رقم ( 3 )
الباب التمهيدى : عن الدولة المملوكية ومؤرخيها وما قبل السلطان برسباى

مقدمة

يتناول هذا الباب التمهيدى لمحة عن الدولة المملوكية واهم مؤرخيها ، ثم يتعرض لتطبيق الشريعة الوهابية قبل عصر السلطان برسباى ، ثم لمحة عن برسباى قبل وصوله للسلطنة . 

مقالات متعلقة :

وهذا من خلال الفصول الآتية : 

الأول :( منهج المؤرخين  : التركيز على أكابر المجرمين واهمال المستضعفين ) 

الثانى :(  مؤرخو عصر برسباى )

الثالث : ( لمحة عن الدولة المملوكية ) 

الرابع :  ( قبل عصر برسباى : السلطان المؤيد شيخ وتطبيق شريعته السُّنّية )

الخامس : ( "برسباى " من طفولته في القوقاز الى أن صار أكبر أكابر المجرمين الذين يتصدرون العناوين )

 

الفصل الأول  : منهج المؤرخين  : التركيز على أكابر المجرمين واهمال المستضعفين  

أولا : 

1 ـ السوشيال ميديا إفتتحت عصرا جديدا في تاريخ البشرية ، عصر الناس العاديين الذين لم يكن يأبه بهم الإعلام في القرن العشرين ولم يكن يأبه بهم التأريخ في العصور الوسطى حيث ركّز المؤرخون على تسجيل أفعال أكابر المجرمين ، سواء في الحوليات التاريخية التي تتابع أعمالهم بالحول والسنة ، أو في التأريخ الخاص بالسلاطين والدول والأُسرات الحاكمة.   بل أجبرت السوشيال ميديا القنوات الفضائية على أن تنقل عنها ، تكتب ما يقوله الأشخاص العاديون تعليقا على حدث من الأحداث .

2 ـ  قبل ذلك لم يكن الشخص العادى شيئا مذكورا في كتابات المؤرخين ، إلا إذا وقع ضحية لأكابر المجرمين ، فيضطر المؤرخون أن يذكروه دون التصريح بإسمه . الأمثلة كثيرة في تاريخ السلوك للمقريزى ، وستأتى لاحقا ، ولكن نعطى أمثلة  : 

4 : وقام المؤرخ القاضي ابن الصيرفى بتسجيل عصر السلطان قايتباى. ابن الصيرفى هو تلميذ لابن حجر ، وكما كتب إبن حجر تاريخه ( إنباء الغُمر بأبناء العُمر ) كتب الصيرفى على منواله كتاب ( إنباء الهصر بأبناء العصر )، وتابع فيه الطريقة المعتادة في عدم ذكر الشخاص العاديين إلا إذا كانوا ضحية لأكابر المجرمين . يقول إبن الصيرفى :

4 / 1 :عن الأمير قانم نعجة ت 873 : ( كان من الأشرار الظلمة ، كثير الفسق والزنا ، وإن سكر عربد ، حتى أنه في بعض سكره عضّ أنف إنسان فأكله ، وأراح الله المسلمين منه ومن ظلمه وشؤمه وآذاه وافتراه ، وجعل الحميم مأواه.).

تعليق

 ذكر أحد أكابر المجرمين ، ولم يذكر إسم الضحية .

4 / 2 : في أحداث أول صفر 874": ( وفيه رسم السلطان ــ نصره الله ــ بشنق حرامى ، وهو مستحق لذلك ، فإنه سرق فقطعوا يده وأطلقوه ، فسرق ثانياً فقطعوا أرجله وأطلقوه ، فسرق ثالثاً فرُسم بشنقه ، فشنق . وقطعت يد صغير سرق وهو غير مكلف . ). 

تعليق 

1 ـ لم يسأل المؤرخ القاضي الصيرفى  عن حالة ذلك اللص المشنوق ، هل كان محتاجاً للسرقة أم لا، وكيف كان يعيش بعد أن قطعوا يده ورجليه. واضح أنه عضّه الجوع فاضطر للسرقة بعد أن فقد ثلاثة من أطرافه ولم تبق له إلا يد واحدة تناول بها ما يسد رمقه فجعلوه، سارقاً وشنقوه،  والذى أمر بشنقه هو السلطان قايتباى كبير أكابر المجرمين الذى كان يسرق الجميع ويبيح له شرعه السّنى قتل ثلث الرعية لاصلاح حال الثلثين ، وبالتالى فمن حقه قتل من يشاء حتى إذا اضطرهم الجوع للسرقة. 

2 ـ ونتوقّف مع قول إبن الصيرفى فى أحداث نفس اليوم : ( وقطعت يد صغير سرق وهو غير مكلف.)!! . لم يسأل مؤرخنا القاضى نفسه هل يجوز قطع يد صبي صغير حتى لو سرق ؟ وهل يجوز تطبيق الحدّ على غير المكلّف؟.!!. لم يسأل نفسه شيئاً، واكتفي بالدعاء للسلطان نصره الله.! لماذا لأن هذا المؤرخ القاضي من أكابر المجرمين .

4 / 3 : في أول محرم 875 ( ضرب الأمير اينال الأشقر غلاماً من غلمان أحد المماليك بسبب أنه سرق طائراً "أوزة" وعليقة شعير، فضربه اينال ضرباً مبرحاً ، ومثّل به،  فجعل في أنفه سهماً مثقوباً ، وأشهره بالمدينة.). 

تعليق

ما هو إسم الغلام ؟ لا نعرف . 

4/ 4 :  وفي يوم 28 جمادى الثانية 875 ( وجدوا نصرانياً مذبوحاً بطاحونة بباب البحر ، ولم يعرف له قاتل.) 

تعليق

عرفنا أنه نصرانى ، ولكن لا داعى لذك إسمه .!

4 / 5 : ( وفي يوم الثلاثاء أو الأربعاء 10 أو 11 شعبان 876 وجدوا شخصاً مسلوخ الوجه مقطوع الأنف بالقرب من باب الفتوح ، ولم يعرف له أقارب ولا قاتل ، وذهب دمه هدراً.)

4 / 6 : يوم السبت 16 ذى القعدة 876 :( ووجدوا قتيلاً بالصحراء ، فاعتقلوا الخفير المسئول عن "الدرك" وضربه ضرباً مبرحاً بالمقارع.)

تعليق

 لا نعرف إسم القتيل ولا إسم الخفير. 

4 / 7 في صفر 877 ( غرقت معدّية بنهر النيل ، فيها عدة أنفس من رجال وصبيان ونساء، وغرق فيها شخص من جماعة قاضى القضاة، قطب الدين الخيضرى أعزه الله .)ـ 

تعليق

ذكر ابن الصيرفى إسم واحد من أكابر المجرمين وهو قاضى القضاة الخيضرى ، أما بقية الغرقى فلا أسماء لهم حتى لو كان أحدهم من أتباع قاضى القضاة .! هو مجرد ( شخص )

4 / 8 : يوم الاثنين 20 صفر 877 شكوا تاجراً إلى الداودار الكبير يشبك من  مهدي أنه أخذ من التجار بضائع إلى أجل، وحين جاء الأجل رفض أن يدفع ما عليه بسبب ما عليه من ديون، فأمر الداودار بضربه، ولما ذاق الضرب المملوكي: ( صار يصرخ ويقول: ادفع الحق..) فأمر الداودار أن يعمل أجيرا في الحفير ويدفعوا أجرته لمن له في ذمته شيء).

تعليق

 من هو ذلك التاجر المفلس ؟ لا نعلم .

4 / 9 : ربيع الأول 877 : يقول الصيرفى : ( وفي هذه الأيام قبضوا على جمع كثير بالقاهرة من المنسين والفلاحين والأرياف وأودعوهم الحديد، ( أى إعتقلوهم بلا ذنب ) وأرسلوهم إلى المقر الأشرفي الأتابكي (أزبك) بسبب ما يعمّره من القناطر بالجيزة ) أى ليعملوا عنده فى مشروع فى منطقة الجيزة . يقول ابن الصيرفى : ( ويصرف لهم أجرتهم وافية، فإن هذا أمر مهم وفيه عمارة البلاد، وكلما زاد البحر أتلف ما صنعوه، ومقصودهم أن يؤسسوا ويبنوا على الأساس فإن الماء كلما بنوا شيئاً قلبه، وغرم السلطان على هذا البناء أموالاً عظيمة، وبلغنى أن في هذا البناء نحو ألفي رجل خارج عن مماليك المقر الأشرف الأتابكي، وفيه نحو مائتى معمار ومهندس. )، وقد احتاجوا للمزيد من الأيدى العاملة فلم يجدوها، ففكروا فى حيلة شيطانية ، يقول مؤرخنا : ( وإنهم احتاجوا مع ذلك إلى الرجال فدبروا حيلة. وسمّروا شخصاً ، ونادوا عليه ببولاق: " هذا جزاء من يقتل النفس التى حرمها الله "، فاجتمع الخلائق للتفرج عليه وصاروا خلفه ، فقبضوا عليهم ورموهم الحديد ، وجهزوهم إلى العمل . فهذه من العجائب. والسلام.).!.

تعليق

هذا المسكين لا نعرف إسمه ، وهو الذى سمّروه ، أى صلبوه بالمسامير على خشبة وطافوا به فى القاهرة بلا ذنب. هذا الضحية لم يستحق عبارة عزاء من القاضي المؤرخ إبن الصيرفى ، سوى أنه قال متعجبا ( فهذه من العجائب. والسلام.).! لماذا ؟ لأن الصيرفى المؤرخ القاضي ـ مثل شيخه ابن حجر ـ كان من جُملة أكابر المجرمين . 

ثانيا : 

1 ـ لم يكن المؤرخون يعرفون شيئا عن أولئك المماليك وهم في بلادهم قبل أن يؤتى بهم الى مصر . وحتى مع مجىء لمصر فلم يأبه بذكر أسمائهم المؤرخون إلا إذا دخل أحدهم  في دوّامة الترقّى والصراع على السلطة، وأصبح من أكابر المجرمين ، لأنه بهذا يعلو باسمه ووصفه الى السطح فيذكره المؤرخون . والأكثر إجراما بينهم هو الذى يتولى السلطنة، ويطوف به المؤرخون . وتبعا لأخبار السلطان أكبر أكابر المجرمين تأتى أخبار كبار أعوانه من الأمراء المماليك وكبار المباشرين ( الموظفين ) في الدواوين وفى المؤسسات الدينية والتعليمية والقضاء.   بقية الناس هم ضحايا مستضعفين ، خصوصا أهل الريف ، لا يتعطف عليهم المؤرخون الا بين السطور ، يذكرونهم بالوصف دون الاسم إذا جاءهم ( الشرف ) وتعرضوا للقتل أو التعذيب أو الموت بالوباء .  

ثالثا 

لماذا نقول هذا الكلام ؟ لأن التاريخ يعيش في أحضان الطُّغاة وأكابر المجرمين. هي حقيقة تنطبق على من يسمونهم بالخلفاء الراشدين ومن جاء بعدهم . هم أئمة أكابر المجرمين ، بل هم آلهة في أديان المحمديين ، و المشكلة التي تواجهنا أننا حين نناقش تاريخهم ـ الذى كتبه مؤرخون مؤمنون بهم ـ تنهال علينا اللعنات ، وهذا لا يهمنا . الذى يهمنا أن بعض السطحيين يرى أن الصحابة هم فقط من ذكرهم المؤرخون. هذا ناقشناه من قبل ، ونُعيد التذكير به ، ونقول: 

1 ـ هناك فارق بين منهج القصص القرآنى ومنهج التأريخ . لا بد للمؤرخ حين يذكر حدثا تاريخيا أن يحدد الزمان والمكان وأسماء أبطال الحدث . ولكن المؤرخين المحمديين إلتزموا بتحديد الزمان والمكان وأسماء أكابر المجرمين وأعوانهم فقط . 2 ـ منهج القصص القرآنى يركّز على العبرة لأن القرآن الكريم كتاب هداية وليس كتاب تاريخ . لذا لم يأت إهتمام بالمكان أو الزمان أو أسماء الأشخاص . يقول جل وعلا : 

2 / 1 : ( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) يس ). ليس هنا تحديد للزمان ولا لمكان القرية أو إسمها ، ولا ذكر للرسل الثلاثة . 

2 / 2 : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ..)(246) البقرة ). وذكر رب العزة جل وعلا تفاصيل القصة، وليس فيها إسم النبى ولا مكان الأحداث .

2 / 3 : ( قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) البروج  ) ، ليس مذكورا أسماء أكابر المجرمين ولا الضحايا ولا الزمان ولا المكان  ـ 

3 ـ بالنسبة لما يُطلق عليهم الصحابة : 

3 / 1 : ذكر الله جل وعلا أعظم الصحابة المؤمنين بالوصف دون الإسم ، وبالتالي فأسماؤهم غيب بالنسبة لنا . قال جل وعلا : 

3 / 1 / 1 : ( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَكَ ) (20) المزمل )

3 / 1 / 2 : ( لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (9) الحشر ) 

3 / 1 / 3 : (  مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) الاحزاب ) 

3 / 1 / 4 : ( لَكِنْ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) التوبة ). 

4 ـ وذكر الله جل وعلا مواقف المنافقين الظاهرين بالوصف؛ ما قالوه وما فعلوه وحتى مشاعرهم ولكن دون ذكر لأسمائهم ، وجاء هذا في سور الحشر والأحزاب والبقرة والنساء وآل عمران والمنافقون والمائدة.

5 ـ وتعرضت سورة التوبة للكثير من التفصيلات ، كانت مسحا لسكان المدينة ومن حولها من الأعراب من حيث درجات الايمان . على سبيل المثال :

5 / 1 :  ( وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمْ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمْ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102 ) التوبة ) 

5 / 2 : (  وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) التوبة )  .

6 ـ كان أخطر المنافقين أولئك الذين مردوا على النفاق ، إلتصقوا بالنبى محمد عليه السلام محافظين على نفاقهم في أعماق أعماقهم ، ثم تولوا الأمر بعده خلفاء، وأظهروا حقيقتهم أكبر أكابر المجرمين .

7 ـ  في سلطانهم توارى الصحابة الحقيقيون وابتعدوا عن المشاركة في جرائم الفتوحات لأنهم كانوا متقين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا ، قال الله جل وعلا في شأنهم ( تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) القصص ) . لذا لم يذكرهم التاريخ ، ولا نعرف عنهم شيئا ، والكلام عنهم انتهاك للغيبيات .

8 . الخلفاء الفاسقون من أبى بكر وعمر ومن تلاهم علوا في الأرض إجراما وفسادا ، ففرضوا أنفسهم على التاريخ العالمى ، لأن التاريخ يسجل فقط أعمال أكابر المجرمين ، لا فارق بين أبى بكر الزنديق والسلطان برسباى .!



المؤرخ القاضي ابن حجر العسقلانى الذى كان من أكابر المجرمين المفسدين  

الباب التمهيدى : عن الدولة المملوكية ومؤرخيها وما قبل السلطان برسباى  

الفصل الثانى :(  مؤرخو عصر برسباى )

ملاحظة 

1 ـ هذا الفصل يمكن أن يكون أساسا لبحث الدكتوراة لأى باحث مجتهد ، يمكنه أن يبنى على هذا الفصل في عقد مقارنة بين المؤرخين الثلاثة في السنوات التي قاموا بالتأريخ لها من واقع المشاهدة والمعاصرة . وقد يصل بالبحث الى تأثر المؤرخين اللاحقين من الجيل التالى بهم : السخاوى و الصيرفى وابن اياس . 

2 ـ ندخل في موضوعنا .

المؤرخ القاضي ابن حجر العسقلانى الذى كان من أكابر المجرمين المفسدين ( 1 من 2 )

 مقدمة

شهد عصر السلطان برسباى ثلاثة من أشهر مؤرخى مصر العصور الوسطى ، أعظمهم المقريزى ، وعاصره ابن حجر وأبو المحاسن ابن تغرى بردى . نبدأ بابن حجر ثم أبى المحاسن يوسف جمال الدين بن تغرى بردى المملوكى ، وكانا من أكابر المجرمين . وننتهى بالمقريزى ، أعظم مؤرخى العصور الوسطى في التاريخ العربى . ولم يكن من المجرمين .    

 (ابن حجرالعسقلانى) (773-852  ). مؤرخ من أكابر المجرمين المفسدين 

لمحة عن ابن حجر

  تقلب إبن حجر في مناصب القضاء ( قاضى قضاة الشافعية ) ، وكان يتولاه ثم يُعزل عنه طبقا لسياسة المماليك في العزل والتولية لأن المعتاد وقتها تقديم رشوة ، أو شراء المنصب . لم يكن هذا عارا ، بل كان شريعة معروفة حتى لقد أنشأ المماليك جهازا مختصا بذلك هو ( ديوان البذل والبرطلة ) . تولى القضاء 21 سنة في مرات عديدة من عام 827 الى قبيل موته أي عام 852 . وتولى ابن حجر الإفتاء واشتغل في دار العدل ، وبسبب صلته بأكابر المجرمين أسندوا اليه وظيفة التدريس في المدارس الشيخونية والمحمودية والحسنية والبيبرسية والفخرية والصلاحية والمؤيدية ومدرسة جمال الدين الأستادار وبالمدرسة الجمالية  والمنكوتمرية وبالخانقاه البيبرسية ، بالإضافة الى نظر الأوقاف ، أو الاشراف على مؤسسات الوقف ، وكانت مغارة ( على بابا ) في السرقات .  وتولى الخطابة في جوامع كثيرة ، أشهرها الجامع الأزهر وجامع عمرو بن العاص ، وبالجامع الأموى في دمشق . والأهم من هذا كان يخطب بالسلطان في جامع القلعة ( مركز الحكم المملوكى ). وتوثقت صلته بالسلاطين ، يحضر مجالسهم ، ومنهم السلطان برسباى الذى نعرض له هنا ، فكان في صحبة برسباى في حملته العسكرية حين سافر الى ( آمد ) . مع كل هذا الانشغال فقد بلغت مؤلفاته حوالى 55 كتابا . لم يجد وقتا للتفكير الابداعى ، ولكن وجد وقتا لتلخيص أو شرح أو التعليق على ما كتبه السابقون . كان القرن التاسع هو عصر الكثرة الكاثرة من التلاميذ الذين لا يجيدون سوى الرقص على أنغام السابقين . ظهر ابن تيمية وابن القيم في القرن السابق لابن حجر ببعض تجديد ، فرفضهما العصر ، واستراح لأمثال ابن حجر ، فنبغ فيه ابن حجر . خصوصا وقد كان ضمن أكابر المجرمين تابعا للسلاطين .  

شُهرة ابن حجر ليست في كتاباته التاريخية بل في كتاباته في الدين السُنّى 

1 ـ شهرة ابن حجر لم تكن في التاريخ ، وإنما كانت في هجص الدين السُنّى من ( الحديث ). واشهر أعماله ( فتح البارى في شرح صحيح البخارى )، لم يأت فيه  ابن حجر بأى جديد ، لم يناقش صحة أي حديث من أحاديث البخارى ، بل إنه لم يتعرض لموضوع الأحاديث المصنوعة الموضوعة ، وقد تعرض لها من قبل ابن الجوزى المتوفى عام 597 ، ثم ابن تيمية المتوفى عام 728 ،  وابن القيم الجوزية المتوفى 751  قبل ابن حجر بقرن من الزمان . ومع هذا فان شهرة ابن حجر ذاعت وحاز لقب ( أمير المؤمنين في الحديث ) ، وذاعت أنباء تأليفه شرح البخارى . ولم يكن يدانيه في الشهرة وقتها سوى كتاب المقريزى ( السلوك ).

2 ـ وقت تأليفه كتاب (فتح البارى ) وصلت شهرته لسلطان المشرق شاه رخ ، ووصلت اليه أيضا شهرة كتاب ( السلوك ) للمقريزى ، وكان لا يزال في طور التأليف أيضا ، فبعث هذا السلطان يطلب نسخة من الكتابين .

2 / 1 : ، وسجّل المقريزى هذا في أحداث عام 833 ، فقال : (  وفي رابع عشرينه‏:‏ ( محرم 833 ) قدم رسول ملك المشرق - شاه رخ بن تيمور - بكتابه يطلب فيه شرح البخاري للحافظ قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن حجر ، وتاريخي ( السلوك لدول الملوك ) ويعرض فيه بأنه يريد أن يكسو الكعبة ويجري العين بمكة‏. ). 

2 / 2 : وذكر المؤرخ أبو المحاسن نفس الخبر عن كتابى ( السلوك ) و ( فتح البارى ) فقال : ( الأحد رابع عشرين المحرم سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة، قدم إلى القاهرة رسول ملك الشرق شاه رخ بن تيمورلنك بكتابه يطلب فيه شرح البخاري للحافظ شهاب الدين أحمد بن حجر وتاريخ الشيخ تقي الدين المقريزي المسمى بالسلوك لدول الملوك ، ويعرض أيضًا في كتابه بأنه يريد أن يكسو الكعبة ويجري العين بمكة ، فلم يلتفت السلطان إلى كتابه ولا إلى رسوله وكتب له بالمنع في كل ما طلبه‏.).

2 / 3 : أما ابن حجر المهووس بنفسه فذكر الخبر في تاريخه ( إنباء الغمر ) عن كتابه فقط  دون ذكر لكتاب ( السلوك )  ، فقال : ( وفيها ورد كتاب ملك الشرق شاه رخ يستدعى من الأشرف ( السلطان الأشرف برسباى ) هدايا منها فتح البارى ، فجهزت له ثلاث مجلدات من أوائل الكتاب ، ثم عاد الطلب في سنة تسع وثلاثين ، فلم يتفق تتمة الكتاب ) .  

بين ابن حجر والمقريزى 

1 ـ مقابل هذا التجاهل نجد المقريزى يشيد بابن حجر في التأليف في الدين السُنّى ، حتى في مجال الإشارة اليه في ثنايا الوظائف . 

1 / 1 : يقول في معرض المناصب لعام 840 :  ( وقاضى القضاة الشافعي الحافظ شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن على ابن حجر، وإليه المرجع في عامة الأمور الشرعية ، لسعة علمه وكثرة اطلاعه ، لاسيما علم الحديث ومعرفة السنن والآثار ، فإنه أعرف الناس بها ، فيما نعلم‏.  ) . 

1 / 2 : بل وجعله ( شيخ الإسلام ) وذكر الحفلات التي أقامها ابن حجر تكريما لنفسه بمناسبة الانتهاء من كتابه ( فتح البارى ) . ذكر المقريزى هذا في تاريخه السلوك كأحد الأخبار الهامة مع وصف تفصيلى ، فقال : ( وفي يوم السبت ثامنه، جمع الحافظ قاضي القضاة شهاب الدين شيخ الإسلام أبو الفضل أحمد بن حجر، أعيان الدولة، وفيهم المقام الناصري محمد ولد السلطان وغيره من الأمراء، وكاتب السر، وناظر الجيش، والوزير وناظر الجيش، والقضاة وشيوخ العلم في عامة طلبة العلم وغيرهم، فاجتمعوا بأعلا الخمس الوجوه من أرض التاج خارج القاهرة .  وكان الوقت شتاء والأرض مخضرة بأنواع الزراعات، والخيول على مرابط ربيعها، وقدم لهم من أنواع الحلاوات وألوان الأطعمة الفاخرة ما يجل وصفه ويكثر مقداره، وقد أكمل تصنيف كتاب فتح الباري بشرح صحيح البخار في عشرين مجلدة، ثم قرىء من آخره مجلس خفيف، وقام بعده ختمه الشعراء، فقرأ عدة منهم قصائد في مدحه، هذا وقد اجتمع بهذه المنظرة وحولها من أسفلها عالم كبير من الرحال وغيرهم، ونصبت هناك سوق، وضربت خيام عديدة، فكان من الأيام المذكورة التي لم نعهد في معناه مثله، أنفق فيه مال جزيل على ما تقدم من المال، وما أجيز به الشعراء في هذا اليوم . ) . ثم عقد ابن حجر حفل تكريم آخر لنفسه في اليوم التالى في خانقاه بيبرس . ذكره المقريزى فقال : ( وفي يوم آخر بعده: إجتمعوا فيه بخانكاة بيبرس من القاهرة، قام فيه شعراء أخر بمدائحهم، فأجيزوا بجوائز سنية عديدة، وفرق أيضًا مال جم في جماعة كثيرة، كتبوا هذا الشرح، والحافظ المشار إليه يمليه عليهم بهذه الخانكاة، حتى أكملوا نسخه في أعوام، فكان هذا من المآثر السنية، والفضائل الجليلة التي زادت في رفعته . ) . أي يصفه المقريزى بالرفعة والفضائل الجليلة . 

2 ـ وكان متوقعا أن تتعاظم إشادة المقريزى بابن حجر ، لو مات ابن حجر في حياة المقريزى ، ولكن المقريزى مات عام 845  في حياة ابن حجر الذى توفى عام 852 .  وفى كتابه ( إنباء الغُمر ) ذكر ابن حجر وفاة المقريزى في وفيات عام 845 ،  فقال عن نشأة المقريزى : ( وكان مولد تقي الدين في سنة ست وستين وسبعمائة، ونشأ نشأة حسنة، وحفظ كتابا في مذهب أبي حنيفة تبعا لجده لأمه الشيخ شمس الدين بن الصائغ الأديب المشهور، ثم لما ترعرع وجاوز العشرين ومات أبوه سنة ست وثمانين تحول شافعيا، وأحب إتباع الحديث ، فواظب على ذلك حتى كان يتهم بمذهب ابن حزم ، ولكنه كان لا يعرف به، ونظر في عدة فنون، وأولع بالتاريخ فجمع منه شيئا كثيرا وصنف فيه كتبا، وسمع من شيوخنا وممن قبلهم قليلا كالطبردار وحدث ببعض مسموعاته، وكان لكثرة ولعه بالتاريخ يحفظ كثيرا منه، وكان إماما بارعا مفننا متقنا ضابطا دينا خيرا، محبا لأهل السنة يميل إلى الحديث والعمل به حتى نسب إلى الظاهر - حسن الصحبة، حلو المحاضرة، وحج كثيرا وجاور مرات. ). هنا لم يُعط ابن حجر المقريزى حقه كأعظم مؤرخ في العصور الوسطى . 

3 ـ هذا مع إن ابن حجر كان ينقل عن المقريزى بعض كتاباته وبعض أقواله . عاشا في عصر واحد ، وكتبا يؤرّخان لعصرهما ، ولم ينقل المقريزى عن ابن حجر ، بينما كان ابن حجر ينقل عن المقريزى تبعا لعادة ابن حجر في النقل عن الآخرين حتى لو كانوا من أبناء عصره . ومع ذلك فحينما كتب عنه في الوفيات لم يعطه حقه . وننقل بعض ما اعترف بنقله عن المقريزى في تاريخه ( إنباء الغمر ) . قال : 

3 / 1 : (  محمد بن محمد .. الدمراني الهندي محب الدين الحنفي قدم مكة قديما، وسمع من العز بن جماعة وهو عالم بارع، وكان يعتمر في كل يوم ويقرأ كل يوم ختمة، ويكتب العلم ولكنه كان شديد العصبية، يقع في الشافعي ويرى ذلك عبادة، نقلت ذلك من خط الشيخ تقي الدين المقريزي. ) 

3 / 2 : ( ... قال الشيخ تقي الدين المقريزي: كان أبوه وعمه عبد الجليل مشهورين بالعلم والفقه والدين فاقتدى بهما وأربى عليهما، قال: وكان سمحا كريما حسن الملتقى، جميل المحيا، وكان يتعصب لابن تيمية.)

3 / 3 : (  علي بن عبد الواحد .. رئيس الأطباء بالديار المصرية .. قرأت بخط الشيخ تقي الدين المقريزي: كان يصف الدواء للموسر بأربعين ألفا ويصف الدواء في ذلك الداء بعينه للمعسر بفلس، قال: وكنت عنده فدخل عليه رجل شيخ فشكا شدة ما به من السعال فقال له: لعلك تنام بلا سراويل? قال: إي والله قال: فلا تفعل، ثم بسراويلك، فمضى، قال: فصادفت ذلك الشيخ بعد أيام فسألته عن حاله، فقال لي: عملت ما قال لي فبرئت، قال: وكان لنا جار حدث لابنه رعاف حتى أفرط فانحلت قوى الصغير، فقال له: شرط أذنيه، فتعجب وتوقف، فقال: توكل على الله وافعل، ففعل ذلك فبرأ، قال: وله من هذا النمط أشياء عجيبة.  )

3 / 4 : ( ...  وذكر لي الشيخ تقي الدين المقريزي أنه حلف له أنه في طول ولايته القضاء بالكرك والديار المصرية ما تناول رشوة ولا تعمد حكما باطلا رحمه الله تعالى.  )

3 / 5 : (  حسن بن علي بن أحمد الكجكني .. نائب السلطنة بالكرك .. قال الشيخ تقي الدين المقريزي: كان تام المعرفة بالخيل وجوارح الطير محبا لأهل السنة عاقلا مزاحا.  )

3 / 6 : (  شيخ الخاصكي  .. قرأت بخط المقريزي: كان بارع الجمال فائق الحسن لديه معرفة وفيه حشمة ومحبة للعلماء وفهم جيد، تائها صلفا معجبا منهمكا في اللذات، توجه إلى الكرك فمات في أوائل السنة. )

3 / 7 : (  عبد الرحمن بن عبد الكافي .. مؤذن الركاب السلطاني،  ... كان يجالس الملك الظاهر فاتفق أن جمال الدين لما كان ناظر الجيش أنف أن يجلس دونه فذكر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم فعتبه على ذلك، قرأت ذلك بخط الشيخ تقي الدين المقريزي . ).

3 / 8 : (  علي بن عمر بن سليمان الخوارزمي  .. وقرأت بخط الشيخ تقي الدين المقريزي أن المذكور باشر شد الأقصر لبعض الأمراء فذكر أن مساحتها أربعة وعشرون ألف فدان، وأنه لما باشرها في سنة إحدى وتسعين لم يكن يزرع بها إلا نحو ألف فدان وباقيها خرس وبور.. )

3 / 9 : (  وفيها على ما قرأت بخط الشيخ تقي الدين المقريزي أنه بلغه في مجاورته بمكة هذه السنة أن أندراس الحطي صاحب مملكة الحبشة الكفرة مات في الطاعون العظيم الذي وقع في بلاد الحبشة حتى مات بسببه من لا يحصى من المسلمين والنصارى، وأقيم بعده ولد له صغير...) .


رأى المؤرخ أبى المحاسن في ابن حجر  

1 ـ  ذكره أبو المحاسن في تاريخه ( النجوم الزاهرة ) في وفيات عام 852 ، وقال عنه : ( وتوفي قاضي القضاة شيخ الإسلام حافظ المشرق والمغرب أمير المؤمنين في الحديث شهاب الدين أبو الفضل أحمد ابن الشيخ نور الدين علي بن محمد محمد بن علي بن أحمد بن حجر المصري المولد والمنشأ والدار والوفاة العسقلاني الأصل الشافعي . قاضي قضاة الديار المصرية وعالمها وحافظها وشاعرها ، في ليلة السبت ثامن عشرين ذي الحجة وصلي عليه بمصلاة المؤمني ، وحضر السلطان الصلاة عليه ودفن بالقرافة‏.‏ ومشى أعيان الدولة في جنازته من داره بالقاهرة من باب القنطرة إلى الرملة ، وكانت جنازته مشهودة إلى الغاية ، حتى قال بعض الأذكياء إنه حزر من مشى في جنازته نحو الخمسين ألف إنسان‏.‏ وكان لموته يوم عظيم على المسلمين ، ومات ولم يخلف بعد مثله شرقًا ولا غربًا ، ولا نظر هو مثل نفسه في علم الحديث‏.‏ وكان مولده بمصر القديمة في ثاني عشرين شعبان سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة، وقد أوضحنا أمره في ترجمته في ‏"‏ المنهل الصافي ‏"‏ من ذكر سماعاته ومشايخه وأسماء مصنفاته‏.‏ وكان رحمه الله تعالى إمامًا عالمًا حافظًا شاعرًا أديبًا مصنفًا مليح الشكل منور الشيبة حلو المحاضرة إلى الغاية والنهاية عذب المذاكرة مع وقار وأبهة وعقل وسكون وحلم وسياسة ودربة بالأحكام ومداراة الناس ‏.‏ قل أن كان يخاطب الرجل بما يكره ، بل كان يحسن إلى من يسيء إليه ، ويتجاوز عمن قدر عليه ، هذا مع كثرة الصوم ولزوم العبادة والبر والصدقات . وبالجملة فإنه أحد من أدركنا من الأفراد‏.‏ ولم يكن فيه ما يُعاب إلا تقريبه لولده ، لجهل كان في ولده ، وسوء سيرته .. ).

تعليق

  نلاحظ أن أبا المحاسن أسهب في مناقب ابن حجر ، وأشار الى فساده في جملة وحيدة تكفى للإطاحة بكل هذه الفضائل ، هي قوله : ( ولم يكن فيه ما يُعاب إلا تقريبه لولده ، لجهل كان في ولده، وسوء سيرته ). أي لم يؤدب ولده فنشأ جاهلا سىء السيرة ، ومع ذلك استخدم ابن حجر نفوذه في حصول ابنه على وظائف بلا استحقاق . 

2 ـ جدير بالذكر أن المقريزى ذكر أخبارا فيها إدانة لابن حجر وفساده ، ولم يتعرض له بالنقد ، مثلما قال أبو المحاسن آنفا .  ونفهم مما ذكره المقريزى في ( السلوك ) في أخبار شهر ربيع الأول، عام 841 أن القاضي محمد بدر الدين إبن قاضى القضاة ابن حجر العسقلانى تولى بالواسطة والمحسوبية ناظرا للجامع الطولونى . قال : ( فيه إستقر القاضى بدر الدين محمد ابن قاضى القضاة شيخ الإسلام شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن حجر في نظر الجامع الطولونى ونظر المدرسة بين القصرين، نيابة عن قاضى القضاة علم الدين صالح بن البلقينى، بسؤال القاضى زين الدين عبد الباسط له في ذلك، فأذن له حتى إستنابه عنه. ). 

تعليق 

1 ـ أي إن شهاب الدين إبن حجر ( أمير المؤمنين في الحديث ) لم يكن فقط يتولى القضاء بالرشوة بل كان أيضا يستخدم نفوذه لصالح أبنه بدر الدين الذى جعله نائبا، أي قاضيا يتبع أباه قاضى القضاة الشافعى . وإستخدم نفوذه أيضا في تعيين نفس الإبن الجاهل الفاسد ناظرا ( أي مديرا ) للجامع الطولونى ( جامع أحمد بن طولون ) وناظرا لمدرسة بين القصرين ، وذلك باذن من ناظر الجيش القاضي زين الدين عبد الباسط ، وكان صاحب نفوذ هائل في سلطنة الأشرف برسباى . كانت الوظائف الكبرى ( دينية وديوانية ) تكون بالشراء ، وبالوراثة أيضا . ويتولى المنصب من ليس مؤهلا له سوى أن معه مالا ، أو كان ابنا لأحد الشيوخ ، أو هما معا . كان قضاة القضاة أفسد الناس في العصر ، وكان أفسدهم وأشهرهم ابن حجر .

2 ـ ونلاحظ أن المقريزى لم يعلق منتقدا ابن حجر بشخصه ، كان ينتقد فساد القُضاة عموما في مواضع كثيرة في السلوك ، دون أن يذكر اسم ابن حجر ، مع ورود إسم ابن حجر أحيانا في الخبر . 

ابن حجر مؤرخا 

 لابن حجر فى مجال التاريخ : 

  1 : ( رفع الأصر عن قضاة مصر )، نقل فيه ما قيل عن قضاة مصر ، من مؤلفات السابقين .

  2 : ( الإصابة في تمييز الصحابة ) ، نقل ما قاله المؤرخون السابقون عن الصحابة من محمد بن سعد في ( الطبقات الكبرى ) و ما كتبه ابن الأثير في ( أُسد الغابة في معرفة الصحابة ) وغيرهم .

 3 ـ وفى تاريخ العصر المملوكى كتب :( الدرر الكامنة فى أعيان المائة الثامنة.) فى أربعة أجزاء ، وفيه نقل عن مؤرخى القرن الثامن الهجرى .

4 ـ  وقام بنفسه بالتذييل عليه بعنوان في كتاب مختصر بعنوان : ( تاريخ المائة التاسعة أو ذيل الدرر الكامنة)، وهناك نسخة خطية لهذا الكتاب فى دار الكتب المصرية بقلم ابن حجر نفسه،  وفى فترة اعدادى لرسالة الدكتوراة بين عامي ( 1976 : 1977 ) عن أثر التصوف في العصر المملوكى عثرت علي هذه النسخة وتأكدت من أنها بخط ابن حجر نفسه بالتعليقات والتعديلات والتشطيبات والملاحظات والحديث عن نفسه . وكانت صعبة القراءة جدا ، ولكن لأنها تأريخ معاصر للقرن التاسع الهجرى فقد نقل عنها بعض المؤرخين .  

5 ـ ولكن اشهر كتبه في التاريخ : ( إنباء الغمر بأبناء العمر) الذى يؤرخ فيه لعصره من سنة ميلاده 773 الى 850  قبيل وفاته.  وهو الذى يعنينا هنا . 

 

ابن حجر في تاريخه ( إنباء الغمر ) 

1 ـ قال في مقدمة كتابه ( إنباء الغمر بأبناء العُمر ):  ( أما بعد ، فيقول العبد الضعيف أحمد ابن على بن محمد بن على بن أحمد بن محمود بن أحمد بن حجر،  العسقلانى الأصل ، المصرى المولد ، القاهرى الدار : هذا تعليق جمعت فيه حوادث الزمان الذى أدركته منذ مولدى سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة ، وهلم جرا مفصلا فى كل سنة ..) وقد أرّخ من عام 773 حتى عام 850 ، أى قبل وفاته بعامين ، وقد توفى عام ( 852 هجرية /1449 ميلادية  ).  وفى كتابه هذا ـ الذى أرّخ فيه لسنوات حياته ـ  كان ابن حجر يسجل أحداث عصره في سنوات نشأته نقلا عن السابقين ، ثم بعدها أصبح يكتب من واقع المشاهدة والمعاصرة.

ابن حجر مؤرخا من أكابر المجرمين متعاليا على الناس 

1 ـ كان مفترضا فيه كعالم وفقيه وقاض أن يتحرى العدل فى تأريخه لعصره فينال العوام بعض اهتمامه حيث يشملهم عنوان تاريخه الذى يقول ( إنباء الغمر بأبناء العمر ) وقد كان العوام الذين عاصروه ضمن أبناء عمره أيضا، ولكنه سار على طريقة أكابر المجرمين فى التعالى على المستضعفين ، ولذا ولّى وجهه نحو السلطان ومن حوله . 

2 ـ بل إنه تعاليه يظهر في أنه إختار عنوانا غريبا ومستفزّا لكتابه ( إنباء الغُمر بأبناء العمر ) ، جعل  سنوات عُمره مدار التاريخ ، ثم  يصف فيه غيره ب ( الغُمر ). و( الغُمر ) هو الشخص الساذج الذى لا خبرة له . 

نماذج من كتاباته التاريخية في ( إنباء الغُمر .. )

1 ـ يقول ابن حجر في أحداث سنة 826: ( وفي هذه السنة وجد قتيل بقرية فأمسك الوالي أهل تلك البلاد ولا يدري هل القاتل منهم أم لا. فأمر السلطان بقطع أيدي بعضهم ، وآناف بعضهم ، وتوسيط بعضهم ).

تعليق 

1 ـ  أي بسبب العجز عن معرفة القاتل أمر السلطان بعقاب من يشك فى ضلوعهم فى الجريمة ، بقطع بعضهم نصفين بالسيف ( التوسيط ) ، وقطع أنوف البعض الآخر ، وأيدى الاخرين ، كيفما اتفق ، مع معرفته بأن بعضهم برىء لا ذنب له . السلطان فعل هذا تحت اسم الشريعة التي كان يمثلها ابن حجر باعتباره أكبر قاض للقضاة في عصره . ابن حجر هنا هو المؤرخ الذي يسجل الحادث ، وهو الذى يعمل قاضيا للقضاة، وقد عاصر هذه الحادثة ، وكان مفروضا أن يحتج على ظلم الأبرياء هنا ، أو حتى يعلق كمؤرخ برأيه مستنكرا ، كما كان يفعل المقريزى أحيانا ، ولكنه لم يفعل. بل إنه استعمل منهج التعالى فى ذكره لتلك الحادثة التاريخية. وجعل البطولة للسلطان الأشرف برسباي، أما الضحايا الأبرياء فقد استحقوا شرف التسجيل في سطرين فقط لا غير في كتابه الذى يحمل عنوان ( إنباء الغُمر بأبناء العُمر ).  بالتالى فلم يعتبر المستضعفين المصريون المظاليم من أبناء عُمره. أبناء عُمر هذا المؤرخ القاضي هم أكابر المجرمين الذين يطوف حولهم  في كتاباته التاريخية مؤرخا ، ويحكم بشريعتهم السُّنية قاضيا . وهذا متسق مع شريعة ابن حجر السُنّية التي تجعل الحاكم يملك الأرض ومن عليها ، وأن الشعب هم ( الرعية ) أي الأنعام ، وهو الراعى  المالك للانعام ، ومن حقه أن يذبح منها ما يشاء ويستبقى ويستثمر منها ما يشاء ، وأن من حق الامام ( أي الحاكم ) أن يقتل ثُلث الرعية لاصلاح حال الثلثين . لذا فمن العادى جدا والمُباح شرعا للسلطان برسباى أن يحكم بتوسيط وقطع أيدى وأنوف بعض الفلاحين ، ليس مهما إن كانوا أبرياء ، فلا قيمة لهم عند ابن حجر العسقلانى قاضيا ومؤرخا . 

2 ـ وقد كان الفلاحون المصريون يتعرضون لأشد العقوبات من الكاشف المملوكى فى الريف دون أن يصل صراخهم الى القضاة والمؤرخين فى القاهرة ، وحتى لو وصل صراخهم الى أولئك القضاة والمؤرخين ما اهتموا ، لأن بؤرة اهتمامهم هو فى التنافس على خدمة السلطان الذى يملك الأرض ومن عليها ، وهم حاشيته طبقا لمعادلة الاستبداد والكهنوت. لذلك فان القاضي الذى يعمل مؤرخا لا يبالى بملايين الفلاحين والصناع والحرفيين والحرافيش إذا ماتوا تحت العذاب ، فهذا خبر عادى يحدث كل يوم وفق تطبيق الشريعة السُّنّية فى العصر المملوكى . ولأن موتهم أو تعذيبهم ليس من الأخبار الهامة ، فلا أكثر من ايراد الخبر بلا تفصيلات مع اسناد البطولة لأكابر المجرمين . وهنا نرى ابن حجر يكتب بكل صلافة وغطرسة وبغير مبالاة : ( وفي هذه السنة وجد قتيل بقرية فأمسك الوالي أهل تلك البلاد ) ، لم يذكر وقت الحادثة باليوم والشهر كما يحدث في تسجيل أخبار أكابر المجرمين ، ولم يذكر إسم القرية ولا إسم القتيل ولا عدد ولا أسماء الضحايا ، ومن منهم قطعوه نصفين ، ومن منهم قطعوا أنفه ، ومن منهم قطعوا يده .  أى يتحدث المؤرخ القاضي ابن حجر كما لو كانوا حيوانات أو من بلاد الواق واق ، وليس قرية مصرية حظيت باهتمام السلطان نفسه .

 2 ـ  يقول في أخبار شهر شوال عام 841 : ( شوال : أوله الخميس .. وفشا الطاعون فزاد على المائة ، وصلينا فى الجامع الحاكمى بعد الجمعة على خمسة أنفس جملة . وكان أول ما إشتد فى نواحى الجامع الطولونى ، ثم فى الصليبة ، ثم فشا فى القاهرة ولله الأمر . ثم بلغ المائتين فى العشر الأول منه كل يوم ، ثم فى العشر الأوسط الى ثلثمائة. ) ( وفى النصف منه توجهت ليلى لزيارة أهلها بحلب ، فأكملت فى عصمتى خمس سنين سواء ، ووقعت الفرقة ، وعادت فى رجب ثم أعيدت الى العصمة. ) 

تعليق : 

 في حديثه عن الطاعون وقتها لم يذكر التفصيلات التي ذكرها المقريزى في ( السلوك ) في أحداث نفس الشهر . ولكنه فيما يخصُّ زوجته ( ليلى ) ذكر تفصيلات عن علاقاتهما المتقلبة بين زواج وطلاق فيما بين حلب والقاهرة . ولا ننسى أن المستضعفين الذىن أشار اليهم باختصار واستعلاء كانت لهم أزواج وذرية، لكنهم لم يكونوا من أكابر المجرمين .

إبن حجر يدافع عن فساده في تاريخه ( إنباء الغُمر ) 

 تجلّى فساد القضاة الأربعة الكبار في دفع الرشوة لتولى المنصب ، وفى أخذ الرشوة في تولى القضاة التابعين لهم وفى تعيين أولادهم في المناصب بالواسطة ، ولكن أكبر فسادهم كان في تحكمهم في إدارة المؤسسات الدينية وأوقافها . وابن حجر باعتباره أكبر قضاة القضاة ، وأنه القاضي الشافعى المُقدّم على غيره فقد حاز على نظر أو إدارة الكثير من المؤسسات الوقفية وتحكم في إيراداتها . وبسبب فسادهم وسوء سُمعتهم فقد كان السلطان نفسه ( أكبر أكابر المجرمين وأفسد المفسدين ) يتدخل لإصلاح قضاة ( الشرع الشريف ) على حدّ قولهم . وبسبب شيوع هذا الفساد وتعرض المقريزى له مرارا في تاريخ ( السلوك ) فقد اضطر ابن حجر لأن يورد بعض ذلك من وجهة نظره ، يخفى الحقائق ويزيفها . 

نعطى بعض النماذج : 

في سرقته الأوقاف : 

1 : قال ابن حجر في اخبار عام 833 : (   وفي جمادى الأولى أول يوم منه أمر السلطان القضاة بقراءة كتب الاوقاف بالمدارس الكبار والخوانق وأتباع شرط الواقفين فيها ، وشدّد في ذلك، فلما كان يوم الأربعاء رابعه، اجتمعوا بالشيخونية ( الخانقاة ) وقرئ كتاب الوقف ، فقال لهم الشافعي ( يقصد نفسه ): " يقام ناظر بشرط الواقف ليعمل بالشرط وينفذ تصرفه" . فانفصلوا على ذلك، ثم حضر المشايخ والطلبة يوم الثلاثاء حادي عشره عند السلطان، فقال لهم: ما فعلتم? فقالوا: الحال يتوقف على ناظر يتكلم. فقال للشيخ: أنت ناظر فقال: وكذلك كاتب السر، فأمر كاتب السر في الكلام معه، فحضروا يوم الأربعاء ، وقرئ شرط الواقف ، فتكلموا أولا في البيوت ، فوجدوا الشرط أن يسكنها العزاب، فوجد من المترددين نحو العشرين، فأمر أن يخرج من المتزوجين بعددهم ويسكن المترددون ، ووعدوا بأن يحضر لكتابة ذلك من يوثق له ، فلم يحضر أحد، وحضروا يوم العشرين بالصالحية ( الخانقاة ) فقرئ كتاب وقف الناصري، فترددوا فيمن يستحق النظر هل هو الشافعي أو المالكي . ونزل إلى الشيخونية جمدار ، فأخبر الشيخ وهو في الحضور أن السلطان رسم أن كل أحد على حاله ، فسُرّوا بذلك ، وقرؤا للسلطان، ثم تبين للسلطان أن الذي قام في ذلك كان فيه هوى وتعصب، وأشير عليه بترك الناس على حالهم، وأن الذي يصل إليهم من المعاليم هو من جملة أموال المسلمين وهم مستحقون ، إلى غير ذلك من الاعتذارات ، إلى أن أمر بترك ذلك . وخمدت الكائنة واستمر الامر على ما كان. )

تعليق

نلاحظ هنا أن ابن حجر دخل في متاهات من التفصيلات ، ودون توضيح لدوره في الموضوع أو للشروط ، والأشخاص . أي جعلها من المعميات . 

2 ـ ولكن المقريزى ذكر الموضوع باختصار وبتوضيح أكثر فقال : ( وفي هذا الشهر‏ :‏ رسم أن يكشف عن شروط واقفي المدارس والخوانك ويعمل بها‏. وندب لذلك قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن حجر الشافعي . فبدأ أولا بمدرسة الأمير صرغتمش بخط الصليبة وقرأ كتاب وقفها‏. وقد حضر معه رفقاؤه الثلاث قضاة القضاة ، فأجّل في الأمر ، فلم يعجب السلطان ذلك ، وأراد عزل جماعة من أرباب وظائفها ، فروجع في ذلك حتى أقرهم على ما هم عليه‏. وأبطل الكشف عما رسم به . فسر الناس بهذا ، لأنهم كانوا يتوقعون تغييرات كثيرة‏. ). 

تعليق 

1 ـ  ابن حجر قاضى القضاة الشافعى كان المُقدّم على بقية القضاة بحكم كونه شافعيا أولا ، ثم لكونه أكثرهم شهرة . وقد عهد اليه برسباى بإصلاح أوقاف المدارس والخوانق وغيرها ، حيث كان الوقف الأهلى يستوجب تعيين مدرسين مختلفى التخصصات في الفقه والعلوم الشرعية في دينهم السُّنّى ، مع وظائف أخرى مساعدة ، ويتم تسجيل قواعد تعيينهم وصرف مرتباتهم ، من خلال مبلغ الوقف المخصص لذلك . ووثائق الوقف ـ وقد سبق لنا فحصها ودراستها ولا تزال محفوظة في دار الوثائق ـ كانت تفصّل هذا. ولكن التطبيق كان فسادا ، وشاعت أخباره ، فأراد السلطان برسباى ـ أكبر أكابر المجرمين ــ إصلاح الأمر ، وعهد لأكبر قاض بالمراجعة ، وهو (إبن حجر العسقلانى ) ومعه زملاؤه قُضاة القضاة الثلاثة  . وطبيعى أن ينتهى الأمر الى لا شيء ، وفرح ( الناس ) بهذا على حدّ قول المقريزى، المقصود بالناس هنا هم المستفيدون من هذا الفساد .

2 ـ لم ينتقد المقريزى دور ابن حجر ، مع إن كلماته توحى بذلك ، فابن حجر قام بالتأجيل ، وهذا التأجيل لم يعجب برسباى : (  فأجّل في الأمر ، فلم يعجب السلطان ذلك ) . وتصرف السلطان بنفسه فأراد عزل الحرامية فتدخل أكابر المفسدين أصحاب الحظوة عند السلطان ، ومازالوا به حتى تراجع . ولم يصرح المقريزى بمن تدخل لدى السلطان ، وهذا مفهوم بين سطور الخبر .  

3 ـ والمؤرخ أبو المحاسن ذكر نفس الموضوع في تاريخه ( النجوم الزاهرة ) فقال 

3 / 1 : ( وفي هذا الشهر ندب السلطان قاضي القضاة شهاب الدين بن حجر أن يكشف عن شروط واقفي المدارس والخوانك ويُعمل بها ، فسُرّ الناس بذلك غاية السرور ، وكثر الدعاء للسلطان بسبب ذلك . فبدأ أولًا بمدرسة الأمير صرغتمش بخط الصليبة ، وقرأ كتاب وقفها . وقد حضر معه القضاة الثلاثة ، فأجمل ابن حجر في الأمر ، فلم يعجب الناس ذلك ، لاستيلاء المباشرين على الأوقاف والتصرف فيها بعدم شرط الواقف وضياع مصالحها ، فتشدّد ( السلطان ) في ذلك ، وأراد عزل جماعة من أرباب وظائفها ، فروجع في ذلك ، وانفض المجلس ، وقد اجتهد الأكلة ( أي اللصوص آكلو المال الحرام ) في السعي بإبطال ذلك ، حتى أبطله السلطان‏.)

3 / 2 : وقال أبو المحاسن معلقا غاضبا : ( قلت‏:‏ ولو ندب السلطان لهذا الأمر أحد فقهاء الأمراء والأجناد الذين هم أهل الدين والصلاح لينظر في ذلك بالمعروف لكانت هذه الفعلة تقاوم فتحه لقبرس ، لضياع مصالح أوقاف الجوامع والمساجد بالديار المصرية والبلاد الشامية لاستيلاء الطمعة عليها ، وتقرير من لا يستحق في كثير من وظائفها بغير شرط الواقف ، ومنع من يستحق العطاء بشرط الواقف . ولهذا قررت الملوك السالفة وظيفة نظر الأوقاف لهذا المعنى وغيره ، فتُرك ذلك ، وصار الذي يلي نظر الأوقاف شريكًا لمن تقدم ذكره فيما يتناولونه من ريع الأوقاف،  والكلام فيما يعود نفعه عليه من جهة حل وقف وبيعه أو لواحد استولى على جهة وقف وأكله بتمامه فيبعث خلفه ويبلصه في شيء له ولأعوانه ، ويترك الذي قررت هذه الوظيفة بسببه من قديم الزمان ، وهو ما تقدم ذكره من النظر في أمر الأوقاف والعمل فيما يعود نفعه على الوقف وعلى أرباب وظائفه من الفقهاء ).

تعليق 

الخطورة في قول أبى المحاسن  :

1 ـ ( ولو ندب السلطان لهذا الأمر أحد فقهاء الأمراء والأجناد الذين هم أهل الدين والصلاح لينظر في ذلك بالمعروف لكانت هذه الفعلة تقاوم فتحه لقبرس ) فأبو المحاسن يعتبر أمراء المماليك والعسكر ( الأجناد ) أكثر صلاحا من ابن حجر ورفاقه . وأن السلطان برسباى لو عهد اليهم إصلاح الأوقاف لكان هذا أكبر منقبة للسلطان مثل فتحه قبرص . وفتح قبرص كان أكبر مفخرة لبرسباى . 

2 ـ إشارته الى فساد ابن حجر ورفاقه في سلب أموال الأوقاف ، فقال : 

2 / 1 :( لضياع مصالح أوقاف الجوامع والمساجد بالديار المصرية والبلاد الشامية لاستيلاء الطمعة عليها ، وتقرير من لا يستحق في كثير من وظائفها بغير شرط الواقف، ومنع من يستحق العطاء بشرط الواقف.) .

2 / 2 :  ( وصار الذي يلي نظر الأوقاف شريكًا لمن تقدم ذكره فيما يتناولونه من ريع الأوقاف،  والكلام فيما يعود نفعه عليه من جهة حل وقف وبيعه أو لواحد استولى على جهة وقف وأكله بتمامه فيبعث خلفه ويبلصه في شيء له ولأعوانه . ) .

2 / 3 :  قوله ( ويبلصه في شيء له ولأعوانه ) ( البلص ) في مصطلح العصر يعنى الاختلاس والسرقة . أي أن يختلس ناظر الوقف لنفسه واعوانه ممّن يعينه في هذه الوظيفة . باختصار كان ابن حجر ورفاقه قضاة القضاة رؤساء عصابات ، و ( مافيا للأوقاف )، وكثرة سرقاتهم أغاظت السلطان نفسه .

ابن حجر يستخدم نفوذه في الدفاع عن نفسه أمام السلطان الصغير ابن برسباى 

قال ابن حجر في أخبار عام 841 ( ربيع الأول ) : ( وفي التاسع منه قرئ تقليد السلطان بالقصر ، وجرى كلام يتعلق بالقضاة ، فقال الشافعي: "عزلت نفسي،" فقال له - السلطان: " أعدتك "، فقبل ،وخُلع عليه وعلى رفقته، ورُسم بإعادة الأوقاف التي خرجت عن الشافعي، وهي وقف قراقوش في ولاية العراقي ووقف تنبغا التركماني في ولاية البلقيني ووقف الأسرى في ولايته، فأعيدت بتوقيع جديد. ) 

تعليق 

1 ـ بلغ نفوذ ابن حجر ذروته في دوره في تولى الصبى يوسف بن برسباى السلطة بعد أبيه . وفى المجلس مع السلطان الصغير شكى بعضهم من فساد ابن حجر ، فأعلن أمام السلطان الصغير عزل نفسه من القضاء ، فارتعب السلطان الصغير ، وانتهى بعودة ابن حجر للقضاء ، بل و بإعادة  بعض الأوقاف التي انتزعوها منه في عهد برسباى . 

2 ـ ويلاحظ أسلوب التجهيل في صياغة ابن حجر للخبر . يقول ابن حجر : ( وجرى كلام يتعلق بالقضاة )، لم يذكر الاتهامات التي قيلت ومن قالها ، وأدلّتهم ، ولم يُصرّح بأن الاتهامات موجهة له . وواضح انه الأدلة كانت دامغة بحيث اضطر لأن يقول ( فقال الشافعي: "عزلت نفسي،"). وهو يقصد نفسه .  

في مجلس السلطان الصغير : ابن حجر يستخدم نفوذه في الحصول على ما انتزعه منه غريمه البلقينى قاضى القضاة الشافعى  

قال ابن حجر في ( إنباء الغُمر ) : (  جمادى الأولى - أوله الثلاثاء، حضرنا للتهنئة عند السلطان يوم الاثنين سلخ الشهر الماضي، فسألت السلطان أن يشهد على نفسه بما فوض لي من الولاية والأنظار وغيرها، فأشهد على نفسه بذلك بحضرة القضاة، وشكوت إليه بعد ذلك ما انتزعه مني الملك الأشرف ، ووهب بعضه أو أكثره للقاضي علم الدين صالح بن البلقيني، فرسم بعقد مجلس بذلك - بحضرته، فتوسط ناظر الجيوش بيني وبينه إلى أن أعاد النصف وتركت له النصف.  )

تعليق 

السلطان الصغير استجاب لطلب ابن حجر فأعلن المناصب التي فوّضها لابن حجر . وانتهز ابن حجر الفرصة فشكى للسلطان الصغير ما انتزعه منه السلطان الأشرف برسباى من مناصب وأعطاها للقاضى ابن البلقينى . وكانت العادة تداول منصب القضاء بين ابن حجر وابن البلقينى . واستجاب السلطان الصغير ، وتم عقد مجلس في حضوره ، وانتهى بتقاسم ابن حجر والبلقينى تلك المناصب . أي إتّفاق على تقاسم المسروقات . 

موقف لابن حجر حين فقد نفوذه في سلطنة جقمق : 

قال في ( إنباء الغمر ) في أحداث شهر محرم 843 : (  وفي الثالث منه أمر عبد الباسط ناظر الجيش دويداره بإحضار ما في منزله من الذهب، فكان ثلاثين ألف دينار ، فاستقلها السلطان، فاستأذنه ناظر الجيش المذكور في بيع موجوده فأذن له، وشرعوا في بيع جميع ما عنده من الحواصل، فوصلت مصادرته في اليوم العاشر إلى مائة ألف دينار وثلاثين ألف دينار والطلب مستمر، وقيل إنه طلب منه ألف ألف دينار، وإن بعض الوسائط أنزلها إلى خمسمائة ألف دينار، ولم يثبت ذلك.  وصودر كاتبه على عشرة آلاف دينار، ثم خفف عنه منها الخمس. )    

تعليق 

السلطان المملوكى يعرف أن أعوانه يسرقون ، وكان يبتزّهم بالعزل وإعادة التعيين ، وأحيانا يصادر أموالهم ، وقد قام السلطان جقمق بمصادرة أعمدة السلطة في عهد برسباى ، وصودر ناظر الجيش عبد الباسط ، كما صودر ابن حجر . كانت المصادرة عادة سارية في تعامل السلطان المملوكى مع أتباعه أكابر المجرمين .

  



 المؤرخ أبو المحاسن (813 :874 ) الذى كان من أكابر المجرمين  

الباب التمهيدى : عن الدولة المملوكية ومؤرخيها وما قبل السلطان برسباى  

الفصل الثانى :(  مؤرخو عصر برسباى )

 لمحة عن أبى المحاسن 

1 ـ من أصل مملوكى ، كان ابوه من أكابر المجرمين ، وهو الامير تغري بردي. كان ( اتابك ) ، أي كان قائدا للجيش المملوكي ، ثم نائبا للسلطان علي الشام ، أي واليا للشام. ينتمى أبو المحاسن الى طبقة ( أولاد الناس ) ، وهم أبناء المماليك الذين وُلدوا أحرارا ، وتكونت بهم طبقة ارستقراطية متغطرسة ، وحتى الآن يقال في مصر ( فلان إبن ناس ) . الى هذه الطبقة ينتمى أيضا المؤرخ ابن إياس ، وإن كان إبن إياس معبرا عن ثقافة الشارع المصرى ، وليس مترفعا عنه مثل أبى المحاسن .

2 ـ إشتهر أبو المحاسن بكتابه : ( النجوم الزاهرة في أخبار مصر والقاهرة )  بلغ به  16 جزءا ، وبدأه من الفتح العربى ، وسار بعده متخصصا فى التاريخ المصرى ، ينقل فيه شذرات عن السابقين ، وممّن نقل عنهم استاذه المقريزى ، وواصل كتابة التاريخ بعد عصر المقريزى من واقع المشاهدة الى قبيل موته بعام واحد ، أى أتم التأريخ لمصر في النجوم الزاهرة حتي 873 هـ ومات عام 874 في أوائل عصر السلطان قايتباى . ذكر في نهايته أنه ألفه من أجل صديقه الأمير محمد بن السلطان جقمق، أي نفاقا لابن السلطان ولى عهده . و كان أبو المحاسن يتوقع أن يصل صديقه إلى السلطنة فيختم الكتاب بعهده، إلا أن الأمير محمد وافته المنية قبل ذلك في عام 847 .  

3 ـ كان أبو المحاسن تلميذا للمقريزى ، وتوقف المقريزى في تاريخه فى  "السلوك" عند سنة 844هـ أى قبيل وفاته بعام واحد. وقام تلميذه أبو المحاسن بإكمال التأريخ لعصره ، فكتب أيضا : ( حوادث الدهور في الأيام والشهور ) ، وجعله ذيلاً لتاريخ المقريزى في السلوك. وصدر فى باريس ( منتخبات من حوادث الدهور)، حررها وليم بيبر عام  1930 . ولأبى المحاسن أيضا كتاب ( المنهل الصافى والمستوفى بعد الوافى ).فى خمسة أجزاء ، وقد  قصره على التراجم المختصرة لشخصيات عصره . وكان أبو المحاسن كثيراً ما يعترف بفضل المقريزي ، وقد كان أقل مستوى من أستاذه ، ويبدو هذا فيما ينقله عن استاذه ، وفى فوضى تأليفه في ( النجوم الزاهرة ) فلم يستفد بالتنظيم والتأنُّق الذى سار عليه المقريزى في ( السلوك ) . المفترض أن يأتي اللاحق أفضل من السابق ، وليس العكس . 

أبو المحاسن مؤرخا 

أبو المحاسن يحتقر أحرار المصريين منحازا لأكابر المجرمين 

كان أبو المحاسن يعيش في سعة كاملة بإعتباره من ( أولاد الناس ) ، أكثر من هذا تعلم الفروسية وبرع فيها، وأتقن العربية والتركية. وكان منحازا لأكابر المجرمين الذى ينتمى اليهم ومتعاليا على المصريين. ونعطى هذا المثل :. 

قام السلطان الأشرف اينال بتزييف العُملة ، وقام أهل القاهرة بثورة ومظاهرات ، وصلت الى مقر الحكم في القلعة ، فعُقد لذلك مجلس سلطاني في صفر سنة 861 .  قال أبو المحاسن في كتابه ( حوادث الدهور 2/ 294 : 296 ) يصف تلك المظاهرة : 

( اضطرب الناس ، وأبطل السلطان موكب ربيع الأول من القصر ، وجلس بالحوش ، ودعا القضاة الأربعة والأمراء والأعيان ، ووقف العامة أجمعون في الشارع الأعظم من باب زويلة إلى داخل القلعة ، وأجتاز بهم قاضي القضاة علم الدين البلقيني وهو طالع إلى القلعة ، فسلّم على بعضهم بباب زويلة ، فلم يرد عليه أحد السلام ، بل انطلقت الألسن بالسب له وتوبيخه من كل جانب ، لكونه لا يتكلم في مصالح المسلمين ، واستمر على هذه الصورة إلى أن طلع إلى القلعة . وقد انفض المجلس بدون طائل ، ونودي في الناس بعدم معاملة " الزغل " ( أي بعدم التعامل بالنقود المغشوشة ) .   فلم يسكن ما بالناس من الرهج ، ولهجوا بقولهم : " السلطان من عكسه أبطل نصفه " ( أي أن السلطان من شؤمه أبطل التعامل بالعملة التي أصدرها وهي النصف الإينالي ، والنصف اسم للعملة الفضية الاينالية ) وقالوا أيضا " إذا كان نصفك إينالي لا تقف على دكاني " ( أى إذا كانت العملة التى معك هى الدرهم الذى اصدره السلطان إينال فلا تقف على دكانى ) .وألفوا عبارات أخرى ، وأشياء أخرى من هذا من غير مراعاة وزن ولا قافية.! ) 

تعليق 

1 ـ قاموا بتأليف شعارات بعضها موزون وله قافية والآخر بدون وزن وقافية . وهى نفس العادة المصرية المتمكنة فى فنّ تأليف الشعارات فى المظاهرات . وهذا الشّعر لم يحظ باعجاب المؤرخ أبى المحاسن ، كما لو كان ينتظر من الجماهير الساخطة أن تنطق شعرا فصيحا ، يمدح السلطان الغشّاش الذى يسرق أقوات المستضعفين في الأرض .!

2 ـ ونرجع للمؤرخ أبى المحاسن وهو يصف تلك المظاهرة الفريدة التى ثار فيها شعب القاهرة على السلطان الفاسد إينال و بطانته من أكابر المجرمين من الشيوخ والأمراء والأعيان حسب وصف أبى المحاسن . . 

2 / 1 : يقول أبو المحاسن : (  وانطلقت الألسن بالوقيعة في السلطان وأرباب الدولة ) أى انطلقوا فى مظاهراتهم يلعنون السلطان وأعوانه من القُضاة وكبار الموظفين أرباب دولته فأضاعوا حرمته وانتهكوا مكانته . ووصل هجومهم الى أكبر قاض للقضاة وقتها ، يقول أبو المحاسن : ( وأجتاز بهم قاضي القضاة علم الدين البلقيني وهو طالع إلى القلعة ، فسلّم على بعضهم بباب زويلة ، فلم يرد عليه أحد السلام ، بل انطلقت الألسن بالسب له وتوبيخه من كل جانب ، لكونه لا يتكلم في مصالح المسلمين ، واستمر على هذه الصورة إلى أن طلع إلى القلعة.) ، أي إنهم أدركوا التحالف بين أكابر المجرمين من المماليك ورجال الدين . 

2 / 2 : وخشى السلطان اينال من جرأة مماليكه عليه ، خصوصا  المماليك الجلبان ، أى المماليك الذين كان يؤتى بهم كبارا وليس من مرحلة الطفولة ، أى كانوا يتطوعون بالوقوع فى الاسترقاق ليؤتى بهم الى مصر فيصيروا فيها مماليك متخصّصين في الشّغب والفتن ، خشى اينال أن يتحالف العوام مع المماليك الجلبان . يقول ابو المحاسن عن محنة السلطان اينال بعد أن أضاعت مظاهرات الحرافيش مكانته وحرمته وهيبته : ( وخاف السلطان من قيام المماليك الجلبان بالفتنة وأن تساعدهم العامة وجميع الناس ، فرجع عما كان قصده . ) أى كان يريد ان يستخدم المماليك الجلبان ضد المصريين الأحرار ، الذين يسميهم أبو المحاسن بالعوام ، فخاف ان يتحد ضده المصريون والجلبان، لأن غشّ العُملة يدفع ثمنه أولئك الجنود الجلبان وغيرهم . 

2 / 3 : وبهذا تطورت المظاهرات ضد السلطان اينال . ووجد المتظاهرون فرصتهم الكاملة فى سبّ وتحقير أعوان السلطان ممن كان يقوم بالسلب والنهب والمصادرات باسم السلطان ، يقول ابو المحاسن : ( وقد أفحش العامة في سباب ناظر الخاص ، ورجموه ،وكادوا يقتلونه ،) ناظر الخاص هو المشرف على ثروة السلطان وأملاكه . وقد اضطر الى الفرار من أمامهم ومعه أعوانه وفرق حراسته. 

2 / 4 : يقول ابو المحاسن باستعلاء وحقد يصف انتصار المصريين الأحرار : ( وعظُمت الغوغاء ، فأرسل إليهم ابن السلطان ، فسألهم عن غرضهم فقالوا : " النداء بأن كل شيء على حاله" ، فقال لهم : " غدا أكلم السلطان ويفعل قصدكم ."، فأبوا ، وصمموا على النداء في هذا اليوم . فأرسل لأبيه ، فتردد ، ثم أجاب . ) يقول أبو المحاسن معلّقا : ( وحصل بالنداء غاية الوهن في المملكة ، وطغى العامة وتجبروا .). واضح هنا أن المؤرخ الأرستقراطي المملوكي الأصل أبا المحاسن ينتمى الى أكابر المجرمين ، لم يكن من رجال الدين ، ولكن من الملأ المملوكى المحيط بالسلطان ، لذا لم يسترح إلى رضوخ السلطان إينال للمصريين ، وهم عند هذا المؤرخ ( غوغاء وعوام ) .!

أمثلة للخلاف بين أبى المحاسن ( الذى ينتمى لأكابر المجرمين ) وشيخه المقريزى ( الذى لم يكن من المجرمين )

المثال الأول 

1 ـ يذكر المقريزى في ( السلوك ) في أحداث شهر شوال 841 : ( وفيه ركب السلطان من القلعة، وأقام يومه بخليج الزعفران خارج القاهرة. وعاد من آخره بعد أن فرق مالاً في الفقراء، فتكاثروا على متولى تفرقة ذلك، حتى سقط عن فرسه، فغضب السلطان من ذلك، وطلب سلطان الحرافيش، وشيخ الطوائف، وألزمهما بمنع الجعيدية أجمعين من السؤال في الطرقات، وإلزامهم بالتكسب، وأن من شحذ منهم يقبض الوالى عليه، وأُخرج ليعمل في الحفير. فامتنعوا من الشحاذة، وخلت الطرقات منهم، ولم يبق من السؤّال إلا العميان والزمناء وأرباب العاهات، ولم نسمع بمثل ذلك. فعم الضيق كل أحد، وانطلقت الألسنة بالدعاء على السلطان، وتمنى زواله، فأصبح في يوم الأربعاء سابعه مريضًا قد إنتكس، ولزم الفراش. ) . 

تعليق 

   أكابر المجرمين من المماليك وأعوانهم نظروا بإحتقار الى فقراء القاهرة الذين لا يجدون ما ينفقون ، وكانوا طوائف أطلق عليهم أكابر المجرمين أوصافا تحقيرية ، مثل الحرافيش والعوام والجعيدية . هذا يذكرنا بالملأ من قوم نوح الذين قالوا له : ( أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ (111) الشعراء ) ( وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ  ) (27)  هود ) . وبمزيد من التحقير والسخرية جعلوا للفقراء طوائف وسلاطين . تنوعت وتكاثرت أعداد الفقراء في القاهرة ، وتنافسوا في التسول . وكانت العادة أنه إذا وقف شخص يتبرع يتزاحمون عليه وقد يوقعونه من فوق فرسه . وحدث هذا مع الذى كان يفرّق صدقات برسباى ، فهددهم بالتسخير في الحفر ، واستثنى منهم المرضى والعميان والمشلولين ( الزمناء ) . كان هذا معتادا قبل برسباى ، ولكن لم يكن هذا العقاب مسبوقا ، فسخط الناس على السلطان ، ودعوا عليه فازداد مرضه حسبما يقول المقريزى ، فقال يعبّر عن مشاعره ومشاعر الناس الساخطة على برسباى : ( ولم نسمع بمثل ذلك. فعم الضيق كل أحد، وانطلقت الألسنة بالدعاء على السلطان، وتمنى زواله، فأصبح في يوم الأربعاء سابعه مريضًا قد إنتكس، ولزم الفراش. ). ولا ننسى أن برسباى ( المشهور بالبخل والجشع ) إضطر للتصدق حين إشتد عليه المرض . وهكذا شأن أكابر المجرمين عند المحنة . وما قاله المقريزى متّسق مع أخبار برسباى وإجرامه قبل الطاعون وبعده .

2 ـ ولكن أبا المحاسن ابن تغرى بردى نقل الحادثة في تاريخه (  النجوم الزاهرة ) . قال : ( وفيه ركب السلطان من قلعة الجبل ، ونزل إلى خليج الزعفران ، وأقام به يومه في مخيمه يتنزه ، ثم ركب وعاد إلى القلعة في آخر النهار بعد أن تصدق على الفقراء بمال كثير، فتكاثرت الفقراء على متولي الصدقة ، وجذبوه حتى أرموه عن فرسه ، فغضب السلطان من ذلك ، وطلب سلطان الحرافيش وشيخ الطوائف وألزمهما بمنع الجعيدية من السؤال في الطرقات وألزمهم بالتكسب ، وأن من يشحذ منهم قبض عليه وأخرج لعمل الحفير‏. فامتنعوا من الشحاذة ، وخلت الطرقات ، ولم يبق من السؤال إلا العميان والزمنى وأرباب العاهات‏. ) . 

ويعلّق مدافعا عن السلطان برسباى مهاجما الفقراء ، فيقول : ( قلت‏:‏ وكان هذا من أكبر المصالح ، وعُدّ ذلك من حسن نظر الملك الأشرف في أحوال الرعية ، فإن هؤلاء الجعيدية غالبهم قوي سويّ صاحب صنعة في يده ، فيتركها ويشارك ذوي العاهات الذين لا كسب لهم إلا السؤال ، ولولا ذلك لماتوا جوعًا . وأيضا أن غالبهم يجلس بالشوارع ، ويتمنى ، ثم يقسم على الناس بالأنبياء والصلحاء ، وهو يتضجر من قسوة قلوب الناس ، ويقول‏:‏ لي مقدار كيت وكيت باقول في حب رسول الله أعطوني هذا النزر اليسير فلم يعطني أحد‏. ويجتاز به ــ وهو يقول‏‏ ذلك ــ اليهودي والنصراني فيسمعون لمقالته في هذا المعنى‏. وهذا من المنكرات التي لا ترتضيها الحكام . وكان من شأنهم أنهم إذا سمعوا هذا القول أخذوا القائل وأوجعوه بالضرب والحبس والمناداة على الفقراء بعدم التقسيم في سؤالهم والتحجر عليهم بسبب ذلك . فلم يلتفت أحد منهم إلى ذلك ، حتى ظهر للسلطان بعض ما هم عليه في هذه المرة فمنعهم ، فما كان أحسن هذا لو دام واستمر. انتهى‏. ) . أبو المحاسن يعرف شُهرة السلطان برسباى بالبُخل وتزييف للعملة وسلب ونهب الأموال واحتكار التجارة ، ولا يرى في ذلك بأسا . ويمدحه لأنه تصدّى للفقراء المتسولين ، ويراهم مستحقين للضرب والحبس .   

المثال الثانى 

1 ـ بعد سنوات من الصراع انتصر برسباى على خصمه جانبك الصوفى ، وسنعرض لذلك بالتفصيل حسب السنوات . وصلت رأس جانبك الصوفى الى برسباى في القلعة في 17 جمادى الأولى عام 841 .  يقول المقريزى عن جانبك الصوفى ومهاجما السلطان برسباى :  ( فقُطع رأسه، وحُمل إلى السلطان، فكاد يطير فرحًا، وظن أنه قد أمن، فأجرى اللّه على الألسنة أنه قد إنقضت أيامه، وزالت دولته. فكان كذلك كما سيأتى هذا. وقد قابل نعمة اللّه تعالى عليه في كفاية عدوه بأن تزايد عتوه وكثر ظلمه، وساءت سيرته، فأخذه اللّه أخذًا وبيلا، وعاجله بنقمته ولم يهنيه. ( يهنئه ))

2 ـ اعترض أبو المحاسن على هجوم المقريزى على السلطان برسباى . نقل أبو المحاسن ما كتبه المقريزى، فقال : ( قال المقريزي بعد أن ساق نحو ما حكيناه بالمعنى واللفظ مخالف‏:‏ وحملت إليه الرأس يعني عن الملك الأشرف فكاد يطير فرحًا ، وظن أنه قد أمن فأجرى الله على الألسنة أنه قد انقضت أيامه وزالت دولته فكان كذلك هذا‏. وقد قابل نعم الله عليه في كفاية عدوه بأن تزايد عتوه وكثر ظلمه وساءت سيرته، فأخذه الله أخذًا وبيلًا وعاجله بنقمته فلم يهنه.  انتهى كلام المقريزي‏.) . 

ويعلق أبو المحاسن منتقدا المقريزى ومدافعا عن برسباى : ( قلت‏:‏ وما عسى الملك الأشرف كان يظلم في تلك المدة القصيرة ؟  فإن خبر جانبك الصوفي ورد عليه في سابع عشر جمادى الأولى ، وابتدأ بالسلطان مرض موته من أوائل شعبان ولزم الفراش من اليوم المذكور وهو ينصل ثم ينتكس إلى أن مات في ذي الحجة‏. غير أن الشيخ تقي الدين المقريزي رحمه الله كان له انخراقات معروفة عنه ، وهو معذور في ذلك، فإنه أحد من أدركنا من أرباب الكمالات في فنه ومؤرخ زمانه لا يدانيه في ذلك أحد ، مع معرفتي بمن عاصره من مؤرخي العلماء . ومع هذا كله كان مبعودًا في الدولة ، لا يدنيه السلطان مع حسن محاضرته وحلوا منادمته‏. على أن الملك الظاهر برقوق كان قربه ونادمه وولاه حسبة القاهرة في أواخر دولته ، ومات الملك الظاهر فلم يمش حاله على من جاء بعده من الملوك ، وأبعدوه من غير إحسان ، فأخذ هو أيضًا في ضبط مساوئهم وقبائحهم فمن أساء لا يستوحش‏.  على أنه كان ثقة في نفسه دينًا خيرًا وقد قيل لبعض الشعراء‏:‏ إلى متى تمدح وتهجو‏. فقال‏:‏ ما دام المحسن يحسن والمسيء يسيء.  انتهى )

تعليق 

1 ـ ينسى أبو المحاسن مظالم برسباى التي تضاعفت في أيامه الأخيرة ، ومنها أمره بتوسيط الطبيبين اللذين كانا يعالجانه ، وهو نفسه قد ذكر هذه الحادثة ، ولكن ليس بالتفصيل الذى ذكره المقريزى . وينسى أبو المحاسن ظلم برسباى وبُخله واحتكاره التجارة .

2 ـ يغالط أبو المحاسن إذ يجعل سبب انتقاد المقريزى للسلاطين أنهم أبعدوه ، هم لم يبعدوه ، كان مُتاحا لهم أن يشترى المناصب ، وهو الأكثر علما من غيره ، ولكنه فضّل أن يتفرغ للتأريخ ، فكتب ما لم يسبقه أحد ، وبكتابات تاريخية متنوعة ، كان في بعضها سابقا لغيره ، مع رؤية نقدية لأكابر المجرمين ، لم يصل لها سواه من قبله ومن بعده . مع هذا اضطر أبو المحاسن الى الإشادة بالمقريزى ، فقال : ( فإنه أحد من أدركنا من أرباب الكمالات في فنه ومؤرخ زمانه لا يدانيه في ذلك أحد ، مع معرفتي بمن عاصره من مؤرخي العلماء .   ) ( على أنه كان ثقة في نفسه دينًا خيرًا وقد قيل لبعض الشعراء‏:‏ إلى متى تمدح وتهجو‏. فقال‏:‏ ما دام المحسن يحسن والمسيء يسيء. ) . 

المثال الثالث  

3 ـ في تاريخه (  النجوم الزاهرة في أخبار مصر والقاهرة  ) قال أبو المحاسن عن السلطان برسباى بعد وفاته :‏.‏

(  .. وخلّف من الأموال‏ والتحف والخيول والجمال والسلاح شيئًا كثيرًا إلى الغاية‏. وكان سلطانًا جليلًا سيوسًا مدبرًا عاقلًا متجملًا في مماليكه وخيوله‏. ) ( وكانت صفته أشقر طويلًا نحيفًا رشيقا منور الشيبة بهي الشكل ، غير سبّاب ولا فحّاش في لفظه ، حسن الخلق، ليّن الجانب ، حريصًا على إقامة ناموس الملك ، يميل إلى الخير ، يحب سماع تلاوة القرآن العزيز ، حتى إنه رتب عدة أجواق ( فرقة انشاد للقرآن ) تقرأ عنده في ليالي المواكب بالقصر السلطاني دوامًا‏.  وكان يكرم أرباب الصلاح ، ويُجلُّ مقامهم ، وكان يكثر من الصوم في الصيف والشتاء ، فإنه كان يصوم في الغالب يوم الثالث عشر من الشهر والرابع عشر والخامس عشر، يُديم على ذلك‏. وكان يصوم أيضًا أول يوم في الشهر وآخر يوم فيه ، مع المواظبة على صيام يومي الاثنين والخميس في الجمعة ، حتى إنه كان يتوجه في أيام صومه إلى الصيد، ويجلس على السماط وهو صائم ، ويطعم الأمراء والخاصكية بيده ، ثم يغسل يديه بعد رفع السماط كأنه واكل القوم‏.  وكان لا يتعاطى المسكرات، ولا يحب من يفعل ذلك من مماليكه وحواشيه. ) (  وكان يحب الاستكثار من المماليك ، حتى إنه زادت عدة مماليكه المشتروات على ألفي مملوك ، لولا ما أفناهم طاعون سنة ثلاث وثلاثين،  ثم طاعون سنة إحدى وأربعين هذا ، فمات فيهما من مماليكه خلائق‏.) ( وكان يميل إلى جنس الجراكسة على غيرهم في الباطن ، ويظهر ذلك منه في بعض الأحيان ، وكان لا يحب أن يشهر عنه ذلك ، لئلا تنفر الخواطر منه، فإن ذلك مما يعاب به على الملوك . ) ( وكان مماليكه أشبه الناس بمماليك الملك الظاهر برقوق في كثرتهم وأيضًا في تحصيل فنون الفروسية ، ولو لم يكن من مماليكه إلا الأمير إينال الأبو بكري الخازندار ثم المشد لكفاه فخرًا،  لما اشتمل عليه من المحاسن ، ولم يكن في دورنا ( أي جيلنا ) من يدانيه فكيف يشابهه‏... وإلى الآن مماليكه هم معظم عسكر الإسلام‏. )( وكانت أيامه في غاية الأمن والرخاء ، من قلة الفتن وسفر التجاريد ( الحملات الحربية ) هذا مع طول مدته في السلطنة‏. )( وعمّر في أيامه غالب قرى مصر قبليها وبحريها، مما كان خرب في دولة الملك الناصر فرج ، ثم في دولة الملك المؤيد شيخ ، لكثرة الفتن في أيامهما ، وترادف الشرور والأسفار إلى البلاد الشامية وغيرها في كل سنة‏. )( وكان الأشرف يتصدى للأحكام بنفسه ، ويقتدي في غالب أموره بطريق الملك المؤيد شيخ ، غير أنه كان يعيب على المؤيد سفه لسانه ، إلا الملك الأشرف فإنه كان لا يسفه على أحد من مماليكه ولا خدمه جملة كافية ، فكان أعظم ما شتم به أحدًا أن يقول له‏:‏ حمار وكان ذلك في الغالب يكون مزحًا‏. ولقد داومت خدمته من أوائل سلطنته إلى أن مات ما سمعته أفحش في سب واحد بعينه كائن من كان‏. وفي الجملة كانت محاسنه أكثر من مساوئه‏. )

تعليق 

1 ـ أكثر المؤرخ ( المملوكى ) أبو المحاسن من مدح الأشرف برسباى ، وليس هذا بمستغرب ، فقد كان من حاشيته ، وقد خدمه من أوائل سلطنته الى أن مات . ومدح أيضا المماليك الجلبان للسلطان برسباى ، بل قال عنهم وعن أحد قادتهم وهو الأمير اينال الأبوبكرى : ( ، ولو لم يكن من مماليكه إلا الأمير إينال الأبو بكري الخازندار ثم المشد لكفاه فخرًا،  لما اشتمل عليه من المحاسن ، ولم يكن في دورنا ( أي جيلنا ) من يدانيه فكيف يشابهه‏... وإلى الآن مماليكه هم معظم عسكر الإسلام‏. ). وكل ما قاله أبو المحاسن في مدح برسباى هي أكاذيب ، خصوصا قوله : ( وعمّر في أيامه غالب قرى مصر قبليها وبحريها، ). وستأتى شهادة المقريزى على عصر برسباى .

2 ـ ولقد أحسّ أبو المحاسن بتناقض الأكاذيب التي صاغها في مدح برسباى مع ما قاله استاذه المقريزى في ( السلوك ). لذا قال بعد ذلك يدافع عن السلطان الأشرف برسباى دفاعا هزيلا : ( وأما ما ذكره عنه الشيخ تقي الدين المقريزي في تاريخ السلوك من المساوىء ، فلا أقول إنه مغرض في ذلك، بل أقول بقول القائل‏:‏

   ومن ذا الذي ترضي سجاياه كلها    كفى المرء فخرًا أن تعد معايبه 

وكان الأليق الإضراب عن تلك المقالة الشنعة في حقه من وجوه عديدة . غير أن الشيخ تقي الدين كان ينكر عليه أمورًا ، منها انقياده إلى مباشري دولته في مظالم العباد ، ومنها شدة حرصه على المال وشرهه في جمعه‏. وأنا أقول في حق الملك الأشرف ما قلته في حق الملك الظاهر برقوق فيما تقدم فهو بخيل بالنسبة لمن تقدمه من الملوك وكريم بالنسبة لمن جاء بعده إلى يومنا هذا. وما أظرف قول من قال‏:‏  ما إن وصلت إلى زمان آخر إلا    بكيت على الزمان الأول 

وأما قول المقريزي‏:‏ وانقياده لمباشريه يشير بذلك إلى الزيني عبد الباسط  ، فإنه كان يخاف على ماله منه ، فلا يزال يحسن له القبائح في وجوه تحصيل المال ويهوّن عليه فعلها ، حتى يفعلها الأشرف ( برسباى ) وينقاد إليه بكليته ، وحسّن له أمورًا ، لو فعلها الأشرف لكان فيها زوال ملكه . ومال الأشرف إلى شيء منها ، لولا معارضة قاضي القضاة بدر الدين محمود العيني له فيها عندما كان يسامره بقراءة التاريخ ، فإنه كان كثيرًا ما يقرأ عنده تواريخ الملوك السالفة ، وأفعالهم الجميلة ، ويذكر ما وقع لهم من الحروب والخطوب والأسفار والمحن ، ثم يفسر له ذلك باللغة التركية وينمقها بلفظه الفصيح ، ثم يأخذ في تحبيبه لفعل الخير والنظر في مصالح المسلمين ، ويرجعه عن كثير من المظالم حتى لقد تكرر من الأشرف قوله في الملأ‏:‏ "لولا القاضي العيني ما حسن إسلامنا ولا عرفنا كيف نسير في المملكة‏.").  

المثال الرابع 

ارتكب جنود برسباى مذبحة في مدينة ( الرها )، وقد ذكر المقريزى تفاصيل المذبحة ، ودليلا على صدقه نقل عنه المؤرخ أبو المحاسن ، وكان مما قاله : ( ثم ألقوا النار فيها فأحرقوها بعدما أخلوها من جميع ما كان فيها وقتلوا من كان بها وبالمدينة ثم أخربوا المدينة وألقوا النار فيها فاحترقت واحترق في الحريق جماعة من النسوة فإنهن اختفين في الأماكن من البلد خوفًا من العسكر فلما احترقت المدينة احترقن الجميع في النار التي أضرمت بسكك المدينة وخباياها واحترق أيضًا معهن عدة كبيرة من أولادهن‏. هذا بعد أن أسرفوا في القتل بحيث إنه كان الطريق قد ضاق من كثرة القتلى‏. وفي الجملة فقد فعلوا بمدينة الرها فعل التمرلنكيين ( جنود تيمورلنك ) وزيادة من القتل والأسر والإحراق والفجور بالنساء فما شاء الله كان‏. ثم رحلوا من الغد في يوم الاثنين ثالث عشرينه وأيديهم قد امتلأت من النهب والسبي فقطعت منهم عدة نساء من التعب فمتن عطشًا وبيعت منهن بحلب وغيرها عدة كبيرة‏. ) 

بعد هذا لم يعجبه تعليق المقريزى ، فنقل التعليق ودافع عن برسباى . قال أبو المحاسن : ( قال المقريزي‏:‏ وكانت هذه الكائنة من مصيبات الدهر‏:‏ 

 وكنا نستطب إذا مرضنا    فجاء الداء من قبل الطبيب

 أفأما بالعهد من قدم لقد عهدنا ملك مصر إذا بلغه عن أحد من ملوك الأقطار قد فعل ما لا يجوز أو فعل ذلك رعيته بعث ينكر عليه ويهدمه،  فصرنا نحن نأتي من الحرام بأشنعه ومن القبيح بأفظعه وإلى الله المشتكى . انتهى كلام المقريزي‏. ).

وقال أبو المحاسن معلقا : ( قلت‏:‏ لم يكن ما وقع من هؤلاء الغوغاء بإرادة الملك الأشرف ولا عن أمره ولا عن حضوره‏. وقد تقدم أن نواب البلاد الشامية وأكابر الأمراء منعوهم من دخول القلعة بالجملة فلم يقدروا على ذلك لكثرة من كان اجتمع بالعسكر من التركمان والعرب النهابة كما هي عادة العساكر‏. وإن كان كون الأشرف جهز العسكر إلى جهة الرها فهذا أمر وقع فيه كل أحد من ملوك الأقطار قديمًا وحديثًا ولا زالت الملوك على ذلك من مبدأ الزمان إلى آخره معروف ذلك عند كل أحد‏. انتهى‏. ). 

ونقول : ما قاله المقريزى منتقدا هو أقل مما يجب قوله استنكارا لقتل المدنيين المستضعفين . أما دفاع أبى المحاسن عن برسباى فهو عار ، يليق بأكابر المجرمين من المؤرخين . 




 المقريزى : أعظم المؤرخين الذى لم يكن من أكابر المجرمين  

الباب التمهيدى : عن الدولة المملوكية ومؤرخيها وما قبل السلطان برسباى  

الفصل الثانى :(  مؤرخو عصر برسباى ) 

  المقريزى مؤرخا  

1 ـ المقريزى هو :( تقى الدين أحمد بن على (766- 845 ) ، تفرّغ معظم حياته للكتابة التاريخية. تعددت وتكاثرت مؤلفات المقريزى. كتب في معظم مراحل التاريخ حتى عصره ، وفى التاريخ العام والتاريخ العالمي بالإضافة إلى المؤلفات المتخصصة في شتى نواحى الحياة والحضارة المصرية والمعارف المصرية،  نعرض لبعضها : 

1 / 1 : في التاريخ العام : كتب المقريزى مؤلفاته الضخمة مثل (الخبر عن البشر)، (الدرر المضيئة في تاريخ الدولة الإسلامية)، (أمتاع الأسماع بما للرسول من الأبناء والأحوال والحفدة والمتاع). 

1 / 2 : وفي التراجم ( تاريخ الأشخاص ) : وضع المقريزى كتابين للترجمة لرجال مصر، هما (المقفي الكبير) ويقع فى أربع مجلدات مخطوطة، وقد جمع فيه تراجم لكل من وفد على مصر منذ الفتح أو عاش فيها. وله أيضا ( درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة)، عن أعيان عصره ، وكان يكثر من الاشارة اليه فى كتبه الأخرى .

1 / 3 : تاريخ العمران المصرى : وضع موسوعته الكبيرة (المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والأثار) وهى المعروفة بخطط المقريزى ، وفيه أرخ للمدن المصرية ومعالمها والحياة الاجتماعية فيها. 

1 / 4 : في التاريخ المصري وضع ثلاثة كتب ضخمة هى: 

1 / 4 / 1 : (تاريخ مدينة الفسطاط) الذى أرخ فيه لمصر منذ الفتح العربي إلى الفتح الفاطمي .

1 / 4 / 2 : فى تاريخ العصر الفاطمى كتب نقلا عن المسبّحى وغيره ( اتعاظ الحنفا بذكر الأئمة الفاطميين الخلفا). 

1 / 4 / 3 : ثم  كتابه الأشهر : ( السلوك لمعرفة دول المملوك) وأرخ فيه لمصر في العصرين الأيوبي والمملوكى إلى قبيل وفاته سنة 845هـ . وكان ينقل عن المؤرخين السابقين باختصار وحرفية نادرة ، حتى إذا وصل الى عصره أصبح يؤرخ شاهدا على عصره متوسعا وشاملا فى الأجزاء الأخيرة من ( السلوك ) ، ومنها الجزء الرابع القسم الثانى ، وقد تعرض فيه لعصر السلطان برسباى ، وهو موضوعنا هنا حيث نتخذه شاهدا على التطبيق العملى للشريعة السنية وقتها. 

1 / 5 : له رسائل وكتب صغيرة متخصصة وعظيمة الفائدة ، عن النقود والمجاعات وتاريخ الأعراب والاقتصاد والغناء والأحوال الدينية وآل البيت والنزاع بين الأمويين والهاشميين وبنيان الكعبة ومن حج من الملوك وحلّ لغز الماء. 

2 ـ  بالإضافة الى هذه الكثرة والتنوع فقد تميز المقريزى بالأسلوب العلمى التاريخى ، مع وقوفه ضد الظلم وشجاعته في نقد الظالمين وفق ثقافة عصره . ولا نعلم من هو أكثر شجاعة منه في نقد عصره في مؤرخى العصور الوسطى . 

   كتاب ( السلوك  لمعرفة دول الملوك ) بين كتب الحوليات التاريخية 

1 ـ  كتب الحوليات التاريخية هي التي تسجل الأحداث بالحول ، أي بالعام سنة بعد سنة ، بما يشبه النشرة الإخبارية التي تتبع ما يحدث حول المؤرخ ، والعادة أن يتخذ المؤرخ نقطة ارتكاز له، وأن يبدأ تاريخه بالنبى محمد عليه السلام وعصره ينقل ما كتبه ابن إسحاق وابن هشام، ويسير بعدئذ مع تاريخ  الخلفاء   ينقل عن الواقدى وابن سعد كاتب الواقدى ومن بعدهم . ثم إذا وصل الى عصره أصبح يكتب من واقع المشاهدة والمعاصرة ، ويأتي من بعده ينقلون عنه الى عصرهم ، فتتواصل الحوليات التاريخية ترصد وتؤرّخ تاريخا يكمل اللاحق السابق . 

2 ـ هكذا فعل الطبرى الذى عاش في العصر العباسى بين عامي  ( 224 : 310  ) وهو صاحب أشهر الحوليات التاريخية: ( تاريخ الأمم والملوك )، وسار اللاحقون على منواله يكملون بعده التأريخ لعصرهم  . إتّخذ الطبرى من بغداد والعراق مركزا لتسجيل ما يحدث في عصره ، حيث كانت الخلافة العباسية في بغداد هي مركز العالم ، ومنها نظر الطبرى الى بقية العالم المعروف لديه بتفصيلات أقل . وقد سار على منواله في التاريخ الحولى كثيرون ، كتبوا تاريخ الأعوام التالية ، وكان أشهرهم ابن الجوزى ( 510 : 597 ) في ( المنتظم في تاريخ الملوك والأمم )،   ومثله فعل المؤرخ ابن الأثير ( عز الدين ) ( 555 : 630  )   في تاريخه ( الكامل  ) ، ثم في بداية العصر المملوكى : ابن كثير الدمشقى ( 701 : 774  ) في تاريخه (  البداية والنهاية ). وتوالت الكتابات الحولية لتصل قمّتها فيما كتبه المقريزى في : ( السلوك  لمعرفة دول الملوك ). ومن جاء بعد المقريزى من مؤرخى الحوليات لم يصل الى مستواه.

 المقريزى في تاريخه ( السلوك )

 1 ـ في التأريخ للسابقين توقف المقريزى مع انتهاء العصر الفاطمى بكتابه ( إتعاظ الحُنفا ) . وجعل الأجزاء الأولى من كتابه ( السلوك ) في التاريخ الأيوبى بدءا من صلاح الدين الأيوبى ، أي من ( سنة ثمان وستين وخمسمائة ) . يقول : ( فيها خرج السلطان صلاح الدين بعساكره يريد بلاد الكرك والشوبك، فإنه كان كلما بلغه عن قافلة أنها خرجت من الشام تريد مصر خرج إليها ليحميها من الفرنج، فأراد التوسيع في الطريق وتسهيلها، وسار إليها وحاصرها، فلم ينل منها قصدا وعاد. وفيها جهز صلاح الدين الهدية إلى السلطان نور الدين. ) . نقل المقريزى باختصار عن المؤرخين الذين عاصروا الدولة الأيوبية . ثم استمر في النقل ممّن سبقه من المؤرخين للعصر المملوكى بنفس الاختصار ، حتى إذا وصل الى عصره ( عصر السلطان برقوق ) أفاض في التسجيل التاريخى بتوسع ، عكس ما فعله أبو المحاسن في تاريخه ( النجوم الزاهرة ) . جدير بالذكر أن إبن إياس اتبع طريقة المقريزى في تاريخه ( بدائع الزهور ) حيث بدأ بالنقل عن السابقين ، ثم توسع في تسجيل أحداث عصره ، مع نبرة نقدية .

 2 ـ لم يُعط المقريزى في ( السلوك ) معلومات عن أحواله الشخصية ، كما فعل ابن حجر وأبو المحاسن ، إلا إنه أحيانا كان يذكر حضوره شاهد عيان على بعض الأحداث ، نوعا من التوثيق التاريخى . وهناك خبر شخصى وحيد ذكره يستحق الوقوف عنده . قال في أحداث شهر رييع الأول عام 826  : ( وماتت ابنتي فاطمة يوم الأربعاء ثالث عشرين ربيع الأول ، وهي آخر من بقي من أولادي، عن سبع وعشرين سنة وستة أشهر. ) مات أبناؤه فلم يذكرهم في تاريخه ، ثم في النهاية ماتت إبنته فأصبح وحيدا وكان وقتها قد بلغ الستين من عمره ، فسجّل هذا ، وعاش بعدها حوالى عشرين عاما ،عازفا عن المناصب طيلة عمره ، متفرغا لكتاباته التاريخية .

3 ـ  وأنهى كتاب السلوك ( سنة أربع في أربعين وثمانمائة ) التي قال في مقدمة أحداثها : ( أهلت هذه السنة، والخليفة المعتضد باللّه أبو الفتح داود بن المتوكل، وسلطان الإسلام الملك الظاهر سيف الدين أبو سعيد جقمق .). مات في العام التالى، ولا نعرف ما عاناه في عامه الأخير الى وفاته. رحمه الله جل وعلا.  

ميزة الطبرى في ( السلوك ) في تسجيله للتاريخ المعاصر 

1 ـ كان تسجيله عالميا ، يتجاوز الدولة المملوكية ( ما بين حدود العراق والأناضول الى الحجاز ومصر ) الى ما بين الهند والأندلس ، مرورا بأواسط آسيا وتركيا واليمن والحبشة وأواسط أفريقيا وتونس والمغرب ، هذا مع تركيزه على القاهرة وما يحدث فيها باعتبارها وقتها مركز العالم  . كان له ( مراسلون ) يبعثون له بأخبار ما يحدث بعيدا عنه ، وكانت الأخبار تأتى الى المقريزى من الشام والعراق وأجوارها كما تأتى له من شمال أفريقيا واليمن ، فيسجلها في أحداث الحول أو العام ، وبالشهر وباليوم وأحيانا بالساعة . بما يشبه النشرة الإخبارية في صحف عصرنا ، مرتبة متتابعة بالشهور العربية من أول محرم الى نهاية ذي الحجة. وكانت خدمة البريد مستمرة ومستقرة تربط بين أطراف الدولة المملوكية وعاصمتها القاهرة ، ولم يكن البريد يحمل فقط الأوامر والشئون الرسمية بل أيضا الأخبار ، وحين تصل الأخبار اليه يسجلها وفقا لزمن وصولها اليه ، وقد يشير الى حدوثها قبل تسجيله لها ، وقد يقوم بتنقيحها وإعادة كتابتها ، ويتضح هذا لمن يدقق في سطور ( السلوك ) ، وقد يذكرها ضمن أحداث العام ، أو أحداث الشهر دون تحديد لليوم ، خصوصا إذا استمرت أحداثها متتابعة . ثم في نهاية كل عام يذكر لمحة تاريخية عمّن مات في هذه السُّنة .

2 ـ لا يعيب المقريزى تركيزه على أكابر المجرمين من السلاطين وأعوانهم ، فهو في مؤلفات أخرى كتب عن أحوال الناس الاقتصادية والاجتماعية والدينية . ثم إن هذا متسق مع عنوان كتابه ( السلوك لمعرفة دول الملوك )، أي يؤرّخ أساسا للملوك وليس للناس . ولكن العيب في نظرنا هو فيما كتبه ابن حجر في : ( إنباء الغُمر بأبناء العمر )، أي طبقا لعنوان الكتاب يجب أن يتكلم عن أحوال الناس الذين عاصرهم في عُمره، ولكنه طاف حول من ينتمى اليهم من أكابر المجرمين . ونفس الحال مع أبى المحاسن في تأريخه الحولى:( النجوم الزاهرة ) و( حوادث الدهور) . المؤرخ اللاحق المؤرخ القاضي الصيرفى عاصر السنوات الأخيرة من حياة أبى المحاسن ، وسجل عصر السلطان قايتياى في تاريخه ( إنباء الهصر )، وكان أكثر تعبيرا عن الشعب المصرى من أبى المحاسن ، وتلاه المؤرخ ابن اياس ( 852 : 930 )، والذى بدأ تاريخه الحولى ( بدائع الزهور ) بالسيرة النبوية والخلفاء الى أن وصل لعصره حيث عاصر نهاية العصر المملوكى والفتح العثمانى . وقد كان ينتمى مثل أبى المحاسن لطبقة ( أولاد الناس ) ومن أصل مملوكى ، وتفرّغ مثل المقريزى للكتابة التاريخية ، ومع ثقافته الرشيقة فقد كان صاحب رؤية نقدية وأكثر إهتماما بأحوال الناس من ابن حجر وأبى المحاسن . كان تلميذا متأثرا بالمقريزى مع الفارق الزمنى والثقافى بينهما .  




 ملاحظات حول تعليقات المقريزى الهجومية النقدية  

مقدمة

1 ـ تأتى الوفيات بعد أحداث كل عام . ويُذكر فيها من مات ( أو قُتل ) من أكابر المجرمين . ولأن العصر كان فاسدا فإن نجوم هذا العصر الفاسد لا بد أن يكونوا من أكابر المجرمين ، من المماليك ورجال الدين ، فالتاريخ ينام في أحضانهم . والمؤرخ يذكر أخبارهم شهرا شهرا في العام ، ثم يختم العام بلمحة عن تاريخ من مات منهم في هذا العام . ولأن الفساد هو الأساس والعُملة السائدة فإن تقييم الأشخاص في الوفيات يكون نسبيا ، أي حسب درجته في الفساد . وقد يأتي مدح بعضهم بالصلاح في الدين الأرضى السُّنّى ، وهذا طبقا لما ساد في العصر من احتراف دينى يجعل ذلك المحترف شخصا هاما ومشهورا بحيث يذكره المؤرخون ، فيتكلمون في مناقبه ، بل أحيانا كانت توضع مؤلفات خاصة في مناقبهم ، وكان معتادا أن تتفرد كتب خاصة في ( الطبقات ) أي التأريخ للمشهورين من العلماء والفقهاء ، وتتنافس في مدح أو تقديس بعض الشخصيات . وتتشابه الروايات في التأريخ الحولى مع تلك المذكورة في المناقب والطبقات ، والشّكُّ فيها قائم ، بل إنه واجب حين تدور الروايات عن كرامات ومعجزات . انعكس مناخ التقريظ والتمجيد هذا على كتابة تاريخ موجز للمتوفى في نهاية كل عام في الحوليات التاريخية ، فكان الأغلب فيها هو المدح وتلمُّس الأعذار للمجرم الذى مات ، طبقا للقاعدة السُّنّية القائلة: ( أّذكروا محاسن موتاكم ).

2 ـ الميزة الكبرى للمقريزى هي جُرأته في نقد أكابر المجرمين في عصره في ثنايا تاريخه ( السلوك ) حيث كان كلامه في الأغلب عاما . إلا إنه في الوفيات تحدث عن اشخاص بعينهم ، انتقدهم وهاجمهم ، وكان فيها يُعبّر عن ثقافته الدينية وما شاع عنهم من مظالم . ولم يخلُ الأمر من نوازع شخصية بطبيعة الحال ، ولكن يمكن القول إن سيادة الفساد جعلت له درجات ، نتبينها فيما قاله المقريزى .

3 ـ  ونختار بعض ما سجله عن بعض الشخصيات التي عاشت في عصر السلطان برسباى فقط ، موضوع هذا البحث . ونضع عليها بعض الملاحظات : 

نقد المقريزى لأكابر المجرمين :

تنوع النقد : 

1 ـ هجوم موجز مختصر لأكابر المجرمين المماليك :  قال : 

(  وقتل الأمير طوغان أمير أخور في أيام المؤيد شيخ- ذبحا بقلعة المرقب، في ذي الحجة، 828 .. وهو كما قيل : لم أبك منه على دنيا ولا في دين  ).

( ومات الأمير الكبير الأتابك سيف الدين قجق الشعباني  .. في تاسع شهر رمضان، 829 وكان لا معنى له في دين ولا دنيا. ).

( الأمير قشتمر 830 الذي تولى نيابة الإسكندرية، ثم أخرج إلى حلب، فقتل في وقعة التركمان في المحرم، ومُستراح منه . ).

( ومات الأمير جانبك الحمزاوي. وقد ولي نيابة غزة، وتوجه إليها فأتته المنية في طريقه. عام 837  ومُستراح منه ومن أمثاله. ).

 ( ومات الأمير الطواشي خُشْقَدم زمام الدار، في يوم الخميس عاشر جمادى الأولى بالقاهرة، 839 ، وترك مالاً جماً، منه نقداً ستون ألف دينار ذهباً، إلى غير ذلك من الفضة والقماش والغلال والعقار، ما يتجاوز المائتي ألف دينار. وكان شحيحاً بذيء اللسان، فاحشاً  ) .

(  ومات الأمير أرغون شاه بدمشق، في حادى عشرين رجب. 840، وكان قد ولى الوزارة والأستادارية بديار مصر، ثم أخرج إلى الشام على إمرة، وباشر بها للسلطان. وكان ظلوما غشوما.) .

( ومات الأمير تمراز المؤيدى خنقا بالإسكندرية، في ثالث عشرين جمادى الآخرة، 841  .. ولم يكن مشكورا. ) .

( ومات بمكة شرفها اللّه الأمير جانبك الحاجب، المجرد على المماليك إلى مكة، في حادى عشر شعبان. 841 ومُستراح منه. ).

 ( ومات  الأمير آق بردى نائب غزة، 841 فأراح اللّه بموته من جوره وطمعه. ) 

( سعد الدين إبراهيم بن كريم الدين عبد الكريم بن سعد الدين بركة، المعروف بإبن كاتب جكم ناظر الخاص ابن ناظر الخاص، في يوم الخميس سابع عشر شهر ربيع الأول، ( 841 ) عن نحو ثلاثين سنة. وكان من المترفين، المنهمكين في اللذات المنغمسين في الشهوات. )

( الأمير يخشي بك، 842   .. وكان جبار ظالمًا شريرًا.).

( ومات 844 الأمير ناصر الدين محمد بن بوالي بدمشق في سابع عشره، وقد ولي أستاداراً في الأيام المؤيدية شيخ، ثم إستمر أستادارًا بدمشق، وهو معدود من الظلمة  )

2 ـ هجوم بتفصيلات : قال :

( وقتل الأمير تغري بردي خنقاً بقلعة حلب في ربيع الأول، 828  فمُستراح منه، لا دين ولا عقل ولا مروءة، ما هو إلا الظلم والفسق . ).

( ومات الأمير سودن الأشقر- بدمشق في جمادى الأولى، 827 وهو أحد المماليك الذين أنشأهم الناصر فرج. وكان عيباً كله. لشدة بخله، وكثرة فسقه وظلمه. ).

 ( ومات الأمير سيف الدين أينال النوروزي أمير سلاح، في أول شهر ربيع الآخر،829  قد أناف على الثلاثين سنة، فوجد له من الذهب خمسون ألف دينار، وكان ظالماً فاسقاً، لا يوصف بشيء من الخير. ).

(  ومات الأمير أزدمر شايه في سادس شهر ربيع الآخر 831 بحلب.. ولم يُشكر في دينه، ولا في أمر دنياه، بل كان من الظلم والشح والإعراض عن الله بمكان.). 

(   ومات الأمير تاج الدين التاج بن سيفا القازاني، ثم الشويكي الدمشقي في ليلة الجمعة حادي عشرين شهر ربيع الأول، بالقاهرة 839 .  تولى ولاية القاهرة مدة أيامه... فسار فيها سيرة ما عفّ فيها عن حرام، ولا كفّ عن إثم، وأحدث من أخذ الأموال ما لم يُعهد قبله، ثم تمكن في الأيام الأشرفية ( السلطان الأشرف برسباى ) ،  وارتفعت درجته، وصار جليساً نديماً للسلطان، وأضيفت له عدة وظائف، حتى مات من غير نكبة. ولقد كان عاراً على جميع بني أدم، لما اشتمل عليه من المخازي التي جمعت سائر القبائح، وأرست بشاعتها على جميع الفضائح. ). 

( ومات الأمير قَصرَوه نائب الشام بدمشق، ليلة الأربعاء ثالث شهر ربيع الآخر، 839 وهو على نيابتها، وترك من النقد والخيول والسلاح والثياب والوبر وأنواع البضائع والمغلات ما يبلغ نحو ستمائة ألف دينار، وكان من أقبح الناس سيرة ، وأجمعهم لمال من حرام. ). 

( ومات الأمير جانبك الصوفي في يوم الجمعة خامس عشر شهر ربيع الآخر،(  841)،  وهو أحد المماليك الظاهرية برقوق. ترقى في الخدم، وصار من أمراء الألوف، وتنقلت به الأحوال حتى قبض عليه الأشرف برسباى، وسجنه، ففر من سجنه بالإسكندرية، وأعيا السلطان تطلبه، وإمتحن جماعة بسببه، إلى أن ظهر عند ابن دلغادر، وحاول ما لم يقدر عليه، فهلك دون بلوغ مراده. وحمل رأسه إلى السلطان، كما مر ذكره مشروحًا. وكان ظالمًا، عاتيًا، جبارًا، لم يُعرف بدين ولا كرم . ). 

( ومات الأمير سودون بن عبد الرحمن وهو مسجون بثغر دمياط، في يوم السبت العشرين من ذى الحجة. ( 841 ) وهو من جملة المماليك الظاهرية برقوق. ترقي في الخدم حتى صار نائب الشام، ثم عزل، وسجن حتى مات، وكان مُصرًا على ما لا تبيحه الشريعة من شهواته الخسيسة، وأحدث في دمشق أيام نيابته بها عدة أماكن لبيع الخمر ووقوف البغايا والأحداث، وضمنها  بمال في كل شهر، ( أي فرض عليها ضرائب ) فإستمرت من بعده. وإقتدى به في ذلك غير واحد، فعملوا في دمشق خمارات مضمنة بأموال، من غير أن ينكر عليه أحد ذلك . )      

( ومات الأمير دولات خجا، أحد المماليك الظاهرية . ولى ولاية القاهرة ثم حسبتها. وكان عسوفًا جبارًا كثير الشر، يصفه من يعرفه بأنه ليس بمسلم، وأنه لا يخاف اللّه، وكان موته يوم السبت أول ذى القعدة 841. )  

  . ( ومات الأمير تغرى برمش، 842 ..وقتل بحلب في يوم الأحد سابع عشر ذي الحجة، بعد عقوبات شديدة، وقد أخرب في حروبه هذه حلب وما حولها، وأكثر من الفساد، وقتل العباد.. ).

 ( ومات الأمير طوخ مازي في ليلة السبت خامس شهر رجب، 843 ، نائب غزة، وأحد المماليك الناصرية فرج، ومُستراح منه، فقد كان من شرار خلق اللّه، فسقًا، وظلمًا، وطمعًا. ) 

وأخيرا : 

 . ( ومات السلطان الملك الأشرف برسباى الدقماقى الظاهرى في يوم السبت ثالث عاشر ذى الحجة، 841 وقد أناف على الستين... إلا أنه كان له في الشح والبخل والطمع، مع الجبن والجور وسوء الظن ومقت الرعية وكثرة التلون وسرعة التقلب في الأمور وقلة الثبات ــ أخبار لم نسمع بمثلها، وشمل بلاد مصر والشام في أيامه الخراب، وقلة الأموال بها. وإفتقر الناس وساءت سير الحكام والولاة، مع بلوغه آماله ونيله أغراضه، وقهر أعدائه وقتلهم بيد غيره . لتعلموا أن اللّه على كل شىء قدير. ).

تعليق 

تناقض هائل بين شهادة المقريزى على السلطان برسباى وبين دفاع أبى المحاسن عنه . وشهادة المقريزى ستأتى خلال تسجيله لأحداث عصر برسباى كل عام من 825 الى 841 .

بسبب تسيّد الفساد : 

مدح يحمل نقدا ضمنيا للآخرين 

قال :

 ( وقتل بدمشق الأمير تنبك البجاسي في أول ربيع الأول، 827  .. تولي نيابة حماة وحلب ودمشق، وشكرت سيرته، لتنزهه عن قاذورات المعاصي، كالخمر والزنا، مع إظهار العدل وفعل الخير.) .

( ومات الأمير الطواشي كافور الصرغتمشي، شبل الدولة، زمام الدار، وقد قارب الثمانين سنة، في يوم الأحد خامس عشرين شهر ربيع الآخر، 830   .. وكان قليل الشر. ) .

مدح وذمّ :

قال :

( ومات الأمير قرقماس الشعباني،    ضربت عنقه بها في يوم الإثنين ثاني شهر جمادي الآخرة،( 842) وقد بلغ الخمسين أو تجاوزها وكان يوصف بعفة عن القاذورات المحرمة، وبمعرفة، وخبرة، وفروسية، وشجاعة، إلا أنه أفسد أمره بزهوه وتعاظمه، وفرط رقاعته، وشدة إعجابه بنفسه، وإحتقار الناس، والمبالغة في العقوبة، وقلة الرحمة، لا جرم أن اللّه تعالى عامله في محنته من جنس أعماله.  )

عن أكابر المجرمين من المدنيين . 

قال : 

( ومات عام 830  نجم الدين عمر بن حجي بن موسى بن أحمد بن سعد السعدي الحسباني الدمشقي الشافعي، قاضي القضاة بدمشق، وكاتب السر بديار مصر، في ليلة الأحد مستهل ذي القعدة، عن ثلاث وستين سنة، وقد نقب عليه بستانه بالنيرب خارج دمشق، ودخل عليه وهو نائم عدة رجال فقتلوه، وخرجوا من غير أن يأخذوا له شيئاً فلم يرع زوجته إلا به وهو يضطرب... وكان يسير غير سيرة القضاة، ويرمي بعظائم، ولم يوصف بدين قط .). 

تعليق 

جاءت أخبار في ( السلوك ) عن هذا القاضي تجعل نهايته هذه مفهومة .  

(  ومات شمس الدين محمد بن يعقوب النحاس الدمشقي، في يوم الجمعة ثالث المحرم، 831 وهو من عامة دمشق، تشفع بي لما قدمت دمشق في سنة عشر وثمانمائة، أن يلي حسبة الصالحية، ثم قدم القاهرة في سنة اثني عشرة، وولي حسبة القاهرة ثم وزارة دمشق، فلم تحمد سيرته، ولا شكرت طريقته.). 

تعليق 

 نلاحظ هنا أن المقريزى كان يعرف هذا الشخص ، وأنه توسّط له في دمشق عام 831 . هذا مع أن المقريزى لم يذكر في أحداث عام 810 أنه زار دمشق ، وقلنا إنه لا يزعج القارىء بأخباره الشخصية كما كان يفعل ابن حجر العسقلانى في تاريخه . 

( ومات بدر الدين حسن بن أحمد بن محمد البرديني أحد خلفاء الحكم الشافعي في يوم الاثنين خامس عشرين شهر رجب، 831 وقد أنافس على الثمانين. وكانت فيه عصبية ومحبة لقضاء حوائج الناس. ولم يوصف بعلم ولا دين، صحبناه سنين، ومُستراح منه. ). 

تعليق 

صحبه المقريزى سنين ، وأوجز وصفه بأنه لم يوصف بعلم ولا دين وأنه مُستراح منه .!  

( ومات قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن محمد بن الأموي المالكي بدمشق، في يوم الثلاثاء حادي عشر صفر. 837 وقد ولي قضاء القضاة المالكية بديار مصر في الأيام المؤيدية شيخ، ولم يشهر بعلم ولا دين.) . تعليق

 قاضى القضاة هذا لم يكن مشهورا بعلم ولا دين . فماذا كانت مؤهلاته لأن يكون قاضى القضاة ؟ . قلنا إن تولى المناصب ومنها القضاء كان بالشراء والرشوة ، ليس مهما أن يكون عالما أو متدينا . المهم صلاحيته لأن يكون من أكابر المجرمين .

( ومات عام 844 قاضي القضاة محب الدين أبو الفضل أحمد ابن شيخنا جلال الدين نصر اللّه ابن أحمد بن محمد بن عمر...   ولم يخلف في الحنابلة بعده مثله، ولا أعلم فيه ما يعاب به، لكثرة نسكه ومتابعته للسنة، إلا أنه ولي القضاء، فاللّه تعالى يرضى عنه أخصامه.).

 تعليق 

واضح وجود صلة بين المقريزى وهذا القاضي ، فأبوه كان شيخ المقريزى ، وقد أسبغ عليه مدحا ، قال بعده :  ( إلا أنه ولي القضاء ) توحى بأن تولى القضاء رذيلة ، أو أن توليه القضاء أظهر ما بداخله من فساد . بعدها قال ( فاللّه تعالى يرضى عنه أخصامه.)، أي إنه حكم بالظلم في ولايته للقضاء . إلا إنه لم يقل إنّ متابعته للسُّنّة هي أساس ظلمه في أحكامه القضائية .

( ومات 844 القاضي شمس الدين محمد بن شعبان في حادي عشرين شوال عن نيف وستين سنة وولي حسبة القاهرة مرارًا عديدة، ولا فضل ولا فضيلة). 

تعليق 

هذا قاض تولى منصب الحسبة ، وهو أكثر المناصب استطالة على الناس وأكلا لأموالهم . لذا تولى المنصب مرات عديدة ، وكان مؤهلا له ، إذ لا فضل عنده ولا فضيلة .

( وتوفي تقي الدين محمد بن الزكي عبد الواحد بن العماد محمد ابن قاضي القضاة علم الدين أحمد الأخناي المالكي، أحد نواب الحكم بالقاهرة عن المالكية، وهو بمكة في ثالث ذي الحجة، 830 عن ثلاث وستين سنة. وكان بالنسبة إلى سواه مشكوراً ).

 تعليق

 يصفه بالظلم ، ولكنه كان أقل ظلما من غيره من القُضاة بحيث صار مشكورا بالنسبة لمن سواه .  

    عن تحيّز المقريزى ، مدحا أو ذمّا : 

 تحيّز المقريزى للأشراف ( زاعمى الانتساب للنبى محمد عليه السلام )

 هل ينتمى المقريزى نسبا الى الفاطميين ؟ 

1 ـ قال ابن حجر في ترجمة المقريزى في كتابه ( إنباء الغُمر ): ( وقد رأيت بعض المكيين قرأ عليه شيئا من تصانيفه فكتب في أوله نسبه إلى تميم بن المعز بن المنصور بن القائم بن المهدي عبيد الله القائم بالمغرب قبل الثلاثمائة، والمعز هو الذي بنيت له القاهرة وهو أول من ملك من العبيديين ( الفاطميين )  - فالله أعلم، ثم إنه كشط ما كتبه ذلك المكي من أول المجلد، وكان في تصانيفه لا يتجاوز في نسبه عبد الصمد بن تميم، ووقفت على ترجمة جده عبد القادر بخط الشيخ تقي الدين بن رافع وقد نسبه أنصاريا فذكرت ذلك له، فأنكر ذلك على ابن رافع وقال: من أين له ذلك ؟  وذكر لي ناصر الدين أخوه أنه بحث عن مستند أخيه تقي الدين في الانتساب إلى العبيديين ( الفاطميين )، ذكر له أنه دخل مع والده جامع الحاكم فقال له وهو معه في وسط الجامع: يا ولدي هذا جامع جدك.. ). 

تعليق 

هذه أقوال مرسلة . ولم يذكر المقريزى نسبته الى الفاطميين ، وقد تعرض لتاريخهم في كتابه ( إتّعاظ الحنفا ) ومواضع في ( الخطط ) . 

2 ـ وقال أبو المحاسن في ترجمة المقريزى : ( وتوفي الشيخ الإمام العالم المحدث المفنن عمدة المؤرخين ورأس المحدثين تقي الدين أحمد بن علي بن عبد القادر بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن تميم بن عبد الصمد البعلبكي الأصل المصري المولد والوفاة المقريزي الحنفي ثم الشافعي . ) ثم قال أبو المحاسن : ( هذا ما نقلناه من خطه. ) أي هذا ما كتبه المقريزى في نسبه . إلا إن أبا المحاسن يقول بعدها : ( وأملى عليّ نسبه الناصري محمد ابن أخيه بعد وفاته،  إلى أن رفعه إلى علي بن أبي طالب من طريق الخلفاء الفاطميين وذكرناه في غير هذا المصنف - انتهى‏.). أي لم يزعم المقريزى الانتساب للفاطميين ، بل الذى زعم هذا هو ابن أخ المقريزى ، بعد وفاة المقريزى .

المقريزى لم يكن شيعيا ، كان فقط منحازا لمن يُطلق عليهم ( آل البيت )

 1 ـ في كتابه ( الخطط ) ناقش نسب الفاطميين ، وعرض رأى من ينكر هذا النسب ومن يؤيده ، واختار تأييد نسب الفاطميين ، وكان هذا متابعا لأستاذه ابن خلدون . 

2 ـ كان هوى المقريزى مع من يطلق عليهم ( آل البيت ) ، تجلى هذا صراحة فى كتابه الصغير (فضل آل البيت)، كما تجلى فى دفاعه بالحق والباطل عن الفاطميين بين سطور تأريخه لهم فى ( إتعاظ الحنفا بذكر الأئمة الفاطميين الخلفا ) وتحيزه لهم واضح فى العنوان. وقد إنتقى المقريزى من تاريخ المؤرخ المصرى ( المسبحى ) ما يوافق هواه.  

3 ـ ولكن لم يكن المقريزى شيعيا ، فقد جاء وصفه بمحبته لأهل الحديث . بل قال في ( الخطط المقريزية ) عن الفاطميين :  تحت عنوان ( مذاهبهم في أول الشهور ) ( اعلم أن القوم كانوا شيعة ثم غلوا حتى عدوا من غُلاة أهل الرفض للشيعة . ). وتعبير ( الرفض ) و ( الرافضة ) هو الاصطلاح المُفضّل لدى السنيين في الهجوم على الشيعة . إلا إن المقريزى كان يؤمن بمكانة ( الأشراف ) طبقا للسائد في أديان التشيع والتصوف والسُنة . ولسنا في مجال التعمُّق في هذه الناحية ، ولكن نكتفى بما أورده في السلوك . 

يقول : 

1 ـ ( ومات ( عام 832 )  السيد الشريف عجلان بن نعير...   مقتولا في ذي الحجة. وقد ولي إمرة المدينة النبوية مراراً، وقبض عليه في موسم سنة إحدى وعشرين وثمانمائة، وحمل في الحديد إلى القاهرة، فسجن ببرج في قلعة الجبل، ثم أفرج عنه وكان في الإفراج عنه ذكرى من كان له قلب. وهم أن عز الدين عبد العزيز بن علي بن العز البغدادي الحنبلي قاضي القضاة ببغداد ثم بدمشق رأى في منامه كأنه بمسجد الرسول- صلى الله عليه وسلم- وإذا بالقبر قد فتح، وخرج منه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وجلس على شفيره، وعليه أكفانه، وأشار بيده الكريمة إلى عبد العزيز هذا فقام إليه حتى دنا منه، فقال له: قل للمؤيد يفرج عن عجلان، فانتبه وصعد إلى قلعة الجبل. وكان من جملة جلساء السلطان الملك المؤيد شيخ المحمودي، وجلس على عادته بمجلسه وحلف له بالأيمان الحرجة أنه ما رأى عجلان قط ولا بينه معرفة. ثم قصّ عليه رؤياه ، فسكت ، ثم خرج بنفسه بعد انقضاء المجلس إلى مرماة النشاب التي قد استجدها بطرف الدركاه، واستدعى بعجلان من سجنه بالبرج، وأفرج عنه، وأحسن إليه. وقد حدثني قاضي القضاة عز الدين بهذه الرؤيا غير مرة، وعنه كتبتها . وعندي مثل هذا الخبر في حق بني حسين عدة أخبار صحيحة، فإياك والوقيعة في أحد منهم فليست بدعة المبتدع منهم، أو تفريط المفرط منهم في شيء من العبادات، أو ارتكابه محرماً من المحرمات، بمخرجه من بنوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فالولد ولد على حال، عقّ أو فجر ). 

تعليق 

هذا قاض يفترى رؤية منامية يجعل فيها النبى محمدا عليه السلام يتشفع في ( الشريف عجلان ) المقتول عام 832 . ويأتي هذا القاضي برؤياه هذه الى السلطان المؤيد شيخ ، فيصدّقه ، ويطلق سراح الشريف عجلان من السجن . وواضح أن عجلان هذا كان واليا فاسدا ، واستحق أن يؤتى به مكبلا بالأغلال من المدينة الى سجن القلعة بالقاهرة ، وظل فيه حتى زعم هذا القاضي تلك الرؤيا المنامية . كون هذا الوالى عجلان من أكابر المجرمين يظهر أيضا في موته مقتولا عام 832 ، وأيضا في إعتراف ضمنى من المقريزى في تحذيره من نقد الأشراف مهما أجرموا ، إذ قال يعبّر عن عقيدته فيهم وانحيازه اليهم : ( وعندي مثل هذا الخبر في حق بني حسين عدة أخبار صحيحة، فإياك والوقيعة في أحد منهم فليست بدعة المبتدع منهم، أو تفريط المفرط منهم في شيء من العبادات، أو ارتكابه محرماً من المحرمات، بمخرجه من بنوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فالولد ولد على حال، عقّ أو فجر ).  هذا أيضا يفسّر موقفه من الفاطميين في تشيعهم المتطرف ( المُغالى ) .

2 ـ على أي حال فالمقريزى كان متأثرا بثقافة عصره . فالطعن في الأشراف قد يوجب القتل . قال المقريزى عن الأمير يخشى بك : ( ومات الأمير يخشي بك، 842   .. ضرب عنقه في يوم الجمعة ثامن ذي الحجة، ( عام 842 )  بحكم بعض نواب قاضي المالكية بقتله ، من أجل أنه سب والديّ بعض الأشراف .). أمير مملوكى سبّ والدى أحد الأشراف فحكموا بقتله .!

3 ـ وسيأتى فيما بعد أن قافلة للحج هاجمتها عصابة تقطع الطريق ، يقودها ( الشريف زهير ) . ومات هذا اللص قاطع الطريق مقتولا ، فسجّل المقريزى هذا في وفيات عام 838 . قال : ( وقتل الشريف زهير بن سليمان بن زيان بن منصور بن جماز بن شيحة الحسيني في محاربة أمير المدينة النبوية مانع بن علي بن عطية بن منصور بن جماز بن شيحة في شهر رجب  . وقتل معه عدة من بني حسين، منهم ولد عزيز بن هيازع بن هبة بن جماز بن منصور بن جماز بن شيحة. ) ثم قال عن ( الشريف زهير ) : ( ، وكان زهير هذا فاتكاً، يسير في بلاد نجد، وبلاد العراق، وأرض الحجاز، في جمع كبير فيه نحو ثلاثمائة فرس، وعدة رماة بالسهام، فيأخذ القفول،( أى القوافل )  وخرج في سنة أربع وثلاثين وثمانمائة على ركب عُمَّار، توجهوا إلى مكة من القاهرة، وكنت فيهم، ونحن مُحرمون بعد رحيلنا من رابغ، فحاربنا، وقتل منا عدة رجال، ثم صالحناه بمال تجابيناه له، ( أي دفعناه جباية له ) حتى رحل عنا . ).

 تعليق 

1 ـ كان المقريزى في هذه القافلة التي هاجمها هذا ( الشريف ) ، وذكر تفصيلات هذا الهجوم في حينه ، ومع هذا فلم يقل فيه المقريزى ما يستحق لأن دينه السُّنّى يقدس ( الأشراف ). 

2 ـ هذا يناقض الإسلام . فالله جل وعلا لم يخلق البشر نوعين : أشرافا وغير أشراف . إن مصطلح ( شرف / أشراف ) لم يرد مطلقا في القرآن الكريم مع كونه من المصطلحات العربية المتداولة والمشهورة .إن الله جل وعلا خلق البشر جميعا متساوين من أب واحد وأم واحدة مهما اختلفت ألوانهم وشعوبهم ، وجعل الأفضلية بينهم بالتقوى ، قال جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) الحجرات  ) ، والتقوى في القلوب لا يعلمها إلا رب العزة جل وعلا ، وسيكون هذا يوم القيامة ، حيث لا يدخل الجنة إلا المتقون، قال جل وعلا: (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً (63) مريم )

 تحيزه ضد الأقباط وأهل الكتاب 

 في كتابه ( الخطط )

1 ـ تفصيل هذا جاء في كتاب لنا عن ( ثقافة الفتوحات ) وهو قائم على كتابات المقريزى ، خصوصا في ( الخطط المقريزية )  . 

2 ـ نكتفى بمثال واحد ، وهو الاضطهاد العام للأقباط في سلطنة الناصر محمد بن قلاوون عام 682 ، وقد بدأ بالاحراق العام للكنائس المصرى كلها ما عدا الكنيسة المعلّقة ، رد الأقباط باحراق بعض المساجد فكانت ثورة شعبية عارمة عليهم ، أوقفها السلطان باضطهاد رسمي للأقباط . وقد ناقشنا هذا الموضوع في أول كتاب لنا صدر عام 1982 ، عن ( السيد البدوى بين الحقيقة والخرافة ) وفيه أثبتنا أن من أحرق كل تلك الكنائس في مصر كلها وفى وقت واحد كان صوفيا من التنظيم السرى الذى أسّسه ( أحمد البدوى ) . يهمنا أمر السلطان بطرد كل العاملين الأقباط  في الدواوين . نقل المقريزى في ( الخطط ) قول السلطان : ( "ما أريد في دولتي ديوانًا نصرانيًا"، فلم يزل به حتى سمح بأن من أسلم منهم يستقر في خدمته ومن امتنع ضربت عنقه. فأخرجهم إلى دار النيابة وقال لهم‏:‏ يا جماعة ما وصلت قدرتي مع السلطان في أمركم إلاّ على شرط وهو أن من اختار دينه قُتل ، ومن اختار الإسلام خُلع عليه وباشر) أى باشر وظيفته كالمعتاد، فأسلموا رسميا . ويقول المقريزى معلّقا:( فصار الذليل منهم بإظهار الإسلام عزيزًا ، يبدي من إذلال المسلمين والتسلط عليهم بالظلم ما كان يمنعه نصرانيته من إظهاره.)أى أصبح أولئك المسلمون الجُدد أكثر نفوذا وأكثر جرأة فى ظلم المسلمين المحكومين. ويقول المقريزى ( وما هو إلا كما كتب به بعضهم إلى الأمير بيدرا النائب‏:‏
أسلمَ الكافرونَ بالسيفِ قهرًا    وإذا ما خلوا فهُم مُجرمونا
سلِموا مِن رواحِ مال وروحٍ    فهم سالِمون لا مُسلمونا .). 

هذا تعليق المقريزى في ( الخطط ) ، وهو يعبر عن تعصبه ضد الأقباط المصريين . لقد ذكر بعض الاضطهاد الذى تعرضوا له، دون أن يتعاطف معهم . 

في تاريخ ( السلوك )

ونفس الحال في تعرضه في تاريخ ( السلوك ) لبعض الشخصيات القبطية في عصر برسباى . فقد قال في أحداث عام 830 : ( وضرب عنق نصراني في يوم الاثنين سادس عشرين شهر ربيع الآخر، على أنه ساحر، وقد حكم بعض نواب الحكم المالكية بقتله، واتهم أنه قتله لغرض، ولله العلم ). 

تعليق

هذا يعبّر عن التعصّب . القاضي المالكى حكم بقتله بتهمة السحر ، مع أن السائد وقتها الاعتقاد في جدوى السحر والاستعانة به حتى في قصور المماليك وفى الحريم المملوكى . أكثر من هذا ، فقد تخصص شيوخ التصوف بعمل السحر فيما كان معروفا بالكيمياء والسيماء ، والكشف عن ( المطالب ) أو الكنوز بالتعاويذ السحرية. وبينما كان أولئك الشيوخ المحتالون يتمتعون بالتصديق ويكسبون الأموال السُّحت إذ بهذا القاضي المالكى يحكم بقتل ( نصرانى ) لغرض في نفسه ، وهذا ما قاله المقريزى : ( واتهم أنه قتله لغرض، ولله العلم ). .! يعترف المقريزى بتعصب القاضي المالكى ، ولكن المقريزى نفسه لم ينج المقريزى من وباء التعصب هذا ، فتلوّنت نظرته بالتحامل على أهل الكتاب فيما ذكره في سرد بعض أخبارهم ، وسيأتى هذا في حينه .

ونعطى هنا نماذج مما ذكره في الوفيات في عصر برسباى . 

1 ـ يقول فى وفيات عام 830 ، قال : ( وهلك بطرك النصارى اليعاقبة غبريال، في يوم الأربعاء ثاني شهر ربيع الأول ، وكان أولاً من جملة الكتاب، ثم ترقى حتى ولي البطركية. وكانت أيامه شر أيام مرت بالنصارى. ولقي هو شدائد، وأهين مراراً، وصار يمشي في الطرقات على قدميه، وإذا دخل إلى مجلس السلطان أو الأمراء يقف، وقلّت ذات يده ( أي افتقر )، وخرج إلى القرى مراراً يستجدي النصارى، فلم يظفر منهم بطائل، لما نزل بهم من القلة والفاقة، وكانت للبطاركة عوائد على الحطي ملك الحبشة، يحمل إليهم منه الأموال العظيمة، فانقطعت في أيام غبريال هذا، لاحتقارهم له وقلة اكتراثهم به، وطعنهم فيه، بأنه كان كاتباً، وذمته مشغولة بمظالم العباد. وبالجملة فما أدركنا بطركاً أخمل منه حركة، ولا أقل منه بركة. ) . 

تعليق 

تعرض هذا البطرك لاضطهاد هائل سيأتى تفصيله مما ذكره المقريزى نفسه ، ونرى المقريزى هنا متحاملا عليه ، لم يشفق عليه ، بل تكلم عنه كأنه السبب فيما تعرض له من إهانة واحتقار وإجبار على التسول ليدفع الغرامات المفروضة عليه.

 2 ـ وبعضهم أسلم وترقّى في الوظائف ، ولم يرحمه المقريزى ، فنراه أحيانا:

2 / 1 : يذكر محاسن هذا الذى أسلم مع الهجوم عليه كقوله عن كاتب السّر ابن الكويز الكركى فى وفيات عام 826 : (  ومات علم الدين داود بن زين عبد الرحمن بن الكويز الكركي، كاتب السر، في يوم الاثنين سلخه، ولم يبلغ الخمسين سنة.) وذكر المقريزى أنه أسلم ، واعترف بأنه : ( وكانت تؤثر عنه فضائل، منها أنه يلازم الصلاة، وصيام أيام البيض من كل شهر، ويتنزه عن القاذورات المحرمة كالخمر واللواط والزنا، ويتصدق كل يوم على الفقراء، ) ، ثم يسارع بالهجوم عليه قائلا : ( إلا أنه كان متعاظماً، صاحب حجاب وإعجاب، مع بُعد عن جميع العلوم. ولكنه في الألفاظ ذو شح زائد، وحفظت عليه ألفاظ تكلم بها سخر الناس منها زماناً، وهم يتناقلونها،) ثم يعود يمدحه فيقول : (  وكان مهاباً إلى الغاية متمكناً في الدولة، موثوقاً به فيها، بحيث مات ولا أحد أعلا رتبة منه ) .

تعليق 

مآخذ المقريزى عليه هي وجهات نظر تتناقض مع ما ذكره من فضائله . ثم أين هو من أكابر المجرمين وقتها ؟ 

2 / 2 : يشّكك في إيمان بعضهم بالإسلام . فى وفيات عام 835 ، قال المقريزى : ( ومات الصاحب علم الدين يحيى أبو كم الأسلمي، في ليلة الخميس ثاني عشرين رمضان، وقد أناف على السبعين، فباشر نظر الأسواق، وتنقل حتى ولي الوزارة في الأيام الناصرية فرج، وكان يريد الانتفاء من النصرانية، فحج وجاور بمكة، وأكثر من زيارة الصالحين، والله أعلم بما كانوا عاملين. ) . العبارة الأخيرة فيها تشكيك واضح ، ودخول بما في الضمائر والسرائر . ماذا كان على هذا الرجل أن يفعل كى يقتنع المقريزى بصحة إسلامه ؟ 

 2 / 3 : يهاجم صراحة ، ففى وفيات عام 831 ، قال : ( ومات نجم الدين حسين بن عبد الله السامري الأصل كاتب السر وناظر الجيش، بدمشق يوم الأربعاء رابع عشر جمادى الآخرة ، وكان من سمرة دمشق، يعاني كتابة الديونة، وخدم عند الأمير بكتمر شلق، وقدم إلينا القاهرة معه في الأيام الناصرية، وهو بزي المسلمين، فلما كانت الأيام الأشرفية جمع له بين كتابة السر ونظر الجيش بدمشق، ولم يجتمعا لأحد قبله، وطالت أيامه وكثر ماله حتى أتاه حمامه، ولم يشهر بفضل ولا دين .).

تعليق

المقريزى يتكلم كما لو أن أكابر المجرمين أصحاب المناصب من المحمديين كانوا مشهورين بالفضل والدين .! 

أخيرا 

مع هذا التعصّب مع وضد يظل المقريزى أصدق من يعبر عن عصره . ولهذا فنحن نطمئن الى اتخاذه شاهدا على تطبيق الشريعة السُّنّية لأكابر المجرمين في عصر برسباى ، خصوصا وأنه مع كونه أعظم المؤرخين فلم يكن من أكابر المجرمين . 



 

 


 



الفصل الثالث :  لمحة عن الدولة المملوكية 

الباب التمهيدى : عن الدولة المملوكية ومؤرخيها وما قبل السلطان برسباى  

أولا : 

نوعية الدولة المملوكية : البحرية ثم البرجية 

1 ـ الدولة المملوكية المصرية إمتدت من غرب العراق وجنوب تركيا شرقا الى حدود ليبيا غربا، وشملت الحجاز بما فيه من مكة والمدينة وسواحل البحر الأحمر . وكان يُطلق على الجزء الشرقى منها إسم ( الشام ) والحاكم المملوكى على الشام لقبه ( نأئب الشام ) أي نائب السلطان المملوكى في القاهرة على الشام ، وكان الشام يشمل حلب ودمشق والقدس وغيرها ، ولم يكن إسم فلسطين وقتها مستعملا . وكانت هناك إمارة حدودية شمال العراق مشمولة بحماية الدولة المملوكية وتقع فيها قلاقل . وقام السلطان برسباى بغزو قبرص وأسر ملكها وأصبحت ضمن الدولة المملوكية المصرية  . 

 2 ـ إشتهرت الدولة المملوكية البحرية  بشراء الرقيق الأطفال من أواسط آسيا وشرق واواسط أوربا  حيث كان يتم فيها قنصهم وأسرهم وخطفهم ثم استحضارهم الى حلب التابعة للسلطنة المملوكية توطئة لبيعهم فى مصر. ثم تدريبهم عسكريا وتعليمهم ثقافيا في الجزيرة النيلية المُحاطة ب ( بحر النيل ) وهؤلاء هم المماليك البحرية ، وبعد مدة التدريب يتم عتق المملوك ويصبح حرا تابعا للأمير أو السلطان الذى إشتراه . يشق طريقه من جندي الى رتب أعلى في الجيش وسلك الأمراء حسب إمكاناته في فن المكر والفروسية ، قد يصل الى مرتبة الأتابك أي قائد الجيش ، أو السلطنة أو يفقد حياته .  وبتوالى عشرات السنين أصبح معروفا فى تلك البلاد ( أواسط آسيا وأواسط وشرق أوربا ) أن أولئك المخطوفين من أبنائها ينتهى بهم الحال ليكونوا أمراء وسلاطين فى مصر ، لذا أصبح من الشائع فى تلك المناطق الآسيوية والأوربية وقوع الشباب الطموحين منها فى الاسترقاق طوعا وبإرادتهم ليؤتى بهم مماليك فى مصر المملوكية أملا فى مستقبل أفضل خيرا من المعاناة في أوطانهم .

3 ـ  واكب هذا عصر التنازع بين الأمراء للسيطرة على السلطان الصغير من أبناء وأحفاد السلطان الناصر محمد آخر سلطان قوى من بنى قلاوون . هذا التنازع دفع الأمراء المتناحرين الى تقوية مراكزهم  ب ( إستجلاب ) مماليك من تلك الأصقاع ، وكانت الأفضلية ليس للأطفال المحتاجين الى تدريب وتهذيب بل الى شباب مدرب جاهز. تغيّر المصطلح ، فلم يعد ( شراء) الأطفال ليصيروا مماليك متمصرين ، بل أصبح ( جلب ) شباب من الفتيان الذين لا إنتماء لهم إلا للمال وبأى طريق . فتكاثر ( جلب ) نوعبة من الرجال الطموحين للسلطة . وأولئك هم المماليك الأجلاب . وكان منهم برقوق مؤسس الدولة المملوكية البرجية ومعظم الأمراء. وكثر في عهد برقوق وبعده إستجلاب المماليك من كبار السّن . بل كان بعضهم بعد أن يتوطد أمره فى مصر يستقدم اهله ويضمهم الى الطبقة المملوكية ويعطيهم رتبة مملوكية، وهكذا فعل السلطان برقوق الذى استقدم أباه ، وكان هناك أولاد عمومة وأقارب من أمراء المماليك مما يدل على مجيئهم مماليك بإرادتهم . 

4 ـ الذى تبقى من المماليك ( الجلبان ) في عصرنا هو وصف : ( شلبى / شلبية ) ، فالأصل ( جلبى / جلبية ) أي من أصل مملوكى من المماليك الجلبان ذوى البشرة البيضاء . ومنها جاء إسم ( شلبى / شلبية ) .

5 ـ في عصر المماليك البرجية لم يعد هناك فارق بين السلطان ( الجلبى ) والأمراء المماليك الجلبان ، والجنود الجلبان ، سواء من الجيش أو ( المماليك السلطانية ) المماليك المملوكين للسلطان نفسه . السلطان ( جلبى ) وكل المماليك ( جلبان ) .

6  وجميعهم كانوا الأسوأ : 

6  / 1 : كانوا من الرعاع في أوطانهم . لا نتصور شخصا من أسرة طيبة عريقة يقبل أن يوقع نفسه بالرق ويصبر عليه . لا يقبل هذا إلا أرباب الجرائم ومن لديه إستعداد لأن يكون من بينهم . المماليك السابقون الذين جىء بهم أطفالا وقعوا في الرق رغم أنوفهم وجىء به الى مصر صفحة بيضاء ، فنشأوا على المعتاد ، ولم يكن كله سيئا . لذا كان المماليك البرجية  أسوا من المماليك البحرية .

6 / 2 : كانوا أسوا من السلاطين المستبدين العاديين ( العلمانيين ) الذين لا يرفعون راية الشرع ولا يتمسحون بالإسلام  . كان السلاطين الجلبان  أوغادا حقيقيين متخصصين في السلب والنهب والفتن . كانوا أقرب الى قطاع الطرق وعصابات الإجرام . ومع هذا فكانت شرورهم تحمل راية الإسلام . 

6 / 3 :  ليس هناك أسوا منهم إلا العسكر المصرى الحالي الذى يحتل مصر من عام 1952 ، ووصل بمصر والمصريين الى الحضيض . 

7 ـ وقد قام المقريزى بالتأريخ لهؤلاء السلاطين المماليك الجلبان في الأجزاء الأخيرة من كتاب ( السلوك ) وكان حاد النبرة في الهجوم عليهم .  

8 ـ المماليك الجلبان ( الرعاع ) ورثوا نظام الكهنوت الدينى من السلطان بيبرس البدقدارى ، فهو الذى إستقدم شخصا من الأسرة العباسية وجعله خليفة في القاهرة يعطى شرعية ومصداقية دينية للسلطة المملوكية ، وهو أيضا ( الظاهر بيبرس ) الذى أدخل نظام القضاة الأربعة على المذاهب السنية ، وجعل قاضيا للقضاة لكل مذهب منها .  هؤلاء المماليك الجلبان الفجرة إزداد إعتمادهم على الطائفة الأخرى من أكابر المجرمين من الجناح المدنى من أكابر المجرمين ، وهم الفقهاء ورجال الدين ، ليغطّوا على فسادهم ووحشيتهم . وكلما إزداد الفقية طاعة للسلطان المملوكى الجلبى إزدادت شهرته ، وهذا ما نراه من شهرة ابن حجر العسقلانى الساقط أخلاقيا مع شهرته حتى الآن بلقب ( أمير المؤمنين في الحديث ). ومن يقرأ ترجمة له يراها مرصعة بالمناقب والمحامد في تناقض مع تاريخه الحقيقى وخدمته لأكابر المجرمين . ولا يمكن أن يخدمهم إلا إذا مثلهم من أكابر المجرمين .

9 ـ وكما قلنا فإن الجناح المدنى من أكابر المجرمين إنقسم الى نوعين ، كلهم يتولى المنصب بالرشوة :  

9 / 1 : ( وظائف دينية ) كالقضاة والفقهاء ومشيخة المؤسسات الدينية ، والأغلب أن يحمل صاحبها لقب القاضي حتى لو كان معزولا من القضاء . وكان شائعا التولية والعزل في المناصب .

9 / 2 : ( وظائف ديوانية ، يحمل صاحبها لقب الأمير ) مثل ناظر الخاص والاستادار وكاتب السّر .

9 / 3 :وفى كل الأحوال فكل منهم يخمل لقبا دينيا مثل ( شهاب الدين ) ( علم الدين ) ( عز الدين )..إلخ  

ثانيا : 

عرض سريع لتاريخ المماليك من خلال مكرهم ببعضهم أو تآمرهم ببعضهم للوصول الى الحكم . 

1 ـ تاريخ المماليك يؤكد إعجاز القرآن الكريم في آيتين :

قال جل وعلا :  

1 / 1 : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)  النساء).  

1 / 2 : ( اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43) فاطر )

2 ـ يمكن تلخيص التاريخ المملوكى بكلمة واحدة : ( التآمر ) أو بالتعبير القرآنى ( المكر ).

 2 / 1 : كان  المماليك أنفسهم أبرز ضحايا هذا التآمر ، وكان من ضحايا التآمر أيضا الجناح المدنى من أكابر المجرمين ، وهم الفقهاء ورجال الدين. أصحاب المكر من أكابر المجرمين يحيق بهم مكرهم ، و دفع الثمن أيضا الشعب الخانع لهم . في أوقات الفتن المملوكية كان الشعب يدفع الثمن ، سلبا ونهبا وإغتصابا .

3 ـ  ونعطى موجزا للدولة المملوكية من خلال التآمر والمكر . 

  أساس الداء 

1 ـ مفتاح الشخصية المملوكية – كنظام سياسي – هو المساواة بينهم جميعا في الأصل والنشأة ، والتفاضل بينهم يكون بالمقدرة القتالية والمكر والتآمر . كلهم جيء به من بلاده الأصلية رقيقا لينخرط في سلك المماليك ثم ليتدرج بكفاءته السياسية والحربية حتى يصل إلى السلطنة ، ولا عبرة إلا بملكات المملوك وقدراته . لذا نجد بعض الغرائب فالظاهر بيبرس كان في الأصل مملوكا لأحد الأمراء ، وهو الأمير البندقداري ، ونسب اليه ، فقيل عنه ( بيبرس البندقداري) . واعتقه سيده ( البندقدارى ) وشق بيبرس طريقه فوصل بدهائه وقدرته إلى أن أصبح سلطانا وسيده السابق أصبح مجرد تابع صغير له في دولته . مهارة بيبرس تتجلى في قدرته الفائقة على المؤامرات والدهاء مع نشاطه الحربي ....  

2 ـ وحين يصل مملوك ما بدهائه وحذقه في المؤامرات إلى السلطنة فإنه يواجه مؤامرات الآخرين إلى أن يموت نتيجة المؤامرة أو يتم عزله. وهكذا تدور السياسة المملوكية في حلقة لا تنتهي من الدسائس والمؤامرات و ( المكر )...     

  ملاحظات عن فنون المكر ( التآمر ) المملوكي :  

1- معرفة المماليك بفن المؤامرات بدأت قبل قيام الدولة المملوكية رسميا، أي أن المماليك تعلموا فن المؤامرات على أيدى أكابر المجرمين في الدولة الأيوبية ، حيث برع الأيوبيون في حياكة المؤامرات ضد بعضهم البعض , وهذا ما فعله مماليك السلاطين الأيوبيين إذ كانوا عنصرا في تدبير المؤامرات بين سادتهم ملوك بنى أيوب . والمماليك البحرية شاركوا في مؤامرات سيدهم الصالح أيوب ثم تآمروا على إبنه توران شاه فقتلوه ، وقامت دولة المماليك البحرية.  واستكثر السلطان قلاوون في شراء المماليك واسكنهم أبراج القلعة وهم ( المماليك البرجية ) وكثر المماليك البرجية ومارسوا لعبة المؤامرات في سلطنة أبناء وأحفاد سيدهم قلاوون , إلى أن قامت دولتهم وقد تمرسوا – أي البرجية – بفن المؤامرات خلال الدولة المملوكية البحرية إلى أن أقاموا دولتهم البرجية تماما كما فعل السلاطين البحرية أثناء دولتهم الأيوبية .    

2- قد تنتهي المؤامرة بقتل السلطان – وحينئذ يتولى القاتل السلطنة طالما كان كفئا ، وبذلك يصبح قتل السلطان مسوغا شرعيا ـ ضمن المعلوم بالضرورة عندهم ــ لصلاحية القاتل كسلطان  . ومعنى ذلك إن الأمراء لا يخضعون للسلطان إلا لأنه أقواهم ، فهو قرين لهم وند من حيث الأصل ، فإذا ما مات وتولى إبنه ( الذى لم يمسسه رقُّ  ) ــ فحظ ابنه أن يكون مجرد فترة انتقالية ليظهر فيها الأقوى من الأمراء ليتغلب على السلطنة ويمسك بزمام الأمور ويعزل السلطان الصغير أو يقتله . ومن عجب إن أكثر السلاطين كان يخدع نفسه ويصدق نفاق أتباعه فيخيل إليه أنهم سيرعون حقه عليهم بعد موته في رعايتهم لابنه ، فيأخذ عليهم العهود والمواثيق ويمكّن لابنه في حياته ما استطاع ، ومع ذلك فإن أخلص ممن يقوم بأمر ابنه في حياته يكون هو نفسه الذي يعزله بعد فترة انتقالية معقولة ويتسلطن ، وينشيء أتباعا جددا من المماليك الذين يشتريهم ، ويُبعد عنه رفاقه السابقين في المؤامرات ، وبعد أن تقترب منيته يظن أن الأمور استتبت له فيأخذ العهد لابنه ويأتمن عليه أخلص أتباعه ، إلا أن القصة تتكرر بحذافيرها , ويعزل التابع ابن سيده السلطان السابق وتتكرر القصة وهكذا .  

 إستعراض سريع للدولة المملوكية وسلاطينها من خلال المكر أو التآمر 

1- أثناء الدولة الأيوبية : إستكثر الأيوبيون من شراء المماليك . وقبل أن تقوم دولة المماليك شارك أمراء المماليك في حوادث الخلاف المستمرة بين أبناء البيت الأيوبي ؛ فالمماليك ( الصلاحية ) – الذين اشتراهم صلاح الدين – علا  شأنهم على حساب المماليك ( الأسدية ) – أتباع أسد الدين شيركوه . وقد تذمر الأسدية أبان حكم صلاح الدين إلا أن شخصيته القوية لم تسمح بتطور الأمور. وبعد موت صلاح الدين استغل أخوه السلطان العادل  (حاكم الشام ) استياء المماليك الأسدية من علو نفوذ الصلاحية فتحالف معهم حتى ضم بهم مصر ، وبه علا شأن الأسدية وضعفت المماليك الصلاحية . وكون العادل مماليك له عرفوا بالعادلية , وأولئك كان لهم دور بعد موت العادل ، فقد كرهوا تولى ابنه الكامل فاضطهدهم الكامل، وكوّن مماليك له عرفوا بالكاملية ، وبدورهم فقد كره المماليك الكاملية تولية العادل الثانى ابن سلطانهم الكامل ، فاعتقلوه وبعثوا لأخيه الأكبر الصالح أيوب فجاء إلى مصر وتسلطن . وعمل الصالح أيوب على الإكثار من شراء المماليك وأسكنهم في الجزيرة على بحر النيل ، فعرفوا ( بالبحرية).  وأولئك  المماليك البحرية كرهوا ابن سلطانهم الصالح أيوب – وهو توران شاه إذ كان على شيمة أسلافه يضطهد مماليك أبيه ويعول على إنشاء عصبة مملوكية جديدة تدين بالولاء له ، وعلى ذلك فلم يكافئهم على جميلهم حين هزموا لويس التاسع ، وحفظوا له ملكه . أظهر لهم العداء والتآمر فقتلوه , وانفردوا بالحكم من دونه ومن دون الأيوبيين جميعا . فالمماليك منذ بداية الدولة الأيوبية وهم الاعرف بفنون المؤامرات ، بالتآمر وصلوا الى السلطة ، وبالتآمر ساروا في دولتهم  .      

2- وبتولى المماليك السلطنة اتخذت مؤامراتهم طابعا محليا داخليا فيما بين المماليك أنفسهم للوصول للحكم أو للاحتفاظ به من أنياب الطامعين من بينهم . 

2 / 1 : بعد قتل توران شاه بتدبير شجرة الدر وتنفيذ المماليك البحرية بزعامة أقطاي وبيبرس اتفقوا على تولية شجرة الدر أرملة الصالح أيوب ( أم ولده خليل ) , واحتج الخليفة العباسي على أن تتولى امرأة حكم المسلمين في مصر , فكان لابد لشجرة الدر أن تتزوج . وكان على رأس المماليك اثنان : أقطاي زعيم البحرية و أيبك كبير المماليك السلطانية في القلعة . ورأت شجرة الدر أن نفوذها يمكن أن يستمر مع زعيم البحرية ايبك دون اقطاي القاتل الخشن فتزوجت ايبك , وبذلك أصبح المماليك قسمين يتآمر كل منهما ضد الأخر . اقطاي أتبع أسلوب البدء بالهجوم فظل جنوده ينشرون الفساد ليثبت أن السلطان الجديد عاجز عن إقرار الأمن ، وفي نفس الوقت خطب إلى نفسه أميره أيوبية وطلب من شجرة الدر أن تترك لها مكانها في القلعة . وتآمرت شجرة الدر وايبك على قتل اقطاي ، وشارك في المؤامرة قطز الساعد الأيمن لايبك . وكان قطز صديقا لبيبرس التابع لأقطاى . أقنه قطز صديقه بيبرس بسلامة النية في دعوة اقطاي لمقابلة شجرة الدر , وحين دخل أقطاي القصر السلطاني حيل بينه وبين حرسه وقتل . وألقيت رأسه إلى أتباعه ففروا وهربوا من مصر وكان من بينهم بيبرس .      

2 / 2 : وصفا الجو لأيبك وشجرة الدر , إلا أن الخلاف ما لبث أن اشتد بينهما إذ كانت شجرة الدر امرأة طموحا تنشد الاستقلال بالسلطة وترى في زوجها – الذي كان تابعا سابقا  لها – مجرد أداه لتنفيذ مآربها , وايبك من ناحيته عزم على التحرر من قبضتها والاستئثار بالنفوذ ، وبدأ التآمر بينهما . أعلن أيبك انه سيخطب نفس الأميرة الأيوبية التي كان أقطاي يخطبها لنفسه سابقا ، وليزيد من إغاظة شجرة الدر رجع إلى زوجته السابقة ( أم علي ) , واستعملت شجرة الدر كل دهائها حتى أقنعت أيبك بالصلح معها , وحين جاء يقضى معها الليل كانت ليلته الأخيرة . وثارت المماليك على شجرة الدر ونصبوا عليا الطفل إبن أيبك سلطانا , وشفت أم علي غليلها من غريمتها شجرة الدر إذ أمرت الجواري أن يقتلنها ضربا بالقباقيب . 

2 / 3 : وتولى قطز الوصاية على السلطان الطفل علي بن أيبك . وأقبل الزحف المغولي فعقد مجلسا أعلن فيه أن البلاد في خطر وان السلطان الجديد لا يستطيع النهوض بالأمر ، وعزله وتولى مكانه .  ولتوحيد الجهود ضد المماليك فقد بعث السلطان قطز لصديقه السابق بيبرس وأمراء البحرية الفارين ليتعاونوا معه ضد الخطر المغولي ، فأتوا إليه من الشام .

2 / 4 : وبعد انتصار قطز على المغول تأمر عليه زعماء البحرية بقياده بيبرس انتقاما لمقتل سيدهم أقطاي ، وقتلوا قطز في طريق العودة . وتم تنصيب القاتل بيبرس سلطانا .

2 / 5 : قام بيبرس بتوطيد الدولة المملوكية ورفعة شأنها في الشام والعراق والحجاز . وحاول في أخريات حياته أن يوطد الأمر لابنه سعيد بركة ، فولاه العهد من بعده . وحتى يضمن ولاء المماليك له من بعده فقد زوّجه من ابنة كبير المماليك قلاوون الألفي ، وجعل قلاوون نائبا له ، وأخذ العهد لابنه في احتفال كبير أقسم فيه المماليك على الإخلاص ( لسعيد بركة بن الظاهر بيبرس ) حين يتولى العرش بعد أبيه . 

2 / 6 : ولكن ذلك كله لم يجد نفعا . إذ تآمر قلاوون على (سعيد بركه )  وأرغم سعيد بركة على التنازل – سنة 678 وتولى مكانه ..  وأقامت أسرة قلاوون في حكم مصر نحو قرن أو يزيد 678 – 784 .. 

2 / 7 : متاعب قلاوون لم تنته باعتقال المماليك الظاهرية – أتباع – الظاهر بيبرس – وإحلال أنصاره محلهم ، وإنما ثار عليه – أقرانه من الأمراء كما فعل الأمير سنقر نائب الشام  ، مما جعل قلاوون ينشيء لنفسه عصبة خاصة من المماليك ، فأكثر من شرائهم ، وأقام لهم أبراجا خاصة بجانبه بالقلعة فعرفوا( بالمماليك البرجية) . وأولئك هم الذين تآمروا على اغتصاب السلطة من أبناء وأحفاد سيدهم السلطان قلاوون ، ثم استطاع أحدهم في النهاية وهو برقوق إقامة الدولة المملوكية البرجية .       

3- وأسهم المماليك البرجية في الفتن في دولة أبناء قلاوون – أو في نهاية الدولة المملوكية البحرية . وشاركوا في ذلك بقايا المماليك البحرية.

3 / 1 : تآمر بعض البحرية على قتل الاشرف (خليل بن قلاوون) الذي فتح عكا وأزال الوجود الصليبي نهائيا،  فقتل بيدرا الاشرف خليل ، وأعلن نفسه سلطانا إلا أن أمره لم يتم فقد تمكن المماليك البرجية – إتباع البيت القلاوونى من قتل الأمير بيدرا  . 

3 / 2 : وبدأ الصراع بين المماليك البرجية حول تولية السلطان ، , وكالعادة اتفق على تولية الصبي (محمد بن قلاوون ) السلطة باسم الناصر محمد . 

3 / 3 : وتحكم النائب كتبغا في الناصر محمد ، ثم عزله ونفاه إلى الكرك ، وأعلن نفسه (كتبغا) سلطانا سنة 694 .

3 / 4 : ثم تآمر على كتبغا حليفه الأمير لاجين (وكان لاجين احد قتلة الاشرف خليل بن قلاوون ) وقد اختفي ، ثم ظهر وتحالف مع كتبغا ، وبتأييده تولى كتبغا السلطنة وتمكن لاجين من الانتصار على كتبغا ، فآثر كتبغا السلامة ، وهرب متنازلا عن العرش ، فتولى لاجين السلطنة , حتى قتله بعض الطموحين من صغار الأمراء فتم قتلهما ، واتفق على أن يعود الناصر محمد بن قلاوون للسلطنة للمرة الثانية ( 698 – 708 ) . 

3 / 5 :  إلا أن الناصر محمد وقع للمرة الثانية في قبضة الأميرين المتحكمين فيه ( بيبرس وسلار )  ولما لم يستطع ممارسة نفوذه اضطر للفرار بنفسه إلى الكرك , فتسلطن بيبرس الجاشنكير.  إلا أن أمره لم يتم ، فقد ثارت عليه العامة والجند ، وتمكن الناصر من الرجوع واسترداد عرشه ، وقتل بيبرس الجاشنكير وسلار ، وحكم مستبدا بالأمر حتى وفاته . 

3 / 6 :  وهكذا بدأ المماليك البرجية في المؤامرات أثناء – الدولة القلاوونية البحرية , وقد اتخذ تدخلهم في بداية الآمر مظهر الدفاع عن آل قلاوون بقتلهم بيدرا قاتل الاشرف خليل بن قلاوون ، ثم ما لبثوا أن تحكموا في أخيه الناصر محمد ، وتمتعوا بالامتيازات على حساب بقايا الأمراء المماليك البحرية . ثم تطور نفوذهم أخيرا فتولى احدهم – وهو بيبرس الجاشنكير – السلطة كأول سلطان برجي في الدولة البحرية . ومع تهاوي عرشه سريعا إلا أن ذلك كان إرهاصا بقيام الدولة البرجية ـ فيما بعدُ ـ على يد برقوق . 

3 / 7 : ولقد انعكس نفوذ المماليك البرجية على مصير السلاطين من أبناء وأحفاد الناصر محمد بن قلاوون بعد وفاته ، فكثر توليهم وعزلهم تبعا لمؤامرات كبار الأمراء البرجية , حتى انه في العشرين سنة الأولى التي أعقبت وفاة الناصر محمد بن قلاوون تسلطن ثمانية من أولاده ( 741 – 762 ) وفي العشرين سنة التالية تسلطن أربعة من أحفاده , وبعضهم تسلطن وعمره عام واحد كالسلطان الكامل شعبان بن ناصر محمد ، وبعضهم لم يبق في الحكم إلا شهرين مثل الناصر أحمد بن الناصر محمد. وهذا الاضطراب وعدم الاستقرار أتاح لكبار المماليك البرجية الوصول للسلطنة ، بعد أن جربوا التحكم في صغار السلاطين من أبناء الناصر محمد بن قلاوون وتلاعبوا بهم ، وفي النهاية تولوا الحكم وساروا بنفس أسلوب المؤامرات .

4- وقد عمرت دولة المماليك البرجية أكثر من مائة وأربعة وثلاثين سنة (784 – 922 ) حكم فيها ثلاثة وعشرين سلطانا ، ومنهم تسعة حكموا مائة وثلاث سنوات ارتبط بهم تاريخ الدولة البرجية وهم برقوق مؤسس الدولة وابنه فرج و شيخ و صاحبنا ( برسباى ) وجقمق وإينال وخشقدم وقايتباى وقنصوة الغوري . 

5 ـ وقد تمكن برقوق بسلسلة من الدسائس والمؤامرات أن يقيم الدولة البرجية وتغلب على مصاعب عديدة وصلت إلى درجة عزله من السلطنة إلا أنه عاد وانتصر .

5 / 1 : فلقد غدا أحفاد الناصر محمد بن قلاوون لعبة  في أيدي الأمراء البرجية الذين تنافسوا على الوصول إلى درجة الاتابك أي القائد للجيش ، أو في درجة  نائب السلطنة، للسلطان القلاوونى الصغير وإسمه (على ) . وتبلور النزاع أخيرا بين أميرين كبيرين هما بركة وبرقوق ،  وانتهي الصراع بينهما بانتصار برقوق على منافسه ومن يتبعه، والتزم بركة أمام القضاة الأربعة ( الجناح المدنى من اكابر المجرمين ) بألا يتحدث في شيء من أمور الدولة ، وأن يترك ذلك لبرقوق بمفرده . 

5 / 2 :  وأصبح برقوق هو المرشح عن البرجية أو الجراكسة للتحكم في السلطان القلاووني الصغير , إلا أن برقوق طمع في المزيد فقد كان يريد أن يخلع السلطان المغلوب على أمره ويحكم هو فعلا ورسميا . ولذلك خشي منافسه القديم بركة فاعتقله في الإسكندرية وأوعز لواليها فقتل بركة في السجن . وثار أتباع بركة فأعلن لهم برقوق أن قتل بركة تم بدون علمه، وسلّم لهم والى الإسكندرية فقتلوه واسترضاهم بذلك .

5 / 3 : وتفرغ برقوق بعدئذ لخلع السلطان علي القلاوونى ، وكان الرأي العام يعطف على أبناء البيت القلاووني ولا يميل إلى خلعهم من السلطة رسميا ، وقد سبق أن الجنود والعامة ثاروا على بيبرس الجاشنكير حين خلع الناصر محمد بن قلاوون وتعاطف معه حين هرب إلى الكرك حتى رجع وانتصر على غريمه . وبرقوق يدرك ذلك جيدا ، لذا عمد إلى تخدير الرأي العام فاستضاف شيخا صوفيا ،  معتقدا – أي يعتقد الناس ولايته – وهو الشيخ على الروبي . وقد أعلن الروبي أن برقوق سيلي السلطنة يوم الأربعاء تاسع عشر من رمضان 785 , وأن الطاعون – وكان وقتها ساريا – سيرتفع عن القاهرة ثم يموت الطفل على.  ومعلوم أن الصوفي يحظى باعتقاد العامة في علمه للغيب . وإذ هيأ برقوق الأذهان لما سيحدث فقد قتل السلطان الصغير وأشاع موته ودفنه في يومه ، ثم عين بعده أخاه أمير حاج ، ثم عقد مجلسا بالخليفة العباسي و القضاة الأربعة والأمراء ، فعزلوا أمير حاج ، وبايعوا برقوق في التاسع عشر من رمضان سنة 784 أي في نفس الوقت الذي أعلنه الشيخ الروبي سابقا . وهنا تحالف أكابر المجرمين من المماليك مع أكابر المجرمين من رجال الدين ، وتمت ولادة الدولة المملوكية البرجية.

5 / 4 : ثم عمد برقوق للتخلص من أعوانه من أكابر المجرمين من الأمراء الذين ساعدوه فقضي عليهم بالقتل والنفي ، وممّن عاونه من رجال الدين ، فإعتقل الخليفة العباسي . وفي هذه الظروف مات الشيخ الروبي مما يعزر الشك في – أن لبرقوق يدا في موته . وبذلك ضمن برقوق لنفسه أن ينفرد بالأمر ، ولا يكون لأحد عليه فضل أو نفوذ باعتباره شريكا له في المؤامرة .

5 / 5 : إلا أن برقوق أخذ من مأمنه كما يقال ، فقد ثار الأمير يلبغا بالشام فوجه إليه برقوق مملوكه ( المخلص ) الأمير منطاش على رأس جيش لإخضاعه , إلا أن بلبغا اتفق مع منطاش على عزل برقوق .  وبذلك جاء منطاش  و بلبغا بجيشيهما  إلى القاهرة لحرب برقوق . ولما لم يكن لبرقوق جيش يقابل به الأميرين فقد هرب إلى الكرك ، ودخل منطاش وبلبغا إلى القاهرة ، وأعيد السلطان أمير حاجي القلاوونى ، وكما كان متوقعا دب الخلاف بين منطاش ويلبغا ، وانتصر منطاش . وفي هذه الأثناء هرب برقوق من الكرك ، وأعد جيشا ، وأنضم إليه أنصاره ، والتقى مع مملوكه السابق منطاش في موقعة شقحب فانتصر عليه وعاد للسلطنة للمرة الثانية سنة 797 . 

6 : ومات برقوق سنة 801 وتولى ابنه الناصر فرج , وقد اضطر فرج للاختفاء بسبب مؤامرة  حتى أعاده الأمير يشبك , ثم ثار عليه الأميران ( شيخ ) و ( نوروز) فتنازل لهما .

7 ـ وثار النزاع بين الأميرين ( شيخ ) و ( نوروز) وانتهي بمصرع نوروز سلطنة المؤيد شيخ .

 8 ـ بعد موت السلطان المؤيد شيخ تولى ابنه أحمد تحت وصاية الأمير ططر. إلا إن الأمير ططر سلبه السلطنة وتولى بعده .

9 ـ ومات ططر سريعا ، قبل موته أخذ العهد لابنه محمد بن ططر ، تحت وصاية ( صاحبنا ) برسباى ، إلا أن برسباى ما لبث أن عزل ابن السلطان ططر ، وتولى مكانه . 

10 ـ , وتوفي الاشرف برسباى عام الطاعون  841 ، وقبل موته تنازل عن السلطنة  لابنه يوسف، تحت وصاية الأمير جقمق . وقام جقمق بعزل يوسف ابن برسباى وتسلطن جقمق . وحين مات جقمق عهد لابنه عثمان بن جقمق بوصاية اينال فعزله أينال وتسلطن مكانه .      

11 ـ وسادت ــ بعدها ــ فترة من الضعف في الدولة البرجية ، وتولى سلاطين ضعاف ، وكثر فيهم العزل والتولية ، حتى أن بعضهم كالسلطان خير بك لم يمكث سلطانا إلا ليلة واحدة سنة 872 . ثم انتعشت الدولة مؤقتا بتولي السلطان قايتباى الذي حكم تسعة وعشرين عاما متتالية ، تنازل في السنة الأخيرة لابنه محمد ابن قايتباى الذي دفع حياته ثمنا لمؤامرات الكبار . وتعاقب جملة من السلاطين الضعاف حتى تولى الغورى سنة 906 فأعاد الأمر إلى حين ، وانتهي أمره وأمر الدولة المملوكية في مرج دابق سنة 922  

أخيرا 

نتذكر قوله جل وعلا عن تآمر أكابر المجرمين :

1 / 1 : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)  النساء).  

1 / 2 : ( اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43) فاطر )


  


الفصل الرابع  : قبيل عصر برسباى : السلطان المؤيد شيخ وتطبيق شريعته السُّنّية 

الباب التمهيدى : عن الدولة المملوكية ومؤرخيها وما قبل السلطان برسباى  

المقريزى شاهدا على عصر السلطان المؤيد شيخ  

السلطان المملوكى المتدين ( المؤيد شيخ ) الذى كان من أكابر المجرمين  

 مقدمة 

1 ـ يعتبر عام 824 عاما غريبا في التاريخ المملوكى الممتد من عام 648 الى 923 هجرية . في عام 824 مات السلطان المؤيد شيخ يوم 9 محرم ، وعهد لابنه الطفل أحمد بولاية العهد وكان عمره سبعة عشر شهراً وخمسة أيام، وأقام مجموعة للحكم كان منهم الأمير ططر لرعاية السلطان الطفل .ثم خلع الأمير ططر السلطان الطفل أحمد بن المؤيد شيخ وتولى مكانه بلقب الظاهر ططر ، وهذا في يوم الجمعة  29 شعبان في نفس العام . وبعد مرض سريع مات السلطان ططر يوم في يوم الأحد 4 ذي الحجة  في نفس العام 824 . وعهد الى إبنه محمد  ، وعمره نحو العشر سنين، فأصبح سلطانا يوم موت أبيه ططر، وكان المتولى أمر السلطان الصغير هو الأمير الكبير برسباى. وعزل برسباى السلطان الصغير وتولى مكانه في يوم الأربعاء 8 ربيع الآخر عام 825 .

2 ـ  أي من شهر محرم 824 الى شهر ذي الحجة عرفت الدولة المملوكية أربعة من السلاطين : المؤيد شيخ ثم إبنه أحمد، والظاهر ططر ثم إبنه محمد ، ثم في العام التالى 825 تولى برسباى .  

3 ـ المؤيد شيخ إستمر حكمه ثماني سنوات وخمسة أشهر وثمانية أيام. بينما إستمر حكم برسباى حوالى 17 عاما إذ مات يوم السبت 10 ذي الحجة 841 . 

4 ـ  برسباى ــ الذى نتوقف معه في هذا البحث عن أكابر المجرمين ـــ لم يكن نسيج وحده، ورث نظاما فاسدا حتى النخاع ، وإستمر فيه سعيدا به مخلصا له.

5 ـ لا يؤثر في فساد العصر المملوكى أن يكون السلطان متدينا مثل المؤيد شيخ أو برسباى أو قايتباى . في الدولة المملوكية البرجية كان السلطان من أراذل الناس لأنه من المماليك الجلب المجلوبين من احطّ الطبقات من بلدانهم الأصلية ، لذا كانوا عريقين في الفساد السلوكى . وكان هذا متسقا مع أعوانهم من أكابر المجرمين من الجناح المدنى من القُضاة ، بل كان فساد القُضاة أحطُّ من فساد السلطان نفسه بحيث كان يتدخل بعض السلاطين لاصلاح القضاء أو يتصدى بنفسه للحكم بين الناس .

6 ـ  في النهاية كان هذا الفساد متسقا مع الدين الأرضى الواقعى السائد ، وكان وقتها التصوف السنّى المعمول به من عهد صلاح الدين الأيوبى ، وإستمر هذا الدين سائدا حتى منتصف عصر السادات إذ حل محله الدين الوهابى الحنبلى السنى المتطرف، وهو اشد ضلالا وأحطُّ سبيلا .

7 ـ قبل أن نلج في عصر برسباى نتوقف مع المؤيد شيخ ، شخصا وعصرا .

أولا : شهادة المقريزى على تديّن السلطان المؤيد شيخ .  

1 : يذكر المقريزى أن السلطان المؤيد شيخ هو الذى ابتدع ميعاد البخارى في شهر رمضان ، يقول عن أحداث شهر رمضان عام 841: (  وفي يوم الأربعاء ثالث عشرينه: ختمت قراءة صحيح البخارى بين يدى السلطان بقلعة الجبل، وقد حضر قضاة القضاة الأربع، وعدة من مشايخ العلم وجماعة من الطلبة، كما جرت العادة من الأيام المؤيدية شيخ ). أي إبتدعه المؤيد شيخ وظل عادة رمضانية بعده . وهذا يعطى دليلا على نوعية الدين الأرضى الذى يعتنقه المؤيد شيخ ، ففي الوقت الذى لم يكن فيه للقرآن الكريم إحتفال أقام هذا السلطان إحتفالا رسميا في مقر الحكم ( القلعة ) حمل إسم ( ميعاد البخارى ) ، وجعل موعده ( ميعاده ) في رمضان من كل عام ، كما لو كان رمضان هو الذى أُنزل فيه البخارى وليس القرآن الكريم . 

2  ـ  ننقل ما قاله المقريزى عن المؤيد شيخ ونعلّق عليه :

  2 / 1 (.. وكان شجاعاً، مقداماً ). 

تعليق

لكى يصل الأمير المملوكى للسلطنة لا بد أن يكون شجاعا مقداما خبيرا بالمؤامرات . هكذا كان السلاطين قبل وبعد المؤيد شيخ . العبرة هنا بتوظيف الشجاعة والإقدام ، هل في الحق والخير أم في القتل والقتال والسلب والنهب والتخريب .. الإجابة سنعرفها فيما بعد من كلام المقريزى نفسه.! 

2 / 2 :( يحب أهل العلم، ويجالسهم،) .

تعليق

 أهل العلم هم أكابر المجرمين من الجناح المدنى الذين يعطون شرعية سياسية للجبروت العسكرى المملوكى ، لذا كان يحبهم ويجالسهم .

2 / 3 : (  ويُجلُّ الشرع النبوي، ويذعن له،) 

تعليق 

كان يرى الأحاديث المفتراة  شرعا، والمقريزى يؤمن بهذا أيضا فهو إبن عصره ، فيذكر ضمن مناقب هذا السلطان أنه كان يُجلُّ ( الشرع النبوى ) . كانوا يرون هذا هو الإسلام ، لذا كان قاضى القضاة الشافعى المشهور يحمل لقب ( شيخ الإسلام ) . مثل البلقينى وابن حجر العسقلانى. ولا تزال هذه عادة سيئة حتى الآن . مع أنه ليس في الإسلام ( شيخ ) فيه الرسول النبى وفقط . ومصطلح ( شيخ ) في القرآن يأتي تعبيرا عن مرحلة عُمرية في حياة الانسان . وقد جاء ثلاث مرات في القرآن الكريم بهذا المعنى : ( قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) هود ) ( قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ (78) يوسف ) ( وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) القصص ).

ونعود للمقريزى في وصفه للمؤيد شيخ : 

2 / 4 : ( ولا ينكر على من طلبه منه إذا تحاكم إليه أن يمضي من بين يديه إلى قضاة الشرع، بل يعجبه ذلك. وينكر على أمرائه معارضة القضاة في أحكامهم.) .

تعليق

 أي يرى هذا السلطان أن القضاة رموز الدين . هذا مع أن تعيين القضاة كان بالرشوة ، وقد كانوا أتباعا للسلطان يتنافسون في إرضائه ، فلا بأس أن يتظاهر بإكرامهم . المقريزى يرى هذا منقبة للمؤيد شيخ ، مع أن المقريزى نفسه أظهر فساد القضاة في عصره وهاجمهم .! بل وناقض نفسه حين تحدث بمرارة عن فساد القضاة وغيرهم في سلطنة المؤيد شيخ وغيره .

2 / 5 : ( وكان غير مائل إلى شيء من البدع. ) 

تعليق 

فماذا عن إبتداعه لميعاد البخارى ؟ .!

2 / 6 : ( وله قيام في الليل إلى التهجد أحياناً. ) . 

تعليق 

يزعم المقريزى أن السلطان كان ( أحيانا ) يقوم الليل عابدا متهجدا ، أي يترك محظياته وجواريه ليتهجّد ويقوم الليل ..! . لا نتصور أن يدلف المقريزى الى مخدع السلطان في القلعة ليعرف ما يفعله في سكون الليل . نفهم أنه أُشيع عن السلطان ( المتدين ) أنه يفعل هذا ( أحيانا ) فكتب هذا مصدقا له . مع أنه يستحيل على سلطان من أكابر المجرمين أن يقوم الليل مثل أولئك الذين قال عنهم رب العزة جل وعلا : ( أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (9) الزمر )

3 : يذكر المقريزى في التأريخ لعام 823 في أُخريات حياة المؤيد شيخ :  
3 / 1 ( وفي ثامن عشره: توقف النيل عن الزيادة، وتمادى على ذلك أياماً. فارتفع سعر الغلال، وأمسك أربابها أيديهم عن بيعها، وكثر قلق الناس..) 

تعليق 

حين كان يتناقص النيل تلوح في الأفق المصرى نُذُر المجاعة ،ويبدأ التجار في تخزين العلال والحبوب ، وترتفع الأسعار .  لذا كان مقياس النيل نشاطا رسميا . في هذا العام تناقص النيل فهرع الناس يستغيثون برب العالمين ، ويتوبون عن فعل المعاصى .  

3 / 2 : (..ثم نودي فيهم أن يتركوا العمل بمعاصي الله، وأن يلتزموا الخير. ثم نودي في ثاني عشرينه أن يصوموا ثلاثة أيام، ويخرجوا إلى الصحراء، فأصبح كثير من الناس صائماً، وصام السلطان أيضاً. فنودي بزيادة إصبع مما نقصه، ثم نودي من يوم الأحد غده أن يخرجوا غداً إلى الجبل وهم صائمون، فبكّر في يوم الاثنين خامس عشرينه شيخ الإسلام قاضي القضاة جلال الدين البلقيني، وسار من منزله راكباً بثياب جلوسه في طائفة، حتى جلس عند فم الوادي، قريباً من قبة النصر، وقد نصب هناك منبر، فقرأ سورة الأنعام، وأقبل الناس أفواجاً من كل جهة، حتى كثر الجمع،).

تعليق 

 أجبرهم نقصان النيل على التوبة والصيام والخروج للصحراء فجرا للدعاء . 

3 / 3 : ( ومضى من شروق الشمس نحو ساعتين أقبل السلطان. بمفرده على فرس، وقد تزيا بزي أهل التصوف، فاعتم. بمئزر صوف لطيف، ولبس ثوب صوف أبيض، وعلى عنقه شملة صوف مُرخاة، وليس في سرجه- ولا شيء من قماش فرسه- ذهب ولا حرير، فأُنزل عن الفرس، وجلس على الأرض من غير بساط ولا سجادة، مما يلي يسار المنبر،) 

تعليق 

وشاركهم السلطان المؤيد شيخ . وحرص على أن يظهر كشيخ صوفى ، فلبس زى التصوف ، وتجرد من زُخرف السلطنة وتصرف كآحاد الناس . 

3 / 4 : ( فصلّى قاضي القضاة جلال الدين ركعتين كهيئة صلاة العيد، والناس من ورائه يصلون بصلاته. ثم رقي المنبر، فخطب خطبتين، حث الناس فيهما على التوبة والاستغفار، وأعمال البر، وفعل الخير، وحذرهم، ونهاهم. وتحول فوق المنبر فاستقبل القبلة، ودعا فأطال الدعاء، والسلطان في ذلك يبكي وينتحب، وقد باشر في سجوده التراب بجهته. فلما انقضت الخطبة انفض الناس، وركب السلطان فرسه، وسار والعامة محيطة به من أربع جهاته، يدعون له، حتى صعد القلعة، فكان يوماً مشهوداً، وجمعًا موفورًا .) .

تعليق 

بكى السلطان وتخاشع وسجد على التراب .!!  ولا شك أنه كان مخلصا في هذا شأن البشر حين يتهدد الخطر حياتهم ، ثم عندما يزول يعودون الى ما كانوا عليه من عصيان . قال جل وعلا : ( وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) الزمر). وقال بعدها على من يزعم أن المؤيد شيخ كان يقوم الليل:( أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (9) الزمر )

3 / 5 : (  وفي مشاهدة جبار الأرض على ما وصفت، ما تخشع منه القلوب، ويرجى رحمة جبار السماء، سبحانه.) . 

تعليق 

هنا يأتي تعليق المقريزى كاشفا لحالة المؤيد شيخ ، فهو يصفه بأنه ( جبّار الأرض ) الذى يرجو رب العزة جل وعلا ( جبّار السماء سبحانه ) ويجعل في هذا عبرة : ( ما تخشع منه القلوب). 

3 / 6 : (  ومن أحسن ما نقل عنه في هذا اليوم. أن بعض العامة دعا له، حالة الاستسقاء أن ينصره الله، فقال: اسألوا فإنما أنا واحد منكم، فلله دره، لو كان قد أيد بوزير أصدق وبطانة خير، لما قصر عن الأفعال الجميلة بل إنما اقترن به فاجر جريء، أو خبيث شقي. ). 

تعليق 

يتمنى المقريزى لو دامت حالة التوبة هذه. يتمنى  لو كانت حاشية السلطان صالحة لتجعله مستمرا في الصلاح والإصلاح . وينسى المقريزى أن الحاشية إنعكاس للسلطان ، وكما قال عمر بن عبد العزيز : ( السلطان كالسوق ) يعنى سوق الذهب يذهب اليه من يشترى الذهب ، وسوق المواشى يرتاده مشترو المواشى ، وأيضا فالسلطان العادل يجتمع حوله الصالحون ، والسلطان الفاسد يحيط به أراذل الفاسدين . 

ثانيا : شهادة المقريزى عن فساد المؤيد شيخ :

 يناقض المقريزى نفسه فيقول عن أخلاق المؤيد شيخ :

  1 : ( إلا أنه كان بخيلاً، مسيكاً يشح حتى بالأكل، ) . يعنى وصل به البخل الى الطعام .

  2 : ( لجوجاً، غضوباً، نكداً،) سريع اللجاج سريع الخصومة ، سريع الغضب ، سريع النكد . يكون هذا خطيرا من الشخص العادى فكيف بسلطان يملك وفق شريعة العصر المملوكى أن يقتل من يشاء .

  3 :  ( حسوداً، معياناً،)، أي يحسد الناس، ( معيانا ) أي ذو عين حاسدة . والغريب أن يحسد السلطان المسيطر على الثروة والسلطة غيره .!

  4 : ( يتظاهر بأنواع المنكرات،) يعنى يمارس الفجور علنا ( يمارس الفجور نهارا ويقوم الليل تهجدا ).!.

  5 :  ( فحاشاً، سباباً بذيا ) أي فاحشا بذيئا في كلامه، سبّابا للناس .

  6 : ( شديد المهابة، حافظاً لأصحابه، غير مفرط فيهم، ولا مضيعاً لهم،). لذا هابه الناس خوف لسانه وخوف سلطته ، وكان يحافظ على أعوانه ، وطبعا فأعوانه على شاكلته . وسنعرض لهم ولفسادهم فيما بعدُ. 

7 : ثم يلخّص المقريزى عصر المؤيد شيخ في كلمات قلائل ، يقول عنه: ( وهو أكثر أسباب خراب مصر والشام، لكثرة ما كان يثيره من الشرور والفتن أيام نيابته بطرابلس ودمشق. ثم ما أفسده في أيام ملكه من كثرة المظالم ونهب البلاد، وتسليط أتباعه على الناس، يسومونهم الذلة، ويأخذون ما قدروا عليه، بغير وازع من عقل، ولا ناه من دين  ) . 

تعليق 

هو أكثر من خرّب مصر والشام سواء بالفتن والنزعات العسكرية حين كان حاكما للشام ثم بعد أن أصبح سلطانا ، في إمارته على الشام وفى سلطنته على مصر والشام أسرف في السلب والنهب عن طريق أتباعه الذين سلطهم على الناس بلا وازع من دين أو ضمير . وأتباعه المفسدون كانوا من الجناح العسكرى ( المماليك ) ومن الجناح المدنى ( القضاة )، وتوزع القضاة بين الوظائف الديوانية مثل كاتب السّر أي سكرتير السلطان ، وناظر الجيش والاستادار والوزير ، وبين المناصب الدينية كالقضاء ومشيخة المؤسسات الدينية والأوقاف. هؤلاء الذين ساعدوا المؤيد شيخ في تخريب مصر والشام وإذلال أهلها .  

8 ـ ونقول إن المؤيد شيخ لم يكن لم يكن نسيج وحده ، ورث نظاما فاسدا حتى النخاع ، وإستمر فيه سعيدا به مخلصا له.  


 تطبيق الشريعة السُّنية في عصر السلطان المتدين ( المؤيد شيخ )  

مقدمة 

1 ـ بدأ التطبيق العملى للشريعة الشيطانية بالحديد والنار في خلافة أبى بكر في حرب الردة ضد من رفض دفع ( الزكاة اليه ) ثم في الفتوحات. وفوق أشلاء القتلى وفى بحور الدماء تأسست الخلافة الشيطانية بشريعتها ، ولا تزال بحارها الدموية حتى الآن في تطبيقات أكابر المجرمين في دول المحمديين .

2 ـ التدوين لهذه الشريعة الشيطانية بإختراع الأحاديث الشيطانية بدأ بهجص مالك في الموطأ وهجص الشافعى في ( الأم ) ومن جاء بعدهما فيما نسميه بالفقه النظرى ، الذى تشعب ، ولا يزال تدريسه مستمرا في الأزهر وغيره من المؤسسات الدينية الشيطانية في كوكب المحمديين .

3 ـ هناك تدوين آخر أسميناه ( الفقه الوعظى ) وهو كتابة المؤرخين الفقهاء في إنكار ما يحدث في الحياة الواقعية ، كما فعل الغزالى في (إحياء علوم الدين ) وإبن الجوزى في ( تلبيس إبليس ) وكما فعل إبن تيمية في بعض رسائله وإبن القيم في (إغاثة اللهفان ) وابن الحاج المغربى في ( المدخل ) . هنا يجد الباحث التاريخى كنزا من المعلومات التاريخية عن الحياة الاجتماعية والدينية ، لم يقصد كاتبها أن تكون تأريخا لعصره .

4 ـ يتميز المقريزى بنوعية جديدة يمكن أن نسميها بالتأريخ الوعظى ، وهى متناثرة في رسائله ، وفى ثنايا تاريخه ( السلوك ) ، وهى سطور يستنكر فيها ما يحدث منبها على الخطأ . ميزة المقريزى أنه مؤرخ صادق وأمين ليس فقط في نقل الأحداث ، ولكن أيضا في التعليق عليها بعقليته التي تنتمى الى عصره ، فقد كان سُنيا مخلصا مع شيء من التأثر بالتشيع الفاطمى . المقريزى يكتب من داخل ( الصندوق ) مخلصا لعصره متحريا الإصلاح في داخل دينه السُنّى ، لذا لم ينتبه الى أن دينه السنى وأربابه من أول أبى بكر وعمر وعثمان هم أساس الفساد . 

5 ـ مئات السطور في الاحتجاج على عصره نثرها المقريزى في ( السلوك) ، نكتفى منها بلوحة تاريخية متكاملة نعتبرها أهم شهادة للمقريزى على فساد تطبيق الشريعة فى نظام الحكم في سلطنة المؤيد شيخ .

6 ـ  في سنة 820 كان السلطان المؤيد شيخ غائبا عن مصر يقوم بجولة في الشام ، تاركا مصر يديرها أتباعه وفق الشريعة السائدة التي لا تتأثر بوجود أو غياب السلطان . وننقل من تاريخ ( السلوك لمعرفة دول الملوك : القسم الأول من الجزء الرابع ) شهادة المقريزى على عصر السلطان المؤيد شيخ الذى مدحه المقريزى نفسه .

7 ـ المقريزي بعد أن تحدث عن غيبة السلطان المؤيد شيخ في الشام وعن وصول مبعوث منه يبشر بدخوله حلب  التابعة له أخذ يصف معاناة الناس من ظلم كبار الموظفين  . يقول المقريزي في أحداث شهر ربيع الأخر 820 " فيه قدم قاصد السلطان – أي مبعوث السلطان – يبشر بقدومه حلب .. وأهلّ هذا الشهر – أي جاء هلال هذا الشهر وبدأ ـــ وفي جميع أرض مصر .. من أنواع الظلم ما لا يمكن وصفه بقلم ولا حكايته بقول من كثرته وشناعته. ) . ثم وصف الشنائع التي كان يقترفها أكابر المجرمين في مصر وقت غياب كبيرهم في الشام . ننقلها عنه ، ونعلق عليها .

أولا : المحتسبون وأعوانهم من أكابر المجرمين    
1 ـ يقول عن المحتسب الذي يشرف على الأسواق : ( فالمحتسب بالقاهرة والمحتسب بمصر ، كل ما يكسبه الباعة مما تغش به البضائع وما تغبن ( تظلم ) فيه الناس يُجبى منهم بضرائب مقررة لمحتسبي القاهرة ومصر وأعوانهما ، فيصرفون ما يصير إليهم من هذا السحت في ملاذهم المنهي عنها ، ويؤديان منه ما استدانوه من المال الذي دفع رشوة عند ولايتهم . ويؤخرون منه بقية لمهاداة أتباع السلطان ليكونوا عونا لهم في بقائهم . )، وكان المحتسب في القاهرة وقتها هو القاضي  شمس الدين محمد بن يعقوب الشامي .

2 ـ  فالباعة يغشون البضائع ويظلمون الناس في البيع وبدلا من أن يقوم المحتسب بوظيفته الشرعية في الضرب على أيديهم فإنه يأخذ منهم الرشاوى ويكون شريكا لهم فيما يأكلونه من أموال الناس بالباطل ، وتلك الرشاوى التي أخذت اسم الضرائب كان المحتسب ينفقها في ثلاثة وجوه ، في المعاصي ، وفي تسديد الديون التي أخذها ليدفعها من قبل رشوة كي يحصل على ذلك المنصب ، ثم في تقديم رشاوى . أخرى لحاشية السلطان كي يظل في هذا المنصب.

ثانيا : قضاة الشرع أكابر المجرمين
1 ـ ويأتي المقريزي للقضاة ، وكان في الدولة المملوكية أربعة من قضاة القضاة يمثلون المذاهب الأربعة ولكل منهم نائب أي قاض في كل منطقة بالقاهرة وبالمقاطعات .. ويبلغ عدد أولئك القضاة المحليين – أو النواب – نحو المائتين. 2 ـ يقول المقريزي عنهم: (  وأما القضاة فإن نوابهم يبلغ عددهم نحو المائتين ، ما منهم إلا من لا يحتشم من أخذ الرشوة على الحكم ، مع ما يأتون – هم وكتابهم وأعوانهم – من المنكرات. ولا يغرم أحد الرشوة بمثله فيما سلف ، وينفقون ما يجمعونه من ذلك فيما تهوى أنفسهم ، ولا يغرم أحد منهم شيئا للسلطنة ، بل يتوافر عليهم ، فلا يتخولون في مال الله تعالى بغير حق" – أي لا يحسنون القيام بالحق على مال الله " – ويحسبون أنهم على شيء ، بل يصرحون بأنهم أهل الله تعالى وخاصته افتراء على الله سبحانه . ) 
3 ـ وهذه شهادة المقريزي على رفاقه الذين تولوا منصب القضاء ، وكان شيوخهم في هذا العام : قاضي القضاة الشافعية شيخ الإسلام جلال الدين عبد الرحمن بن البلقيني ، وقاضي القضاة الحنفية ناصر الدين محمد بن عمر ابن العديم ، وقاضي القضاة المالكية جمال الدين عبد الله بن مقداد بن إسماعيل الأقفهسي‏،‏

وقاضي القضاة الحنبلى علاء الدين علي بن محمود بن أبي بكر بن مغلي الحمري. أسماء كبيرة مشهورة في عصرها ، وصفهم المقريزى  بأخذ الرشوة – وبالتالي بالظلم في إصدار الحكم ، يعوّضون ما دفعوه من رشاوى لتولى منصب القضاء ، ثم ينفقون الفائض من ذلك المال الحرام في المعاصي التي لم تكن معهودة من قبل ، ثم يعتبرون أنفسهم أولياء الله وأحباءه.

4 ـ فإذا فسد قضاة الشرع فكيف كان رجل الشرطة ؟ 

ثالثا : الشرطة أكابر اللصوص
    1  ــ والوالي في ذلك العصر كان يعني مدير الأمن فى العاصمة أو المقاطعات ، وكان هناك والى القاهرة وحدها ،أو القاهرة ومصر ، ثم ولاة الأقاليم   2 ـ يقول المقريزى : ( وأما والي القاهرة ووالي مصر وغيرهما من سائر ولاة النواحي ، فإن جميع ما يُسرق من الناس يأخذونه من السارق إذا ظفروا به ، فلا يأتون بسارق معه سرقة إلا أخذوها منه ، فإن لم تكن معه السرقة ألزموه مالا وتركوه لسبيله ، وقد تيقن أنه متي عثر صانع عن نفسه – أي دفع رشوة – وتخلص . ) إذن هو مفهوم جديدا في محاربة الجريمة ، أن يعاقب السارق بأن يسرق البوليس منه المسروقات ويطلق سراحه ، أى إن السارق الأكبر هو نظام الحكم ، والمسئولون فيه يسرقون من صغار (الحرامية ) . أو إن أكابر المجرمين يجعلون اصاغر المجرمين موظفين عندهم .
    2 ـ وعن تطبيق عقوبة السرقة وهي قطع اليد، يقول المقريزى : (  وصار كل من يقطع من السراق يده إنما يقطع لأحد أمرين : إما لقوة جاه المسروق منه ، أو عجز السارق عن القيام للولاة بالمال. )  أي ينفذ قطع يد السارق في حالتين إذا سرق السارق من أحد أكابر المجرمين أو إذا عجز السارق عن تقديم رشوة لأكابر المجرمين . أي إن الحرامى الجوعان مصيره قطع يده .!! 

  3 : ـ أما حالة الولاة في الأقاليم والأرياف فكانت أسوأ . كانوا قطاع طرق بصريح العبارة، ولكن يرتدون الزى الرسمي للدولة وينهبون باسمها ، يقول عنهم المقريزي: ( ويزيد ولاة البر (أى الأقاليم ) على والى مصر والقاهرة بأخذ من وجدوا معه غنما أو أبلا أو رقيقا من الفلاحين أو العربان وغيرهم ، فإذا صار أحد ممن ذكرنا في أيديهم قتلوه واستهلكوا ماله ). أي لا يكتفي الوالي في الإقاليم والريف بنهب المال وإنما يقتل صاحب المال زيادة في الخير .! طبقا لشريعتهم .!

  4 : وأعوان الوالي كانوا أكثر فسادا وإجراما منه ، يقول عنهم شيخنا: (  ومع هذا فلأعوان الولاة في أخذ مال الناس أخبار لم يسمع قط بمثل قبحها وشناعتها ، حتى إنه إذا أخذ شارب خمر غرم المال الكثير ، وكذلك من ساقه سوء القضاء إليهم من المتخاصمين، فيغرم الشاكي والمشكو المال الكثير بقدر جرمه ، بحيث تبلغ الغرامة آلافا كثيرة ) أي إذا حاول مظلوم الشكوى لهم دفع غرامة لهم .

  5 :  وأين تذهب هذه الأموال المنهوبة ، يقول شيخنا: (  وجميع ما تجمعه الولاة كلهم من هذه الوجوه لا يصرف إلا في أحد وجهين : إما للسلطنة مصانعة – أي رشوة – عن أقامتهم في ولاياتهم ، أو فيما تهواه أنفسهم من الكبائر والموبقات ، وينعم أعوانهم بما يجمعونه من ذلك ، ويتلفونه إسرافا وبدارا في سبيل الفساد ، ويتعرض الولاة لمقدميهم ويأخذون منهم المال حينا بعد حين . )  
أى ينفقون ما يجمعون من المال السحت فى دفع رشاوى للكبار، وفى المجون .ويصادر اللص الكبير أموال اللص الاقل منه مكانة فى الوظيفة.

 رابعا : فساد القضاء السياسي
1 ــ بالاضافة للقضاء العادى الذى يتخصص فى الحكم فى منازعات الأفراد كان هناك القضاء السياسى حيث جرى العرف فى الشريعة أن من حق السلطان ـ ومن ينوب عنه ـ قتل من يشاء . بدأ هذا في القرن الأول الهجرى ، وإشتهر به الخلفاء الأمويون والعباسيون ، وإستمر تشريعا واقعيا ، أنتج فيما بعد الفتوى القائلة بأن للإمام ( أي الحاكم في الشريعة ) أن يقتل ثلث الرعية لاصلاح الثلثين.

2 ـ  في العصر المملوكى كان القتل لا يتوقف صراعا على السلطة وتأمينا للسلطان وأكابر المجرمين . المضحك أن بعضهم كان يحلو له إستخدام القضاة يحكمون لهم بقتل من يريد السلطان قتله  تحت شعار (سيف الشرع ) . 

3 ـ وفى شريعة العصر المملوكى كانت للسلطان إدارة أخرى للنهب تتبعه شخصيا  يترأسها أمير مملوكى هو حاجب الحُجّاب وأعوانه من الحجاب . والويل لمن يكون مطلوبا عنده، أو أن يأتي به حظه السيئ إلى ديوانه . يقول المقريزي : (  وأما الحجاب فإنهم وأعوانهم قد انتصبوا لأخذ الأموال بغير حق من كل من يشكو إليهم وكل مشكو عليه ، فما من أحد من الحجاب إلا وفي بابه رجل يقال له " رأس نوبة " يضمن له في كل يوم قدرا معلوما من المال يقوم له به)  أي أن الحاجب يفرض على رئيس مكتبه – بتعبير عصرنا – مقدار معينا من المال وعليه أن يدفعه له ، ويقسم رأس النوبة أو رئيس المكتب ذلك المبلغ المفروض على أعوانه – وهم النقباء ، وأولئك النقباء يأخذون تلك الأموال من الناس ، ويطلق على تلك الأموال لقب " الإطلاق "، ومن يأتي به حظه التعس إلى أبوابهم يقع فريسة في أيديهم يسلبون أمواله بتلك الغرامات المالية وإلا كان الهلاك نصيبه ظالما كان أم مظلوما. ونائب الغيبة – أو الذي يقوم عن السلطان أثناء غيابه – يفعل مثلما يفعل حاجب الحجاب .. ويسير بنفس طريقته.  وصاحب الحجاب وقتها كان الأمير سودن قراصقل

خامسا : الاستادار من أكابر المجرمين
1 ـ الاستادار كان من الجناح المدنى من الفقهاء والقضاة ، وهو الذي يقوم على الشئون المالية للقصور السلطانية وما يدور فيها من إيرادات ومصروفات ولوازم للطعام وغيره ، وتحت تصرفه جيش من الموظفين ، يسلب بهم الأموال لينفق على قصور السلطان . وفى هذا العام  820 هجرية تجوّل الاستادار القاضي الأمير  فخر الدين بن أبي الفرج فى الريف المصرى ينهب كيف شاء .  

2 ـ يقول شيخنا عنه: (  وأما الاستادار، فإنه أمدهم باعا وأقواهم في الظلم ذراعا ، وأنفذهم في ضرر الناس أمرا ، وأشنعهم في الفساد ذكرا ، وذلك أنه خرج إلى الوجه البحري ففرض على جميع القرى فرائض ذهب ، قررها بحيث أن الجباية شملت أهل النواحي عن آخرهم ، ولم يعفُ عن أحد البتة . فما وصلت إليه مائه دينار إلا وأخذ أعوانه مائه دينار أخري ، ثم تتبع أرباب الأموال فصادرهم ، وأخذ لنفسه ولأعوانه مالا كثيرا ، ثم طرح على جميع النواحي بعد ذلك الجواميس التي نهبها ) أي الزمهم بشرائها، (  فقامت كل واحدة من الجواميس على الناس باثني عشر ألف درهم )  أي فرضها عليهم بسعر باهظ ، ( وأكثر ما تبلغ الجيدة منها إلى ألفي درهم !! فجبي من الوجه البحري على اسم الجاموس مالا جمّا) (  ثم أنه الزم الصيارفة ألا تأخذ الدرهم المؤيدى ) أي العملة المعدنية التي أصدرها السلطان المؤيد شيخ ( إلا من حساب سبعة دراهم ونصف وهو محسوب على الناس بثمانية دراهم)  أي تلاعب بسعر العملة، (  والزمهم أيضا ألا يأخذوا الفلوس إلا من حساب خمسمائة وخمسين درهما القنطار وهو على الناس بستمائة درهم ) ( وألزمهم أيضا ألا يقبضوا الذهب الافرنتى ( أي الدينار الإفرنجي ) إلا من حساب مائتين وثلاثين الدينار وهو معدود على الناس بمائتين وستين ، وإذا صرف لأحد ذهبا يحسبه عليه بمائتين وستين.)  أي تحكم في سعر العملة في الشراء والبيع كما يحلو له. ( ثم أنه كل قليل يلزم صيارفته ومقدميه ومباشريها وولاتها بمال يقرره عليهم في نظير ما يعلم أنهم أخذوه من الناس ، وكان كل مرة يصادر أموالهم ، وكان أولئك الأعوان على طريقته في سرقة الناس ، ومع كثرة مصادرته لهم كانوا يعيشون في ترف وينفقون الأموال في المعاصي. ). 
3 ـ بعد أن نهب الوجه البحرى سافر ذلك الاستادار في حملة نهب أخرى على قبيلة لهاتة في الصعيد ، وعاد ومعه الأغنام والبقر والجمال والخيل ، والزم أهل الوجه البحري بشرائها بالسعر الغالي الذي يحدده ، وهى تجاروة مربحة ؛ يسرق من الصعيد ويبيع ما يسرقه لأهل الدلتا ، ثم يعود الى الصعيد يمص دم أبنائه ، يقول المقريزي : (  وهو الآن يفرض على جميع بلاد الصعيد الذهب كما فرضه على نواحي الوجه البحري. ) . واستمر ذلك الاستاراد في عمله ينهب الريف ويفرض ما ينهبه على الناس بأغلى الأسعار وشمل ذلك كافة البضائع من السكر والعسل والصابون والقمح ، ولا يكسب درهما إلا اكتسب أعوانه درهما أخر.

  4  ـ ثم التفت الى أهل القاهرة ، فشرع في نوع أخر من الظلم هو أقامة بناء منطقة بين السورين فى القاهرة ، فأخذ مواد البناء من التجار بلا ثمن ، وسخّر الناس في العمل بلا اجر . وجميع ما يكسبه ينفقه في الشهوات وفي الرشوة لأعوان السلطان.

سادسا : ثم يقول شيخنا : 

(  وقد اختل إقليم مصر في هذه السنة خللا شنيعا يظهر أثره في القابلة – أي في السنوات القادمة – ومع ذلك ففي أرض مصر من عبث العربان ونهبهم وتخريبهم وقطعهم الطرقات على المسافرين وغيرهم شيء عظيم قبحه شنيع وصفه ، والسلطان بعساكره في البلاد الشامية يجول ، وقد قال الله سبحانه وتعالى : " أن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون " . ويضاف إلى ما تقدم ذكره أن الطاعون فاش " أي منتشر " بدمياط والغربية والإسكندرية والإرجاف – أي الشائعات – بالإفرنج متزايد ، وأهل الإسكندرية على تخوف من هجومهم ، وقد استعدوا لذلك ، ولله عاقبة الأمور. )  
أخيرا :

1 ـ في كل زمان ومكان فإن معظم المال السُّحت ينتهى الى جيب السلطان ، كبير أكابر المجرمين . الأموال المنهوبة في عصر السلطان المؤيد شيخ آلت اليه .  

2 ـ عند موته وتغسيله لم يوجد له منشفة ولا ثوب يستر عورته . يقول المقريزى : ( واتفق في أمر المؤيد موعظة فيها أعظم عبرة، وهو أنه لما غسل لم يوجد له منشفة ينشف بها، فنُشّف بمنديل بعض من حضر غسله. ولا وجد له مئزر يستر  به عورته، حتى آخذ له مئزر صوف صعيدي من فوق رأس بعض جواريه، فسُتر به ، ولا وُجد له حتى طاسة يصب عليه بها الماء وهو يُغسّل ، مع كثرة ما خلفه من أنواع الأموال. ) .

3 ـ ألا من يعتبر يا أكابر المجرمين ؟!!. 

 



الفصل الخامس : ( برسباى ) من طفولته في القوقاز الى أن صار أكبر أكابر المجرمين الذين يتصدرون العناوين 


الباب التمهيدى : عن الدولة المملوكية ومؤرخيها وما قبل السلطان برسباى  


مقدمة 

1 ـ قلنا إن منهج كتابة الحوليات التاريخية في العصر المملوكى أن يبدأ المؤرخ السنة بذكر أسماء ما نسميهم ب ( أكابر المجرمين )، وهم هنا الخليفة العباسى والسلطان وكبار الأمراء ونواب السلطان والقضاء الأربعة ، وحكام البلاد المجاورة ، ثم يبدأ بأحداث شهر المحرم وينتهى الى آخر العام شهر ذي الحجة . بعده يذكر من مات في هذا العام من أكابر المجرمين ، يمدح بعضهم ويذم البعض الآخر . 

2 ـ وقلنا إن عام 824 كان فريدا، حكم فيه السلطان المؤيد شيخ ثم مات وخلفه إبنه أحمد ، ثم عزله ططر وتولى مكانه ثم مات ططر سريعا وخلفه إبنه محمد. أي أربعة سلاطين في عام واحد، وظل الطفل محمد بن ططر سلطانا إسميا الى أن عزله برسباى في العام التالى وأصبح سلطانا . 

3 ـ ماذا قال المقريزى عن إفتتاح سنة 824 ؟ ننقل ما كتبه ، ونحلله . 

أولا : يقول : 

( سنة أربع وعشرين وثمانمائة : :

أُهلّت وخليفة الوقت المعتضد بالله أبو الفتح داود بن المتوكل على الله أبي عبد الله محمد. والسلطان بديار مصر والشام والحجاز الملك المؤيد أبو النصر شيخ المحمودي الظاهري، وهو مريض، ومعظم عسكر مصر بمدينة حلب صحبة الأمير الكبير ألطنبغا القرماشي أتابك العساكر، ومعه من الأمراء طوغان أمير أخور، وألطنبغا من عبد الواحد- المعروف بالصغير- رأس نوبة النوب، وألطنبغا المرقبي حاجب الحجاب، وجرباش الكريمي رأس نوبة، وغيرهم. وعند السلطان من الأمراء قجقار القردمي أمير سلاح، و ططر أمير مجلس، وتنبك ميق العلاي، ومقبل الدوادار. والوزير يومئذ الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله. ووظيفة نظر الخاص ليست بيد أحد، وإنما يتحدث فيها عن السلطان الطواشي مرجان الهندي الخازندار. وأستادار الأمير يشبك أينالي. وكاتب السر كمال الدين محمد بن محمد بن البارزي، وقاضي القضاة شيخ الإسلام جلال الدين عبد الرحمن بن البلقيني الشافعي. وقاضي القضاة الحنفية زين الدين عبد الرحمن التفهني. وقاضي القضاة المالكية بديار مصر شمس الدين محمد البساطي. وقاضي القضاة الحنابلة علاء الدين علي بن مغلي. ونائب الإسكندرية ناصر الدين محمد بن أحمد بن عمر بن العطار. ونائب غزة أركماس الجلباني. ونائب الشام جقمق الدوادار. ونائب حلب يشبك اليوسفي، ونائب قيصرية الروم محمد بك بن دلغادر التركماني. ونائب صفد قطلوبغا التنمي. ونائب طرابلس اسنبغا الزردكاش. ونائب حماة أق بلاط. وأمير مكة الشريف حسن بن عجلان. وأمير المدينة النبوية الشريف عزير بن هيازع، ومتملك اليمن الملك الناصر أحمد بن الأشرف إسماعيل. ومتملك بلاد الشرق شاه رخ بن تيمور كركان، ومتملك بلاد الروم سلطان محمد كرشجي بن خوندكار بايزيد بن مراد بن عثمان. ومحتسب القاهرة إبراهيم ابن الوزير ناصر الدين محمد بن الحسام. ووالي القاهرة بكلمش ابن فري. وكاشف الوجه القبلي دمرداش. وكاشف الوجه البحري حسين الكردي ابن الشيخ عمر، وكان مشكور السيرة على تقوى، كما ذكر. )

ونحلل ما كتبه المقري . يقول : 

1 ــ  ( أُهلّت) اى بدأت بهلال محرم . تحديد الشهور بالتقويم القمرى، أي بالهلال. 

2 ـ ( وخليفة الوقت المعتضد بالله أبو الفتح داود بن المتوكل على الله أبي عبد الله محمد.). 

2 / 1 : بدأ المقريزى بأعلى رُتبة وهو الخليفة العباسى ، ووصفه ب( خليفة الوقت ) أي خليفة هذا الزمان للعالم .! هذا يحمل ليس فقط تعظيما للخليفة العباسى بل إعتبارا لمصر بأنها مركز العالم ، ففيها خليفة الزمان ، وبالتالي فمقرّه مركز العالم . وليس هذا مستغربا فقد كان بعض الملوك في الهند وغيرها يبعثون للخليفة العباسى أن يمنحهم تفويضا بحكم بلادهم .

2 / 2 : بدأ به المقريزى وغيره لأنه كان الذى يعطى السلطان المملوكى شرعية الحُكم، أو بالتفويض بالسلطنة لمن يصل من الأمراء الى السلطة بعد التغلب على منافسيه . ثم ( يصعد ) الى القلعة مع كبار الفقهاء والقضاء لتهنئة السلطان مع بدء كل شهر عربى . أي كان مجرد خادم تابع للسلطة العسكرية ، مع كونه رسميا رقم (1 ) في القائمة . وكان يحدث أن يغضب السلطان على الخليفة ويسجنه . كان الخليفة العباسى مجرد طرطور ، وظل هكذا الى أن سقطت الدولة المملوكية ودخل السلطان العثمانى سليم الأول مصر ، وعاد منها يحمل منها أشياء كثيرة من النفائس والأسلاب والمهرة من الحرفيين ، وحمل معه آخر خليفة عباسى فيها . وحمل السلطان العثمانى لقب ( خليفة ) ضمن ألقاب أخرى ، وظل السلطان العثمانى خليفة ( المسلمين ) الى أن سقطت الخلافة العثمانية عام 1923 . 

3 ـ (  والسلطان بديار مصر والشام والحجاز الملك المؤيد أبو النصر شيخ المحمودي الظاهري،). 

3 / 1 : السلطان المملوكى كان يحكم مصر والشام والحجاز. هذه هي الأقاليم الرئيسة في الدولة المملوكية .  

3 / 2 : جاء المقريزى باسم السلطان ( المؤيد شيخ ) تاليا للخليفة العباسى .    

4 ــ ( وهو مريض، ومعظم عسكر مصر بمدينة حلب، صحبة الأمير الكبير ألطنبغا القرماشي أتابك العساكر، ومعه من الأمراء طوغان أمير أخور، وألطنبغا من عبد الواحد- المعروف بالصغير- رأس نوبة النوب، وألطنبغا المرقبي حاجب الحجاب، وجرباش الكريمي رأس نوبة، وغيرهم. وعند السلطان من الأمراء قجقار القردمي أمير سلاح، و ططر أمير مجلس، وتنبك ميق العلاي، ومقبل الدوادار.) . وقت مرض السلطان كان كبار الأمراء المماليك في مطلع هذا العام قسمين : منهم من يقود معظم الجيش في حلب ، والباقون كانوا مع السلطان المريض . نلاحظ وجود الأمير ططر الى جانب السلطان المريض . وهو الذى تولى الحكم بعد الطفل ابن المؤيد شيخ .    

5 ـ (  والوزير يومئذ الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله. ووظيفة نظر الخاص ليست بيد أحد، وإنما يتحدث فيها عن السلطان الطواشي مرجان الهندي الخازندار. وأستادار الأمير يشبك أينالي. وكاتب السر كمال الدين محمد بن محمد بن البارزي )، هنا أكابر المجرمين من الجناح المدنى في الأجهزة الديواني.  

 6 ـ ( وقاضي القضاة شيخ الإسلام جلال الدين عبد الرحمن بن البلقيني الشافعي. وقاضي القضاة الحنفية زين الدين عبد الرحمن التفهني. وقاضي القضاة المالكية بديار مصر شمس الدين محمد البساطي. وقاضي القضاة الحنابلة علاء الدين علي بن مغلي.). ثم أكابر المجرمين في الناحية الدينية ( القضاة ) . 

7 ـ (  ونائب الإسكندرية ناصر الدين محمد بن أحمد بن عمر بن العطار. ونائب غزة أركماس الجلباني. ونائب الشام جقمق الدوادار. ونائب حلب يشبك اليوسفي، ونائب قيصرية الروم محمد بك بن دلغادر التركماني. ونائب صفد قطلوبغا التنمي. ونائب طرابلس اسنبغا الزردكاش. ونائب حماة أق بلاط. وأمير مكة الشريف حسن بن عجلان. وأمير المدينة النبوية الشريف عزير بن هيازع،).

7 / 1 : بعده القضاة الأربعة يأتي نُوّاب السلطان . 

7 / 2 : قسّم المماليك دولتهم الى ما كان معروفا سابقا بالولايات ، في كل منها نائب للسلطان . والتقسيم كان طبقا لأهمية المدينة . مثلا جعلوا مدينة الإسكندرية ولاية يقوم عليها نائب للسلطان بسبب تعرضها للغارات البحرية الصليبية، وكذلك كانت ( غزة ) ( ولاية ) بنفسها لموقعها البحرى وقت الهجمات البحرية الصليبية. لم تكن دمشق ولاية . ثم هناك نواب للسلطان في حلب وقيصرية وصفد وطرابلس وحماة ، بالاضافة الى مكة والمدينة ويحكمها الأشراف تحت سلطة المماليك .    

9 ـ ( ومتملك اليمن الملك الناصر أحمد بن الأشرف إسماعيل. ومتملك بلاد الشرق شاه رخ بن تيمور كركان، ومتملك بلاد الروم سلطان محمد كرشجي بن خوندكار بايزيد بن مراد بن عثمان.) . ذكر ملك اليمن وملك الشرق  في العراق ، والسلطان العثمانى ( بلاد الروم ). وكان وقتها محمد كرشجى الذى جاء في عصر تنازع على الحكم ، وقد تولى في 5 ربيع الآخر عام 816 ، وإستمر حتى حل محله مراد الثانى في 23 جمادى الثانى عام 824 . أي بعد عدة أشهر من محرم 824 .    

10 ـ (  ومحتسب القاهرة إبراهيم ابن الوزير ناصر الدين محمد بن الحسام. ووالي القاهرة بكلمش ابن فري. وكاشف الوجه القبلي دمرداش. وكاشف الوجه البحري حسين الكردي ابن الشيخ عمر، وكان مشكور السيرة على تقوى، كما ذكر.) . في النهاية يذكر محتسب القاهرة ووالى القاهرة ( مدير الأمن ) ، وكاشف الوجه القبلى ، أي حاكم الريف في الصعيد ، وحاكم الريف في الوجه البحرى . 

ثانيا : 

برسباى ليس مذكورا في القائمة :

برسباى الذى تولى السلطنة في العام التالى 825 لم يكن ضمن قادة الأمراء المماليك عام 824 . أين كان برسباى في عام 824 ؟

 نتتبع أخباره في تفصيلات أحداث عام 824 .

1 ـ يقول المقريزى : ( شهر شعبان، أوله الجمعة: في يوم الاثنين حادي عشره.. وقدم الخبر بأن الأمير برسباي الدقماقي نائب طرابلس- كان- بعثه الأمير ططر من حلب، ومعه القاضي بدر الدين محمد بن مزهر ناظر الاصطبل إلى صرخد، وأنه ما زال بالأمير جقمق حتى أذعن، وسار معه إلى دمشق، وصحبه الأمير طوغار أمير أخور. فلما قدموا دمشق قبض الأمير تنبك ميق النائب على جقمق وطوغان وسجنهما. وأن الأمير ططر برز من حلب بمن معه في حادي عشره، وأنه قدم بهم إلى دمشق في ثالث عشرينه، فقتل جقمق نائب الشام ونفى طوغان إلى القدس بطالا .. وعزم  ( ططر ) على خلع المظفر( ابن المؤيد شيخ )  من السلطنة، وخلعه في تاسع عشرينه ( أي 29 شعبان ) فكانت مدته سبعه أشهر وعشرين يوماً ) . 

 وهو في سعيه للسلطنة كان ططر يتخلص من منافسيه ويستبدل بهم أنصاره. لذا عزل النائب اسنبغا الزردكاش وعيّن برسباى مكانه نائبا للسلطان في طرابلس. كان الأمير جقمق أقوى شخصية مملوكية في الشام ، وهو الذى سجن برسباى من قبل في قلعة دمشق ، ثم أخرجه من السجن الأمير الطنبغا  بعد هزيمة جقمق بأوامر من ططر. خرج برسباى من السجن يحمل حقدا على الأمير جقمق. وجاء ططر قبل سلطنته فجعل برسباى نائبا له في طرابلس . ولا بد أن برسباى أوعز الى ططر بقتل جقمق بعد أن أذعن جقمق وسلّم نفسه وسلاحه ، وليس هذا معهودا في صراع المماليك على السلطة . بهذا تخلص برسباى من أكبر عدو له . هذا مؤشر على أن برسباى ــ وهو الأقل درجة من كبار الأمراءــ  يمهد لنفسه مبكرا لأن يكون سلطانا ( أكبر أكابر المجرمين ) بأن يتقرب الى ططر ، ويساعده في تولى السلطنة ، ثم يتخلص منه فيما بعد . وهذا ما حدث .وهذا يفسر كيف مات السلطان ططر سريعا ، وقد عهد لبرسباى أن يكون خليفته على إبنه ولى عهده . وما لبث برسباى أن عزل السلطان الطفل وتولى مكانه في العام التالى . 

 2 : في رمضان الشهر التالى وقد أصبح ططر سلطانا بعد عزل السلطان الطفل إبن المؤيد شيخ نراه قد رقّى برسباى الى درجة كبرى : ( الداودار الكبير ) يقول المقريزى : ( يقول المقريزى : وفي يوم الاثنين ثالثه: .. وخلع على الأمير برسباي الدقماقي، واستقر به دواداراً كبيراً، عوضاً عن الأمير ألي بيه.). الداودار: هو الذى يبلغ الرسائل عن السلطان والذى يبلغه بالأمور والشكاوى، وهو صاحب الاستشارة والإشراف على البريد ، ويقدم للسلطان المكاتبات الرسمية  . بهذا أصبح برسباى أقرب الى السلطان ططر . 

3 ـ ثم يمرض السلطان ططر فجأة . يقول المقريزى في أحداث شهر ذي الحجة : ( أهل والسلطان مرضه متزايد، والإرجاف به كبيره وفي يوم الجمعة- ثانيه-: استدعى الخليفة والقضاة إلى القلعة، وقد اجتمع الأمراء والمباشرون والمماليك، وعهد السلطان لابنه الأمير محمد، وأن يكون القائم بدولته الأمير جانبك الصوفي، والأمير برسباي الدقماقي لالا، فحلف الأمراء على ذلك، كما حلفوا لابن الملك المؤيد. ) . أصبح برسباى ومعه الأمير جانبك الصوفى ( الأقدم من برسباى ) قائمين بدولة السلطان الطفل محمد بن ططر . 

4 ـ يقول المقريزى عن تولية ابن السطان ططر : (  أقيم في السلطنة بعهد أبيه إليه، وعمره نحو العشر سنين، عقيب موت أبيه. في يوم الأحد رابع ذي الحجة، سنة أربع وعشرين وثمانمائة قد اجتمع الأمراء بالقلعة، إلا الأمير جانبك الصوفي فإنه لم يحضر، فما زالوا به حتى حضر، وأجلسوا السلطان، ولقبوه بالملك الصالح. ونودي في القاهرة أن يترحموا على الملك الظاهر، ويدعوا للملك الصالح وسكن الأمير جانبك الصوفي بالحراقة من باب السلسة، وانضم إليه معظم الأمراء والمماليك. وأقام الأمير برسباي الدقماقي بالقلعة، في عدة من الأمراء والمماليك، ... وباتوا بأجمعهم مستعدين. ) . تولى الطفل محمد بن ططر سلطانا شرعيا ــ فترة إنتقالية ـ  الى ان ينحسم الصراع بين كبار المماليك . وكانوا فرقتين ؛ يتزعم الأولى برسباى المقيم في القلعة ، والأخرى جانبك الصوفى .

5 ـ إنتهى الصراع بفوز برسباى الذى خدع جانبك الصوفى  . يقول المقريزى : ( وبينما هم في ذلك إذ رمى المماليك بالنشاب من أعلا القلعة على الأمير جانبك، وهو بالحراقة من باب السلسلة، فاضطرب الناس وللحال أغلق باب القلعة، ودقت الكوسات حربيا، فخرج الأمير طرباي من داره في عسكر كبير، وقد لبسوا جميعهم لامة الحرب. وطلع ومعه الأمير قجق إلى الأمير جانبك الصوفي بالحراقة، وأخذ يلومه على تأخره عن الطلوع لصلاة العيد، ومازال يخدعه حتى انخدع له، وركب معه ليشتروا في بيت الأمير بيبغا المظفري.... فما هو إلا أن صاروا في داخل بيت بيبغا المظفري إذا بباب الدار قد أغلق، وأحيط بجانبك الصوفي، ويشبك أمير أخور وقيدا، وأخذا أسيرين إلى القلعة. ). بهذا أصبح برسباى هو الوحيد المؤهل للسلطنة وعزل السلطان الطفل إبن ططر . 

5 ـ يقول المقريزى في مطلع العام التالى عن أكابر المجرمين عام 825 : 

( أهلت وسلطان مصر والشام الملك الصالح ناصر الدين محمد بن الظاهر ططر. والقائم بأمور الدولة الأمير الكبير نظام الملك برسباي الدقماقي. والأمير الكبير الأتابك طرباي...)

هنا تصدر برسباى العناوين ..!  

6 ـ ويقول المقريزى في ( شهر ربيع الآخر، أوله الأربعاء: .. وفي سادسه: قدم الأمير تنبك العلاي ميق نائب الشام، بعد ما تلقاه عامة أهل الدولة، فخلع عليه واستقر على عادته في نيابة الشام. وتحدث معه في سلطنة الأمير برسباي، فوافق على ذلك . وخلع الملك الصالح في يوم الأربعاء ثامنه، فكانت مدته أربعة أشهر وثلاثة أيام . ) 

7 ـ ثم يقول عن السلطان برسباى : (  السلطان الملك الأشرف سيف الدين أبو النصر برسباي الدقمقاي ( نسبة للأمير المملوكى الذى إشتراه )الظاهري ( نسبة للظاهر برقوق الذى أعتقه )  الجركسي ( نسبة الى موطنه الأصلى ) . .. ومازال قائماً بتدبير أمر الدولة. ثم أحب أن يطلق عليه اسم السلطان، لما خلا له الجو، فأخذ طرباي وسجنه، تم بموافقة نائب الشام على ذلك، فاستدعى الخليفة والقضاة، وقد جمع الأمراء وأرباب الدولة، فبايعه الخليفة في يوم الأربعاء ثامن شهر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين وثمانمائة. ولقب بالملك الأشرف أبي العز، ونودي بذلك في القاهرة ومصر. )

8 ـ ويستخلص المقريزى العبرة ، فالمؤيد شيخ لكى يصل الى السلطة قرّب اليه ططر ، وهو من أقل الأمراء شأنا ، فجعله مقدما وعهد اليه بالقيام على ابنه ، فما لبث ططر أن عزل السلطان الطفل وتولى مكانه . وفى تقوية مركزه قام السلطان ططر بتقريب برسباى وهو من أقل الأمراء شأنا ، وعهد اليه بالقيام على إبنه ، ومرض ططر سريعا وترك إبنه في حماية برسباى والأتابك طرباى ( قائد الجيش ). وسجن برسباى الأتابك طرباى وخلع إبن ططر وتولى مكانه . يقول المقريزى :   (  وكان في هذا موعظة وذكرى لأولي الألباب، فإن الملك المؤيد أنشأ ططر وآواه، بعد ما كان من أقل المماليك الناصرية الهاربين من الملك الناصر فرج. وما زال يرقية حتى صار من أكبر أمراء مصر، وائتمنه على ملكه. فقام بعد موت المؤيد بكفالة ولده أحمد المظفر. وما زال يحكم الأمر لنفسه إلى أن خلع ابن المؤيد، وتسلطن، وأودع ابن المؤيد وأمه ببعض دور القلعة في صورة معتقل. فلما أشفي ططر على الموت، عهد إلى ابنه محمد، واستأمن برسباي- لقرابة بينهما- على ولده، بعد ما كان برسباي مقيماً بدمشق من جملة أمرائها، وجُلّ مناه أن يبقى المؤيد عليه مهجته، فآواه ططر، وجعله من أكبر أمراء مصر، فقام بأمر ابنه الملك الصالح قليلاً، واقتدى بأخيه ططر في أخذ الملك لنفسه. فلما أخذ طرباي، كما قبض ططر على الأمراء بدمشق، ولم يبق من يخشاه إلا نائب الشام، بعث يخيره بين أن يكون الأمير الكبير بديار مصر مكان طرباي وبين أن يستمر على نيابة الشام، فرغب في السلامة، وأتى إلى بين يديه، فأمن برسباي عند ذلك، وتسلطن، وأودع الصالح محمد بن ططر وأمه في دار بالقلعة. من يعمل سوءاً يجز به. ) 

9 ـ وفى سنة ست وعشرين وثمانمائة يقول المقريزى ( أهلت وسلطان مصر والشام والحجاز الملك الأشرف برسباي الدقماقي ... ) وصل برسباى الى درجة أكبر أكابر المجرمين .!

10 ـ ظل يحكم برسباى الى أن مات بعد مرض أليم عام 841 . 

أخيرا : 

1 ــ قال عنه المقريزى في وفيات عام 841 : ( ومات السلطان الملك الأشرف برسباى الدقماقى الظاهرى في يوم السبت ثالث عاشر ذى الحجة، وقد أناف على الستين‏. كان أبوه من أوضع أهل بلاده قدرًا وأشدهم فقرًا فأسلم إبنه هذا لحداد، فكان ينفخ عنده بالكير ثم مات فتزوجت إمرأته برجل فباع برسباى هذا وهو صغير من رحل يهودى إسمه صادق‏. فخدمه مدة وتلقن أخلاقه وتطبع بطباعه حتى جلبه إلى ديار مصر فإبتاعه الأمير دقماق‏.ثم بعث به في جملة تقدمه ( هدية ) لما إستقر في نيابة ملطية‏. فأنزله السلطان الملك الظاهر برقوق في جملة مماليك الطباق‏. ثم أخرج له قبل موته خيلًا وأنزله من الطباق وقد أعتقه‏. فلما كانت الأيام الناصرية فرج خرج فيمن خرج إلى الشام وإنتمى إلى الأمير نوروز ثم إلى الأمير شيخ فلما قدم الأمير شيخ بعد قتل الناصر إلى مصر كان فيمن قدم معه فرقاه وصار من جملة أمراء الألوف وعمل كشف التراب‏. ثم ولاه نيابة طرابلس وعزله وسجنه بقلعة المرقب‏. ثم أنعم عليه بإمرة في دمشق‏. فلما مات المؤيد شيخ قبض عليه الأمير جقمق نائب الشام وسجنه‏. ثم أفرج عنه الأمير ططر لما توجه بإبن المؤيد إلى الشام‏. ثم أنعم عليه بإمرة ألف وعمله دوادار السلطان لما تسلطن وقدم به إلى القاهرة ، فلما مات الظاهر ططر قام بأمر ولده ثم خلعه وتسلطن فدانت له البلاد وأهلها وخدمته السعود حتى مات‏. وكانت أيامه هدوء وسكون إلا أنه كان له في الشح والبخل والطمع مع الجبن والجور وسوء الظن ومقت الرعية وكثرة التلون وسرعة التقلب في الأمور وقلة الثبات أخبار لم نسمع بمثلها وشمل بلاد مصر والشام في أيامه الخراب وقلة الأموال بها‏.  وإفتقر الناس وساءت سير الحكام والولاة مع بلوغه آماله ونيله أغراضه وقهر أعدائه وقتلهم بيد غيره لتعلموا أن اللّه على كل شىء قدير‏. )

2 ـ نشأ برسباى في بلاد الجركس التي أتى منها معظم المماليك ( الأجلاب / الجلب ) لذا يطلق على المماليك البرجية لقب المماليك الجراكسة . ( جركس هي الآن القوقاز ) . لو ظل برسباى في بلده ما علم به أحد ، وما صار من أكابر المجرمين الذين يتصدرون العناوين .

السلطان المملوكى الأشرف برسباى
تطبيق الشريعة السنّية لأكابر المجرمين في عصر السلطان المملوكى الأشرف برسباى

هذ ا الكتاب
هناك من يطالب بتطبيق ما يسمونه بالشريعة ، ولا يعرفون أن أسلافهم طبقوا شريعة شيطانية لصالح أكابر المجرمين . هذا الكتاب يعطى تقريرا تاريخيا عن تطبيق شريعة أكابر المجرمين في عصر السلطان برسباى من واقع تاريخ السلوك للمقريزى.
more