(1)
حكى أحدهم أنه كان فى بلد يعتنق فكرة النقاب للنساء، وانه كانت له علاقة غير شريفة
باحداهن ، وحدث أن زاره زوجها على غير موعد ، وكانت تلك المرأة عنده فىالبيت ،
وتحير صاحبنا ماذا يفعل ، ولكن الزوجة المحترفة طمأنته، ولبست النقاب ودخلت عليهما تقدم لهما الشاى، ولم يعرفها زوجها ، ونجا صاحبنا بفضل النقاب . فى تلك القصة كان النقاب هو البطل الذى يتظاهر بالفضيلة والعفاف ويخفى داخله الرذيلة والنفاق ، وتلك كانت وظيفة النقاب فى مصرفى العصر المملوكى حيث ساد التمسك بمظاهرالتدين دون مراعاة لحقيقة الدين وومنهجه الاخلاقى القائم على التقوى .
(2)
وقد جاء لمصر المملوكية الفقيه المغربى ابن الحاج ( توفى سنة 737 هجرية )وكتب فيها أروع الكتب الفقهيه وهو ( المدخل ) فى ثلاثة أجزاء ، واتبع فيه ما أسميته بالفقه الوعظى, أى ان الفقيه لا يتكلم فى الفقه بالمنهج التصورى والتخيلى مثل ( من فعل كذا فحكمه كذا ) ولكن بالمنهج الواقعى ، حيث ينظر الفقيه الى ما يجرى فى الواقع ويذكره ويعلق عليه منبها على خروجه عن الشرع مستخدما لغة الوعظ والارشاد. والفقه الوعظى بهذه الطريقة سجل الكثير من خفايا الحياة الاجتماعية التى اعتاد تجاهلها المؤرخون المتخصصون. ولذلك فان كتاب ( المدخل ) فى الفقه لابن الحاج يحوى بين سطوره معلومات تاريخية ثمينة عن الحياة الاجتماعية والدينية والاقتصادية فى مصر المملوكية. ولقد كتب الكثير عن أحوال المرأة وقتها ، وأبرز الكثير من الانحلال الاخلاقى الذى كان يجرى تحت النقاب وهو الزى الرسمى والشعبى للمرأة فى العصر المملوكى فى مصر وخارجها.
مثلا .. كتب الفقيه ابن الحاج أن المرأة فى القاهرة المملوكية كانت لها حرية الخروج من بيتها كل أيام الاسبوع عدا يوم واحد ، وانها كانت تخرج من بيتها متنقبة فاذا ابتعدت عنه أسفرت عن وجهها وخالطت ـ اى صادقت وصاحبت ـ الرجال حيث لايعرفها أحد، فاذا عادت واقتربت من بيتها تنقبت .
وأقول إنه من هذه الحال الفريدة جاء التعبير المصرى عن المرأة الفاجرة ( دايرة على حل شعرها ) أى طالما هى فى المجتمع الذى يعرفها فهى متنقبة ، فاذا خرجت من نطاقه خلعت النقاب ودارت هنا وهناك تبحث عن صيد من الرجال و حلّت شعرها لدى أول طالب لها. وكان هذا حال معظم النساء التى تحدث عنهن ابن الحاج وغيره فى العصر المملوكى، وبالنقاب كانت المراة تخرج الى الموالد والافراح والى القرافة ( أى مدافن القاهرة ) وحفلات الأذكارالموسيقية التى يختلط فيها الذكر الصوفى بالرقص والطرب وتناول الحشيش و ممارسة الفواحش العادية والشاذة. وكانت تلك مفردات الحياة الاجتماعية المملوكية ، ظاهرها التدين باقامة الموالد و الأذكاروزيارة الأولياء الأحياء وأضرحة الموتى منهم وقبورهم المقدسة، وباطنها الانحلال الخلقى . وفى هذه المسرحية العبثية كان البطل الأعظم هو النقاب الذى يعلن الفضيلة ويخفى الرذيلة..
المظهر السطحى ـ النقاب ـ هو البطل هنا. مثله مثل الشعار المقدس للعصر المملوكى وهو تطبيق الشريعة ، وتحت هذا الشعار المقدس دارت أفظع جرائم الاستبداد والتعذيب والظلم والفساد، وفى ظل كل هذه الجرائم أقام المماليك أروع المبانى الدينية التى لا تزال تحفة معمارية تزين القاهرة حتى اليوم ، من مساجد وخوانق ورباطات وزوايا، بنوها بالسخرة والعسف والظلم والمال الحرام. وتحت نفس التدين السطحى المظهرى ـ ايضا ـ انتشر الانحلال الخلقى فيها وحولها متمتعا بالنقاب
(3 )
وقد فوجىء العلامة عبد الرحمن بن خلدون بمظاهر الانحلال المعتاد و الطاغى فى شوارع القاهرة دون ان يستنكره أحد من علماء الشرع وقتها، فقال متعجبا عن القاهرة " وللاينكر فيها اظهار أوانى الخمر ولا آلات الطرب ...ولا تبرج النساء العواهر ولا غير ذلك مما ينكر فى بلاد المغرب . ". الفقه السنى الحنبلى المتشدد كان مسيطرا على شمال افريقيا حيث كان يعيش ابن خلدون قبل انتقاله لمصر، وبسبب سيطرة التشدد السنى فى المغرب وشمال أفريقيا فقد كان منكرا التظاهر بشرب الخمر و حفلات الموسيقى والطرب، وكان ممنوعا ظهور النساء العواهر فى الطريق. فلما جاء الى القاهرة المملوكية وجد كل ذلك منتشرا بسبب سيطرة التصوف وعقيدته القائمة على عدم الاعتراض. ولكن المشترك وقتها بين مصر وشمال افريقيا هو النقاب ، فالمرأة المصرية حينئذ كانت تتصرف كيفما تشاء طالما كانت ترتدى النقاب ولا يتعرف عليها أحد.
وقال المقريزى فى كتابه المشهور( الخطط ) عن المصريين فى ذلك العصر " ومن أخلاقهم الانهماك فى الشهوات والامعان فى الملاذ وكثرة الاستهتار وعدم المبالاة ، وقال لى شيخنا عبدالرحمن بن خلدون ان أهل مصر كأنما فرغوا من الحساب " . أى فرغ حسابهم فى الآخرة وضمنوا الجنة ولم يعودوا ملتزمين بأى التزام خلقى أو دينى. المقريزى هنا ـ متأثر بما قاله شيخه عبد الرحمن بن خلدون ، وقد حكى المقريزى عجائب من مظاهر الانحلال الخلقى فى ( الخطط المقريزية ) وقت أن كان النقاب هو الرداء الشرعى للمرأة ، ولا سبيل لخروجها بدونه. وتحت شعار النقاب كان فجور المرأة علنا فى الشوارع طالما لا يتعرف عليها أحد. يقول المقريزى فى الخطط : ولقد كنا نسمع ان من الناس من يقوم خلف الشاب أو المرأة عند التمشى بعد العشاء بين القصرين ، ويجامع ( أى يمارس الجنس مع المرأة أو الشذوذ الجنسى مع الشاب ) حتى يقضى وطره وهما ماشيان من غير أن يدركهما أحد لشدة الزحام واشتغال كل أحد بلهوه ..)
(4 )
ووصل الفجورالى أماكن العبادة مما دعا السلطات المملوكية الى تطهيرها من أصحاب الفجور كما حدث بالنسبة للجامع الأزهر سنة 818 وبالنسبة لجامع الحاكم 822 هـ .
واشتهرت المؤسسات الصوفية بذلك حتى كانت وثائق الوقف عليها تشترط تعيين خفراء
لطرد راغبى المتعة الحرام منها !!!
وازدهر الانحلال الخلقى فىالموالد ـ ولايزال ـ حتى أن السلطان جقمق أبطل مولد
البدوى 851 بسبب ما يقع فيه من مفاسد فاقيم مولد أخر بالقرب من المحلة الكبرى ليتنفس
فيه الفجور بحكم العادة !! وكانت المرأة تذهب لتلك المناسبات الدينية تلبس النقاب بحكم العادة أيضا !! والدولة المملوكية التى احترفت التدين وتطبيق الشريعة كانت تأخذ الضرائب من البغايا وتسميه" ضمان المغان" وكان للبغايا زى معروف وصفه المقريزى فى الخطط ، وارتبطت مهنة البغاء بالعجوز القوادة والمكارى الذى تركب العاهرة على حماره وهى ترتدى النقاب فى غاية الاحتشام!!
وأحيانا كانت السلطة المملوكية تمنع خروج المرأة ليلا لتحد من الفجور ، وتطرف بعضهم
فى عقاب النساء اللاتى يخرجن ليلا فكان نصيبه السخرية من النساء ، ولذا قلن فى الامير
دولات خجا سنة 835 ( راحت دولة عمر ـ أى عمر بن الخطاب ـ وجت دولة خجا...)"
وفى سنة 836 تندرت النساء على الامير منكلى بغا المحتسب الذى كان يضربهن مائى جلدة اذا خرجن ليلا ، فكتبت النساء فيه اغنية راقصة يقلن فيها:
لا تمسك طرفى منكلى خلفى
علقته ميتين قلّ ما يعفى .
وكن يرقصن بهذه الاغنية وهن يرتدين النقاب !!!
( 5 )
ونقول للاخوات المؤمنات العفيفات:
ان النقاب بدعة لم يعرفها عصرالرسول عليه السلام، اذ كان وجه المرأة وقتها مكشوفا معروفا ، فالله تعالى يقول للنبى "( لايحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن) : (الأحزاب /52 )" والحسن فى الوجه .
والله تعالى يقول عن مجتمع المدينة فى عصر الرسول محمد عليه السلام ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله) ( التوبة 71 ) فهنا تفاعل اجتماعى حى ونشط يقوم على الايمان والتقوى والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والتناصح بالخير. ولا نتصور حدوثه فى مجتمع النقاب والنفاق.
هناك ارتباط بين النفاق والنقاب ـ فالنقاب رسالة موجهة للبشر تقول فيها من تتخفى خلف النقاب : انظروا ايها الناس اننى مؤمنة تقية نقية. مع أن الأولى أن تتجه النفس البشرية لله وحده بالتقوى والعفة و الخشية فى الخلوة والسر قبل العلن.
وهناك ارتباط بين النقاب والاستعلاء على الاخرين ، ليس فقط فى أنه رسالة لهم بالتميز عليهم ولكن أيضا لأن المتنقبة تعطى لنفسها الحق فى أن ترى الاخرين وتقتحمهم بعينيها دون أن تسمح للاخرين بأن يعرفوا هويتها ومن هى.
الأفظع من ذلك أن النقاب استعلاء على الله تعالى وشرعه ودينه.
النقاب فيه مزايدة على شرع الله تعالى ، وقد حرّم الله تعالى أن يزايد أحد على شرعه فقال : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدى الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم ) ( الحجرات 1 ) فالله جل وعلا لم يحرم كشف وجه المرأة ، فكيف يأتى بشر من الناس ويجعل الحلال حراما ؟ هل يتهم الله تعالى بالتقصيرفى التشريع ؟ هل يتهمه جل وعلا باباحة الفاحشة على أساس أن وجه المرأة عوره وسفورها فاحشة؟ هل هو أعلم من الله جل وعلا بالدين والعباد ؟ ؟ اليس الله تعالى هو القائل ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ؟ ) ( الملك 14 ) أهو يعرف الخلق أكثر من الخالق جل وعلا؟ أهو صاحب الدين وصاحب الشرع ام الله تعالى ؟ ألم يقل جل وعلا عن ذاته العلية ( وله الدين واصبا أفغير الله تتقون ؟ )( النحل 52) أى أنه جل وعلا هو مالك الدين ومالك يوم الدين وصاحب الحق الوحيد فى التشريع ، وأنه ليس لأحد أن يحل ما حرم الله تعالى أو أن يحرم ما أحل الله جل وعلا.
الذين يحرمون ما أحل الله تعالى يعتدون على حق الله تعالى فى التشريع ( المائدة 87 ) ويدخلون ضمن من قال عنهم ربنا الواحد القهار ( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ؟ ) ( الشورى 21 ).
ان تعبئة المرأة فى النقاب ليس اهدارا فقط لكرامتها الانسانية ومحوا لشخصيتها البشرية التى تتحدد بالوجه الذى به تعرف وتتميز عن غيرها ـ ولكنه أيضا تضييع لاقامة الشريعة الاسلامية الحقيقية التى ترتكز على الشاهد والجانى والمجنى عليه. فاذا كانت المرأة جانيا أو مجنيا عليها أو شاهدا فلا يمكن التعرف عليها وهى فى النقاب .
من حق أى انسان أن يرتدى ما يشاء فى ظل القوانين المرعية. ومن حق المرأة ان تتنقب فهذه حريتها الشخصية, ولكن إذا ارادت ان تقرن ذلك بالاسلام وتجعله شعارا لدين الله تعالى فقد وقعت فى عداء مع الله تعالى لأن الدين الالهى ليس ميدانا للتلاعب السياسى والفقهى وليس مجالا للتنابذ بالأزياء والجلباب والألقاب والنقاب.
إن التقوى الاسلامية تعامل خاص بين العبد وربه تعالى الذى يعلم خائنة الأعين وما تخفى
الصدور والذى يتقى الله تعالى ويخشاه بالغيب ليس فى حاجة لأن يعلن ذلك على الناس.
لقد كان العصر المملوكى عصر النفاق الدينى حيث شاع الفجور وتقديس الأولياء، وعبادتهم
وممارسة الانحلال تحت شعار النقاب وفى حماية الأولياء وشفاعتهم المزعومة، وظل
الأمر كذلك الى أن بدأت الصحوة الاجتماعية بقاسم أمين . ولكن أطاحت بها ما يسمى بالصحوة السلفية التى تهدد بعودة ظلمات القرون الوسطى ..
(6 )
لذا لا بد أن نزداد علما بالاسلام وتاريخ المسلمين .. والقرون الوسطى..!!.
ولنبدأ بنزع النقاب المادى .. والعقلى أيضا ..
اجمالي القراءات
88848
وفي المجال الطبي، هل هناك مصداقية للطبيبة أو الممرضة وقدرتها على التفاعل مع المريض إن كانت منقبّة! وطبيعة الحياة أن يتعامل الإنسان مع الآخر بالتعرف على وجهه والوثوق في ملامحه، وكيفية خروج الكلمات من فمه
لن أتحدث عن الجوانب الاجتماعية "السلبية" التي تتم من خلال لبس النقاب، لأن الموضوع واضح، حيث يتم استغلال النقاب لنوايا ونوازع بعيدة عن الدين والاستقامة.
في مجال القانون مثلاً.. أتساءل فقط: هل تمْثُلُ المتهمة أو المُجرمة أمام القاضي دون التحقق من وجهها؟ هذا مجرد سؤال!!!!!!!