كتاب "المدخل" لابن الحاج العبدري
ابن الحاج العبدري "ت 737 هـ " فقيه مغربي ارتحل إلى مصر ونظر في أحوالها بعين الرحالة والفقيه, أي جمع بين دهشة الرحالة وانتقاد الفقيه, ووضع كتابه المشهور "المدخل" في أربعة أجزاء ولا يزال من أعمدة التراث الفقهي حتى الآن.
وفي كتابه "المدخل" سلك ابن الحاج منهجاً جديداً في التأليف الفقهي ولم يكتف بتكرار الأحكام الفقهية النظرية وإنما عمد إلى رصد المخالفات السلوكية في عصره ثم قام بالتعليق عليها والحكم عليها من وجهة نظره الفقهية .
وبذلك فإن ابن الحاج قد أدى – وبدون أن يدري – خدمة جليلة للمهتمين بالتاريخ والحضارة حين عرض في ثنايا كتابه للأحوال الاجتماعية والاقتصادية التي لم يهتم بها الكثير من المؤرخين, كما أنه أدى خدمة أخرى في البحث الفقهي حين جعله مشتبكاً مع الواقع الاجتماعي بالتعليق والنقد والاحتجاج والفتوى .
فماذا قال ابن الحاج عن أساليب الغش في الأسواق القاهرية في القرن الثامن الهجري ؟
الواضح أن أساليب الغش شملت كل أنواع السلع وشملت أيضاً كل الطرق المعروفة في أساليب الغش مثل خلط الجيد بالرديء وإضافة الماء وزيادة الوزن بالرطوبة .
وبعضهم كان يعمد إلى بيع بضاعته في أوان المغرب أو يعمد إلى تقليل الضوء في الدكان , وكان بائع القماش يفعل ذلك لتحسن بضاعته في عين المشتري و لا يفطن لما فيها من عيوب .
وبعضهم يبيع البضاعة في الخيش ويحسب الخيش – أو الفوارغ – ضمن البضاعة وضمن وزنها ويكسب بذلك .
وباعة الفلفل والزعفران والحرير – وسائر البضاعة التي تزيد بالرطوبة والندى – كانوا يضعونها في الندى ليزيد وزنها .
والعطار كان أكثر قدرة على الغش , إذ يأخذ العود الرديء ويعجنه بالعنبر الخام ويبيعه على أنه كله جيد, ويأخذ الزعفران الجنوي والبرشنوني والهمداني ويخلط الجميع ويبيعه على أنه كله من جنوه ، وكذلك يفعلون مع باقي أصناف العطارة كالورد والكارم .
وبعضهم تكون السلعة عنده صنفين, جيد ورديء , فيعرض على المشتري الجيد فإذا اشترى منه ذلك الجيد أسرع فدس فيه الصنف الرديء دون أن يشعر المشتري.
وبعضهم يبيع السلعة بثمن معلوم إلى أجل معلوم ثم يخبر المشتري بالثمن الذي اشتراها به و لا يذكر له الأجل ويوقعه في الدين ويلزمه بسداده .
والوراق – أو بائع الورق – يبيع الدست من الورق الذي يساوي ثلاثة دراهم على أنه من الدست الذي يساوي أربعة دراهم ، ويستغل جهل المشتري بأنواع الورق, وكان الروق حينئذٍ مختلفاً في الجودة حسب البياض ودرجة الصقل والنعومة .
وكانت هناك انواع من الزيوت أجودها زيت الزيتون يليه زيت السمسم "السيرج" ثم زيت القرطم ثم زيت الشلجم ثم زيت بذر الكتان. ومع اختلاف أنواعها ومذاقها واستعمالاتها فقد كان الزيات يخلط بينها .
وباعة السمن كانوا يخلطونه بالشحم ، ويقول ابن الحاج والسمن ثلاثة أنواع : بقري وهو أطيبه وجاموسي وغنمي ، فالبقري علامة الخالص منه أنه أصفر خلقه, والجاموسي والغنمي أبيض خلقه, وبعض الناس يغش بأن يجعل في الجاموسي والغنمي صبغاً يصير به كل واحد منهما أصفر وكذلك يفعلون في الزبد .
وكانت الملوخية أهم أنواع الخضروات حينئذٍ .
وكما يحدث الآن كان سعرها يرتفع في أول موسمها ويجعلها التجار حزماً كل حزمة مربوطة بالقش أو بالحلفاء , وفيها من الطين والماء ما يزيد مجموعه على الملوخية نفسها, ويرى ابن الحاج في ذلك ما يمنع صحة البيع بسبب الجهالة في الوزن .
ويتعجب من إقبال الفقهاء والعلماء على شرائها وأكلها دون الاعتراض على الغش فيها .
وكانوا يأكلون رؤوس القلقاس وأطرافه ويعتبرون الأطارف أطيب مذاقاً ولذلك كان التجار يقشرون الرؤوس ويخلطونها بالأطارف ويبيعونها على أساس أنها من الأطراف .
وكان الغش في أنواع الأشربة أسهل وأكثر شيوعاً , ويرى ابن الحاج أن الغش في الأشربة أشد حرمة لأنه قد يؤدي إلى إزهاق النفوس والزيادة في الأمراض ويتحدث عن خلط أصناف من الدواء كالبيرخشنك والشيرخشنك, وخلط أصناف الزنجبيل بأنواع أخرى بقصد الغش ، وقد يخلطون الزنجبيل المربي بغيره فتقل منفعته. وفى الأشربة المستعملة في الغذاء كانوا لا يتورعون عن غشها بتقليل نسبة الفاكهة أو الورد فيها أو بخلطها بأنواع من السكر الرديء .
والسكر النقي الجيد يكون أبيض اللون ولكن كانوا يغشون الأصناف الرديئة فيجعلون ظاهر السكر أبيض اللون فإذا وصل المشتري بقمع السكر إلى بيته وكسره وجده من الداخل أحمر اللون .
والجزار يخلط اللحم الطازج باللحم البائت ، وفي ذلك الوقت كانوا يميلون للحوم البيضاء ويفضلونها على اللحوم الحمراء ، فإذا لم تكن الذبيحة سمينة وكثيرة الشحم احتاج الجزار إلى استعارة شحم من ذبيحة أخرى حتى يستطيع أن يبيع ذبيحته .
ويتحدث ابن الحاج عن الغش في صنع الذهب والفضة في الحلي, إذ كانوا يبيعون الفضة الخالصة مخلوطة بالدراهم المغشوشة ويأخذون أجرة على ما يصنعون ويقول ابن الحاج "وهذا أمر قد عمت به البلوى في هذا الزمان .. بل يفعلونه جهاراً وينادون عليه على رؤوس الناس ، و كثير ممن ينسب إلى العلم يمر بهم ويرى ما هم فيه و يسمع ثم مع ذلك لا يغيرون ، فإنا لله وإنا إليه راجعون " .
و مع دقة ابن الحاج في الوصف و اجتهاده في النقد فإن كتابه المشهور لم يكن مؤثراً في عصره . و لا في العصور التي جاءت بعده فظل الغش سائداً واستمر التحايل سارياً لأن أكثرية التجار في الأسواق نظروا للربح السريع وراهنوا على سرعة النسيان عند المشترين . و لا نعجب إذا رأينا كثيراً من المظاهر التي احتج عليها ابن الحاج منذ سبعة قرون لا تزال تعيش بيننا .. وكلها تؤكد أن أمراض الجشع قد أصبحت تستعصي على الشفاء عند بعض الناس .
اجمالي القراءات
23058