أحمد صبحى منصور في الإثنين ١٢ - سبتمبر - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً
1 ـ نحن الآن في منتصف القرن الأول الهجري تقريبا ..وفى منطقة الأهواز بفارس حيث أغلبية السكان من الموالى ، وهو الوصف الذي أطلقه عليهم العرب في العصر الأموي . وكان العرب كالشأن في كل أمة فاتحة ينظرون لأهل البلاد المفتوحة نظرة استعلاء ، وزاد من هذه النظرة وصول الأمويين للخلافة وحكمهم للمسلمين بالعسف والسيف ، وتعصبهم للعرب ضد غير العرب ، حتى كانوا لا يسقطون الجزية عمن أسلم من الموالى والوحيد من بني أمية الذي أنصف الموالى هو عمر بن عبد العزيز في عهده القصير ، ثم عاد الأمويين إلى مسيرة الظلم والقهر. ومن الطبيعي أن تتأثر الأحوال الاجتماعية بهذه السياسة ، فكان الارتباط بزوجة من الموالى يعد عارا على العربي مهما بلغ جمال الفارسيات وحسنهن الزائد ، وكان من الممكن التسامح مع العربي إذا اقتنى جواري من الموالى ، أما إذا تزوج حرة منهن فالعار يلاحقه واللوم يحيط به ويحمل العار أبناؤه من تلك المرأة الحرة ، كما لو كانوا من أبناء الجواري والإماء ..وزاد فى السوء تحكم الحجاج بن يوسف الثقفي فى العراق وإيران ، وهو المشهور بجبروته وقسوته وتعاليه وغطرسته ، فأحتمل منه الموالى الظلم الهائل،وقد وضع قواعد أسهمت فى احتقارهم وإذلالهم ، فكان المولى لا يستطيع أن يمر على العربي راكبا ، وكان العربي إذا مر على أحد الموالى وهو يحمل شيئا فعلى المولى أن يسارع بحمل متاع العربي . ومن الطبيعي أن تكون نساء الموالى أشد إذلالا وتعرضا للمهانة طالما أن رجالهن يعيشون فى ذلك الذل ، وسيف الحجاج مسلط على رقابهم .
2 ـ وفى هذا الجو المشبع بالظلم والذل عاشت أناهيد حسناء الأهواز . كانت أناهيد بنتا لرجل من عظماء الفرس أصحاب الضياع ، فلما جاء الفتح العربي الاسلامى تحول ملاك الضياع إلى وظائف إدارية فى خدمة الفتح تحت لقب (دهقان ) واحتفظوا ببعض النفوذ بين أبناء قومهم فقط إذ كانوا يمسكون الحسابات ويجمعون الضرائب لصالح الولاة وحكام المقاطعات، إلا أنهم مع ذلك كانوا فى نظر الدولة الأموية ضمن الموالى مهما ارتفعت مكانتهم وأخلصوا فى خدماتهم . والدليل على ذلك فى قصتنا أن أناهيد بنت الدهقان لم نعرف أسم أبيها الحقيقي ، وكل ما عرفناه الوصف العربي له الذي صار أسما عربيا دخل به بين سطور التاريخ وهو ( الأعنق ) لأنه كان طويل العنق ، فأطلقوا عليه هذا الوصف ، وأهملوا أسمه الأصلي ، وأصبح أسم بطلتنا ( أناهيد بنت الأعنق ) وربما ورثت أناهيد عن أبيها طول العنق فأصبح من سمات جمالها الزائد الذي اشتهرت به فى الأهواز . ولولا ارتباط تلك الحسناء بأحد العرب المشهورين وقتها ما قفز إسمها الى ذاكرة التاريخ الذى يطوف دائما بأولى الجاه والسطوة بعيدا عن المحكومين وبسطاء الناس الذين هم ( ملح الأرض ).
3 ـ وهكذا ، دخلت أناهيد فى طور جديد من حياتها حين التقت بالشاعر العربي يزيد بن ربيعة ابن مفرغ الحميري. كان يزيد شاعرا مشهورا يقول الغزل ، وكان متحالفا مع الأمويين ضمن قومه من قبائل اليمن ، ولذلك حاز شهرة وجاها خاصة فى مدائحه للأمويين وخليفتهم مروان ابن الحكم وابنه عبد الملك بعده . كانت شهرة يزيد هذا تسبقه أينما حلّ ، ويحرص على الالتقاء به رجالات الدولة فى كل إقليم ينزل فيه ، وحين نزل الأهواز استضافه فيها الأعنق والد أناهيد حرصا منه على توثيق صلته بذلك الشاعر العربى الذي تنفتح أمامه أبواب الخليفة فى دمشق .. وهنا رأى يزيد أناهيد . رآها بعين الشاعر وقلبه فتناسى الفوارق المصطنعة التى أقامها الأمويون بين العرب والموالى ، وهمس فى أذنيها بأحلى الكلام فما صدقت أذنيها أن يكون ذلك الشاعر العربى المشهور صاحب المكانة ـ متدلها بحبها إلى هذا الحد، فبادلته الغرام .
4 ـ وما كانت البيئة الفارسية المنفتحة أو الدهقان الوالد الوصولي يمانع فى استمرار اللقاء بين العاشقين ، ولكن الذي توجس خيفة من هذا الحب وخشي أن يتحول إلى زواج وارتباط شرعي هو عم الشاعر الذي حمل فى داخله مفاهيم العصر وخاف أن يؤثر ارتباط ابن أخيه بتلك الفتاة الفارسية على مكانته فى قومه أو عند البلاط الأموي . لذلك بذل عم يزيد كل جهد ليحول بين ابن أخيه وذلك الحب المتأجج فى نفسه ، فأخذ يعيّره ويلومه ويعنّفه فى القول فما استطاع التأثير على الشاعر الولهان ، فلجأ العم للحيلة إذ أتفق مع بعض القبائل فى الموصل ـ شمال العراق ـ على أن يزوجوا الشاعر ابنتهم ، وأقنع ابن أخيه بالمكسب الذي يعود على قبيلته وأسرته بني مفرغ إذا تزوج تلك الفتاة العربية ، ووافق الشاعر على مضض ، وسبق العم إلى الموصل يجهز الأفراح ، وركب الشاعر من جنوب العراق قاصدا الموصل وطيف أناهيد فى قلبه يحمله معه أينما سار . ومعه خادمه (برد) ، وفى الطريق قابل أحد الدهاقنة الفرس من الأهواز فسأله عن أناهيد بنت أعنق ، فقال له الدهقان : أتسأل عن صديقة الشاعر ابن مفرغ ؟ ثم قال الدهقان : ما تجف جفونها من البكاء عليه.فقال الشاعر لخادمه : أتسمع ؟ والله لأرجعن إليها ، فقال له خادمه: لقد أكرمك القوم وأعدوا لزواجك من أبنتهم وهم ينتظرونك مع عمك فى الموصل ، فكيف تتركهم ينتظرونك وتعود إلى أناهيد ؟ فقال : لابد من ذلك . ورجع إلى أناهيد يجفف دموعها، وترك فتاة أخرى مظلومة لا ذنب لها تسيل دموعها فى الموصل ..
5 ـ وعرف يزيد أن فعلته هذه ستثير عمه وقبيلته عليه فعزم على إصلاح ما بينه وبينهم بالمال ، ولذلك أقام فى البصرة قريبا من حبيبته يزورها ثم يرجع إلى والى البصرة يدعى أن عليه ديونا ويأخذ منه الأموال فيعطيها لعمه وأسرته يشترى رضاهم عنه .وقد أعطاه الوالى عبيد الله بن أبى بكرة مائة ألف درهم ومائة وصيف من الغلمان ومائة نجيبة من الخيل،فأعطى الشاعر تلك الأموال لعمه وأسرته كي يسكتوا عنه ويرتضوا حبه لأناهيد .إلا أن عم الشاعر وقبيلته شرهت أنفسهم للمال الذي أصبح يأتيهم سهلا فأثقلوا على الشاعر بمطالبهم ولومهم فكان يزيد بكل ما له من مكانة يجلس على باب الأمير فيخرج له الأمير فزعا يسأله عن السبب ، فيحكى له يزيد عن الديون التى لحقته وعجزه عن سدادها فيعطيه الأموال ، فيأخذ يزيد تلك الأموال يسد بها أفواه عمه وأقاربه ..
6 ـ وفى النهاية شعر يزيد بالملل ، وكانت الحجة الأخيرة لعمه وأهله أن أناهيد ليست بالجمال الذي يستحق منه هذه التضحية . وهنا أدرك يزيد أنها فرصته المثالية لينتصر عليهم ، فبعث إلى أناهيد أن تتزين وتخرج لاستقباله مع أهله فى أبهى زينة . وقال لعمه وأسرته أن له دينا فى الأهواز ويريد منهم أن يساعدوه فى تحصيل ذلك الدين ، فوافقوا ، وهم يحلمون بالحصول على ثلاثين ألفا من الدراهم قيمة الدين . ودخل الشاعر بأهله إلى مكان أناهيد ، فلما رأوها أذهلهم جمالها ، وصرخ فيه عمه قائلا : قبحك الله الم يكن من الأفضل لك أن تحب مثل هذه ؟ فقال يزيد : أو قد أعجبتك يا عماه ؟ قال : ومن لا تعجبه هذه ؟، فقال الشاعر : هذه هي أناهيد التى تلوموننى على الزواج بها .!! فأسقط فى يد العم والأسرة، وانصرفوا عنهما . وعاش الشاعر مع حبيبته هانئا إلى أن مات فى الطاعون سنة 69 هجرية ..
ملاحظة : فى مشروع (تحويل التراث الى دراما ) تم تجميع كل المعلومات عن الشاعر يزيد بن ربيعة الحميرى وحبيبته أناهيد من بين سطور التاريخ ، وهذه هى المرحلة الأولى ، ثم تمت كتابة هذه القصة بناءا عليها فى المرحلة الثانية ، وأخيرا تمت كتابة سيناريو درامى عليها ، بنفس العنوان . ومشروع (تحويل التراث الى دراما ) يحوى عشرات الأعمال بنفس الطريقة. وسبق نشر عشرات القصص على موقعنا ، وهى كلها من قصص هذا المشروع . نقول هذا حفظا لحقنا .
التعليقات (3) |
[60057] تعليق بواسطة رضا عبد الرحمن على - 2011-09-10 |
معك كل الحق يا دكتور ــ بعض مشايخ الأزهر أدمنوا سرقة علمك وجهدك الذي اتهموك بالكفر بسببه من قبل ..!!
|
أؤيد الدكتور منصور في حرصه على المحافظة على حقه الأدبي والعلمي والفكري في كل ما يكتب ، وجدير بالذكر هنا أن بعض كتاب السيناريو ينهلون من علمه ويستفيدون من أبحاثه التاريخية في كتابة المسلسلات وحدث هذا بوضوح في مسلسل (الجماعة ) للكاتب المخضرم وحيد حامد ، حيث جاء في أحداث المسلسل حقائق تاريخية عن الاخوان لم يتحدث عنها من قبل عالم مسلم سوى الدكتور منصور
|
[60062] تعليق بواسطة محمود مرسى - 2011-09-10 |
و1ذاق أقباط مصر ما ذاقه الموالي من اضطهاد الآمويين
|
|
[60080] تعليق بواسطة عثمان محمد علي - 2011-09-11 |
الملكية الفكرية .
|
استاذنا الدكتور منصور .بارك الله فيك ،وفى جهدك العظيم فى إصلاح المسلمين بالقرآن والإسلام .
|
إبنان لعمر بن الخطاب ضلا الطريق
الشاعر العرجى صناعة أموية
التحقيق فى جريمة قتل غامضة حدثت عام 99 هجرية
الطبرى والقرامطة وآل سعود
تعظيم سلام للصوص مصر العظام
الخليفة المأمون وإمرأة مصرية ..وأشياء أخرى
بداية محاكم التفتيش فى تاريخ المسلمين
البوليس السرى فى عهد أحمد بن طولون
بين بلال الأشعرى وحسنى مبارك
بولس الراهب الحبيس
عضد الدولة البويهى (2)
عضد الدولة البويهى
الخوارج
الصاحب ابن عباّد
عبد الله بن المبارك ..شيخ الحديث
الخلفة العباسى ..القاهر المقهور
هل قطعوا خصيتيه ..أم لا ؟
فى أروقة الحريم العثمانى (3 ) الصراع بين أم السلطان ومحظ
فى أروقة الحريم العثمانى (2) (روكسانة وترويض النمر العثم
فى أروقة الحريم العثمانى (1) طقوس الحريم العثمانى
دعوة للتبرع
من ميراث اخى : أخى كانت مأسات ه مع زوجته ، كان لا يأمنه ا على...
صدقة الابن والمسكين: من الطبي عي أن ينفق شخص مؤمن مبلغا من ماله على...
ام السيسى يهودية.!: يؤكد كثيرو ن أن أم السيس ى يهودي ة من...
هدى بمعنيين : عزيزي الدكت ور أحمد كل عام وانت بخير توقفت ...
كتاب الصلاة: قرأت كتاب الصلا ه و هو الكتا ب المهم...
more