سكينة فؤاد تكتب: اسرقوها بسلام آمنين
اضيف الخبر
في
يوم
الجمعة ١٢ - فبراير - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً.
سكينة فؤاد تكتب: اسرقوها بسلام آمنين
سكينة فؤاد تكتب: اسرقوها بسلام آمنين..!
«لو كنا نملك ثلث أو ربع ما تملكون من كنوز أثرية لكان أغلب الشعب الألماني من الدارسين والعاملين بعلوم وفنون هذا التراث الحضاري والإنساني العظيم، ولجعلنا من بلادنا أكبر متحف لها، ولجعلنا من بلادنا الأغني حضارة وثقافة وعائداً».. كلمات سمعتها ولا أنساها من وفد ألماني التقيت به في القاهرة في حوار حول المشكلات الخطيرة التي تتعرض لها آثارنا، وبعد تفجر أكثر من قضية من قضايا التهريب والاتجار بها، وحول الحملة الصحفية التي قمت بها وبدعم علمي من قاعدة محترمة من علماء الآثار المصريين ونجحنا بها في إيقاف محاولات التعدي علي قلعة صلاح الدين وحرمها الأثري إيقاف ما أعلنه وزير الثقافة في تسعينيات القرن الماضي من أنه آن للاستثمار التجاري أن يتألق علي وجه التراث وأوقف الحكم التاريخي لقضائنا المشروع وأيد ما نادينا به من أن المسموح فقط هو الاستثمار الحضاري والثقافي الذي يحترم الأثر ولا يخل بالرموز والمعاني التي شيد لها وهو استثمار لم يكشف أحد عن حجم مردوده المالي وأين يذهب وكيف يستثمر، وطالبنا بوزارة مستقلة للآثار تتحمل المسئوليات الجسام لرعاية هذه الكنوز من لصوص الداخل والخارج وتعظيم أساليب حمايتها.. وزارة كان يجب أن تكون من الوزارات السيادية إذا أدرك المعني والقيمة والأهمية لهذا التراث، مع ضرورة صدور قانون جديد للآثار يعالج ثغرات القانون الموجود، وفي المقام الأول يشدد العقوبات المتهافتة التي تغري وتشجع علي جرائم التنقيب والاتجار.. وتأخر القانون لسنوات دون أن نفهم الأسباب، ويبدو أنه أخيرا آن لنا أن نفهم! فوسط ما غرقنا فيه من نكبات وفتن سياسية وعنصرية ولعب بالإسلام والمسيحية وكارثة السيول التي أكدت أن الفساد تجاوز الركب للرءوس ليس في المحليات وحدها ولكن في مصر كلها وبدلا من المطالبة بقوانين عاجلة مع الفاعلين الأصليين والجناة الحقيقيين ولكن كيف لصناع المأساة أن يعاقبوا أنفسهم؟! وسط كل هذا البلاء فوجئنا بمشروع القانون المنتظر للآثار، يتقدم به رئيس لجنة الخطة والموازنة إلي مجلس الشعب، وكان من الطبيعي أن يكون أول التساؤلات عن علاقة رئيس الخطة والموازنة بالآثار وإن كان إمعان القراءة في بنود وأهداف القانون الأساسية يلوح بالعلاقة الوثيقة بين قوانين الجباية التي تنهال علينا وبين التخطيط الجهنمي لمقاصد هذا القانون والذي لن أضيف في وصفه أكثر مما وصفه به علماء الآثار وأنه تقنين وإضفاء للشرعية علي ناهبي هذه الكنوز وإباحة تحويلها إلي سلع وملكيات خاصة تباع وتشتري، ذكرني المشروع الذي ربما يكون الاثنين أول فبراير قد تحول إلي قانون بوقائع قضية كبري من قضايا سرقة الآثار كان بطلها أحد قيادات الحزب الحاكم في محافظة الجيزة - وببساطة استغل نفوذه في تسريب وتهريب الآثار عبر المنافذ البحرية والجوية وقيل إنه ملأ بها قصراً يطل علي بحيرة لوزان - وكان المتهم الأول في القضية أحد رجال قيادة أكبر أو أضخم كرش في الحزب - وحوكم الفرفور وحكم عليه بالسجن ولا أعرف إن كان مازال وراء قضبانه أو علي مسيرة لصوصهم الكبار يقضي فترة العقوبة في منتجع أو في قصره الأوروبي - تشريع الاتجار بالآثار الذي يطالب به القانون الجديد لو صدر قبل الحكم في القضية لكان الآن.. ينعم آمنا سالما بالاتجار في بضائعه الأثرية داخل وخارج مصر.. ألم يكن واجبا علي من تقدم بهذا القانون أن يقول لنا ما الحكمة التي لم نفهمها؟ وما الفائدة التي ستعم علي المصريين من تقنين سرقة آثارهم حتي نكذب أولا اليقين أنها خطة لحماية حفنة من اللصوص وحائزي الآثار لا يريدون أن يلحقوا بمصير زميلهم وعضو حزبهم.. الحاجة الملحة لهذا القانون جعلت أصحابه يتصورون أن الاستعانة بالتشريعات الأثرية في بعض الدول الأوروبية ستسهل مهمتهم وإن كان لم ينجح إلا في شيء واحد هو إثبات جهلهم بالفارق بين ما تعنيه الآثار في وجود وتاريخ مصر وأنها لا تقارن بأي تراث حضاري لدولة أخري، وأن هذا التراث العظيم هو الذي يجعل دراسة التاريخ في كل دول العالم المتحضرة تبدأ بدراسة التاريخ المصري وإن كل دولة إذا كانت تملك الآثار الدالة علي مرحلة أو حلقة من حلقات التاريخ.. فحلقات التاريخ تكاد تتكامل في مصر وأن الأثر الذي يريدون تعريفه اليوم وليس مستغربا علي جهلهم هو صفحات مكتوبة علي كل قطعة من الأثر كبرت أم صغرت ، وأن ضياع أي قطعة هو ضياع للتاريخ وأن ما اكتشف حتي الآن لا يمثل نسبة تذكر قياساً إلي ما لم يكتشف بعد مما يريدون أن يهدروا دمه ويحللوا الاتجار به، وإلي جانب ادعاءات الجهل بالأثر تتعاظم المغالطات إلي درجات يعف القلم عن وصفها، فعلاوة علي الفارق بين قيمة الأثر وأن مصر مازالت منذ آلاف السنين ومنذ بدايات الحضارة التي بناها القدماء مازلنا نكتسب احترامنا الأساسي من قيمة هذه الحضارة ولم تستطع الأجيال المتتابعة أن يضيفوا إضافة ترقي إلي عظمة وقيمة هذا التراث - وبما يعني أنه لا مجال لمقارنة بين ما يملك وما تملكه سائر الشعوب علاوة علي ذلك فإذا كانت قوانين الدول الأخري تسمح بحرية الاتجار بالآثار فهم يملكون في مواجهة هذه الحرية قوانين ملزمة تحترم وتطبق بلا استثناءات ولا يعيشون عصور نهب وفساد عظيم اقتلعت القوانين من جذورها واجتاحت الضمائر والمبادئ ويخضعون لسلطات تشريعية وبرلمانات حقيقية ونواب جادين وأنظمة رقابة ومحاسبة ورؤساء يحاسبون علي أي شكوك في ذممهم المالية كما فعلت فرنسا مع شيراك، لذلك تبيح قوانينهم الاتجار بالآثار وتراقبهم مؤسسات وأجهزة رقابة وقبلهم ضمائر وطنية واعتزاز قومي بما تمثله هذه الآثار.. ومن يتجاوز فلابد أن يقع تحت طائلة القانون.. أين هذا من بلد تفصل وتطبق القوانين وفقاً لمصالح ونفوذ المغتصبين وأصحاب المصالح والمتربحين الكبار في عصر النهب العظيم؟! وإمعاناً في الاستخفاف يدعي واضعو قانون إطلاق حريات الاتجار بالآثار أن هذه الحرية مشروطة بأن يتم التداول وفقا لإجراءات محددة تمكن الدولة والجهات المعنية من تتبع ملكيتها والتأكد من صيانتها وحفظها والرقابة عليها - يحتاج هذا التهريج والعبث أن يستكمل بالعبارة التالية.. كما تم حفظ وصيانة والرقابة علي ما ضيع وأهدر من أراض وثروات برية وبحرية وحياة الناس وحقوقهم .. ببساطة كما ضيعت جميع ثروات المصريين.. وببساطة أوضح هذا قانون لتبديد وضياع آخر وأعظم ما تبقي لدي المصريين من ثروات.. ولكنه ضياع وتبديد بحماية القانون! يعرف جيداً من قدم هذا القانون وجوقة تأييده وكل مشرع ومشارك في هذه الجريمة وكل من يحتمي بالوهم الكبير الذي اسمه رقابة الدولة عدد قرارات مجلس الوزراء التي خالفها وخرج عليها وزير الإسكان السابق في قضية الفساد الكبري للإسكان.. كلما قلنا عن قضية إنها الأكبر فساداً جاء بعدها الأكبر منها، ثم ألم تكن هناك رقابة ومتابعة من الحكومة علي نفسها عندما قامت أجهزتها ببناء مدينة وقرية ومطار ومصنع علي مخرات السيول.. من يحاسب من في دولة تفككت مفاصلها وغاب فيها القانون؟
من صاحب المصلحة في تخفيف العقوبة عن لص آثار؟.. ومن صاحب مصلحة في حرمان المصريين من حق استرداد بعض آثارهم المهربة في الخارج؟.. ومن صاحب مصلحة في ابتكار تعبير «مالك الأثر ليصبح مثل مالك العقار ومالك الأرض» ولتتحول الآثار إلي ممتلكات خاصة يمنحهم القانون الجريمة حق المطالبة بقيمة مادية عادلة تساوي سعره الحقيقي؟! في أكثر من واقعة من وقائع القبض علي عصابات تنقيب واتجار بالآثار ظهر أنهم تجار مخدرات سابقون حولوا النشاط الإجرامي إلي تجارة الآثار، لأن ما تدره من مكاسب فاق تجارة المخدرات.
يوم الخميس 28 يناير الماضي افتتح الرئيس مبارك معرض الكتاب ونشرت صحف الجمعة صور وزير الثقافة مصاحباً وملاصقاً للرئيس في جولته، ألم تكن فرصة ليميل علي أذن سيادته ويحكي له المصيبة التي تتهدد آثار مصر علي فرض أن سيادة الرئيس لم يسمع نداءات وصرخات وزير الثقافة داخل مجلس الشعب والتي استنجد فيها ولأول مرة بالمعارضة والمستقلين ليعينوه علي منع القانون القادم من أحد أقطاب لجنة السياسات والحزب الحاكم؟ ومع معرفة أغلب المصريين بالثقة والدعم اللذين يعطيهما الرئيس لوزير ثقافته لأكثر من ربع قرن مرت بها كوارث كثيرة كانت واحدة منها كفيلة بالإطاحة بالوزارة كلها، وظل الوزير صامداً بدعم الرئيس .. فلماذا لم تستنجد به ليقول لرئيس لجنة الخطة والموازنة عيب ونحن نعرف أننا دولة مؤسسة الفرد الواحد وبقية هياكل الدولة تنافس خيال مآتة الغيطان!
ما الحكاية، وهل هي تمثيلية لتمرير قانون كان يُعد من المستحيلات في تاريخ مصر أن يباح الاتجار بتراثها الحضاري ولينضم إلي ما سبقه من جرائم أو قوانين الجباية بعد أن جفت جميع مصادر النهب وتوقفت مصادر كثيرة لتمويل عجز الموازنة، ولتكتمل ثلاثية قانون الضرائب العقارية ومشروع قانون خصخصة التأمين الصحي، وثالثهما الشيطان لإطلاق حرية الاتجار بالآثار وليتضح أن وراء الكارثة والسيناريو الرديء محاولة لإدخال الآثار أسواق الجباية للإنفاق علي ملايين الجوعي والعطشي والمرضي والعاطلين وليلقي إليهم كالمعتاد بالفتات كما حدث في عوائد كل ما حدث في بلادهم من استثمارات لا يقارن واحد منها بما يدره تقنين تحويل الآثار إلي سلع تجارية تباع وتشتري؟.. هل تصغر وتكبر هذه الجريمة الوطنية علي من فكروا يوماً في رهن قناة السويس ومع من مازالوا يعطلون المشروع النووي ويقايضون أرضه وبنيته الأساسية بمشروع سياحي؟!
أليس من حق الشعب الذي يطبق عليه ما يصدر من قوانين أن تقدم له التفسيرات والأسباب لصدورها؟.. وقد فهمنا ورفضنا قانون الضرائب العقارية الذي يعلن أن النظام لم يعد يكفيه أن يتحمل المواطنون 60% من إيرادات الدولة من خلال مختلف أشكال الضرائب المفروضة عليه.. وأنه لم يعد لديه ما يلبي خدمات المواطن وحقوقه الأساسية وفي مقدمتها حقه في الأمن الصحي ويسارع إلي خصخصة التأمين الصحي الذي وصفه مجلس الدولة بأنه غير دستوري ويقضي علي مبدأ تكافؤ الفرص بين المواطنين ويحمِّل الفئات الأقل دخلاً أعباء جديدة لم يعد في طاقتهم احتمالها ويهدم مبدأ العدالة الاجتماعية - ومع الاحترام لمجلس الدولة وملاحظاته فقبل وبعد مشروع قانون التأمين الصحي الجديد - هو فقط يؤكد ويكرس عدم وجود تكافؤ فرص وعدم وجود عدالة اجتماعية ولا يوجد مواطنون يعترف بهم من يديرون هذا البلد.. ويبقي ثالث الأثافي أو الكوارث قانون للآثار يجعل الاتجار بها نشاطاً مباحاً.. وكما أن جحا أولي بلحم طوره فالنظام أولي بلحم ودم وعظام وتراث شعبه.
هل ينحنون للعاصفة بعد وضوح أبعاد الفضيحة والجريمة الحضارية والوطنية والخراب العظيم بدخول عصر تقنين الاتجار بالتراث ويعهدون إلي علمائه وأساتذته وأساتذة القانون الأمناء وغير التابعين بوضع قانون يرقي إلي مستوي القيمة والفهم والاحترام لهذه الكنوز ويصونها كتاباً مفتوحاً للإنسانية وللأجيال المقبلة وشاهدا حياً علي حلقات التاريخ التي شهدتها مصر.. قانون سيادي تقوم علي تنفيذه وزارة سيادية ومستقلة للآثار لم تتوقف مطالبة العلماء والمفكرين والكتاب بها منذ ثمانينيات القرن الماضي.. وزارة تعظم الاستثمار الحضاري والثقافي للتراث وتجعله في مقدمة مصادر التنمية والازدهار المادي دون مساس بقيم وأصول وعلوم ومبادئ حفظه.. أو يواصلون استباحة كرامة وهوية وطن باعوا كل ما فوق أرضه ولم يتبق صالحاً للبيع إلا هذا التراث؟
قنابل الخطر لا تتوقف عن الانفجار في وجوهنا كل يوم، وكذلك القوانين المخترعة والمدبرة تؤكد نذر الأخطار المقبلة، وتؤكد أنه أصبح ضرورة وفريضة حياة وإنقاذ التغيير السلمي والدستوري عبر انتخابات حرة يتمسك المصريون بتطبيق وتوفير جميع شروط وضمانات حريتها.. وكما جاء في التوصيف الدقيق لرسالة د. البرادعي التي نشرتها «الدستور» الأربعاء الماضي متوافقة مع دعوات جميع الجبهات الوطنية.
وبعد.. فبعد أن كان أبدع عنوان لمصر ما جاء في الوصف القرآني «ادخلوها بسلام آمنين» .. تكفلوا بجعله «انهبوها أو اسرقوها بسلام آمنين»، لقد سرقوا من المصريين أعماراً وأجيالاً وأماناً وكرامة وإنسانية وعدالة، ويريدون أخيراً أن يضموا التراث والهوية.. ومع ذلك يبقي كل ما ارتكب بحقنا ليس فقط مسئولية من فعلوه.. أكبر منها مسئولية وتقصير كل من تنازل عن حقه في التغيير.
اجمالي القراءات
5704