رقم
(
2 )
تمهيد- منهج البحث ومصادره-دراسات حديثة
السيد البدوى بين الحقيقة والخرافة
تمهيد ، منهج البحث ومصادره- الدراسات الحديثة عن البدوى
جاء فى ( سيرة ابن هشام ) أن اشراف مكة اجتمعوا يوما عند الكعبة فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : " ما رأينا مثل صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط . سفه احلامنا وشتم آباءنا وعاب ديننا وفرق جماعتنا وسب آلهتنا ، لقد صبرنا منه على أمر عظيم ".[1]
ولقد صدق أئمة الكفر من قريش ، وقد كذبوا ..
صدقوا فى وصفهم للرسول عليه السلام بأنه سفه أحلامهم – أى عقولهم – وعاب دينهم .. فعقول تعبد الأنصاب ودين يقدس الأحجار لا تستحق تلك العقول وذلك الدين إلا أن يوصف بالسفه والعيب .
وقد كذبوا حين وصفوه عليه السلام بأنه يسب ويشتم فما كان عليه السلام سبابا ولا فحاشا و لا عيابا ..وكل ما هنالك أنه قال حقا .. وصف آلهة قريش بما تستحقه من أنها لا تنفع ولا تضر ولا تحس ولا تشعر ولا تملك لنفسها أو غيرها موتا ولا حياة ولا نشورا ، ولكن هذا الحق الذى نطق به محمد صلى الله عليه وسلم يعتبره كفار قريش عيبا لا عيب بعده .فأشد الزيغ عندهم أن توصف آلهتهم بصفات البشر من العجز والاحتياج ، فهم يضعون تلك الآلهة فوق مستوى البشر وما يجوز على البشر لا شأن لهم به ، وإذا فكر البعض مجرد تفكير فى وصف هذه الآلهة بصفات البشر لاعتبروه صابئا خارجا على الدين .
وتلك إحدى سمات الشرك .. أن تضاف خرافات التقديس والتمجيد إلى شخص ما من بنى الإنسان لترتفع به إلى مستوى الإله ، حتى إذا حاول باحث أن يظهره على حقيقته التاريخية كإنسان عادى له محاسن ومساوىء قامت عليه الدنيا ولم تقعد .. وكل ما اقترفه الباحث المسكين أنه قال حقاً، أى وصف ذلك الشخص المقدس عند اتباعه بصفات البشر العاديين ..إلا أنه لم يدر أنه بذلك أنزل ذلك الإله المقدس من عليائه وجعله إنسانا لا يختلف فى شىء عن باقى أتباعه ، فطعن الأتباع فى أقدس عقائدهم فاظهر أن عقولهم خرافة ودينهم لا يستحق إلا العيب ،ومما لا شك فيه أنهم سيعتبرون ذلك سبا فى آلهتهم وذما فى عقولهم وعيبا فيما اعتاده أسلافهم . بذلك نطق كفار قريش، ومن هذا الموقع نفسه سينظر أتباع البدوى لهذا الكتاب الذى يتعرض لحقيقة البدوى التاريخية وصورته الخرافية التى ملأت عقول أتباعه.
ومع أن هذا الكتاب لا يقول إلا الحقيقة المستمدة من كتابات الصوفية أنفسهم أو من كتاب الله العزيز والمصادر التاريخية الموثوق بها – مع ذلك فإن هذه الحقيقة لن تكون أمام أتباع البدوى إلا السباب والشتم والعيب، لأنهم لا يرون الحقيقة إلا فيما يؤمنون به ولو كان خرافة وفيما يعتقدونه ولو كان أفكاً وفيما نشأوا عليه ولو كان بهتاناً .
ولا أدل على تأليههم للبدوى وأعتباره شيئا مقدسا فوق مستوى البشر من اعتبار تاريخه حرما مقدسا لا يدنو منه المؤرخ إلا وفى نيته أن يكيل له الحمد والتقديس فقط ، أما إذا تجرأ وعامل البدوى كبشر يؤرخ له كما نؤرخ لسائر الناس فإن القيامة تقوم عليه وترتفع صيحات الغضب لإن " الحمى المقدس " قد تجرأ عليه البعض " سباً وشتماً وعيباً " مع أن الحقيقة لا يمكن أن تكون سباً أو عيباً بأى حال.
ومن عجب أن للمؤرخ الحق أن يتعرض لتاريخ صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول ما لهم وما عليهم ، ومن منا من لم يعرف بالخلاف بين أبى بكر وعلى وبين على وعثمان وبين على وعائشة وبين على ومعاوية ،وموقعة الجمل و موقعة صفين ومصرع الحسين ، تاريخ لا يخلو من دماء ، والدماء تعنى أن هناك ظالما ومظلوم ، ومع أن أولئك هم رءوس الصحابة إلا أن للباحث التاريخى أن يلوم هذا أو ذاك ولا حرج عليه .أما حين يصل الأمر للتأريخ لشيخ صوفى – والبدوى بالذات – فان الأقلام تتوقف والقلوب تترتجف ، ويختلف المنهج فاما أن يكال الحمد والتقديس وإلا فلا.
لماذا ؟
لأن البدوى والصوفية آلهة ويمتازون عن جميع البشر بطريقة خاصة فى التعامل، ولابد للمؤرخ إذا اراد النجاة من الأتباع الصوفية أن يعامل البدوى كإله معصوم منزه عن ضعف البشر ومساوئ بنى آدم.أما إذا تجرأ ولم يأبه بمشاعر الأتباع الصوفية وقال الحق ، فإن هذا الحق سيعتبر(عيبا فى الذات المقدسة ) ولا يستغرب حينئذ أن يعقدوا إجتماعا فى ضريح الحسين فيتذكروا الأمر ويقولوا مقالة القرشيين " ما رأينا مثل صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط ، سفه أحلامنا وشتم آباءنا وعاب ديننا وفرق جماعتنا وسب آلهتنا ، لقد صبرنا منه على أمر عظيم ".
منهج البحث ومصادره
1 ـ وهذا الكتاب عن البدوى وعنوانه " السيد البدوى بين الحقيقة والخرافة" :
* أى يبحث حقيقة البدوى : كداعية شيعى استغل التصوف ستارا لإرجاع الحكم الشيعى الذى إنقرض بزوال الدولة الفاطمية فى مصر على يد صلاح الدين الأيوبى ، وحين ضعفت الدولة الأيوبية إنتهز الشيعة الفرصة فأعادوا دعوتهم المتسترة بالتصوف لإرجاع الملك الزائل ،إلا أن الدولة المملوكية قامت اثر الحكم الأيوبى فأضاعت آمال الشيعة المتسترين بالتصوف فاضطروا إلى تمثيل دور المتصوفة إلى نهايته .
* ثم يبحث فى خرافة البدوى :-
فنظرا لكثرة الأتباع السريين للبدوى وزملائه فى هذه الحركة السرية المتسترة بالتصوف فإن الدعاية للبدوى بعد موته ملأت جميع الأنحاء فى مصر، ووقع عليهم عبء التأريخ للبدوى ، فحولوه من شخص إلى اسطورة ومن واقع الى خرافة ، وذلك ليجتذبوا إليهم أفواج البشر إلى مثوى البدوى فى طنطا فى (مولد البدوى ) ، أملا فى الرزق الوفير والجاه بين الناس . وأدى ذلك بالطبع إلى تأليه البدوى ورفعه فوق مستوى البشر واضفاء صفات الله عليه من تصريف فى الخلق وعلم بالغيب ، مع التقرب إليه بالتوسل والزيارة ، وكل ذلك خروج عن الإسلام الذى ينهى عن تقديس البشر حتى ولو كانوا من الرسل المقربين.
ذلكم بإختصار هو موضوع الكتاب ، وقد ظهر فيه أنه ينقسم إلى فصلين ، يبحث الأول فى حقيقة البدوى أو نشاطه السياسى السرى المتستر بالتصوف ، ويبحث الفصل الثانى عن خرافة البدوى ، أو ما قام به المتصوفة من تأليه للبدوى وتقديس له .
2 ـ والواقع أن حركة البدوى السياسية كانت نهاية المطاف فى مخطط محكم شمل أفريقيا ""شمال افريقيا" ومصر والحجاز والعراق والشام ، بدأ فى أفريقيا والمغرب ومر بالحجاز وأقام بالعراق ثم إنتقل إلى مصر ، كان رواده الأوائل والد البدوى ووالد الرفاعى وسائر الشيعة الذين هربوا من المغرب ، وعقدوا مؤتمراً بالحجاز وضعوا فيه الخطط ، ثم أقاموا أول خلية لهم فى العراق ، ما لبثت أن تطورت ونمت على يد أحمد الرفاعي فى القرن السادس الذى أرسل البعوث السرية إلى الشرق والغرب من موطنه (أم عبيدة فى واسط بالعراق) ..وكان من بين أتباعه أبو الفتح الواسطى فى مصر،والذى جاء البدوى ليخلفه فى الدعوة بعد موته فى القرن السابع ..وبفشل البدوى فى الدعوة السرية تحولت بعد موته إلى تصوف بحت رفع البدوى إلى مصاف التأليه وتحول الطموح السياسى إلى مولد وضريح ودعاية وخرافة اتسع لها الفصل الثانى.
3 ـ ولأن البدوى (قضية) مثارة على الدوام تحظى باهتمام الكثيرين على اختلاف المستوى الثقافى والعلم بالتاريخ الإسلامى ، ولأن حركة البدوى مزجت بين التشيع السياسى السرى والتصوف المعلن ، ولأن الشيعة اشتهروا بالسرية والالتواء والألغاز والمعميات ، ولأن الصوفية اشتهروا مثلهم بالرموز والتأويلات والأساطير والخرافات ، لذلك كله فإن تلمس حقيقة البدوى السياسية وسط هذه الظروف وتقريبه لغير المتخصصين فى التاريخ والتصوف والتشيع يعتبر أمرا شاقا ، أرجو أن أكون قد وفقنى الله إليه..
3 / 1 : فالكتاب فى فصله الأول يبحث قضية علمية تاريخية على أرفع مستوى من التخصص ، وهى استغلال التصوف بيد طائفة من الشيعة لغرض سياسى هو التآمر لاسقاط العروش الحاكمة فى المنطقة فى القرنين السادس والسابع الهجريين . ثم هو مطالب بعدها أن يقدم هذا البحث العلمى بصورة سهلة يستطيع القارىء غير المتخصص أن يستوعبها . وإذا كان صعبا أن نتعرف على الحقيقة التاريخية من خلال أكوام الرموز والأساطير والخرافات والحوادث التاريخية المختلفة زمنا بين القرنيين السادس والسابع والمختلفة فى المكان بين المغرب ومصر والحجاز والعراق ..إذا كان هذا صعبا من الناحية العلمية فإن الأصعب هو تقديم ذلك فى صورة سهلة مبسطة ..خدمة للقراء الذين يهمهم التعرف على حقيقة البدوى وخرافته.
3 / 2 : ويزيد من الصعوبة أن حركة التشيع السرية تلك قد نبتت على مسرح سياسى معقدة ظروفه ، أثرت فيه وأثر فيها . فالحركة حين بدأت فى المغرب تأثرت بدولة الموحدين ثم إذا انتشرت فى العراق حيث مدرسة أحمد الرفاعى كان لابد أن تتأثر بظروف الخلافة العباسية وتطورات الأمور فى المشرق الإسلامى الذى وجهت نحوه مبعوثيها.ثم إذا انتقلت الى مصر فى شخص أبى الفتح الواسطى ثم البدوى كان لابد أن تتفاعل بظروف مصر يومئذ وهى تودع الدولة الأيوبية وتتهيأ لزعامة المنطقة تحت قيادة الدولةالمملوكية.
3 / 3 : وفى نهاية الأمر فإن تلك الحركة الشيعية السرية فى القرنيين السادس والسابع والتى كان البدوى نهاية المطاف فيها – هذه الحركة الشيعية لم تكن الأولى أو الأخيرة فى جهد الشيعة السياسى السرى الذى استغل كل الظروف للكيد للدولة العباسية منذ بدايتها وحتى بعد أفول شمسها وقيام الدولة المملوكية والقوى الأخرى التى ورثت العراق والمشرق . وإن كانت الحركة الشيعية التى نحن بصدد البحث فيها لم تنجح فإن الحركات السابقة وبعض الحركات اللاحقة أفلحت فى إنشاء دول وممالك ، وهى لم تغفل عن الاستفادة بالتستر بالزهد والتصوف لتكسب بها المزيد من الأنصار والأتباع..
4 ـ لذا بدأ الفصل الأول بإشارة عامة للحركات الشيعية فى القرون الثالث والرابع والخامس من الهجرة ، وكيف استفادت بالتستر بالزهد والتصوف فى حركاتها الموجهة ضد الدولة العباسية كحركة الزنج وحركة القرامطة ، ثم قيام الدولة الفاطمية باستغلال إدعاء الزهد والتصوف أثناء قيامها بعد أن استقرت أمورها فى مصر لم تترك استغلال التصوف فى نشر مذهبا بين المصريين . وقد استفاد صلاح الدين الأيوبى من أعدائه الشيعة فحاربهم بمثل سلاحهم أى بالتصوف الموالى له.
5 ـ ثم بحثنا جذور حركة البدوى السياسية فى القرنيين السادس والسابع ودور مدرسة المغرب فى بداية الدعوة الشيعية ومساندتها حين انتقلت الدعوة للمشرق ، ودور مدرسة الرفاعى فى أم عبيدة بالعراق وسياسته مع الأتباع والمريدين وعلاقته بالخلافة العباسية وبعوثه للمشرق ثم بعوثه إلى مصر بعد انتهاء الخلافة الفاطمية الشيعية فيها.. ثم كان البدوى مبعوثا ليخلف أبا الفتح الواسطى أبرز دعاة الرفاعى فى مصر الأيوبية . وبيّنا كيف أعدّ الشيعة فى مصر المسرح وهيأوه للبدوى فاختاروا له قرية مجهولة ذات موقع هام هى طنطا ، وإليها توافد الشيعة فأخذوا العهد على البدوى منذ بدايته ، وكيف أن الأدوار توزعت على الجميع بين الشاذلى فى الأسكندرية والدسوقى فى دسوق ومدرسة أبى الفتح الواسطى فيما بين طنطا والقاهرة والأسكندرية.
6 ـ وتحدثنا عن جهود البدوى فى المرحلة الأولى ، حيث كان الاضطراب السياسى ملائما لإنجاح الدعوة ، فعرضنا لسياسة البدوى مع مريديه والآخرين ، وبعوثه الى داخل مصر وخارجها. ثم أوضحنا فى المرحلة الثانية كيف تغير المسرح السياسى فى مصر، فقد استقرت الأمور بعد توطيد الظاهر بيبرس للدولة المملوكية ، وقد كان بيبرس خبيرا بفن المؤامرات والتخفى ، وقد واجه فى بداية حكمه ثورة صوفية شيعية فى القاهرة تزعمها الكورانى ، وبعد اخمادها التفت بيبرس لخطورة الدعوة الشيعية المستترة بالتصوف ، وكان أن أحس البدوى بالخناق يضيق حوله فاضطر لتجميد دعوته السياسية والاقتصار على التصوف الذى يتستر به ، وظل هكذا إلى أن مات سنة 675 هجرية.
7 ـ ثم ختمت الفصل بتعليل فشل البدوى سياسيا، وتبيين الآثار السياسية لدعوته ، والعناصرية التآمرية فى حركته .. وتتبعت فى إيجاز الحركات الشيعية السرية بعد البدوى ، وأبرزها الحركة التى أقامت الدولة الصفوية فى المشرق (فارس والعراق) والتى استطاع زعيمها الشاه إسماعيل الصفوى أن يتسبب فى انهيار الدولة المملوكية وقتل السلطان الغورى فى مرج دابق على يد العثمانيين الذين احتلوا مصر وحولوها إلى مجرد ولاية عثمانية بعد أن كانت زعيمة المنطقة.
المصادر التاريخية عن البدوى:
1 ـ وقد اعتمد البحث فى هذا الفصل على المصادر التاريخية المعروفة بكتب( الحوليات) أى التى تؤرخ للحوادث التاريخية لكل (حول) أو لكل سنة . بل لكل يوم أو شهر . والعادة فى كتب الحوليات أن تهتم بالأعلام الظاهرين وتتبع أخبارهم على مدار السنين الى أن يموت أحدهم فتسجل موته فى العام الذى مات فيه وتذكر بعض سيرته . والملوك والولاة ومشاهير العلماء والصوفية هم النجوم التى تهتم بها عادة كتب الحوليات بالاضافة للحوادث الغريبة التى تحدث فى حياة الناس وتستحق أن تسمو الى مستوى الذكر فتسجلها الحوليات التاريخية فى أوانها، إلى جانب أخبار السلاطين وتحركاتهم السياسية والحربية .
ومن عجب أن البدوى صاحب الصيت الذائع كان مجهولا فى عصره ، فلم يحظ بترجمة أو أدنى إشارة فى كتب الحوليات التاريخية التى عاصرت حياته ومماته ، مع أن البدوى عاش فى فترة تاريخية هامة شهدت أحداثا مؤثرة كحملة لويس التاسع وقيام الدولة المملوكية على أشلاء الدولة الأيوبية وانتصار المماليك على المغول فى عين جالوت وغزوات الظاهر بيبرس ضد المغول والصليبيين والأرمن .. كما شهدت حياة البدوى ظهور الكثير من الأعلام العلماء كابن دقيق العيد وابن بنت الأعز وعز الدين بن عبد السلام وأبى شامة وابن عدلان وابن عصفور النحوى وابن جماعة ومحيى الدين النووى وابن ميسر المؤرخ وابن خلكان . وبرز من الصوفية فى الحوليات التاريخية الشاذلى والمرسى والتلمسانى وخضر العدوى والدسوقى والدرينى والقبارى وغيرهم..
وأولئك جميعا من علماء وصوفية أقل شهرة الآن من البدوى إلا أن الحوليات التاريخية المعاصرة لهم اهتمت بتحركاتهم ورددت أخبارهم ، أما أحمد البدوى فإذا راجعت أى مصدر تاريخى معاصر لحياته فلن تجد فيه أدنى إشارة عنه ،وإذا راجعت وفيات عام 675 وهو العام الذى توفى البدوى لم تجد فيه ذكرا لوفاة البدوى ..
فإذا تركت القرن السابع الذى عاش فيه البدوى ومات والتفت للقرن الثامن وحولياته التاريخية ألفيت صمتا تاما عن البدوى مع أن الأحمدية أتباع البدوى صارت لهم قوة فى هذا القرن حتى اتعبوا الامام ابن تيمية فى الشام.. ولعل صدامهم مع ابن تيمية أوسع لهم مجالا فى المصادر التاريخية التى تهتم بالأعلام الظاهرين .. وقد كان ابن تيمية أظهر الأعلام فى القرن الثامن . وبينما أوردت الحوليات التاريخية للقرن الثامن أن هناك طائفة تسمى الأحمدية فإن البدوى نفسه حرم من التأريخ له فى هذا القرن أسوة بسابقه.
ولا بد لذلك من سبب. فكيف يكون البدوى مجهولا فى العصر الذى عاش فيه وهو القرن السابع ؟..
والجواب واضح .. لقد كان البدوى مجهولا فى عصره لأنه كان يقوم بدعوة سياسية سرية مناوئة لنظام الحكم السائد يريد بها إرجاع الملك الشيعى ، وقد اتخذ لدعوته مركزا سريا بعيدا عن الانظار هو (طندتا) (طنطا) ومنه كان يرسل البعوث يزرع بهم المدن والقرى ( وهم السطوحية) فى مصر وخارجها.. ولأنه كان مستترا فى قرية بعيدة عن الاضواء فقد خفى شأنه عن مؤرخى القرن السابع المعاصرين له. وشأن المؤرخين أن يهتموا بالنجوم الظاهرة فى سماء المجتمع كالسلطان وحاشيته وأبرز العلماء وأشهر الصوفية ممن هم فى دائرة الضوء. ثم مات البدوى وفشلت حركته السرية وتحولت الى تصوف بحت بأتباع منتشرين فى كل بقعة فبدأت الدعاية للبدوى كشيخ صوفى حسبما تظاهر بذلك . وبمرور الزمن وكثرة الأتباع وتفرع السطوحية الأحمدية إلى طرق وتغلغلها فى القرى والنجوع ازدادت الدعاية للبدوى واحاطته الأساطير ورويت عنه الكرامات الخرافية وكلها تومىء بالدافع السياسى فى دعوته وتفصح عن غرضه من عكوفه فى طنطا منزويا عن أولى الأمر.
والطريف أن الدعاية للبدوى اختلطت بالدعاية لمولده وما يعنيه المولد الأحمدي من رزق وفير للصوفية الأحمدية من سدنة القبر المقدس فى طنطا ، فترجمة البدوى فى الطبقات الكبرى للشعرانى فى القرن العاشر الهجرى كان فيها الاهتمام الزائد بالمولد والدعاية له وما يفعله البدوى فيه من كرامات .
والمهم أن القرن التاسع شهد نمو الدعاية للبدوى ومولده فسجلت الحوليات التاريخية كيف عطل السلطان جقمق المولد الأحمدى سنة 852 وكيف توقف بعض القضاه فى الأفتاء بابطال المولد خوفا من تصريف البدوى ، ثم كيف انخرط بعض المماليك فى الطريقة الأحمدية ، وكيف زارت زوجة السلطان حشقدم المولد وكيف انتظمت فى الطريقة الأحمدية .
ومع أن التأريخ الفعلى لم يبدأ للبدوى إلا فى القرن العاشر على يد الشعرانى فى طبقاته.
إلا أن بعض ترجمات البدوى فى العصر العثمانى أسندت للمقريزى وابن حجر ، وادعت أنها نقلت عنهما أنهما قالا عن البدوى كذا و كذا ، مع أن المقريزى وابن حجر لم يذكرا شيئا فى حولياتهما التاريخية عن البدوى ، وتلك الحوليات المشهورة منشورة كالسلوك وإنباء الغمر والدرر الكامنة. وربمانقل عنهما الناقلون تلك الرويات عن البدوى بالطريقة الشفهية . وهذا هو الأرجح ، فمن نقل عن المقريزى وابن حجر لم يذكر كتابا نقل عنه ، ولعل المقريزى وابن حجر تحرجا من التأريخ للبدوى تحريريا فى كتبهما ، فالبدوى مات فى القرن السابع أى قبلهما نحو قرنين ، وقد تابعا فى كتبهم التأريخ للقرن السابع بالنقل عن مؤرخى القرن السابع نفسه وهم قد أغفلوا ذكر البدوى ، حتى إذا أرخ المقريزى وابن حجر للقرن التاسع الذى هم شهود عليه كان البدوى قد تحول إلى اسطورة وخرافة ودعاية ، ولم يعد واقعا تاريخيا يستحق التسجيل فى الحولياتالتاريخية التى تهتم بما يحدث فعلا فى الحياة العلمية والحوادث الجارية كل يوم.
وقد تم الفتح العثمانى لمصر سنة 923 أى فى نهاية الربع الأول من القرن العاشر الهجرى ، وقد شهد هذا القرن العاشر بداية التأريخ الفعلى للبدوى،على يد علمين كبيرين هما السيوطى والشعرانى .
فالسيوطى عرض لترجمة البدوى فى كتابه(حسن المحاضرة) ولم يذكر فيها مصدرا استقى منه الترجمة ، ورصعها بكرامة ادعى حدوثها له مع البدوى .
والشعرانى ترجم للبدوى فى كتابة ( الطبقات الكبرى ) وصرح فى مقدمتها بأن سيرته – أى البدوى - شاعت على الألسنة وأنه إنما يذكر ترجمته لمجردالتبرك.
أى أصبح البدوى فى القرن العاشر تراثا شعبيا يتناقله الناس جميعاً جيلاً عن جيل مختلطا بالكرامات ، ويتحرز عن الترجمة العلمية له كبار المؤرخين ، وحتى إذا اضطر أحدهم كالسيوطى للترجمة له فى(حسن المحاضرة) فإنه لا يجد مصدرا تاريخيا ينقل عنه. بل أن السيوطى نفسه حين أرخ للقرن السابع الذى عاش فيه البدوى فى كتابة (تاريخ الخلفاء) ذكر فى ختام ترجمته للخليفة العباسى الحاكم المتوفى بمصر 701 كثيرا من الأعيان المعاصرين للبدوى والذين توفوا فى عهد ذلك الخليفة ، وكان البدوى هو الشخصية التاريخية الوحيدة التى أغفل السيوطى ذكرها ، وذلك لأن السيوطى ينقل عن المؤرخين المعاصرين للقرن السابع ، وأولئك جهلوا البدوى ولم يعرفوه، فاضطر السيوطى وهو ينقل عنهم إلى أن ينقل عنهم باخلاص فيسجل ما سجلوه ويتجاهل ما تجاهلوه..
وإذا كان البدوى قد حرم من الترجمة التاريخية العلمية فى العصر المملوكى فإن العصر العثمانى قام بسد النقص ، فترجم للبدوى ترجمة صوفية مختلطة بالكرمات. فقد تابع العصر العثمانى ما كتبه الشعرانى فى طبقاته عن البدوى فاوسع للبدوى تراجم خاصة فى مناقبه مليئة بالأساطير والخرافات وتقديس الاتباع له ، وهكذا قامت كتب ( المناقب) بتعويض ما أغفلته كتب الحوليات التاريخية ، وأهم كتب المناقب ما كتبه عبد الصمد الأحمدى فى" الجواهر السنية والكرامات الأحمدية " وهو مطبوع ، والحلبى فى " النصيحة العلوية" ولا يزال مخطوطا.
وكتاب عبد الصمد " الجواهر السنية" هو العمدة الذى نعول عليه فى هذا الكتاب ، فقد ضم بين دفتيه كل ما كتب عن البدوى من طبقات الشعرانى الكبرى والصغرى وما كتبه السيوطى فى "حسن المحاضرة " بالإضافة إلى ما كتبه الآخرون عن البدوى وقد ضاع ولم يصل إلينا مثل " طبقات محمد الحنفى " و" تاريخ القدس للمقدسى" وكتاب أزبك الصوفى الذى نقل أجزاء طويلة منه.
ثم إن كتاب عبدالصمد هو العمدة الذى إعتمد عليه من أرخ للبدوى بعد عبدالصمد كالخفاجى والحلبى ، ثم إن هذا الكتاب " الجواهر " هو العمدة أيضا لكل من يكتب فى عصرنا عن البدوى إعتمد عليه عبدالحليم محمود وسعيد عاشور وحجاب وفهمى عبداللطيف . ثم هو- أى الكتاب – مطبوع ومتداول ، وهناك طبعة حديثة له فى مكتبة صبيح وهى التى اعتمدنا عليها .
وكتاب الجواهر لعبدالصمد يعتمد أساساً على ما نقله من كتاب أزبك الصوفى الذى أرخ لرحلة آل البدوى من المغرب للحجاز ثم رحلة البدوى للعراق ثم إلى طنطا وعلاقته بأتباعه .
وإن كان كتاب أزبك الصوفى فى عداد المفقودات فقد عثرت على مخطوط مصور بالميكروفيلم فى
معهد المخطوطات ، عنوانه ( قصة القطب أحمد البدوى ) لمؤلف مجهول إسمه عمر بن عثمان الماردانى الحلبى ، قال أنه فرغ من كتابه فى رمضان 863 أى فى النصف الثانى من القرن التاسع ، وقد بدأ فيه بقصة البدوى بنفس العبارات التى حكاها أزبك الصوفى فى العصر العثمانى ، مما يقطع بأن أزبك الصوفى قد نقل عن هذا المؤلف المجهول المكتوب فى القرن التاسع ما كتبه عن البدوى وإن كان قد تجاهل ما أورده الماردانى عن سيرة الرفاعى.
ومهما يكن من أمر فإن مشكلة التأريخ للبدوى تكمن فى أن المصادر التاريخية التى تؤرخ لكل حول قد تجاهلته لأنه فى عصره – فى القرن السابع – لم يكن شيئا مذكورا ، ثم جاءت كتب المناقب الصوفية لتحول المجهول إلى اسطورة وخرافة. والباحث فى تاريخ البدوى الحقيقى يعيش بين " التجاهل " و " التخريف"، أى بين" تجاهل" معاصرى البدوى له و "تخريف" اتباعه فيما بعد فى مناقبه وتغاليهم فى تأليهه.
على أن البحث العلمى التاريخى كفيل بحل المشكلة ، ( فالحوليات التاريخية ) وإن خلت من ذكر البدوى فانها تلقى الأضواء الكاشفة على المسرح الذى عاش فيه البدوى ، و( المناقب الصوفية ) وإن إستغرقت فى الأساطير والخرافات فإن ملامح الحركة السرية تكاد تظهر واضحة من خلال أكوام الأساطير والمنامات ، وكلها تنبئ عن مخطط شامل واع لا يمكن أن تكون حركاته كلها مصادفة أو عشوائية وخصوصا وإننا نتعامل مع الشيعة أساطين الدهاء وأساتذة التستر وملوك الباطن.
ولم يكن أمامنا إلا أن نزاوج فى الاعتماد على المصادر الصوفيه (المناقب) والتاريخية (كتب الحوليات) لنتتبع منهما آثار حركة سرية ضاعت معالمها ولم يبق منها إلا أقاصيص مروية تومىء ولا توضح ، تشى ولا تشرح ، إلا أن ملامح التآمر فيها واضحة. ويزيد فى وضوحها أن أساطينه لاقوا العنت والأذى من السلطات الحاكمة ، وإن ذلك التراث عن البدوى بالذات مختلف عن التراث المدون لباقى الأشياخ الصوفية ، فنبرة الطموح السياسى فيه واضحة عالية تتردد خلف كل كرامة ووراء كل منام.
لقد أخذنا بمنهج المؤرخ فى بحث حقيقة البدوى ، فتتبعنا المسرح التاريخى وفحصنا الأساطير الصوفية ، واستعنا بهذه على تلك ، فاهتدينا لحركة سرية محكمة التخطيط متسقة الحركات متحدة الأسلوب على كثره الأتباع وتتابع الأشياخ واختلاف الموطن ، وهنا تتضح الأمور وتنكشف الأسرار فما دام هيكل التخطيط قد وضح وبان فان من السهل على كثير من الجزيئات أن تنتظم فى مكانها فى كل عضو وفرع للهيكل العام.
2 ـ وفى الفصل الثانى كان الحديث عن خرافة البدوى أو علاقة البدوى بالتصوف وما أضفاه التصوف على شخصية البدوى من خرافات التقديس وأوهام التأليه . وتخفيفاً على القارىء فقد أعرضنا عن الايغال والتعمق فى الصلات العقائدية بين التصوف الذى استتر به البدوى والتشيع الذى قامت على أساسه حركته وما يبدو فى تراث أشياخ الدعوة من آثار شيعية تفضح مذهبهم الحقيقى ، وتركنا ذلك كله رحمة بالقارىء وركزنا على عنوان الفصل وهو "خرافة البدوى" أو ما أشاعه التصوف عنه من مفتريات ارتفعت به فوق مستوى البشر.
وأولى هذه الخرافات هى اعتبار البدوى وليا لله عند أتباعه الذين نشروا هذا الاعتقاد بين الناس ، وقد أثبتنا أن ولى الله تعالى لا يمكن أن يكون شخصا معروفا مقصودا وإنما الولاية لله هى صفات عامة للجميع تتركز فى الإيمان والتقوى وهى كصفات بشرية تقبل الزيادة والنقص حسب مجاهدة الهوى والشيطان وأن المعرفة بدرجة الإيمان والتقوى فى كل نفس فى أى وقت لا تكون إلا لله علام الغيوب ، وأن الولى إن كان معروفا مقصودا للتوسل والتبرك فلا يكون إلا الله تعالى وهو الولى الحميد.
ثم التفتنا لعقيدة الصوفية فى ولاية البدوى فاثبتنا خروجها عن الإسلام وأفردنا لذلك بحثا كاملا عن عناصر تأليه البدوى وعبادته ، وكيف أضفوا على البدوى الصفات الالهية من الأسماء الحسنى والحياة الأزلية والتصريف بأنواعه فى الإنسان والحيوان والأرض والسماء والكون فى الدنيا والآخرة وكيف أسندوا له علم الغيب مع أنه لا يعلم الغيب إلا الله.
وعن عبادة البدوى تحدثنا عن قيامهم بالصلاة له ركوعاً وسجوداً وتوسلاً ودعاء ثم قصدوه بالحج واعتبروا ضريحه كالكعبة وأن عناصر الحج الإسلامى للكعبة قد توافرت بالكامل فى الحج للبدوى فى مولده.
ثم أشرنا إلى ما وقع فيه الأحمدية السطوحية من تفضيل للبدوى على الله تعالى وقد فصلنا الشرح فى هذا المنزلق الخطير ، وبعده عرضنا للانحلال الخلقى الذى نشره الصوفية الأحمدية فى موالدهم وكيف كانوا الرواد فى هذا المجال . وفى نهاية الفصل تحدثنا عن مسئولية البدوى فى هذا الانحراف ومبيناً أنه يتحمل المسئولية فيه أمام الله ، فالبدوى لم يعبد رغم أنفه وإنما كان داعية يجمع حوله الأتباع لهدف معين ويلقنهم أساس دعوته الشيعية الصوفية، والشيعة يؤمنون بعصمة الإمام وتقديسه والصوفية يؤلهون الولى، وبين أولئك وأولئك كان البدوى ، فإذا نجا من تهمة التشيع فلن ينجو من جريمة التصوف . ثم إن ما وصل إلينا من أشعار البدوى تفضح عقيدته بما أضفى على نفسه من خصوصيات إلهية لا يمكن أن يقولها مسلم ،بل إن المسلم منهي عن تزكية النفس بمجردالصلاح والتقوى،لا أن يعلن نفسه إلهاً متصرفاً فى ملكوت الله ويزعم أن الله تعالى هو الذى صرح له بهذا....
وفى هذا الفصل أخذنا بمنهج دارس العقيدة حيث الحقيقة مطلقة لا نسبية ،ومن منطلق التخفيف عن القارىء فقد جعلنا الأساس الذى نحاسب به الصوفية والبدوى هو كتاب عبد الصمد الأحمدى . ومن حسن حظهم أنه أكثر كتب المناقب اعتدالاً ، ثم هو مشهور منشور متدوال. بالأضافة إلى ترجمة البدوى فى الطبقات الكبرى للشعرانى وهو كتاب مشهور أيضا..ثم قارنا أقاويل الصوفية بكتاب الله العزيز وهو الحكم والفيصل فى الأمور العقائدية ، فظهر لنا إعجاز القرآن الكريم حيث أن القرآن الكريم سجل قبل عشرة قرون ما يقوله المشركون فى كل عصر وأوان فجاء الصوفية الأحمدية يكررون مقالة الشرك بعينها ويسجلون إعجازاً للقرآن الكريم وهو الحجة على المشركين فى كل عصر مهما تستروا وراء أسماء وألقاب من تصوف أو تشيع أو سنية أو نصرانية أو قبطية أويهودية..
الدراسات الحديثة عن البدوى:
ومع أن شهرة البدوى لا تزال قائمة فى عصرنا فإن حظه من البحث العلمى لا يعدل مكانتة فى أفئدة الناس ، وذلك بسبب غموض سيرته الحقيقة وحشوها بالكرامات التى تتطلب مناقشة علمية ، والمناقشة العلمية تتطلب بدورها جرأة وشجاعة على مواجهة أتباع البدوى ومحبيه، ثم إن البدوى على عظم مكانته فليس له مذهب صوفى معين كابن عربى أو ابن سبعين وهما من معاصريه ، فالبدوى شأن أصحاب التصوف العملى الطرقى ( نسبة إلى الطرق الصوفية ) يركز على التربية العملية دون الفلسفة النظرية ، زد على ذلك ما نذر نفسه له من هدف سياسى مستتر مع ثقافة ضحلة رشيقة..
والمهم أن البحوث الحديثة فى شخصية البدوى يمكن أن تنقسم إلى نوعين، شأن كل البحوث التى تتخذ التصوف مجالا ، فأما أن تجامله على طول الخط ، وهى بالعادة كتب الأتباع فى أشياخهم ، وهذه الكتب تقرأبالاعتقاد والتسليم ، أى ما على القارىء إلا أن يسلم بما فيها ويبتلع ما تحويهمن كرامات ومنامات ويجعل عقله تحت قدميه ، وغنى عن البيان أن تلك الكتب لا تسمى بحوثا من الناحية العلمية إلا تجاوزاً.
والاتجاه الآخر هو البحث المجرد بالعقل والمنطق ، وهو طريق صعب ولكن يهون الصعب فى رضا الله تعالى الذى يوصى باتباع الحق والصبر عليه (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3))..العصر
وقد بدأ اتجاه العقل والمنطق فيما كتبه الشيخ مصطفى عبد الرازق فى مجلة السياسة الأسبوعية عام 1927 تحت عنوان ( المولدان الأحمدي والدسوقي) وقد ذكر أنه رجع إلى مخطوطة مغربية ينكر صاحبها أن أحمد البدوى كان صوفيا فقط ويثبت أنه فى الحقيقة كان علوياً طموحاً يهدف لإرجاع الملك الفاطمى ، وكان المرحوم الشيخ مصطفى عبد الرازق يدرك تأثير هذه المقالات فلم يشأ أن يوقعها باسمه بل وقع تحتها بـ ( عالم كبير وكاتب معروف)..
وقد سار على نهجه الأستاذ محمد فهمى عبد اللطيف فى كتابه ( السيد البدوى ودولة الدراويش فى مصر ) سنة 1948 . فتابع ما ذكرته مجلة السياسة فى حركة البدوى السياسية وأضاف بعض المصادر الصوفية وألحق بعض الفصول عن الموالد الصوفية وأثر المتصوفة فى المجتمع المصرى ثقافياً ودينياً وفنياً. وكوفىء على كتابه القيم بالاتهام بالالحاد والمروق من خطيب الجامع الأحمدى بطنطا..
وظهر اتجاه متحفظ من بعض دارسى التاريخ كما فعل الأستاذ إبراهيم نور الدين فى كتابه ( حياة السيد البدوى بحث فى التاريخ والتصوف الإسلامى ) سنة 1950 وقد اعتمد على مصادر تاريخية وصوفية وحاول أن ينفى عن البدوى جهده السياسى . ثم جاء بعده الدكتور سعيد عبدالفتاح عاشور فى كتابه (السيد البدوى ) سنة 1967وقد كتب دراسة ممتعة عن شخصية البدوى فى اعتقاد مريدية وكيف أنهم وصلوا به للألوهية والتشبه بالرسول وقرر أن البدوى برئ من تلك المغالاة ،وكان مرجعه الأساسى كتب عبد الصمدى والخفاجى والشعرانى والحلبى ، ولأنه أهمل العامل السياسى فى تاريخ البدوى فقد أخفق فى تفسير السبب الحقيقى لرحلة البدوى للعراق أو لمصر ،ويبدو أنه تحرج من الايغال فى هذا الموضوع خوفا من نقمة البعض ،ومع ذلك فقد واجة هجوما صوفيا ، وإن كان ذلك لا ينقص من مكانته ومكانة أبحاثه.
ثم اضطر الصوفية المعاصرون للرد فكان أن كتب الشيخ احمد حجاب (العظة والاعتبار .آراء فى حياة السيد البدوى الدنيوية وحياتة البرزخية ) وقد بين أن السبب فى تأليفه هو الرد على كتاب (السيد البدوى ) للأستاذ (محمود أبو ريه )لأنه ينكر فيه على البدوى تلقيبه بالسيد ...إلخ[2] وقد بدأ كتاب الشيخ حجاب بصورة شخصية له يقول تحتها:
تأمل صورتى توحى بصدق بــأن الحق مشربها الصــريح
أقول الحق لا أبغى سواه ويملأ قلبى النصح الصحيح
وبعد أن وصف صورته ونعت نفسه بالصدق والصراحة وأسبغ على ذاته ما يريد من فضائل ـ كشأن الصوفية فى تزكية أنفسهم أفرد أكثر من صفحة يقدم فيها نفسه للقارئ باعتباره إبنا روحيا للبدوى ، ويقول فيها عن نفسه أنه لم يبارز ربه بمعصية واحدة [3].أى يصف نفسه بالعصمة الكاملة. وفى هذا الكتاب يدافع عن التصوف والموالد والأضرحة والتوسل ، ولم ينس أن يرصع كتابه بكرامات ذكر أنها وقعت له مع البدوى (أبوه الروحي) .
ثم عنّ للدكتور عبد الحليم محمود أن يضيف إلى تراثه الصوفي كتاباعن البدوي بدأه بأكذوبة كبرى وضعها في عنوان يقول (ليس للصوفية تاريخ شخصي )، وإذن فيم نسمي كتب المناقب التى تتعدد في ذكر محاسن شيخ صوفي بعينه تتبع حياته وتملأها كرامات ومنامات ،ثم يقول (ولم ابتدىء في كتابة شئ من الكتاب حتى ذهبت متعمدا إلى طنطا استأذن السيد في الكتابة عنه ، وفي المقصورة المباركة بدأت الكتابة [4])أى جاءه الإذن من القبر المقدس بالكتابة فكتب.وكتاب عبد الحليم محمود عن البدوي لا يختلف في شئ عن كتب الصوفية الأخرى ، يدور حول نفسه ينتقل من موضوع لم يكمل إلى موضوع آخر لم يتم ليسارع بتركه إلى تعليق فآخر ، يحاول بذلك كله أن يدافع ، وفي يقيني أنه أسوأ من يدافع عن الصوفية والتصوف.
وبعد
فهذه أهم الأبحاث والكتابات الحديثة عن شخصية البدوي. وقد وضح الاتجاه الذي يسير عليه هذا الكتاب (السيد البدوي بين الحقيقة والخرافة )، فهو يتابع الطريق العلمي الموضوعي أسوة بما كتبه الشيخ مصطفى عبدالرازق والأستاذ فهمى عبد اللطيف ، ثم يضيف فصلا كاملاً عن خرافة البدوي وكيف حوله التصوف الى إله ونشر تقديسه والحج إليه بين الناس طيلة ستة قرون ، وآن لنا بعدها أن نبدد تلك الخرافة بالحقيقة القرآنية والتاريخية.
ومن الطبيعي أن ما جاء بهذا الكتاب لن يعجب الكثيرين ممن يعيشون على أوهام الماضي ويحسبون الخرافة ديناً يجب التمسك به والدفاع عنه والحج إليه ، وأولئك لا أمل فى إقناعهم بأى دليل من قرآن أو تاريخ أو عقل ،ومع ذلك فلا نعلن عليهم حربا .فالإسلام كفل حرية العقيدة لكل إنسان (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ) وهم وما اختاروه لأنفسهم وآخرتهم ،وحسابنا وحسابهم عند ربنا يوم القيامة ،وسيحكم بيننا فيما نحن فيه مختلفون بشأن البدوى وغيره من الآلهة الأولياء.
لقد فعلنا ما في وسعنا فى هذا الكتاب،أوضحنا زيف المعتقدات وبطلان الخرافات بالأدلة والبرهان وبأسلوب الحكمة والموعظة الحسنة خدمة لدين الله تعالى وأملا فى أن تتخلص عقيدة المسلمين من شوائب التخريف والأباطيل. وبعدها ، لا يزال فى الصدر رحابة لتحمل الأذى وتقبل الشتائم والسباب ممن لا يعجبهم قول الحق ويعتبرون الحق ماساً بآلهتهم المعبودة.
ولا نملك فى نهاية الأمر إلا أن نقول لهم ما قالة خاتم الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام لقومه.
" اللهم اهد قومي فانهم لا يعلمون"