المارد الذي يخشاه الرؤساء.. هكذا يتحكّم الجيش الجزائري في خيوط اللعبة السياسية

اضيف الخبر في يوم الجمعة ٠٧ - سبتمبر - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً. نقلا عن: ساسه


المارد الذي يخشاه الرؤساء.. هكذا يتحكّم الجيش الجزائري في خيوط اللعبة السياسية

كل عاهل أو حاكم ينظر إلى جيشه بحزن، فهذا الجبّار الجالس إلى قدميه جامدًا صامتًا، يُزعجه ويُرهبه، وهو لا يدري ماذا يفعل به، ويخشى في نفس الوقت أن ينقلب عليه.
*الشاعر الفرنسي ألفريد دي فيني

في ظلّ المطالبات حاليًا للجيش الجزائري من طرف بعض الأحزاب بالتدخّل، ولعب دور من أجل تحقيق انتقال سياسيّ، في مشهد متأزّم بسبب مرض الرئيس بوتفليقة؛ يؤكّد قائد الأركان الفريق قايد صالح بأنّ الجيش لن يتدخّل في السياسة وأنّه ملتزم بمهامه الدستوريّة. هذا التصريح يعيد إلى الأذهان الأدوار الحاسمة التي لعبها الجيش في التاريخ السياسي للجزائر، وتدخّلاته في اللعبة السياسيّة من خلال تعيينه للرؤساء، ولعبه دور الجهة التي يحتكم إليها السياسيّون عند وقوع خلافات بينهم.

تنتشر مقولة شهيرة بين باحثي السياسة في العالم العربي مفادها أنّ الحكومات عادة هي من تُنشئ الجيوش لغرض حمايتها؛ ما عدا الجزائر، إذ إن الجيش هو من أنشأ الحكومة لخدمته. ورغم أن هذه المقولة تعتبر تبسيطًا مخلًّا لقضيّة معقّدة كقضيّة العلاقات السياسية العسكرية في الجزائر؛ إلاّ أنها تعبر عن حجم النفوذ الذي يملكه الجيش والدور الذي يلعبه في الجزائر، وكونه من يصنع الرؤساء ويقيلهم متى أراد ذلك؛ كما أنّه الضامن الأساسي لاستقرار النظام السياسيّ.

وبما أن نشأة الجيش الجزائري والدولة الجزائريّة كانت نتاجًا للثورة التحريريّة التي اندلعت في أوّل نوفمبر (تشرين الثاني) 1954 وانتهت بالاستقلال رسميًّا في الخامس من يوليو (تموز) 1962؛ فإن الجيش الجزائريّ كان تطوّرًا طبيعيًّا لجيش التحرير بعد الاستقلال، وبالتالي فإن دراسة الخلافات بين السياسيين والعسكريين أثناء الثورة التحريريّة تعدّ مدخلاً أساسيًّا لفهم منطق الصراع بين هاذين المعسكرين إلى يومنا هذا، خصوصًا وأنّ الكثير من قيادات الثورة كانوا إلى وقت قريب لا يزالون يشغلون مناصب سامية في داخل أروقة الدولة، سواء في الجيش أو في الحكومة.

سنوات الثورة.. من أشواق الحريّة البريئة إلى حروب الزعامة

أثناء التحضير لانطلاق الثورة، التقى 22 ثائرًا وطنيًّا يمثّلون مختلف مناطق الجزائر، وتعاهدوا على التعاون من أجل طرد الاستعمار الفرنسيّ عن طريق الثورة المسلّحة، بعدها بأشهر قليلة، نظّم محمّد بوضياف اجتماعًا ضمّ خمسة مناضلين، ستُعرف هذه المجموعة لاحقًا بـ«مجموعة الستّة» الذين قادوا الثورة في شهورها الأولى، وقد قسّموا التراب الوطنيّ إلى ستّ ولايات تاريخيّة، يترأس القتال فيها كل واحد منهم.

في الولاية الأولى (الأوراس) مصطفى بن بولعيد، وفي الولاية الثانية (الشمال القسنطيني) مراد ديدوش، وفي الولاية الثالثة (القبائل) كريم بلقاسم، وفي الولاية الرابعة (العاصمة) رابح بيطاط، وفي الولاية الخامسة (وهران) العربي بن مهيدي؛ كما اتّفق القادة على مبدأ القيادة الجماعية للثورة، وعلى أن يكون محمّد بوضياف منسّقًا للثورة، وأن يتمّ اجتماع آخر في يناير (كانون الثاني) في سنة 1955 من أجل تقييم الأوضاع والخروج بقرارات جديدة.


مجموعة الستّة

لكن الاجتماع المقرّر في يناير 1955 لم يحدث، بسبب القبضة الأمنيّة الشديدة للاستعمار الفرنسيّ بالاضافة إلى مقتل بعض القادة (ديدوش مراد) ووقوع آخرين تحت الأسر (رابح بيطاط)، ليتأجّل الاجتماع المقرّر  إلى غاية مؤتمر الصومام في أغسطس (آب) 1956، وهنا بدأ الصدام بين السياسيين والعسكريين يظهر بشكل واضح للعلن.

لعل أوّل صدام بين السياسيين والعسكريين أثناء الثورة يعود إلى مؤتمر الصومام الذي انعقد في العشرين من أغسطس 1956، وقد كان عبّان رمضان هو مهندس هذا المؤتمر الذي جمع عدّة قيادات ثوريّة من سياسيين وعسكريين، وخرج هذا المؤتمر بـ«أولويّتيْن» شهيرتيْن، سبّبتا الكثير من الجدل والصراعات فيما بعد: أولويّة الداخل على الخارج، أي أنّ القيادات الموجودة في داخل الجزائر ينبغي أن تكون لها صلاحيّات أكثر من القيادات التي تناضل في الخارج؛ وأولويّة السياسي على العسكري، بمعنى أنّ القرارات المفصليّة في الثورة ينبغي أن يتولّاها السياسيّون، لأن الأعمال العسكريّة في النهاية – حسب عبّان رمضان – هي مجرّد وسيلة لتحقيق الوسيلة المنشودة وهي الاستقلال.

لكن الكثير من القيادات العسكريّة لم تهضم هذه الأولويّات التي خرج بها المؤتمر، خصوصًا أنّ المؤتمر كان يفتقر لمشاركة ممثّلي جميع الولايات التاريخيّة، وبالذات الولاية الأولى (الأوراس) ممّا جعل عدّة قادة عسكريّين يطعنون في شرعية هذا المؤتمر ويتجاهلون توصياته وأولويّاته كما جاء في مذكرة الماجستير لمحمد شبّوب.

من بين أهمّ الاعتراضات على قرار أولوية السياسيّ على العسكريّ خلال الثورة أنّه من الصعب تحديد العسكري من السياسيّ، وهو تمييز لم تكن له أي سابقة قبل المؤتمر، إذ إن عدّة قادة سياسيين كان لهم دور عسكريّ، من أمثال كريم بلقاسم وبوالصوف الذين كانا قادة للولايات التاريخية في فترة من الفترة بالإضافة إلى كونهم أعضاء في الأجهزة السياسية كالحكومة المؤقّتة.

عبّان رمضان – المصدر: ويكيبيديا

بالإضافة إلى ذلك رأى البعض أن هذه القرارات، وبالتحديد أولوية السياسيّ على العسكريّ كانت مجرّد مناورة من طرف عبّان رمضان من أجل تزعّم الثورة ليصبح الشخصيّة الأكثر نفوذًا داخلها، خصوصًا وأنّه لم يكن من بين القادة التاريخيين الستّة ولم يكن أحد أفراد جماعة الـ22 التي اتّفقت على تفجير الثورة، وبالتالي فإن قرارات هذا المؤتمر جاءت لترجيح كفّته على حساب الشخصيّات التاريخية، وقد تزايدت هذه الخلافات داخل قيادة الثورة إلى درجة أن وصلت إلى التصفية الجسديّة، إذ تمّ اغتيال عبّان رمضان في ديسمبر (كانون الأوّل) 1957 على خلفيّة الخلافات الحادّة التي نشبت بينه وبين القادة الآخرين، بالتحديد الباءات الثلاث (بلقاسم، وبوالصوف، وبن طوبال) ذوي الخلفيّة العسكريّة، والذين كانت لهم نظرة مختلفة في كيفية قيادة الثورة.

لكن الخلافات بين العسكريين والمدنيين لم تهدأ بعد اغتيال عبّان رمضان، فسرعان ما تعمّقت بعد بروز صراع على السلطة بين الباءات الثلاث، والصراعات التي برزت داخل الحكومة الجزائرية المؤقّتة التي كانت تتنقّل بين تونس والقاهرة، بالإضافة إلى فشل القيادة في تجاوز الكثير من التحدّيات، وأهمها تحدّي إدخال السلاح من الحدود الشرقية والغربيّة بفعل خطي موريس وشال، وهُما حائطان عازلان من الأسلاك الشائكة المكهربة و المراقبة على مدار الساعة، أقامهما الاستعمار الفرنسيّ على الحدود الجزائرية مع المغرب وتونس من أجل عزل الثورة وضمان عدم وصول السلاح داخل التراب الجزائري، وهو ما أثبت فعاليّة كبيرة رغم محاولات «المجاهدين» المستمية لفك هذا الحصار.

وقد تصاعد تذمّر القادة العسكريّين في الداخل من السياسيين الموجودين في تونس، كونهم في رأيهم مشغولين بصراعات سلطويّة، تاركين الثوار في الداخل يعانون من نقص السلاح والذخيرة وسوء التنسيق فيما بينهم، وبسبب كل هذه العوامل، وقعت عدّة اجتماعات من أجل تجديد مؤسّسات الثورة وفضّ الخلافات المتراكمة، وأبرز هذه الاجتماعات كان اجتماع «العُقداء العشر» سنة 1959 الذي دُعي إليه القادة العسكريون في الداخل إلى تونس من أجل تحكيمهم في الخلافات بين السياسيين، وقد استمرّ الاجتماع لمدّة فاقت 100 يوم بسبب النزاعات الحادّة التي شابته، بالإضافة إلى اجتماع طرابلس الليبية سنة 1960، والذي لم يسلم بدوره من الصراعات بين العسكريين الممثّلين في هيئة قيادة الأركان، والحكومة المؤقّتة – الذراع السياسيّ للثورة -، ليتمّ خلال الاجتماع إقالة فرحات عبّاس من رئاسة الحكومة المؤقتة وتعويضه ببن يوسف بن خدّة.

سنوات الاستقلال.. السلطة على ظهر دبّابة

في الأشهر الأولى من الاستقلال وقع صراع محموم على السلطة من عدّة أطراف عسكريّة وسياسيّة؛ وقد مالت الكفّة للقطب الذي كان يملك أكثر القوّات المسلّحة تنظيمًا وعتادًا، متمثّلاً في جيش الحدود بقيادة هوّاري بومدين، وقد سعى إلى السيطرة على السلطة وعدم تركها بين يديْ السياسيين، لكنه كان يحتاج إلى وجه سياسيّ معروف للداخل والخارج يُعطي شرعيّة لهذا التحرّك، وهو ما توافر في أحمد بن بلّة.

استطاع بن بلّة الوصول إلى السلطة من خلال التحالف مع بومدين، الرجل العسكريّ المسؤول عن جيش الحدود الغربيّ ذي التعداد الكبير، والذي كانت قوّاته هي الأكثر عددًا وتنظيمًا، ورغم أنّ الحكومة المؤقّتة هي التي كان من المفترض أن تستلم السلطة بعد انسحاب الاستعمار الفرنسيّ إثر الاستفتاء الذي جرى في يوليو 1962؛ كونها ذراع الثورة السياسيّة، إلاّ أن قوّات بن بلّة وبومدين اقتحمت العاصمة الجزائر واستولت على السلطة، ونشبت إثر ذلك معارك دامية بين القوّات الموالية للحكومة المؤقّتة وقوّات بومدين التي عُرفت بـ«أزمة صائفة 1962»، لترجح الكفّة ناحية بومدين ورفاقه ويستولوا على السلطة، ويصبح حليفه أحمد بن بلّة أوّل رئيس للجزائر المستقلّة.

 لكن العلاقات بين بن بلّة ووزير دفاعه سرعان ما بدأت في التوتّر لتنتهي بالصدام بين الطرفين، ففي يونيو (حزيران) 1965، أي بعد ثلاث سنوات من رئاسة بن بلّة، قرّر بومدين رفقة عدّة من حلفائه، أبرزهم عبد العزيز بوتفليقة وقائد الأركان طاهر زبيري الانقلاب على بن بلّة، إذ جرى اعتقاله من فيلته التي يسكن فيها في منتصف الليل دون مقاومة تذكر ولا أعمال عنف؛ وأعلن بومدين في خطابه الأوّل بعد الانقلاب عن إنشاء «مجلس أعلى للثورة» برئاسته، ليكون السلطة الأعلى في البلاد.

شاهد: خطاب بومدين بعد الانقلاب على بن بلّة

بعد انقلاب بومدين أصبحت السلطة في أيدي العسكريّين بشكل تام، فقد جمع بومدين بين السلطة السياسية والعسكريّة من خلال الجمع بين منصب رئيس الدولة ووزير الدفاع، وهي الطريقة التي سيتّبعها بوتفليقة بعده بسنوات، من أجل إحكام قبضته على المؤسسة العسكريّة وتجنّب أيّ تمرّد محتمل، لكن تربّعه على عرش وزارة الدفاع لم يمنع العسكريين من المحاولات الانقلابيّة عليه، ليُعيد التاريخ نفسه على يد أقرب مقرّبيه؛ من خلال نفس الرجل الذي أرسله بومدين يومًا للقبض على أول رئيس جمهورية بعد الاستقلال، إنه رئيس أركان الجيش الطاهر زبيري.

بدأت محاولة الطاهر الزبيري الانقلابية في ديسمبر  1967، لكنها سرعان ما فشلت فشلاً ذريعًا بتصدّي قوّات موالية لبومدين للمحاولة بشكل سريع، ليهرب بعدها الزبيري إلى تونس ومنها إلى أوروبا، حتى العفو عنه بعد وفاة بومدين.

شهدت فترة حكم بومدين سيطرة تامّة من قبل الأجهزة الأمنيّة على الحياة السياسيّة، إذ مُنعت التعدديّة الحزبية وتم تكريس سياسة الحزب الواحد المتمثّل في جبهة التحرير الوطني، والذي كان للجيش حضور في لجنته المركزيّة، وتم اعتقال الناشطين السياسيين المعارضين، واختار بعضهم المنفى الاختاريّ، وقد شمل هذا المنفى قادة الثورة من أمثال محمد بوضياف الذي استقرّ في المغرب، وآيت أحمد وغيرهم الكثير، كما تمّ ملاحقة أي نشاط سياسيّ معارض من خلال جهاز «الأمن العسكريّ» بقيادة قاصدي مرباح، الذي كان ذراع السلطة لقمع أي حراك سياسيّ أو احتجاجات شعبيّة.

 

 

بعد وفاة بومدين سنة 1978 وقع النظام السياسي في ورطة حقيقيّة، فبومدين كان شخصيّة كارزميّة قويّة لها شعبيّتها في صفوف الجماهير وهيبتها بين ضبّاط الجيش والمخابرات، ولم يبرز أي بديل مُقنع يحقّق الإجماع بين العسكريين والسياسيين ليملأ مكانه، وقد تم تداول الكثير من الأسماء من أجل خلافته كان أبرزهم رابح بيطاط، القيادي الثوري ورئيس المجلس الشعبي الوطني (البرلمان) لكنه رفض رفضًا قاطعًا؛ لينحصر الاختيار بين عبدالعزيز بوتفليقة – وزير الخارجية آنذاك – ومحمد صالح يحياوي، رئيس حزب جبهة التحرير.

يشير محمد صالح يحياوي في كتابه «رحلة في زمن الحزب الواحد» أنّ اجتماعًا حدث بين ضبّاط في الجيش والمخابرات في إحدى المدارس التقنيّة العسكريّة بمنطقة برج البحري، والتي يشرف عليها العربي بلخير، هذا الاجتماع سيكون مصيريًّا في تحديد الرئيس القادم. العربي بلخير كان أحد ضبّاط الجيش الفرنسي أثناء الثورة والذي انضمّ إلى الجيش الجزائريّ رفقة العديد من الضبّاط الجزائريين الذين عملوا في صفوف الاستعمار الفرنسي، وذلك بقرار من الرئيس بومدين من أجل الاستفادة من تكوينهم العسكري الأكاديمي الفرنسيّ، خصوصًا أن الجيش الجزائريّ عقب الاستقلال وجد نفسه دون أيّة كوادر ذات مؤهّلات تستطيع تسيير جيش حديث، في ظلّ تربّصات الجار المغربيّ غربًا.


العربي بلخير (يسار) – مصدر الصورة: Algérie Part

اعتماد بومدين على هذه العناصر التي خدمت في صفوف الجيش الفرنسيّ كان محلّ انتقاد الكثير من المجاهدين، لعلّ أبرزهم العقيد محمد شعباني الذي انتهى به الأمر محكومًا بالإعدام؛ لكن بومدين رأى بأن الاعتماد على كفاءة هؤلاء الجزائريين – ولو أنهم التحقوا بصفوف الفرنسيين في مرحلة مبكّرة من حياتهم – أفضل من الاعتماد على كفاءات أجنبيّة في بناء الجيش. هذه العناصر ستترقّى فيما بعد بشكل سريع في عهد الشاذلي، وستكوّن قوّة استثنائيّة داخل أروقة الدولة.

في اجتماع برج البحري، قرّر ضبّاط الجيش والمخابرات أن الرئيس القادم ينبغي أن يكون الرجل الأقوى آنذاك في الجيش، وهو الشاذلي بن جديد، وعملوا على إقناعه بقبول المنصب، وهو ما تمّ بالفعل؛ لينال بعدها تزكية الحزب، ويصبح في فبراير (شباط) 1979 رسميًّا رئيسًا، وينهي بذلك الصراع المحموم على الرئاسة بين عدّة أطراف عسكريّة وسياسيّة، وترجح الكفّة مرّة أخرى ناحية العسكر.

سنوات التسعينيات.. الدولة في قبضة الجنرالات

سنة 1988 كانت الأوضاع الاقتصاديّة والسياسيّة قد بلغت حدًّا استثنائيًّا من التأزّم، خصوصًا بعد انهيار أسعار البترول إلى ما دون الـ10 دولارات للبرميل في بلد يعتمد اقتصاده بشكل رئيسيّ على عائدات النفط، وفي الخامس من أكتوبر (تشرين الأوّل) من ذات السنة؛ اندلعت مظاهرات شبابيّة غاضبة في عدّة محافظات جزائريّة مندّدة بالأوضاع السياسيّة والاقتصاديّة، وقد تصدّت لها قوّات الجيش بالرصاص الحيّ بقيادة وزير الدفاع خالد نزّار، ليسقط حوالي 500 ضحيّة حسب ناشطين.

 

 

أسفرت هذه الانتفاضة عن تغييرات كبيرة في النظام السياسيّ الجزائري، وتحت ضغط المحتجّين أعلن الرئيس الشاذلي بن جديد عن مشروع دستور جديد، من شأنه إحداث إصلاحات جذرية في الدولة، أهمها إلغاء نظام الحزب الواحد والانتقال إلى التعددية الحزبية، وإقرار حريّة الصحافة والحق في إنشاء الجمعيات.

شهدت سنوات التسعينيات في الجزائر حربًا أهلية بين القوّات النظاميّة والمسلّحين الإسلاميين، ممّا أسفر عن مقتل مئات الآلاف، وقد بلغ مستوى تدخّل الأجهزة الأمنيّة في الشؤون السياسيّة ذروته في هذه المرحلة، إذ كان العسكريّون في تلك العشريّة يتحكّمون بشكل مباشر في كل القرارات الحساسّة للدولة، خصوصًا مع الفراغ في السلطة التي شهدته البلاد بعد استقالة الشاذلي بن جديد إثر اكتساح الجبهة الإسلامية للإنقاذ نتائج الانتخابات البرلمانيّة التي جرت سنة 1991 وتوقيف المسار الانتخابي من طرف الجيش.

في يناير 1992، وبعد استقالة الشاذلي الذي تشير مصادر إلى أنّه أُرغم عليها من طرف الجيش والمخابرات؛ كان من الطبيعيّ أن من سيستلم السلطة ليس رئيس البرلمان كما يشير الدستور أو أيّ شخصيّة سياسيّة أخرى، بل ستعود السلطة إلى أيدي العسكريّين بشكل مباشر، إذ استلمت الحُكم جماعة سوف تُعرف باسم «الينايريين» وهم مجموعة من الجنرالات والمسؤولين السياسيين الرافضين لوصول الجبهة الإسلامية للإنقاذ إلى السلطة، وقرّروا بذلك تعطيل المسار الديموقراطي في البلاد في يناير 1992.

أبرز هذه الشخصيات هم وزير الدفاع خالد نزّار ومدير ديوان الرئيس المستقيل – ثم وزير الداخلية – العربي بلخير ومحمد مدين رئيس المخابرات بالإضافة إلى عدّة شخصيّات أخرى عسكرية وسياسيّة. ومِن أجل إعطاء هذا التحرّك شرعيّة ثورية على الصعيد الشعبي، استعانت هذه المجموعة بشخصيّة تاريخيّة متمثّلة في محمد بوضياف، المنسّق الأول للثورة التحريرية، والذي كان قد ابتعد عن السياسة واستقرّ في المغرب. بعد إقناعه بتولّي زمام الأمور لتجنيب البلاد الانزلاق إلى حرب أهليّة، قبل بوضياف المهمّة وتم تعيينه رئيسًا لـ«المجلس الأعلى للدولة»، وهو مجلس تمّ إنشاؤه من قبل الينايريين لينوب عن رئيس الجمهورية بعد استقالة الشاذلي، دون أي سند دستوري.

بعد ستّة أشهر من وصول بوضياف إلى الجزائر قادمًا من المغرب؛ انطلقت رصاصات من خلف الستار لتُنهي مسيرته الرئاسية القصيرة، ويتمّ اغتياله أمام مرأى الجميع، وعلى الهواء مباشرة في شاشات التلفزيون أثناء إلقائه لخطبة في مدينة عنّابة من طرف أحد رجال الحرس الجمهوري، والذي لم تُكشف التحقيقات عن الجهة الحقيقيّة التي كانت تقف وراءه؛ فيما يتّهم ابنه الجنرالات باغتياله.

 


الرئيس بوضياف وخلفه وزير الدفاع السابق خالد نزّار

 

النصف الثاني من سنوات التسعينيات أو ما يعرف بالعشرية السوداء في الجزائر شهد سيولة سياسيّة شديدة، وزيادة في نفوذ الأجهزة الأمنيّة وتحكّمها في مقاليد السلطة بحُكم التحدّي الكبير الذي كانت تشكّله الجماعات المسلّحة المعتصمة في الجبال، فسعت إلى زيادة عدد أفرادها واستقدام المجنّدين وحتّى تسليح المدنيين لمواجهة المسلّحين.
في سنة 1994 وصل إلى كرسي الرئاسة اليمين زروال، الجنرال في الجيش الجزائري ووزير الدفاع السابق في فترة شهدت زيادة أعداد الضحايا المدنيين واشتداد الأزمة الأمنية في الجزائر، ومع فشل المفاوضات التي قادها زروال مع قادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ من أجل المصالحة، ورفض أطراف نافذة في المؤسسة العسكرية للمصالحة بالأساس؛ قرّر زروال الانسحاب من المشهد والدعوة إلى انتخابات مبكّرة، يرى الكثيرون أنّها شكليّة؛ إذ إنّ الجهات النافذة في الجيش والمخابرات كانت قد اتّفقت بالفعل مع بوتفليقة على أن يكون الرئيس القادم.

معركة الصلاحيّات.. حرب بوتفليقة الخفيّة التي خرج منها منتصرًا

إذا كنتم ستعاملونني كحلبات المصارعة القديمة في روما، تتفرّجون من بعيد، فإذا قَتلتُ الأسد صفّقتم لي، وإذا قتلني الأسد تصفّقون للأسد.. فأنا مستعدّ للاستشهاد في سبيل الله من أجل الجزائر. *بوتفليقة

لعل عهد بوتفليقة شهد ذروة الصراع بين المؤسسة العسكريّة والنظام السياسي، بشهادة الرئيس نفسه حين أعلن أمام الشعب بأنه سيدخل في مواجهة مباشرة مع من سمّاهم بـ«الجنرالات» في أحد التجمعات الشعبيّة سنة 1999، من أجل اكتساب ظهير شعبيّ قبل دخول هذه المواجهة، إذ قال بكلّ وضوح: «حاسبوني على الجنرالات.. لكن سأحتاجكم كلّكم لإصلاح الأمور».

 

 

بوتفليقة وقايد صالح

صراع بوتفليقة مع الجنرالات – الذين أتوا به عمليًّا – لم يكن مجرّد كلام غرضه زيادة شعبيته فقط، بل شهدت مسيرته في الحُكم – خصوصًا في السنوات الأولى – مواجهة حقيقيّة مع جنرالات التسعينيات من أجل إبعادهم عن مراكز صنع القرار، لأنّه كان يُدرك من خلال تجربته الطويلة في الحُكم، وبالنظر إلى تجربة الشادلي وبوضياف بأنّ بقاء هؤلاء الجنرالات في مناصبهم سيعني أنّ بوتفليقة سيكون مجرّد رئيس شكليّ.

لذلك قرّر إبعاد الجنرال العربي بلخير الملقّب بـ«الكاردينال» والذي كان «الرئيس الظلّ» والحاكم الفعلي في عهد الرئيس الشادلي بن جديد من خلال منصبه مديرًا لديوان الرئيس، وأحد مهندسي توقيف المسار الانتخابي بداية التسعينات بعد إبعاد الشادلي، بتعيينه سفيرًا في المغرب؛ كما تمّ إبعاد الجنرال العمّاري، قائد أركان الجيش الجزائري منذ 1993، في سنة 2004 بعد أنباء عن دعمه للمرشحّ الرئاسي علي بن فليس الذي كان رئيس وزراء بوتفليقة، وقرّر الاستقالة ومواجهته في الانتخابات الرئاسية سنة 2004.

كان بوتفليقة يدرك أن المواجهة بينه وبين الجنرالات أو من يعرفون بـ«العُلبة السوداء» قادمة لا محالة، مهّد لها حتى قبل بلوغه منصب الرئاسة، إذ تشير الكثير من الشهادات، إلى أنه خلال مرحلة التفاوض مع قادة الجيش والمخابرات الذين كانوا يتحكّمون عمليًّا بمقاليد السُلطة، فرض بوتفليقة عدّة شروط قبل قبوله بالمنصب، وقد أعلن في أكثر من مرة بأنّه لن يكون «ثلاثة أرباع رئيس» في إشارة إلى رفضه لأيّ تدخّلات من قبل الأجهزة الأمنية والعسكريّة في صلاحيّاته؛ وقد كانت أبرز الإجراءات التي فرضها من أجل حماية نفسه أن جمع بين رئاسة الجمهورية ووزارة الدفاع، حتى يضمن تحكّمه التامّ في الجيش وإحباط أيّة نيّة للانقلاب عليه من طرف المؤسسة العسكرية.

لكن بوتفليقة لن يستطيع مواجهة الجنرالات بدون جنرالات آخرين موالين له، فاحتاج إلى حلفاء من داخل المؤسّسة العسكريّة من أجل تثبيت أركان حكمه وتحصين منصبه من أيّة تدخّلات خارجيّة؛ لذلك في سنة 2006، قام بوتفليقة بترقية أحمد قايد صالح – نائب وزير الدفاع الحاليّ – إلى رتبة فريق، وتعيينه رئيسًا لأركان الجيش الجزائريّ. هذا التحالف بين الرئيس والجنرال الوفيّ استمرّ منذ سنة 2006 إلى الآن، وسيدخل الحليفان في معركة تكسير عظام طويلة المدى بين معسكرهما ومعسكر جنرال آخر، كان حتّى وقت قريب عصيًّا على الإبعاد.

نُسجت الكثير من الأساطير عن الجنرال محمد مدين المعروف بـ«توفيق»؛ وقد غذّى هو شخصيًّا هذه الأساطير من حيث لا يشعر من خلال اختفائه عن الأنظار تمامًا وعدم خروجه للعلن في الصحافة والإعلام، وبسبب عدم وجود صورة شخصية واضحة، فقد لفّ شخصيته الكثير من الغموض والرُّعب والقوّة، حتّى أنّه لُقّب لفترات كثيرة بـ«رب الجزائر» و«الحاكم الفعلي» وغيرها من الألقاب الدالّة على تحكّمه في كلّ خيوط السلطة في الجزائر.

محمد مدين «توفيق» – مصدر الصورة: Algérie Patriotique

 

قد تكون هذه الألقاب مبالغة في تقدير قوّة تأثيره الفعليّة، ولكن ليس هنالك شكّ بأن الجزائر شهدت لعدّة سنوات صراع أجنحة بين جناح الرئاسة وجناح «توفيق» من خلال جهازه «مديرية الاستعلامات والأمن» أو المخابرات العسكرية؛ إذ كان يُتّهم بتواجد رجاله في كلّ مؤسّسات الدولة من وزارات وولايات وشركات وطنيّة ووسائل إعلام وحتّى أحزاب سياسيّة، ومن خلالهم يمارس سلطته الفعليّة في الدولة، خصوصًا كونه أقدم في منصبه من الرئيس بوتفليقة نفسه؛ إذ تولّى منصب مدير المخابرات سنة 1990، أي تسع سنوات قبل وصول بوتفليقة إلى الرئاسة، وقد شهد عهده في المخابرات عدّة رؤساء وتقلّبات سياسيّة وأمنيّة، ورغم ذلك، الرؤساء والجنرالات يأتون ويذهبون، ويبقى توفيق صامدًا في منصبه، ولكن ليس للأبد.

لقد ظهرت عدّة مؤشّرات للصراع بين الرئاسة والمخابرات، كان أبرزها تفجير قضيّة شكيب خليل، وزير النفط السابق والمقرّب بشدّة من بوتفليقة؛ إذ تمّ اتهامه بعدّة قضايا فساد، وجرى تفتيش منزله من طرف ضبّاط للمخابرات تابعين للجهاز الذي كان يرأسه توفيق. فيما بعد أُسقطت هذه التُهم عن شكيب خليل وخرجت تصريحات تفيد بأنّ هذه القضايا التي اتُّهم بها كانت ملفّقة من طرف توفيق من أجل ضرب محيط الرئيس واتهامه بالفساد.

بعد عودة بوتفليقة من فرنسا سنة 2013 التي قضى بها 81 يومًا للعلاج من الأزمة الصحيّة العنيفة التي عانى منها، والتي ستُبقيه قعيدًا في كرسيّ متحرّك؛ بدأ مباشرة المواجهة التي تأجّلت أكثر مما ينبغي مع غريمه في السلطة، وكانت أولى القرارات بإعطاء حليفه العسكريّ وذراعه داخل مؤسسة الجيش الفريق أحمد قايد صالح صفة سياسيّة بتعيينه نائبًا لوزير الدفاع في سبتمبر (أيلول) 2013؛ بعد ذلك بدأت سلسلة من الإقالات في صفوف الجنرالات التابعين لتوفيق، بالإضافة إلى قرارات بنزع صلاحيات جهاز المخابرات وإرفاقها بقيادة الأركان، الهدف منها قطع أذرع المخابرات وتجريدها من جميع أوراقها، حتّى يعجز رئيسها عن المقاومة عندما تأتيه رسالة الإقالة الحتميّة.

 

 

 رئيس الأركان في زيارة لبوتفليقة في المستشفى بفرنسا

في نوفمبر من نفس السنة أصبح عمّار سعداني، أمينًا عامًّا لحزب جبهة التحرير الوطني – الحزب الحاكم – والذي سيتحوّل سريعًا إلى رأس الحربة في الحرب التي شنّتها الرئاسة بالتحالف مع قيادة أركان الجيش ضد الجنرال توفيق. خرج سعداني بعدها بأشهر قليلة، بالضبط في 2014 في إحدى الصحف لينتقد علنًا الجنرال توفيق، في سابقة هي الأولى من نوعها في المشهد السياسيّ الجزائريّ، إذ اتّهمه بالإخفاق في حماية الرئيس المُغتال محمد بوضياف، وتورّطه في عدّة قضايا أمنيّة، بالإضافة إلى وقوفه وراء الانقسامات التي شهدتها الأحزاب السياسيّة.

استمرّت بعدها الإقالات في صفوف جهاز المخابرات إلى أن حانت نهاية عهد توفيق بإقالة في سبتمبر 2015، ليُنهي بوتفليقة 25 سنة من رئاسته للمؤسّسة، بعدما تم تغيير اسمها وتجريدها من أغلب صلاحياتها وإلحاقها برئاسة أركان الجيش تحت سلطة قايد صالح، ويُحال بذلك الجنرال توفيق إلى التقاعد.

وتستخدم المؤسسة العسكريّة «مجلّة الجيش» بالإضافة إلى رسائل رئيسها في مختلف المناسبات الوطنيّة من أجل بعث رسائلها إلى الطبقة السياسيّة، وكثيرًا ما ردّت على تصريحات سياسيين ووزراء سابقين من خلال افتتاحيّة المجلّة.

تتّجه جميع الأنظار حاليًّا إلى المؤسّسة العسكريّة في ظلّ التغييرات بالجملة التي تجري في صفوفها، مع اقتراب الانتخابات الرئاسيّة سنة 2019، في الوقت الذي يثير فيه مرض الرئيس بوتفليقة تساؤلات عن امكانيّة ترشّحه لعهدة خامسّة، وتصريحات لقائد الجيش بأنّ المؤسسة العسكرية «لن تحيد عن مهامها الدستوريّة».

ويرى بعض المحلّلين السياسيين أمثال المُعارض محمد العربي زيتوت بأنّ هذه التغييرات في الحقيقة هي من توقيع قايد صالح الذي يسعى إلى إحكام قبضته على جميع مفاصل الجيش، وأن بوتفليقة بحُكم مرضه ليس فاعلاً فيها؛ كما يرى أن هنالك احتماليّة أن تكون هذه التغييرات تمهيدًا لترشّح قايد صالح بنفسه لرئاسيات 2019 والذي سيعني تتويجه رئيسًا، أو فرضه لشخصيّة مدنية في الرئاسة مع تحكّمه بخيوط السلطة في خلفية الأحداث كما كان يحدث في التسعينيات.

اجمالي القراءات 2385
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق