَّمنا بنظرية "سرجنت" التي تقول إن المعاهدة التي عُقدت بين الرسول صلى الله عليه وسلم واليهود نتجت بصورة مباشرة عن قتل ابن الأشرف، لقد كان من الواجب منطقياً أن تكون هناك صلة بين السبب (القتل) والنتيجة (المعاهدة)، كأن يتعهد اليهود بألا يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يؤذوا أصحابه أو يعيبوا في دينه. وكان من الواجب، من جهة أخرى، أن تأتي هذه المعاهدة بعنصر لم يرد في الاتفاقات السابقة التي سبق عقدها مع اليهود. والحاصل:
أ ) أن مواد الوثيقة "هاء" الستة ليس فيها أي التزام أو تعهد من جانب اليهود بألا يكرروا المآخذ التي أُخذت على ابن الأشرف (إيذاء الرسول، والسباب، والتحريض على الحرب ضد المسلمين، والتشبيب بنساء المسلمين)؛
ب) هذه الوثيقة في مجموعها لا تضيف، فيما يتعلق باليهود، شيئاً يعتبر جديداً حقاً بالنسبة لما نجده في الوثائق السابقة. ذلك أن:
– موادها 1 و2 (=42) و5 و6 (=41) تقرر قواعد أخلاقية ذات طابع عام، هي تحصيل حاصل؛
– مادتها 3أ (=43) تكرار حرفي للمادة 1 (=27) من الوثيقة "جيم"؛
– مادتها 3ب (=41) تترتب منطقياً على المادة 3أ (=43) ولا تضيف إليها شيئاً على الإطلاق؛
– مادتها 4 (=41) تترتب منطقياً على كون يهود بني عوف والبطون المدنية الأخرى - وجميع اليهود، في رأي "سرجنت" - يشكلون - وفقاً للوثيقة "جيم" – جزءاً لا يتجزأ من الأمة التي تؤسسها الصحيفة، ونصرتهم، بهذه المثابة، على من حارب أهل الصحيفة شيءٌ لا يحتاج إلى نص إذ أن الهجوم على "أهل الصحيفة" إنما هو هجوم عليهم.
2- لو أن اليهود قد تعهدوا، بمقتضى الوثيقة "جيم"، بنصرة المسلمين إذا هوجموا في المدينة، فهناك سؤالان:
أ ) لماذا لم ينصروا محمداً صلى الله عليه وسلم في بدر وفي أُحُد عندما سار جيش قريش ضدهم؟
ب) لماذا لم يحاسب الرسول صلى الله عليه وسلم اليهود، لدى عودته من أُحد وبعد هزيمة المسلمين، لخرقهم أحكام المعاهدتين "جيم" و"هاء"، ولماذا لم يوقِّع عليهم جزاءات لإخلالهم بها؟ لماذا لم ينفذ، استناداً إلى هذا الانتهاك، الأمر الذي يقول الواقدي إنه أعطاه للمسلمين بقتل اليهود؟ لماذا لم يقم، بكل بساطة، بإلغاء الوثائق المتعلقة باليهود في الصحيفة مادامت عديمة القيمة من الناحية العملية ؟
هذه أسئلة بديهية لا يجد المرء رداً عليها لا عند الواقدي ولا عند "سرجنت". والحاصل أن الرأي الذي يربط الوثيقة "هاء" بمعاهدة بين الرسول واليهود، دون إجابات على هذه الأسئلة، رأيٌ بدون سند.
تحليل نقدي لصحيفة يثرب ولآراء المستشرقين بشأنها - الفصل الثالث: علماء الإسلاميات الآخرون
تحليل نقدي لصحيفة يثرب ولآراء المستشرقين بشأنها - الفصل الثاني: ر.ب. سرجنت - 5
تحليل نقدي لصحيفة يثرب ولآراء المستشرقين بشأنها - الفصل الثاني: ر.ب. سرجنت - 4
تحليل نقدي لصحيفة يثرب ولآراء المستشرقين بشأنها - الفصل الثاني: ر.ب. سرجنت - 3
دعوة للتبرع
رؤية الملائكة: السلا م عليكم ابي العزي ز احمد صبحي منصور...
سؤالان : السؤا ل الأول : هل جاء معنى الصرا خ فى...
الطلاق المعلق: هل الطلا ق المعل ق على شئ فعل بالما ضي يقع...
شرب الشيشة : انكم تحللو ن الدخا ن ..فهل يمكن شفط...
تزكية الحيوان بالمقص: هل يجوز ذبح الطيو ر الصغي رة بقص رقبته ا ...
more